الفصل الرابع
كان أمام هال الآن مغامراتٌ لمدة أسبوع سيحيا فيها مُشرَّدًا، مُشرَّدًا بمعنى الكلمة، من دون ورقة بقيمة عشرة دولارات في حزامه تُخفِّف عليه الواقعَ القاسي لتجاربه. تأمَّل فضائله الدنيوية، وتساءل عما إذا كان لا يزال يبدو رجلًا مُتأنقًا. تذكَّر أنه كانت لديه ابتسامة فَتَنَت السيدات؛ فهل سيكون لها الأثر نفسه مع هذه الكدمة التي تلقَّاها في عينه؟ ونظرًا إلى عدم وجود وسائل أخرى لكسب الرزق، فقد استخدمَ ابتسامته مع ربَّات البيوت اللاتي يبدو من مظهرهن أنهن مُرهَفات الحسِّ، ووجدها طريقة ناجحة جدًّا، إلى درجة أنها استمالته للشَّكِّ في حكمة العمل الشريف. لم يَعُدْ يُغَني أغنية هاريجان، بل كلماتٍ لإحدى أغنيات المشرَّدين سمعَها ذات مرة:
في اليوم الثاني تعرَّفَ إلى رجُلَين آخرَين، كانا جالسَين على الطريق بجوار خط السكة الحديدية يَشوِيان بعضًا من لحم الخنزير المقدَّد على نارٍ أوقداها في العَراء. رحَّبا به، وبعد أن استمعا إلى قصته، قبِلاه عُضوًا في جماعتهم، وأرشداه إلى كيفية العيشِ وَفقًا لتعاليمها وأعرافها. وسرعانَ ما تعرَّف إلى شخصٍ كان عامِلًا في منجم، واستطاع أن يُعطيه المعلومات التي يحتاج إليها قبل أن يُقدِم على صعود وادٍ آخر.
«مايك الهولندي»، كان هذا اسم الشخص لأسبابٍ لم يشرحها. لقد كان وضيعًا ذا عينَين سوداوَين ومظهر ينمُّ عن الخطر، وعندما طُرِح موضوعُ المناجم والتَّعدِين، أطلقَ وابلًا من الألفاظ النَّابية. لقد تركَ هذه المهنة … ويستطيع هال أو أيُّ أحمقٍ شقي آخر أن يأخذ وظيفته إن أراد. ولا شيء سوى وجود الكثير من الحمقى الأشقياء بالفِطرة في العالَم يجعل هذه المهنة تستمر. واصل «مايك الهولندي» سردَ حكاياتٍ مُروِّعة من واقع حياة المناجم، واستدعى أشباحَ مُشرِفي العمل أمامه واحدًا تِلوَ الآخر، مُتمَنِّيًا إرسالَهم جميعًا إلى نيران الجحيم الأبدي.
قال: «أردتُ العملَ عندما كنت صغيرًا، ولكنني الآن شُفِيتُ، وإلى الأبد.» أصبحَ العالَم في نظرِه مكانًا شُيِّد خصيصَى لكي يحمله على الكدح والعمل، وقد سخَّر جميعَ قدراته لإحباط هذه المؤامرة. عندما كان هال جالسًا عند نار أحد المخيِّمات بالقرب من جدول الماء الذي كان يجري عبر الوادي، قضى وقتًا ممتعًا يشرح ﻟ «مايك الهولندي» كيف كان كَدُّه في التهرُّب من العمل يفوق بكثيرٍ كَدَّ غيره في عملهم. لم يبدُ أن المشرَّد كان يعنيه ما يقول … غير أنها كانت مسألة مبدأ بالنسبة إليه، وكان على استعدادٍ لتقديم التضحيات من أجل قناعاته. وحتى عندما أرسلوه إلى إصلاحية الأحداث، رفضَ العمل؛ حيث حُبِسَ في زنزانة، وكان على وشك الموت لأنه كان يقتاتُ على الخبز والماء فقط، ومع ذلك ظلَّ مُحجِمًا عن العمل. قال إنه إذا حذا الجميع حذوَه، فسرعان ما ستشتعل «حالة الاضطراب والفوضى».
أُعجِب هال بهذا الثوري العَفوي، وسافر معه لبضعة أيام؛ حيث أمدَّه بتفاصيل عن حياة عامل المناجم. تتعامل معظمُ الشركات مع وكالات التوظيف النظامية، كما ذكر الحارس، لكن المشكلة أن هذه الوكالات كانت تحصل على جزءٍ من راتبك لفترة طويلة … وأن رؤساء العمل كانوا «متواطئين» معها. عندما تساءلَ هال عما إذا كان هذا مخالفًا للقانون، قال رفيقه: «كُفَّ عن هذا يا رجل! عندما يكون لديك وظيفة لفترة من الوقت، ستعرف أن القانون في معسكر الفحم هو ما يخبرك به رئيسُك.» واصل العامل المشرَّد التعبيرَ عن قناعاته بأنه عندما يكون توفيرُ الوظائف حِكرًا على رجل واحد، ويكون على الرجال الآخرين أن يتدافعوا للحصول عليها، فلن يكون للقانون سلطة كبيرة في الأمر. استشفَّ هال من كلامه ملاحظةً عميقة، وأمَل في إيصالها إلى أستاذ الاقتصاد السياسي في هاريجان.
في الليلة الثانية من تعرُّفه إلى «مايك الهولندي»، اقتحمَ شرطيٌّ مع ستة من مُساعديه «غابتَهم»؛ حيث كانوا يبذلون جهودًا حثيثة في ذلك الوقت لطرد المشرَّدين من الحي … أو لحملهم على العمل في المناجم. تمكَّن صديق هال، الذي نام وإحدى عينَيه مفتوحة، من الهرب في الظلام، وتبِعه هال، مُفلِتًا من حِراسة المغِيرين بإحدى حيل كرة القدم. تركا خلفهما الطعام والبطاطين، لكن «مايك الهولندي» استخفَّ بالأمر، وسرق دجاجة من أحد الأعشاش ليقضيا ساعاتِ الليل في بهجة، ثم سرقَ ملابسَ داخلية من حبلٍ للغسيل في اليوم التالي. أكلَ هال الدجاجة وارتدى الملابس الداخلية، وهكذا بدأ حياته المهنية في عالَم الجريمة.
عندما افترقَ عن «مايك الهولندي»، عادَ إلى بيدرو. كان المشرَّد قد أخبره أن أصحاب الحانات دائمًا ما يكون لديهم — تقريبًا — أصدقاء في معسكرات الفحم، ويمكنهم مساعدته في الحصول على وظيفة. ومن ثَم، بدأ هال بالاستفسار، وأجابَ الثاني بالموافقة على إعطائه رسالة إلى رجلٍ في نورث فالي، وإذا حصل على الوظيفة، فسيخصم الصديقُ دولارًا كلَّ شهر من راتبه. وافقَ هال، وانطلقَ في رحلة تشرُّد أخرى عبر وادٍ آخر، وتزوَّد في رحلته بشطيرة «تَسوَّلها» من بيتٍ في مزرعة عند مدخل الوادي. وعند بوابة أخرى مطوَّقة بالأسوار للشركة العامة للوقود، قدَّم رسالته الموجَّهة إلى شخصٍ يُدعَى أوكالاهان، الذي اتضح أيضًا أنه صاحب حانة.
لم يكلِّف الحارسُ نفسه حتى عناءَ فتحِ الرسالة، لكنه سمحَ لهال بالمرور عندما رآها، فبحث هال عن الرجل المنشود، وقدَّمَ طلبًا للحصول على وظيفة. قال الرجل إنه سوف يُساعده، ولكنه سيقتطع لنفسه دولارًا كلَّ شهر، ودولارًا آخر لصديقه في بيدرو. اعترض هال على هذا، وأخذا يتقايضان؛ وفي النهاية، عندما ابتعد هال وهدَّد بالتوجُّه مباشرةً إلى «المسئول الأعلى»، سوَّى صاحبُ الحانة المقايضة على دولار ونصف.
سأله: «هل تعرف شيئًا عن العمل في المناجم؟»
قال هال، وقد أصبحَ الآن على دراية بمسالك هذا العالَم ودُروبه: «لقد نشأتُ عليه.»
«أين كنت تعمل؟»
أخبره هال بأسماءِ عِدَّة مناجم سمع عنها من المشرَّدين. كان يطلق على نفسه اسم «جو سميث»، الذي رأى أنه ربما يجدونه في كشوف مرتبات أي منجم من المناجم. وكان قد أطلقَ لحيته لأكثر أسبوع، ما مكَّنه من خداع الرجل، كما تعلَّم بعضَ الألفاظ النابية كذلك.
أخذه صاحبُ الحانة لإجراء مقابلة مع السيد أليك ستون، رئيس العُمَّال في المنجم رقم ٢، والذي سأله على الفور: «هل تعرف شيئًا عن البِغال؟»
قال هال: «لقد عمِلتُ في إسطبل، وأعرف كيف أعتني بالخيول.»
قال الرجل: «حسنًا، البِغال مختلفة. لقد أُصيب أحد عُمال الإسطبل لديَّ بمغصٍ منذ أيام، ولا أعرفُ إن كان سيتعافى أم لا.»
قال هال: «أعطني فرصة. سأعتني بها.»
نظر إليه رئيس العُمَّال. وقال: «تبدو رجلًا ذكيًّا. سوف أدفعُ لك خمسة وأربعين دولارًا في الشهر، وإذا أبليت بلاءً حسنًا سأزيدها إلى خمسين.»
«حسنًا يا سيدي. متى أبدأ؟»
«يمكنك أن تبدأ على الفور. أين ملابسك؟»
قال هال مشيرًا إلى صُرَّة الملابس الداخلية المسروقة في يده:
«هذا كلُّ ما لديَّ.»
قال الرجل: «حسنًا، ارمِها هناك في الركن»، ثم توقَّف فجأة، ونظر إلى هال عابسًا. وقال: «هل تنتمي إلى أي اتحادٍ نِقَابي؟»
«لا، وربي!»
«هل سبق لك أن كنت مُنتَمِيًا إلى اتحاد نِقابي؟»
«لا يا سيدي. مطلقًا.»
كانت نظرة الرجل تُشير فيما بدا إلى أنَّ هال يكذب، وأنه يكاد يقرأ مكنونَ سِرَّه. ومن ثَم قال له: «عليك أن تُقسِم على ذلك قبل أن تتمكَّن من العمل هنا.»
قال هال: «حسنًا، موافق.»
قال الآخر: «سوف أراكَ لترتيب هذا الأمر غدًا؛ فالأوراق ليست معي الآن. بالمناسبة، ما ديانتك؟»
«أنا على مذهب الكنيسة السَّبتية.»
«بحق المسيح! ما هذا؟»
قال هال: «إنه أمرٌ ليس منه ضرر. لا يُفترَض أن أعمل يوم السبت، لكني أعمل في ذلك اليوم على أي حال.»
«حسنًا، تجنَّب الوَعظ هنا. فلدينا الواعظ الخاص بنا … وأنت تُسهِم بخمسين سِنتًا له من راتبك شهريًّا. تقدَّم الآن، وسوف آخذك إلى مكان العمل.» وهكذا بدأ هال حياته المِهنية.