الفصل الرابع والعشرون
حانَ الوقتُ كي تُغادر ماري، ونهضَ هال جَفلًا مُتألِّمًا لمرافقتها إلى منزلها. نظرتْ إليه بجدية، ولم تكن قد أدركتْ قبل تلك اللحظة مدى مُعاناته. سألته، في أثناء سيرهما معًا: «لماذا تمارس هذا العمل، وأنت لست مضطرًّا إلى ذلك؟»
«لكنني مضطرٌّ إلى ذلك! لا بد أن أكسبَ قوت يومي!»
«لست مضطرًّا إلى أن تكسبها بتلك الطريقة! شابٌّ ذكي مثلك … أمريكي!»
قال هال: «حسنًا، اعتقدتُ أنه سيكون من الممتع لي أن أُشاهِدَ استخراج الفحم.»
قالت الفتاة: «الآن وقد رأيته … فلتُغادر إذن!»
«لكنه لا ضررَ من أن أظلَّ فترة من الوقت!»
«لا ضررَ؟ كيف لكَ أن تعرف؟ عندما يحملونك في أي لحظة على لوح خشبي!»
اختفت أخلاق «الرفقة الطيبة» التي كانت تتحلَّى بها؛ وأصبح صوتُها مليئًا بالمرارة، كما كان دائمًا عندما كانت تتحدَّث عن نورث فالي. «أنا أعرف ما أقوله لكَ يا جو سميث. ألم أفقِد شقيقَين لي في هذا العمل … كانا شابَّين يافعَين لا يختلفان عمَّن تجدهم في أي مكان في العالَم؟! وغيرهم كثيرٌ من الشباب الذين رأيتُهم يدخلون إلى المنجم ضاحكين، ويخرجون منه جُثثًا هامدة … أو الأسوأ من ذلك، يخرجون منه مشلولين، كما في حالة العُمَّال. تتملَّكني الرغبة أحيانًا في أن أذهبَ إلى هناك، وأقفَ عند فتحة المنجم صباحًا، وأصيحَ فيهم: «ارجعوا، ارجعوا! اخرجوا من الوادي اليوم! جُوعوا إذا اضطرِرتم إلى ذلك، تَسوَّلوا إذا اضطررتم إلى ذلك، ولكن ابحثوا عن عملٍ آخر غير استخراج الفحم!»»
ارتفع صوتُها ليأخذ طابعًا احتجاجيًّا مُفعَمًا بالحماس، وعندما واصلت اكتسَبَ صوتُها نبرة جديدة … نبرة من الذُّعر الشخصي. «صار الأمرُ أسوأ الآن … منذ مجيئكَ يا جو! أن أراكَ تشرع في أن تحيا حياة عامل المنجم … أنت ذلك الشاب القوي المختلف. أوه، ارحل يا جو، ارحل بينما لا يزال في إمكانك ذلك!»
أدهشته حماستُها. وقال: «لا تقلقي عليَّ يا ماري. لن يحدث لي شيء. سأرحل بعد فترة.»
كان الطريقُ وَعرًا، وكان يمسك بذراعها في أثناء سيرهما. أحسَّ بها ترتجف، وتابعَ مرة أخرى بسرعة: «لستُ أنا مَن يجب أن يرحل يا ماري، بل أنتِ. أنتِ تكرهين هذا المكان … من الفظيع أن تضطرِّي إلى العيش هنا. ألم تُفكري يومًا في الرحيل؟»
لم تُجِبْ على الفور، وعندما أجابت اختفى الحماسُ من صوتها؛ فقد أصبحَ رتيبًا وفاترًا من اليأس. «لا طائلَ من التفكير فيَّ. لا يسعُني أن أفعل شيئًا … لا يسعُ أي فتاة أن تفعل شيئًا عندما تكون فقيرة. لقد حاولتُ … ولكن يبدو الأمر كأنك تقف أمام جدارٍ حجري. إنني لا أستطيع حتى توفير المال لركوب القطار! لقد حاولتُ ذلك … ادَّخرتُ لمدة عامَين، أتدري كم المبلغ الذي حصلتُ عليه يا جو؟ سبعة دولارات! سبعة دولارات في عامَين! كلَّا … لا يمكنكَ توفير المال في مكان يعجُّ بالأشياء التي يعتصِرُ لها القلب. قد تكرههم لكونهم جُبناء … ولكن يجب أن تساعِد عندما ترى رجلًا يُقتَل وتصبح عائلته بلا مأوًى يسترها في فصل الشتاء!»
«أنتِ حنونة القلب للغاية يا ماري.»
«لا، الأمر ليس كذلك! هل أذهب وأترك أخي وأختي اللذَين يحتاجان إليَّ؟»
«ولكن يمكنُكِ كسبُ المال وإرسالُه إليهما.»
«أنا أكسب القليل هنا … أقوم بأعمال التنظيف والتمريض لبعض مَن يحتاجون إليَّ.»
«ولكن في الخارج … ألا يمكنكِ كسبُ المزيد؟»
«في إمكاني الحصول على وظيفة في مطعمٍ مقابل سبعة أو ثمانية دولاراتٍ في الأسبوع، لكنني سأضطر إلى أن أنفق المزيد، وما سأرسله إلى المنزل لن يكون كثيرًا، ولن يكافئ غيابي عنهم. أو يمكنني الحصول على وظيفة في منزل سيدةٍ ما، والعمل لمدة أربع عشرة ساعة في اليوم. لكني يا جو لا أريدُ مزيدًا من الكدح والتعب، بل أريدُ شيئًا جميلًا أهتم به … شيئًا خاصًّا بي!» بسطَت ذراعَيها كأنها شخص يختنق. وقالت: «أوه، أريدُ شيئًا جميلًا ونظيفًا!»
شعرَ بارتعاشها مرة أخرى. وأصبح الطريقُ وعرًا من جديدٍ، وبدافعٍ من التعاطف، وضعَ ذراعَه حولها. في حياة الترف، قد ينغمس المرءُ في مثل هذا الاهتمام بمشاعر الآخرين، وقد افترضَ أن الأمر لن يكون مختلفًا مع ابنة عامِل منجم. لكن بعد ذلك، عندما أصبحت قريبة منه، شعرَ بنَحيبها، بل سمعَه.
همس: «ماري!» وتوقَّفا. وتقريبًا دون أن يدرك، وضَعَ ذراعه الأخرى حولها، وبعد لحظة أخرى شعر بأنفاسها الدافئة فوق وَجنته، وكانت ترتجف وترتعش في حضنه. همست: «جو! خُذني بعيدًا!»
كانت بمنزلة وردة في معسكر التعدين، وقد أثَّرت في هال بشدة. رأى طريقًا من المرح وزهور الربيع يمتد أمامه، هنا في الليلة الصيفية الناعمة، والقمر فوق رأسه يحمل الرسالة نفسها التي كان يحملها في الحدائق الإيطالية للطبقة المترفة. ولكن لم تمر عدة دقائق حتى بدأ الخوفُ يتسلَّل إلى هال إلى حَدِّ القَشعَريرة. كانت هناك فتاة في موطنه تنتظره، وكان هناك أيضًا العزم الذي كان ينمو داخله منذ مجيئه إلى هذا المكان … عزمٌ على إيجاد طريقة ما لتعويض الفُقراء، ليُسدِّد لهم ثمن الحرية والثقافة اللتين حصل عليهما، لا أن يستغلَّ خوفهم، أو خوف أي أحدٍ بينهم. فقد تولَّى جيف كوتون تلك المهمة!
قال مُتوسِّلًا: «ماري، ينبغي ألا نفعل هذا.»
«لمَ لا؟»
«لأنني … لست حُرَّ نفسي. هناك فتاةٌ أخرى.»
شعرَ بجفولها، لكنها لم تبتعد.
سألت بصوتٍ منخفض: «أين؟»
«في موطني، تنتظرني.»
«ولماذا لم تُخبرني؟»
«لا أعرف.»
أدرك هال في لحظة أنَّ للفتاة الحقَّ في إلقاءِ اللوم عليه. وفقًا لقانون عالَمِها البسيط، فقد قطعَ شوطًا في علاقتهما؛ فقد شُوهِدَ وهو يخرج معها، وأصبحَ يُعَدُّ «رفيقها». لقد قادها للتحدُّث معه عن نفسها … أصرَّ أن تبوح له بأسرارها. وهؤلاء الفقراء لم يكن لديهم خفايا، فلم يكن هناك مجالٌ في حياتهم لفضول المثقفين، أو الصداقات الأفلاطونية، أو المغازلة. ومن ثَم، قال: «سامحيني يا ماري!»
لم ترد، ولكن تنهيدة أفلتت منها، وابتعدتْ عن ذراعَيه … ببطءٍ. قاوم رغبته في احتضانها مرة أخرى. كانت جميلة ومُفعَمة بالحياة … وفي أَمَسِّ الحاجة إلى الشعور بالسعادة!
لكنه سيطرَ على نفسه، وظلَّا مبتعدَين لمدة دقيقة أو دقيقتَين. ثم سألَ بتذلُّل: «لا يزال في إمكاننا أن نكون صديقَين يا ماري، أليس كذلك؟ يجب أن تعرفي … أنني في غاية … الأسف!»
لكنها لم تتحمَّل أن تكون محلًّا للشفَقة. فقالت: «لا بأس. كلُّ ما هنالك هو أنني اعتقدتُ أنني كنت سأرحلُ من هنا! هذا ما كنتَ تعنيه لي.»