الفصل الثاني
عاد هال إلى نُزُل «ريمينيتسكي»، ويا لها من تضحية جَسيمة، لكنها لم تكن بلا مقابل؛ فقد أعطته فرصة أكبر للتحدُّث إلى العُمَّال.
وضع هال وجيري قائمة بالأشخاص الذين يمكن ائتمانُهم على السر، وجاء على رأس القائمة مايك سيكوريا. ذلك أن العجوز مايك إذا وُضِع في لجنة، وأُرسِل لمقابلة أحد رؤساء العمل، فإنه سيتحمَّس للأمر لكونه يتفق مع غايته المنشودة في الحياة! لكنهم لن يخبروه بالأمر إلا في اللحظة الأخيرة، خشية أنْ يَفضَح أمرهم في خِضَم ثورته في المرة القادمة التي يفقد فيها إحدى عرباته.
كان هناك عامل منجم بُلغاري شاب يُدعى فريسماك يعمل بالقرب من هال. كان الطريق المؤدي إلى سَكَنِ هذا الرجل يمرُّ عبر منحَدَر، وكان يقوى بمشقَّة على دفع «عرباته الفارغة» إلى أعلاه. وعلى الرغم من الجهد المضني الذي كان يبذله في هذه المهمة ويتصبَّب له عَرَقًا، مرَّ أليك ستون، الذي كان ينظر إلى الأشخاص ضعيفي البِنية بازدراءٍ من منطلق كونه شخصًا ضخم البنية، وشرعَ في لكمه. رفعَ الرجلُ ذراعَه، وهمَّ أن يرد إليه الضربة أو يدرأَها، لا أحد في وُسعه الجزم بذلك، لكن ستون انقضَّ عليه وظلَّ يركله على طول الطريق، صابًّا عليه وابلًا من اللعنات الحانقة. ثم دخل الرجل غرفة أخرى، أخرج منها أكثر من أربعين عربة محمَّلة بالصخور، ولم يتقاضَ مقابلها إلا ثلاثة دولارات. لم يكن لأحدٍ مِمن شاهدوا وجهَه عندما مرَّ رئيسُ العمَّال ليشُك في أن هذا الرجل سيكون على أُهْبة الاستعداد لاقتناص فرصة الدخول في حركة احتجاجية.
ثم كان هناك رجلٌ يعرفه جيري، كان قد خرج للتوِّ من المستشفى، بعدما تلقَّى ضربة من مؤخرة مسدس قائد المعسكر. كان هذا الرجل بولنديًّا، ولسوء الحظ لم يكن يعرف كلمة بالإنجليزية؛ لكن أولسون، المنظِّم النقابي، كان على اتصالٍ ببولندي آخر يتحدَّث الإنجليزية قليلًا، ومن ثَم سيُترجِم كلامه إلى زميله الآخر، ابن بلده البولندي. كما كان هناك شاب إيطالي يُدعى روفيتا، كان جيري يعرفه ويضمن ولاءَه.
كان هناك شخص آخر فكَّر به هال … ماري بيرك. كان يتجنَّبها عمدًا في الآونة الأخيرة؛ إذ بدا ذلك الشيءَ الوحيد الآمن الذي يمكنه فعلُه، على الرغم من أنه بدا أيضًا أمرًا قاسيًا، وقد جعله مضطربَ الذهن. تذكَّر مرارًا وتكرارًا ما حدث. كيف بدأت المشكلة؟ من واجب الرجال في مثل هذه الأحوال أن يتحمَّلوا اللَّوم، لكنهم لا يحبُّون أن يلوموا أنفسهم، ويحاولون أن يخفِّفوا من وطأة الأمر بقدر الإمكان. هل يجدُر بَهال أن يقول إن ما حدث في تلك الليلة كان بسبب حرصه الشديد على مساعدة ماري لأنَّ الطريق كان وَعرًا؟ لم تكن في الواقع في حاجة إلى مثل هذه المساعدة، بل كانت قادرة تمامًا على الوقوف على قدمَيها مثله! لكنه ذهبَ في الحقيقة إلى أبعد من ذلك … كان لديه دافعٌ عاطفي واضح، وكان نَذْلًا … وكان ينبغي أن يعرف منذ وقتٍ طويل أن الفتاة ستصُبُّ عليه جامَّ استيائها، وجُلَّ اشتياق روحها المحرومة المتعطِّشة، ذلك الشاب «المختلف» تمامًا، الذي منحته فرصة لقائها والحديث معها، والذي جعلها تفكِّر في «كُتُب الشِّعر»!
ولكن هنا ظهر فجأة حَلٌّ لهذه المعضلة؛ فقد لاحت في الأفق مصلحةٌ جديدة لماري، قناة آمنة يمكن أن تسري فيها عواطفها. ما كان لامرأة أن تعمل في لجنة لعُمَّال المناجم، غير أنه كان من شأنها أن تكون مُستشارة جيِّدة، وكان من شأن لسانها اللاذع أن يكون سلاحًا لدفع الآخرين وإقناعهم. تبنَّى هال، في غمرة حماسه لهذا المشروع، موقفًا موضوعيًّا على عادة الرجال عمومًا … وهكذا وقعَ في فخٍّ عاطفي جديد! لم يُفسح لنفسه المجال ليفكِّر في أن اهتمام ماري بحركة مراقبة الأوزان قد تكون مشروطة بعضَ الشيء بالرغبة في قضاء وقتٍ أطول معه، والأدهى من ذلك أنه لم يخطر بباله أنه قد يكون سعيدًا بوجود سبب يمكنه من رؤية ماري.
كلا، بل كان يتخيَّلها في دورٍ جديدٍ، نشاط أكثر إلهامًا من الطبخ والتمريض. تدفَّقت مُخيِّلته المتأثِّرة ﺑ «كتب الشعر»؛ أعطاها أملًا وغاية، طريقًا في نهايته هدف. ألم تكن هناك قائدات من النساء في كل حركة بروليتارية عظيمة؟
ذهبَ لزيارتها، والتقى بها عند باب كوخها. قالت: «أسعدتني رؤيتُكَ يا جو سميث!» ونظرت في عينه مباشرة وابتسمت.
أجاب: «وأنا أيضًا يا ماري بيرك!»
رأى أنها متعاوِنة؛ فقد كانت تتمتَّع ﺑ «روح رياضية». ولكنه لاحظ أنها كانت أكثر شُحوبًا مما كانت عليه عندما رآها آخِر مرة. هل يمكن لهذه البشرة الأيرلندية الرائعة أن تصبح باهتة في يوم من الأيام؟ ولاحظَ أنها أصبحت أنحف أيضًا؛ فقد بدا الفستان القُطني الأزرق القديم أقل إحكامًا على جسدها.
دخل هال في موضوعه فجأة. وقال: «ماري، لقد رأيتُكِ في المنام اليوم!»
«أرأيتني أيها الشاب؟ وماذا رأيت؟»
ضحك. وقال: «رأيتُكِ وقد أنارَ وجهُكِ، ولمعَ شعرُكِ مثل تاج من الذهب. كنتِ تمتَطينَ حِصانًا أبيض بياضَ الثلج، وترتدين رداءً أبيض ناعمًا ولامعًا … مثل جان دارك، أو قائدة في موكبٍ للاقتراع. كنتِ على رأس حشد … ما زلتُ أسمع صوت الموسيقى في أُذُنَيَّ يا ماري!»
«وماذا بعد أيها الشاب … ماذا يعني كلُّ هذا؟»
قال: «ادخُلي وسأُخبركِ.»
ثم دَلَفَا إلى المطبخ الخالي، وجلسا على كُرسيَّين خشبيَّين غير مُنجَّدَين … عقدت ماري يديها في حِجْرها مثل طفل تلقَّى وعدًا بسماع قصة خيالية. قالت: «الآن أسرع. أريدُ أن أعرف أمرَ هذا الفستان الجديد الذي ستُعطيني إياه. هل سئمتَ فستاني القطني القديم؟»
بادلها الابتسام. وقال: «هذا ثوب ستنسجينه لنفسكِ يا ماري، من أرقى الخيوط في بيئتكِ … من الشجاعة والإخلاص والتضحية بالنفس.»
«بالطبع، ها هو كتاب شِعر مرة أخرى! ولكن ما الذي تقصده حقًّا؟»
نظر حوله. «هل من أحدٍ هنا؟»
«لا أحد.»
لكنه خَفض صوته على نحوٍ غريزي وهو يروي قصته. كان في المعسكر منظِّم نقابي عن «الاتحاد الكبير»، وهو ينوي إيقاظ روح المقاومة لدى العبيد وتحريضهم على الاحتجاج.
زالت الضحكة عن وجه ماري. وقالت بنبرة فاترة: «أوه! ذلك هو الأمر!» تلاشت صورة الحصان الأبيض بياضَ الثلج والرداء الناعم اللامع. وأردفت: «لا يمكنك أبدًا أن تفعل أيَّ شيء من هذا القبيل هنا!»
«لِمَ لا؟»
«بسبب الرجال الموجودين في هذا المكان. ألا تتذكَّر ما قلتُه لك في منزل السيد رافيرتي؟ إنهم جُبناء!»
«حسنًا، يا ماري، من السهل أن نقول ذلك. ولكن ليس من السار على الإطلاق أن يُطرَد المرءُ من منزله …»
صاحت بانفعالٍ مفاجئ: «هل أحتاج إلى أن تخبرني بذلك؟ ألا أرى بنفسي؟»
«نعم يا ماري، لكني أريد أن أفعل شيئًا …»
«نعم، وهل لا أريد أنا فِعلَ شيء أيضًا؟ بالطبع أردتُ أن أقضمَ أنوفَ الرؤساء!»
ضحك قائلًا: «حسنًا، سنجعل ذلك جزءًا من خطتنا.» لكن ماري لم تكن لتنجذب إلى المرح؛ فقد كان مزاجُها مليئًا بالألم والحيرة؛ إلى درجة أن هال شعرَ بالحاجة إلى الاقتراب منها والإمساك بيدها مرة أخرى. لكنه كبح جماح نفسه؛ لقد جاءَ لتوجيه طاقاتها نحو قناة آمنة!
«يجب أن نُوقِظَ هؤلاء الرجال من أجل المقاومة يا ماري!»
«لا يمكنك فعل ذلك يا جو … ليس الرجال الناطقين بالإنجليزية. اليونانيون والبُلغار، ربما … إنهم يقاتلون في أوطانهم، وربما يقاتلون هنا. لكنَّ الأيرلنديين لا يمكنهم مطلقًا … مطلقًا! أولئك الذين كانت لديهم عزيمة غادروا منذ زمنٍ بعيدٍ. ومَن بقُوا حوَّلوهم إلى مُتمَلِّقين. إنني أعرفهم، أعرف كلَّ رجل منهم. إنهم يتذمَّرون ويلعنون رؤساءَهم، لكنهم بعد ذلك يُفكِّرون في القائمة السوداء، ويعودون ويتذلَّلون عند أقدامهم.»
«ما يريده هؤلاء الرجال هو …»
«إنهم يريدون الخمرَ، والعَربَدة مع النساء الفاسدات في مُدن الفحم، والجلوس طوال الليل ليتربَّح كلٌّ منهما من أموال الآخر بحزمة من بطاقات اللَّعب المُلطَّخة! إنهم يأخذون مُتعتَهم أينما وجدوها، ولا يريدون شيئًا أفضل من ذلك.»
«إذن يا ماري، إذا كان الأمر كذلك، ألا تَرَين أن هذا سبب أدعى لمحاولة توعيتهم؟ إن لم يكن من أجل مصلحتهم، فمن أجل أطفالهم! يجب ألا ينشأ أطفالهم على هذه الحال! يتعلَّمون الإنجليزية، على الأقل …»
أطلقت ماري ضحكة ساخرة. وسألت: «هل ذهبتَ إلى تلك المدرسة؟»
أجاب هال بالنفي، وأخبرته أنه كان هناك مائة وعشرون طفلًا مُكدَّسين في غرفة واحدة، ثلاثة في مقعدٍ واحدٍ، مالئين المكان إلى الجدران. ثم تابعت كلامَها بغضبٍ مُتَسارِع … كان من المفتَرَض أن تُدفَع نفقاتُ المدرسة من أموال الضرائب، ولكن بما أنه لا أحد يملك أي عقارات سوى الشركة، فقد كان كلُّ شيءٍ في أيدي الشركة. تَكوَّن مجلسُ إدارة المدرسة من السيد كارترايت، مشرف المناجم، وجيك بريدوفيتش، موظف في المتجَر، والواعِظ القَس سبراج. كان العجوز سبراج على استعداد أن يضرب الأرض بأنفه إذا طلبَ منه «المشرفُ» ذلك.
قال هال وهو يضحك: «مهلًا، مهلًا! أنتِ حاقدة عليه؛ لأن جدَّه كان عضوًا في الأَخَوية البرتقالية البروتستانتينية!»