الفصل الثامن
بعد يومَين من بداية عمل هال بالسياسة، تقرَّر أن يتجمَّع العمَّال الذين كانوا سيُطالبون بمراقِبٍ للأوزان في منزل السيد ديفيد وزوجته. عندما خرج مايك سيكوريا من المنجم في ذلك اليوم، أخذه هال جانبًا وأخبره بالتجمُّع. عَلَتْ نظرةٌ من البهجة وجهَ السلوفاكي العجوز وهو يستمع؛ فأمسكَ برفيقه من كتِفَيه وصاح: «أتعني ما تقول حقًّا؟»
قال هال: «بالتأكيد، أعني ذلك. ألا تريد أن تكون في اللجنة كي تذهب وترى رئيس العُمَّال؟»
صاحَ مايك بما يعني «شيئًا فظيعًا» في لغته الأم. وأردفَ: «بحق يهوذا، سأعيدُ حزم صندوقي القديم!»
شعر هال بتأنيب ضمير. هل كان عليه إقحامُ هذا الرجل العجوز في الأمر؟ ومن ثَم سأله: «هل تعتقد أنك ستضطرُّ إلى الخروج من المعسكر؟»
«سأخرج من الولاية هذه المرة! ربما أعود إلى بلدي القديم!» وأدرك هال أنه لا يستطيع إيقافَه الآن، حتى لو أراد ذلك. كان الرجل العجوز متحمِّسًا للغاية إلى درجة أنه لم يتناول شيئًا في العشاء، وكان مساعِدُه يخشى أن يتركه بمفرده لئلَّا يُفشي الخبر.
اتُّفِق على أن مَن سيحضرون الاجتماع يجب أن يأتوا فُرادى، ومن طرقٍ مختلفة. كان هال من أوائل مَن وصلوا، ورأى أن ستائر البيت قد أُسدِلَت، ومصابيحه قد خُفِّض ضوءُها. دخلَ من الباب الخلفي، حيث وقفَ ديفيد «جاك الكبير» للحراسة. تأكد «جاك الكبير»، الذي كان عضوًا في اتحاد جنوب ويلز في موطنه، من هوية هال، ثم أدخله دون أن ينبِس ببِنت شَفة.
كان مايك بالداخل … وكان أولَ الواصلين. وكانت السيدة ديفيد، ذات العينَين السوداوين الصغيرتَين واللسان الذي لا يكفُّ عن الكلام، تتجوَّل في المكان وتُرتِّبه؛ كانت متوترة للغاية إلى درجة أنها لم تستطع الجلوس ساكنةً. كان هذان الزوجان قد أتيَا من مسقط رأسَيهما قبل عام أو نحو ذلك فحسب، وقد أحضرا جميع هدايا زفافهما إلى منزلهما الجديد … صور، وطُرَف، ومفروشات. لقد كان أجمل منزل زاره هال حتى ذلك الحين، وكانت السيدة ديفيد تخاطر به عمدًا، بسبب سخطها على زوجها الذي كان عليه أن يتخلَّى عن اتحاده النقابي من أجل الحصول على عملٍ في أمريكا.
جاء الشابُّ الإيطالي روفيتا، ثم جاء العجوز جون إدستروم. ولعدم وجود ما يكفي من الكراسي في المنزل، كانت السيدة ديفيد قد وضعت بعض الصناديق أمام الجدار، وغطَّتها بالقماش؛ ولاحظ هال أن كلَّ شخصٍ أخذ صندوقًا منها، تاركًا الكراسي لمَن وصلوا لاحقًا. كان كلٌّ منهم يُومئ إلى الآخرين عندما يدخل، ثم يخيِّم الصمتُ مرة أخرى.
عندما دخلت ماري بيرك، توقَّع هال من مظهرها وأسلوبها أنها قد غاصت مرة أخرى في مزاجها التشاؤمي القديم. شعر باستياءٍ لَحْظي. كان سعيدًا جدًّا بهذه المغامرة، وأراد أن يشعر الجميعُ بالسعادة … وخصوصًا ماري! ولكن مثل كل مَنْ لم يعانوا كثيرًا، صدَّته فكرة المعاناة الدائمة التي يعيش فيها الآخرون. بالطبع كان لدى ماري أسبابٌ وجيهة وراء مزاجها الكئيب … لكنها اعتبرت أنه من الضروري الاعتذار عما أسمته «شكواها»! كانت تعلم أنه يريدها أن تساعد في تشجيع الآخرين وتحفيزهم، ولكن ها هي تجلس في أحد الأركان وتشاهد هذا الحدث الرائع، كما لو كانت تقول: «أنا نملة، وسأشارك في الأمر … ولكنني لن أتظاهر بأن لديَّ أيَّ أمل في أن يفلح ذلك!»
أصرَّت روزا وكذلك جيري على المجيء، رغم أن هال عرض إعفاءهما من الحضور. جاء بعدهما البُلغاري فريسماك، ثم البولندِيَّان، كووفوسكي وزاميروفسكي. وجد هال صعوبة في تذكُّر هذَين الاسمَين، لكنَّ البولندِيَّين لم يزعجهما الأمر على الإطلاق؛ إذ كانا يبتسمان بلطفٍ عندما يحاول تذكر اسمَيهما، ولم يكونا ليمانعا إذا يئسَ ودعاهما توني وبيت. كانا رجلَين متواضعَين، وقد اعتادا طوال حياتهما تلقي الأوامر من الغير. نظر هال إلى الرجال واحدًا تلو الآخر، بأجسادهم المنحنية ووجوههم المنهكة من التَّعب، التي بدت في ظل الضوء الخافت أكثر تجهمًا وحزنًا من أي وقتٍ مضى، وتساءل عما إذا كان الاضطهاد القاسي الذي دفعهم إلى الاحتجاج سيكون كافيًا للحفاظ على حماسهم الجماعي ورغبتهم في المشاركة.
أتى أحد المستجَدِّين، الذي أساءَ فهم الأوامر، إلى الباب الأمامي وطرقَه، ولاحظ هال أن الجميع قد جفلوا، وبعضهم نهضَ على قدمَيه في ذُعرٍ. تذكَّر مرة أخرى أجواءَ روايات الحياة الثورية الروسية. كان عليه أن يُذكِّر نفسه بأن هؤلاء الرجال والنساء، المجتمعين هنا كالمجرمين، لا يفعلون شيئًا سوى التخطيط للمطالبة بحقٍّ يكفله لهم القانون!
كان آخِر مَن انضمَّ إليهم هو عاملَ منجم نمساويًّا يُدعى هوسار، الذي كان أولسون قد تواصلَ معه. ثم حان وقتُ بدء الاجتماع، ونظر كلٌّ منهم إلى الآخر في ترقُّب. قليلٌ منهم سبق له المشاركة في مؤامراتٍ من قبل، ولم يعرفوا تمامًا كيفية التعامُل مع الأمر. تعمَّد أولسون، الشخص الذي كان من شأنه أن يكون زعيمهم بطبيعة الحال، أن يبقى بعيدًا. يجب عليهم التعامل مع أمر مراقِب الأوزان هذا بأنفسهم!
قالت السيدة ديفيد أخيرًا: «فليتحدَّث شخصٌ ما»، ثم التفتت إلى هال عندما استمر الصمت. وقالت له: «سوف تكون مراقِب الأوزان. تكلَّم أنت.»
قال هال مبتسمًا: «أنا أصغر رجل هنا. فليتحدَّث أحدُ الزملاء الأكبر سنًّا.»
غير أنَّ أحدًا لم يبتسِم. صاحَ مايك العجوز: «تكلَّم!» ومن ثَم، نهضَ هال واقفًا في النهاية. إنه شيء سيمرُّ به كثيرًا في المستقبل؛ لأنه أمريكيٌّ ومتعلِّم، ومن ثَم أُجبر على أن يتولَّى زمامَ القيادة.
«كما أفهم، أنتم تريدون مراقِبًا للأوزان. الآن يقولون لي إن أجر مراقِب الأوزان يُفترض أن يكون ثلاثة دولارات في اليوم، غير أن بيننا سبعة فقط من عمَّال المناجم، وهذا ليس كافيًا. سأعرض الحصول على الوظيفة مقابل خمسة وعشرين سنتًا في اليوم من كل رجلٍ، وهو ما مجموعه دولار وخمسة وسبعون سنتًا، أقل مما أحصل عليه الآن في وظيفة المساعِد. إذا حصلنا على ثلاثين رجلًا لينضموا إلينا، فسأحصل على عشرة سنتات في اليوم من كلٍّ منهم، وأحصل على الثلاثة دولارات كاملة. هل يبدو ذلك عادلًا؟»
قال مايك: «بالطبع!» ووافقَ الآخرون لفظًا بألسنتهم أو إيماءً برءوسهم.
«حسنًا. والآن، لا يَخفى على أحدٍ من العاملين في هذا المنجم أن العمَّال لا يحصلون على المقابل الصحيح لأوزان ما يستخرجونه من الفحم. سيُكلِّف الأمرُ الشركة عدة مئاتٍ من الدولارات في اليوم لتعطينا المقابل الصحيح لأوزاننا، وينبغي ألا نكون من الحماقة بحيث نتصوَّر أنهم سوف يفعلون ذلك دون صراعٍ. علينا أن نعزم أمرنا على الوقوف معًا والتصدي لهم.»
صاحَ مايك: «بالطبع، يجب أن نتَّحد!»
صاحَ جيري بتشاؤمٍ: «لا يمكننا الحصول على مراقِب للأوزان!»
قال هال: «لن نحصل عليه إلا إذا حاولنا يا جيري.»
وضربَ مايك على ركبته. وقال: «بالطبع نحاول! ونحصل عليه أيضًا!»
صاحَ «جاك الكبير»: «صحيح!» لكنَّ زوجته الضئيلة الجسم لم تكن راضية باستجابة الآخرين. لقد أعطت هال درسه الأول في ترويض هذه الجماهير المتعددة اللغات.
«تحدَّث إليهم. اجعلهم يفهمونك!» وأشارت إليهم واحدًا تلو الآخر بإصبعها: «أنت! أنت! فريسماك، هنا، وأنت، يا كووفوسكي، وأنت يا زام … وأنت أيها البولندي الآخر. تريدون مراقِبًا للأوزان. تريدون الحصول على أوزانكم كاملة. تريدون الحصول على أموالكم كاملة. أتفهمون؟»
«نعم، نعم!»
«شكِّلوا لجنة، واذهبوا لرؤية المشرِف! تريدون مراقِبًا للأوزان. أتفهمون؟ يجب أن يكون لديكم مراقِب للأوزان. لا تراجُع ولا خوف.»
سرعان ما شرحَ كووفوسكي، الذي كان يفهم بعضَ الإنجليزية، لزاميروفسكي بقوله: «لا … لا خوف!»، ومن ثَم أومأَ زاميروفسكي، الذي كان عنقه لا يزال مُلتويًا إلى الموضع الذي ضربه جيف كوتون فيه بمسدسه، برأسه في لهفة بالموافقة. على الرغم من كدماته، كانت لديه الرغبة في الوقوف بجانب الآخرين، ومواجهة رئيس العمَّال.
ومن هنا طُرِح سؤالٌ جديد. «مَن سيتحدَّث إلى رئيس العُمَّال؟»
قالت السيدة ديفيد مخاطِبةً هال: «أنت مَن سيفعل ذلك.»
«ولكن أنا الشخص الذي سيُدفَع له الأجر. ليس لي أن أتحدَّث.»
أعلنت المرأة: «لا أحدَ غيرك يمكنه فعل ذلك على نحوٍ سليمٍ.»
قال مايك: «بالطبع … يجب أن يكون المتحدِّث أمريكيًّا!»
لكن هال أصرَّ. إذا تحدَّث هو، سيبدو الأمرُ كما لو أن مراقب الأوزان هو منظِّم الحركة، وأنه مشارك في اختلاق وظيفة جيدة الأجر لنفسه.
دارت المناقشات أخذًا وردًّا، حتى عَلَا صوتُ جون إدستروم أخيرًا. وقال: «ضعوني في اللجنة.»
قال هال: «أنت؟ لكنهم سيطردونك! وماذا ستفعل زوجتك؟»
قال إدستروم بوضوحٍ شديدٍ: «أعتقد أن زوجتي ستموت الليلة.»
ثم جلس مُطبق الشفتَين، ناظرًا أمامه مباشرة. وبعد توقُّف مؤقَّت، تابع قائلًا: «إذا لم يكن الليلة، فسيكون غدًا، هكذا يقول الطبيب، وبعد ذلك لن يُهم أيُّ شيء. يجب أن أذهب إلى بيدرو لدفنِها، وإذا اضطررت إلى البقاء هناك، فلن يُحدِث ذلك فارقًا كبيرًا بالنسبة إليَّ، لذلك ربما أفعل ما في وسعي من أجل بقِيَّتكم. إنني أعمل في المناجم طوال حياتي، والسيد كارترايت يعرف ذلك؛ ربما يكون لذلك وزنٌ عنده. دعني أنا وجو سميث وسيكوريا نذهب لرؤيته، ولتنتظر بقيتُكم، ولا تتخلَّوا عن وظائفكم إلا إذا اضطُررتم إلى ذلك.»