الفصل الأول
بدأ هال الآن في مباشرة مهنة جديدة، أكثر إثارةً من مهنة مسئول الإسطبل أو المساعِد، وفيها من المخاطر ما يفوق في فداحته مخاطرَ سقوط صخرة أو تلقي ركلاتٍ في البطن من قوائم البِغال الخلفية. لم يكن الخمول الذي شعر به نتيجة العمل الزائد قد تحوَّل إلى مشكلة صحيَّة؛ نظرًا إلى أنه كان لا يزال شابًّا، ولديه حماسٌ شديد لاكتساب المزيد والمزيد من الخبرات. وجدَ أنه من المثير أن يصبح مُتآمِرًا، أن يُخفي في جُعبته أسرارًا مُبهَمة وغامضة كممرَّات المنجم الذي يعمل فيه.
لكنَّ جيري مينيتي، أول شخصٍ أخبره عن مقصِد توم أولسون من الوجود في نورث فالي، كان أقدم عهدًا في مثل هذه الأمور المثيرة. لقد زال فجأة عن جيري ما يُبديه عادة من مظهرٍ خالٍ من الهموم، ولاح الخوف في عينَيه. وصاح قائلًا: «أعلم أنه سيجيء اليوم … الذي يجلِب المشكلات لي ولروزا!»
«ماذا تعني؟»
«لقد تورَّطنا في الأمر … تورَّطنا بالتأكيد. كنت أقول لروزا: «تُسمِّين نفسكِ اشتراكية … ما الفائدة من ذلك؟ لا شيءَ. لا فائدة من التصويت هنا … إنهم لا يحسبون أصوات الاشتراكيين، إنها مجرد مزحة!» كنت أقول لها: «لا بد أن يكون لدينا اتحادٌ نقابي. لا بد من حدوث إضراب!» لكن روزا كانت ترد بقولها: «انتظِر قليلًا. ادَّخر بعضَ المال، انتظِر حتى يكبر الأطفال. ثم سنساعدُ، ولن يهمنا لو خسرنا منزلنا.»»
قال هال معترِضًا: «لكننا لسنا بصدد إنشاء اتحادٍ نقابي الآن! لديَّ خطة أخرى في الوقت الراهن.»
لكنَّ انفعالَ جيري لم يهدأ. وقال: «لا مجالَ للانتظار!» لن يُطيق الرجالُ صبرًا! أقولها لك: «سيحدث الأمر فجأة … كانفجارٍ في أحد المناجم! شخص ما سيبدأ القتال، ومِن بعده سيقاتل الجميع.» ونظرَ جيري إلى روزا، التي جلست وعيناها السوداوان مثبَّتتان بترقُّبٍ وتوجُّس على زوجها. ثم قال: «سيُزَج بنا في الأمر»، ورأى هال عيونهما تتجه نحو الغرفة التي ينام فيها جيري الصغير وأخوه الرضيع.
التزم هال الصمتَ … لقد بدأ يفهم ما يعنيه التمرُّد لهؤلاء الناس. راقبَ بفضولٍ وشفقة الصراعَ الدائر، الذي يعتمل داخل الروح الإنسانية منذ قديم الأزَل … بين صوت المصلحة الذاتية والراحة والحيطة، وبين نداء الواجب ونَشْد المثالية. إنه ليس بصراعٍ مُعلَن، بل صوتٌ داخلي خافت.
بعد فترة، سألَ جيري عما خطَّط له هال وأولسون، وأوضح هال أنه يرغب في اختبار موقف الشركة تجاه قانون مراقبي الأوزان. رأى هال أنها خطة جيدة، ولكن ماذا كان رأي جيري؟
ابتسم جيري بحزن. وقال: «أجل، خطة جيدة بالنسبة إلى شاب في مُقتَبَل العمر … ليس لديه عائلة!»
قال هال: «لا بأس، سأتولى المهمة … سأكون أنا مراقب الأوزان.»
قال جيري: «لا بد من تشكيل لجنة … لجنة تتحدَّث إلى رئيس العمَّال.»
«حسنًا، ولكننا سنجلب زملاء شبابًا لذلك أيضًا … رجالًا ليس لديهم عائلات. بعض الزملاء الذين يعيشون في أعشاش الدجاج في منطقة الصفيح. لن يهتموا بما يحدث لهم.»
لكن جيري لم يبادِل هال الابتسام. وقال: «هؤلاء الرجال لا يتَّسمون بالقدر الكافي من الفطنة وحُسن التمييز. الفطنة شرطٌ أساسي للاتحاد.» أوضح أنهم سوف يحتاجون إلى مجموعة من الرجال لدعم اللجنة؛ ولا بد من تشكيل هذه المجموعة لعقد الاجتماعات سِرًّا … سيكون الأمر في الواقع أشبه باتحادٍ للعُمَّال، وهكذا سيراه رؤساءُ العمل وجواسيسهم. ولم يُسمَح من قبل بتشكيل تنظيم من أي نوعٍ في المعسكرات. كان هناك بعضُ الصِّرب الذين أرادوا الانضمام إلى أحد التنظيمات الأخوية في وطنهم، ولكن حتى ذلك لم يُسمَح به. إذا أرادَ أحدهم التأمينَ على حياته أو صحته، كانت الشركة تتولَّى الأمر … وتتربَّح منه. ومن ثَم، لم يكن في إمكان المرءِ حتى شراء حوالة مالية من مكتب البريد لإرسال أموال إلى بلده؛ إذ كان موظف مكتب البريد، الذي كان في الوقت نفسه موظفًا في متجر الشركة، يبيع لك نوعًا خاصًّا من الحوالات موجودًا لدى المتجر.
وهكذا، أخذ هال يواجه الصعوبات نفسها التي حذَّره منها أولسون. كان أولُها مخاوف جيري. غير أن هال عرف أن جيري لم يكن «جَبانًا»؛ فلو أنَّ أحدًا يزدري تصرف جيري؛ فذلك لأنه لم يكن قطُّ في موقف جيري!
قال هال: «كلُّ ما سأطلبه منك الآن هو النصح والإرشاد. أعطني أسماءَ بعض زملائك الجديرين بالثقة، وسأحصل على مساعدتهم دون أن يشكَّ فيك أحد.»
كان ردُّ جيري على هذا: «أنتَ تعيش معي!»
وهكذا أصبح هال مرة أخرى «في مواجهة الأمر.» ومن ثَم، قال: «تقصد أن هذا سيُعرِّضك للمتاعب؟»
«بالتأكيد! إنهم يعرفون أننا نتحدَّث. يعرفون أنني أتحدَّث عن الاشتراكية، على أي حال. سيطردونني بالتأكيد!»
«ولكن ماذا عن قريبك، رئيس العُمَّال في المنجم رقم ١؟»
«لا طائلَ منه. ربما يُطرَد هو نفسه. سيقولون ذلك الأحمق اللعين … يستضيف في بيته مُراقبًا للأوزان.»
قال هال: «حسنًا. إذن سأرحل الآن، قبل فوات الأوان. يمكنك أن تقول إنني كنت مثيرًا للمُشكلات، وأنك طردتني.»
جلسَ مينيتي وزوجته يحدِّق كلٌّ منهما إلى الآخر … في حزنٍ واغتمام. لقد ساءَهما أن يفقِدا ضيفَهما، الذي كانت رفقته جيدة، وكان يدفع لهم مبلغًا جيدًا من المال. وبالنسبة إلى هال، فقد ساءَه الأمرُ بالقدر نفسه تقريبًا؛ لأنه أحبَّ جيري وزوجته التي تُشِع شبابًا، وجيري الصغير … وحتى الطفل ذا العينَين السوداوين، الذي تسبَّب في الكثير من الضوضاء وقاطعَ حديثهما مرارًا!
قال جيري: «لا! لن أهرب! سأفعل ما يُمليه عليَّ ضميري!»
أجاب هال: «لا بأس. فلتُؤدِّ ما يُمليه عليك ضميرُك … ولكن ليس الآن. عليك البقاء في المعسكر ومُساعدة أولسون بعد أن أُطرَد. نحن لا نريد أن نفقِد أفضل الرجال دفعة واحدة.»
هكذا، بعد نقاشٍ كثيرٍ، حسموا أمرهم، ورأى هال روزا تغوص مجدَّدًا في كُرسيها بجسمها الضئيل، وتأخذ نَفَسًا عميقًا في ارتياحٍ. تأجَّل موعد تنفيذ تلك المهمة الصعبة الأشبه بالمهمة الفدائية أو الاستشهادية؛ ومن ثَم ربما ما زال في مقدورها أن تنعم بملكية كوخها الصغير ذي الغُرَف الثلاث، وأثاثها، ومقاليها اللامعة، وستائرها الحريرية البيضاء الجميلة لبضعة أسابيع قادمة!