الفصل الرابع
استمرَّ الحديث. ولأن هال كان يرغب في حَثِّ الرجل العجوز على الكلام، تحدَّث عن مشكلات عُمَّال المناجم المختلفة، واقترح في النهاية أن الحل ربما يكمُن في تشكيل اتحاد. تفحَّصته عينا إدستروم الداكنتَان، ثم التفت إلى ماري. قالت الفتاة مُسرِعةً: «لا بأسَ من جو. تستطيع أن تثقَ به.»
لم تصدُر من إدستروم إجابةٌ مباشرة على هذا، لكنه أشار إلى أنه شاركَ في أحد الإضرابات ذات مرة. باتَ رجُلًا مشبوهًا الآن، وأصبح لا يمكنه البقاء في المعسكر إلا إذا التزم شئونه الخاصة وحسب. لم يُنْسَ قطُّ دورُه في الإضراب الكبير، ولكن الرؤساء سمحوا له بالعودة إلى مزاولة العمل؛ من ناحية لأنهم كانوا في حاجة إليه في وقت الذروة، ومن ناحية أخرى لأنه تصادفَ أن كان رئيس العمَّال صديقًا شخصيًّا له.
قالت ماري: «أخبِره عن الإضراب الكبير. إنه جديدٌ في هذه المنطقة.»
بدا أنَّ الرجل العجوز قد قبِل كلام ماري عن حُسن نية هال؛ لأنه بدأ يروي تلك الأحداث الرهيبة التي كانت قد اعتِيد تناقُلُها همسًا في المعسكرات. بذل عشرة آلاف عَبدٍ كادِح جهدًا جبَّارًا من أجل الحرية؛ وقد قُمِعوا بقسوة مطلَقة. منذ أن بدأت هذه المناجم، كان أصحابُها يسيطرون على السلطات المحلية للحكومة، وبعدها، في حالة الطوارئ، جلبوا ميليشيا الدولة أيضًا واستخدموها عَلنًا لإعادة المضربين إلى العمل. لقد قبضوا على القادة والنُّشطاء، وألقوا بهم في السجن دون محاكمة أو اتهامات، وعندما لم يبقَ مكان في السجون، احتجزوا نحو مائتَي شخص في حظيرة مفتوحة كانت تُسمى «حظيرة الثيران»، وأخيرًا حملوهم في عربات الشحن، وأخذوهم ليلًا إلى خارج الولاية، وألقوا بهم في وسط الصحراء دون طعام أو ماء.
كان جون إدستروم أحدَ هؤلاء الرجال. روى كيف تعرَّضَ أحدُ أبنائه للضرب وأُصيبَ بجروح خطيرة في السجن، وكيف احتجزوا ابنًا آخر لأسابيع في قَبوٍ رَطبٍ، حتى خرجَ مشلولًا مدى الحياة لإصابته بالروماتيزم. قام ضباط ميليشيا الدولة بتلك الأشياء، وعندما تحرَّكت بعضُ السلطات المحلية للاحتجاج، اعتقلتهم الميليشيا … حتى إن قضاة المحاكم المدنية قد مُنِعوا من عقد جلسات استماعٍ عن طريق التهديد بسَجنهم. كانت كلمة الجنرال المسئول: «فليذهب الدستورُ إلى الجحيم!» وقد أشاع مرءُوسه العبارة: «لا يوجد أمرٌ بالمثول أمام القضاء؛ سنُعطيهم إياه بعد الوفاة!»
أثار توم أولسون إعجابَ هال برباطة جأشه، لكن هذا الرجل العجوز قد نجحَ في ترك انطباعٍ أعمق في نفس هال. عندما استمع هال إليه، خشعَ وشعر بالرهبة. عندما تحدَّث جون إدستروم عن تجاربه القاسية، خَلا صوتُه من المرارة، وبقدر ما بدا الأمر لا يُصدَّق، كان من الواضح أن قلبه أيضًا قد خلا منها. هنا، وسط العَوَز والخراب، وتفكُّك عائلته وتشتُّتها، والجوع المتربِّص به كالذئب عند باب منزله، استطاعَ أن ينظر إلى الماضي دون أن يُضمر كراهيةً لأولئك الذين دمَّروا حياته. ولم يكن ذلك بسبب كِبر سنِّه وضعفه، وفقدانه لروح الثورة؛ بل لأنه قد درسَ الاقتصاد، وتوصَّل إلى قناعة بأن النظام القائم كان نظامًا شريرًا، قد أعمى عيون الرجال وسمَّم أرواحهم. قال إنَّ يومًا أفضل سيأتي، عندما يتغيَّر هذا النظام الشرير ويتمكَّن الرجالُ من التراحُم فيما بينهم.
عندما وصلت المناقشة إلى هذه المرحلة، أعربَت ماري بيرك مرة أخرى عن يأسِها الساحق. كيف يمكن أن تتغيَّر الأمور في أي يومٍ من الأيام؟ الرؤساء قُساة القلوب، والعمال جُبناء وخَونة. ولم يعد في استطاعة أحد تغيير ذلك سوى الله … والله قد ترك الأمور على حالها وقتًا طويلًا!
كان هال مُهتمًّا بمعرفة كيفية تعامُل إدستروم مع هذا الموقف. قال: «ماري، هل قرأتِ من قَبل عن النمل في أفريقيا؟»
قالت: «لا.»
«إنه يتحرك في طوابير طويلة، تُقدَّر بالملايين. وعندما يصل إلى خندق، تسقط النملةُ الأولى في الطابور، ويتبعها المزيدُ والمزيد من النمل في الأعلى، حتى يملأ النملُ الخندقَ، وتعبُر البقيةُ عليه. نحن نمل يا ماري.»
صاحت الفتاة: «مهما كان عددُ مَن يدخلون، فلن يتمكَّن أحدٌ من العبور أبدًا. ليس ثمة قاعٌ للخندق!»
أجاب: «ذلك أكثر مما يمكن أن تعرِفه أيُّ نملة. يا ماري. كلُّ ما يعرفه النملُ هو أن يدخل إلى الخندق. تتشبَّث كلُّ نملة بجسد الأخرى، حتى في حال موتها؛ لتشكيل جسر، وتمرُّ البقيةُ عَبرَه.»
قالت بحِدَّة: «سأتحرَّكُ جانبًا! لن أُلقي بنفسي إلى التهلُكة.»
أجاب الآخر: «ربما تَنتحِين جانبًا … لكنكِ ستعودين إلى الطابور مرة أخرى. أعرفُكِ أكثر مما تعرفين نفسكِ يا ماري.»
سادَ الصمتُ في الكوخ الصغير. دوَّت رياحُ أوائل الخريف بالخارج، وبدتِ الحياةُ فجأة لهال صارمةً وقاسية. كان يعتقد في فَورة شبابه أنه من المثير أن يُصبح ثوريًّا، ولكن أن يكون نملة، واحدة من ملايين وملايين النمل، أن يَفنى في خندقٍ لا قاعَ له … فذلك كان شيئًا يصعب على المرء أن يحمل نفسه على مواجهته! نظر إلى الجسد المنحني لهذا الكادِح الأشيب الشعر، الضئيل في ضوء المصباح الخافت، ووجدَ نفسه يُفكِّر في لوحة «زيارة عمواس» لرامبرانت، حيث الغرفة الرديئة الإضاءة في الحانة القذِرة وقد أُصيبَ الرجلان الرثَّا الثياب بالذهول من وَهج الضوء على جبين رفيقِ طاولتهما. لم يكن من الرائع أن يتخيَّل وهجًا من الضوء حول جبين هذا العجوز ذي الصوت الخفيض!
كان الرجل العجوز يقول بهدوءٍ: «لم يكن لديَّ أيُّ أمل على الإطلاق أن أشهد ذلك اليوم. لقد كنت آمل حقًّا أن يتمكَّن أبنائي من رؤيته … لكني الآن لست متأكدًا حتى من ذلك. غير أني طوال حياتي لم أشك قطُّ في أنه في يومٍ من الأيام سوف يعبر العمَّال إلى الأرض الموعودة. لن يكونوا عبيدًا بعد ذلك، وما يصنعونه لن يضيعه الكُسالى. ولتصدِّقي رجلًا عليمًا بالأمور يا ماري … عندما لا يملك العامل أو العاملة ذلك الإيمان، يفقد السببَ للحياة.»
قرَّر هال أنه سيكون من الآمِن أن يثق بهذا الرجل، وأخبره بخطته للعمل مُراقِبًا للأوزان. أوضحَ متذكِّرًا تحذير ماري: «لا نريد سوى نصيحتك. زوجتُكَ المريضة …»
لكن الرجل العجوز أجاب بحزنٍ: «إنها في الرمق الأخير، وسألحق بها قريبًا. ما تبقَّى لي من قوة يمكن بذله أيضًا في سبيل القضية.»