الفصل الثالث
لقد فُطِمَتْ ماري بيرك على اليأس، وتغلغلَ سُمُّه عميقًا في دمِها. بدأ هال يدرك أنه سيكون من الصعب منحها أيَّ أمل في إيقاظ العمَّال الذين احتقرَتهم. كانت بلا شكٍّ تمتلك ما يكفي من الشجاعة، ولكن كيف يمكنه أن يقنعها بأن تكون شجاعة من أجل رجال لا يمتلكون الشجاعة لأنفسهم؟
قال: «يا ماري، أنتِ لا تكرهين هؤلاء الناس في صميم قلبكِ. تعرفين مدى معاناتهم، وتَرثين لحالهم. تُعطين أطفالهم آخِر سنتٍ معكِ عندما يحتاجون إليه …»
«آه أيها الشاب!» بكت ماري، ورأى هال الدموع تتدفق فجأة من عينَيها. «أنا أكرههم لأنني أُحبهم! أحيانًا أريد أن أقتل الرؤساء، وأحيانًا أريد أن أقتل الرجال أنفسهم. ما الذي تريد مني أن أفعله؟»
وقبل أن يتمكَّن حتى من الإجابة، بدأتْ في مراجعة قائمة معارفها في المعسكر. أجل، كان هناك رجلٌ يجب أن يتحدَّث إليه هال؛ كان كِبَر سنِّه سيمنعه من الانضمام إليهم، لكن نصيحته لا تُقدَّر بثمن، ويمكنهم التأكد من أنه ما كان ليخونهم أبدًا. ذلك الرجل هو العجوز جون إدستروم، سويدي من ولاية مينيسوتا، وقد عمل في هذه المنطقة منذ بداية المناجم بها. كان أحد مَن شاركوا في الإضراب الكبير قبل ثماني سنوات، وأُدرجَ في القائمة السوداء، وأبناؤه الأربعة معه. تفرَّق الأبناء الآن في أنحاء العالم الأربعة، لكن الأب بقي في مكان قريب، وعمِل في مزرعة وفي السكة الحديدية، وقبل عامَين فقط، خلال أحد مواسم الذروة، حصلَ على فرصة للعودة إلى المناجم.
قالت ماري إنه عجوز جدًّا؛ لا بد أنه في الستين من عمره. وعندما أشار هال إلى أنَّ هذه ليست بسِنٍّ متقدِّمة للغاية، أجابت بأنها نادرًا ما سمعتْ عن رجل قادر على العمل في منجم للفحم في تلك السن؛ في الواقع، لم يكن هناك الكثير ممن تمكَّنوا من العيش حتى تلك السن. كانت السيدة إدستروم تحتضر حينها، وكان يمرُّ بوقتٍ عصيب.
قالت ماري: «لن يكون من العدل أن نترك رجلًا عجوزًا كهذا يفقد وظيفته. ولكن على الأقل يمكنه أن يقدم لك نصيحة جيدة.»
ومن ثَم، ذهبا في ذلك المساء لمقابلة جون إدستروم، في كوخ صغير في «منطقة الصفيح»، غير مَطلي، وذي أرضية عارية، ونصف جدار من ألواح الخشب غير المصقولة لحَجبِ زوجته المحتضرة عن ضيفَيه. كانت المرأة مصابة بالسرطان، ما صعَّب من زيارتها، حيث كانت هناك رائحة مُخيفة في المكان. في بادئ الأمر، كان من المستحيل على هال أن يُجبر نفسه على التفكير في أي شيء آخر، لكنه في نهاية المطاف تغلَّب على هذا الضعف، قائلًا لنفسه إنهم في حالة حرب، وإن المرء يجب أن يكون مستعدًّا للذهاب إلى المستشفى قدر استعداده للذهاب إلى ساحة العرض العسكري.
نظرَ حوله، ورأى أنَّ الشقوقَ في كوخ إدستروم كانت مسدودة بالخِرَق، وأنه قد أصلح زجاج النوافذ المكسور بالورق البُنِّي. من الواضح أنَّ الرجل العجوز قد بذلَ جهدًا للحفاظ على نظافة المكان، وقد لاحظ هال صفًّا من الكتب على رفٍّ. ولأن الطقس كان باردًا في هذه المناطق الجبلية ليلًا، حتى في شهر سبتمبر، كان لدى الرجل العجوز موقدٌ من الحديد الزَّهْر، وقد جلسَ مُكوَّمًا بجانبه. لم يتبقَّ سوى بعض الشعيرات في رأسه، وكان بياضُ لحيته الشعثاء كما يمكن أن يكون بياضَ أي شيء آخر في معسكر للفحم. كان أولُ ما يلاحظه المرء في وجهه هو شُحوبه، ثم الرأفة في عينَيه الداكنتَين المتعَبتَين، كما كان صوتُه أيضًا لطيفًا، كما لو كان يَربتُ به على مَن أمامه. نهضَ لتحيَّة ضَيفَيه، ومدَّ نحو هال يدًا مرتعشة تُشبه مِخلب حيوان مُشوَّه. تحرَّك ليُقرِّب مقعدًا واعتذرَ عن افتقاده المهارة في تدبيره لمنزله. خطرَ على بال هال أنَّ الرجل قد يقدر على العمل في منجم للفحم في سن الستين، ولكنه لن يقدر على العمل فيه في سن الواحد والستين.
كان هال قد طلب من ماري ألا تقول شيئًا عن هدفِه، إلا بعد أن تسنَح له الفرصة للحُكم على الرجل بنفسه. لذلك سألت الفتاةُ الآن عن السيدة إدستروم. أجاب الرجل بأنه لم يكن ثمة جديد في حالتها؛ وكانت ترقد في سُبات، كالعادة. زارها الدكتور باريت مرة أخرى، لكن كل ما استطاع فعله هو إعطاؤها المورفين. قال الطبيب إنه لا يمكن لأحدٍ أن يفعل شيئًا أكثر من ذلك.
قالت ماري هازئةً: «بالطبع، لم يكن ليعرف ما إذا كان في استطاعتهم فعل شيء!»
قال إدستروم برَباطة جأش: «إنه ليس شخصًا سيئًا عندما لا يكون في حالة سُكر.»
قالت ماري هازئةً مرة أخرى: «وكم مرة يكون في وعيه؟» أضافت، على سبيل التوضيح لهال: «إنه قريبُ المشرِف.»
قال إدستروم إنَّ الأمور كانت أفضل هنا مما كانت عليه في بعض الأماكن. في هارفيز ران، حيث كان يعمل، أصيب رجلٌ في عينه وفقدَها بسبب انزلاق أداة من يد الطبيب، كما لم تكن الأذرع والسيقان المكسورة تُجبَر جيدًا، وكان على المرء إما أن يعيش طوال حياته مُعاقًا، وإما أن يذهب إلى مكان آخَرَ ويُعاد كسر عظامه وإصلاحها … ومثل أي شيء آخر، كان الطبيب جُزءًا من منظومة الشركة، وإذا أكثرت في الحديث عنه، يطردونك من الوادي. لم يكن يُقتطَع من راتبك دولارٌ كلَّ شهر فحسب، بل إذا أُصِبتَ وجاء الطبيب لزيارتك، وطلب رُسومًا إضافية، فإنه يحصل على ما يشاء من زيادة.
سأل هال: «وهل عليك أن تدفع؟»
قال الرجل العجوز: «إنهم يأخذونها من حسابك.»
أضافت ماري: «أحيانًا يأخذونها دون أن يفعل شيئًا على الإطلاق. لقد أخذوا من السيدة زامبوني خمسة وعشرين دولارًا لطِفلها الأخير … ولم تَجُز قدمُ الدكتور باريت بابَها قطُّ إلا بعد مرور ثلاث ساعاتٍ من حملي الطفلَ بين ذراعَيَّ!»