الفصل السادس عشر
لقد كان مُخطَّطًا بِدائيًّا وأحمق، لكن هال أدرك أنه حِيكَ بما يتناسب مع ذكاء الرجال المعنيِّين به. ولولا أنه تصادف أنْ باتَ مستيقظًا يومها، لكانوا قد وجدوا المال معه، ولكان المعسكر بأكمله قد سمعَ في صباح اليوم التالي أنه خانهم. بالطبع لم يكن أصدقاؤه المقرَّبون، أعضاء اللجنة، سيُصدِّقون ذلك، لكن جموع العمَّال كانت ستصدق، ومن ثَم كان الهدف من زيارة توم أولسون إلى نورث فالي سيُصبح بلا جدوى. خلال جميع التجارب التي خاضها هال لاحقًا، ظلَّت هذه الحادثة حيَّة في ذهنه؛ فقد كانت تشي بأشياء كثيرة. وكما حاول الرؤساءُ تشويه صورته، وإخماد تأثيره على أتباعه، رأى فيما بعد أنهم يحاولون تشويه الحركة العُمالية، وتضليل بلد بأكمله والتشويش على ذكائه.
أصبح هال الآن في السجن. اتجه إلى النافذة، وحاول فكَّ القضبان، لكنه وجدها قد صُنعَت لمثل هذه المحاكمات. فتحسَّس طريقه في الظلام، مستكشِفًا سجنه، الذي تبيَّن أنه قفص فولاذي بُني داخل جدران غرفة عادية. كان هناك نَضَد في أحد الأركان، ونَضَد آخر في ركن آخر، أوسع إلى حَدٍّ ما، وعليه مرتَبة. كان هال قد قرأ قليلًا عن السجون … قرأ ما يكفي لأن يتجنَّب هذه المرتبة. قعد على النَّضَد العاري وبدأ يُفكِّر.
من المؤكَّد أن هناك سيكولوجية غريبة تتكوَّن للمرء في السجن، تمامًا كما أن هناك سيكولوجية غريبة تتكوَّن عندما يُجهَد ظهرُك أو تُكسَر يديك في أثناء تحميل عربات الفحم بعِرْق فحم يبلغ طوله خمسة أقدام، وسيكولوجية أخرى، وأخرى مختلفة تمامًا، تنتج عن عيش حياة رغدة بمنأًى عن الحياة الشاقة لعُمَّال مناجم الفحم. في السجن، أول ما تشعر به على الإطلاق هو كونك حيوانًا؛ إذ يتم التركيز على الجانب الحيواني من كيانك، وتُستدعَى المشاعر الحيوانية المتمثِّلة في الكراهية والخوف لتكون في صدارة المشهد، وإذا أردتَ الهرب من هيمنتها عليك، فلا يمكن أن يكون ذلك إلا عن طريق جهدٍ عقلي شديد وتركيز مُضنٍ. ومن ثَم، إذا كنت شخصًا يميل إلى التفكير بطبعه، فستفكِّر كثيرًا في السجن؛ حيث تكون الأيام طويلة، والليالي أطول … حيث يكون لديك الوقت لجميع الأفكار التي يمكن أن تُراودك.
كان النَّضَد صلبًا، وبدا أنه يزداد صلابةً. لم تكن هناك جِلسة من شأنها أن تكون أخفَّ وطأةً عليه. نهض هال وتجوَّل في المكان، ثم استلقى قليلًا، ثم نهضَ ومشَى مرة أخرى، وكان طوال الوقت يُفكِّر، وكانت سيكولوجية السجن تترك بَصمَتَها طوال الوقت على عقله.
فكَّر أولًا في مشكلته المباشرة. ماذا سيفعلون به؟ كانت الإجابة الواضحة هي إخراجه من المعسكر، ومن ثَم يتخلَّصون منه، ولكن هل سيكتفي الباقون بذلك، في ثورة غضبهم من الحيلة التي لعِبها عليهم؟ كان هال قد سمع شيئًا غامضًا عن إجراءِ يرجع إلى سكان أمريكا الأصليين يُسمَّى «الدرجة الثالثة»، لكن الفرصة لم تكن قد أُتيحت له من قبل للتفكير فيه باعتباره أمرًا قد يشهده في حياته. كم هو مختلف أن تُفكِّر في الأمر بهذه الطريقة!
كان هال قد أخبر توم أولسون أنه لن يتعهَّد بتشكيل اتحادٍ نقابي، لكنه سيتعهَّد بحصولهم على مراقِب للأوزان، وقد ضحكَ أولسون، وبدا سعيدًا للغاية … لقد افترضَ، على ما يبدو، أن ذلك سيؤدي إلى النتيجة نفسها. والآن، بدا أن أولسون كان يعرف ما يتحدَّث عنه. ونظرًا إلى أن هال وجد أنه لم يَعُد يخشى من هيمنة الاتحادات العُمَّالية واستبداد المندوبين المتجوِّلين؛ بل على العكس من ذلك، أصبح فجأةً راغبًا في أن يكون لشعب نورث فالي اتحاد نقابي، وأن يفرضوا سيطرتهم قدر ما يستطيعون! كان هال بهذا التغيير، وإن لم تكن لديه أي فكرة عنه، يُكرِّر تجربة شائعة بين الإصلاحيين؛ فقد بدأ الكثير منهم دُعاةً معتدلين وخيِّرين للدفاع عن بعض الحقوق الصغيرة الواضحة، ولكنهم يصبحون، بفِعل سيكولوجية السجن، ثوريين متوقدي الغضب وثابتي العَزم. يقول بايرون: «أيتها الروح الخالدة للعقل الطليق الحُرِّ. أيتها الحرية، كم أنتِ أعظم داخل الزنازين!»
ويضيف الشاعر: «عندما يُقيَّدُ أبناؤك في الأغلال …» فسوف «تجد الحريةُ في كل ريح أجنحةً تُحلِّق بها وتنتشر.» بدا الحال في قلعة شيلون، التي ألهمَ سجينُها الشاعرَ بكتابة تلك الأبيات، كالحال تمامًا في نورث فالي. مع بزوغ الفجر، وقف هال أمام نافذة زنزانته، وسمع صوتَ صافرة بدءِ العمل ورأى العمَّال، مخلوقات العالَم السفلي الشاحبة وجوههم، التي انحنت ظهورها كَدحًا، يذهبون لمباشرة مهامهم وقد بدَوا مثل صَف من قرود البابون في ضوء الفجر الخافت. لوَّح لهم بيده، فتوقَّفوا وحدَّقوا، ثم لوَّحوا له بدورهم؛ أدركَ أن كلَّ واحدٍ من هؤلاء الرجال يفكِّر حتمًّا في سَجنه، والسبب وراءه … وهكذا كانت سيكولوجية السجن تنتقل إليهم. إذا كان أيٌّ منهم لا زال لا يثق بالاتحادات النقابية، أو يشكُّ في الحاجة إلى تشكيل اتحادٍ نقابي في نورث فالي … فلا بد أن حالة عدم الثقة والشك هذه كانت في طريقها إلى أن تتبدَّد.
ثمة شيء ثبَّط من عزيمة هال بينما كان يفكِّر في الأمر. لماذا تركه الرؤساء هنا على مرأًى من الجميع بينما كان من الممكن، وبمنتهى السهولة، أن يضعوه في سيارة، وينطلقوا به سريعًا إلى بيدرو قبل شروق الشمس؟ هل كان ذلك دلالةً على الازدراء الذي حملوه تجاه عبيدهم؟ هل اعتمدوا على أن رؤية السجين من النافذة ستُثير الخوف وليس الاستياء؟ ألا يُحتمَل أنهم يعرفون عمَّالهم أفضل من مراقِب الأوزان المرتقب؟ تذكَّر تشاؤمَ ماري بيرك بشأنهم، ونخرَ القلقُ في روحه؛ وها هو نِتاج سيكولوجية السجن … قاوم هال هذا القلق جاهدًا. وشعرَ بالكُره تجاه الشركة بسبب تهكُّمها، قبضَ كفَّيه وكزَّ على أسنانه، وتملَّكَته الرغبة في تلقين الرؤساء درسًا، في أن يُثبت لهم أن عُمَّالهم ليسوا عبيدًا، بل رجالٌ أحرار!