الفصل الثامن عشر
حَلَّ الصباح، وانطلقت صافرة بدء العمل في المنجم، وعاد هال للوقوف عند النافذة. لاحظَ هذه المرة أن بعض عمَّال المناجم الذين كانوا في طريقهم إلى العمل كانت في أيديهم قصاصات صغيرة من الورق، وقد لوَّحوا له بها بوضوحٍ كي يراها. ظهر العجوزُ مايك سيكوريا حامِلًا مجموعة كاملة من قصاصات الورق في يديه، كان يوزِّعها على جميع مَن أراد أن يأخذها. لا شكَّ أنه قد حُثَّ على العمل في سرية، ولكن الإثارة التي انطوى عليها الحدث كانت أكبر من قدرته على كبح جماح نفسه؛ فوثبَ في كل مكان مثل حَمل صغير فَرِح بالربيع، ولوَّح إلى هال بالقصاصات الورقية على مرأى من الجميع.
لاقَى هذا السلوكُ الطائش النتيجةَ التي استدعاها. بينما كان هال ينظر من النافذة، رأى شخصًا يمشي عند المنعطف، في مواجهة العجوز السلوفاكي الذي هالته المفاجأة. كان بُود آدامز، حارس المنجم، قابضًا يديه القويتَين، ومُستجمِعًا جسده استعدادًا لتسديد ضربته. رآه مايك، وبدا كما لو أنه أُصيبَ فجأة بالشلل؛ حيث غاصت كتفاه اللتان أحناهما الكدح، وتدلَّت يداه إلى جانبَيه … انفتحت قبضته، وتناثرت قصاصات الورق الثمينة على الأرض. حدَّق مايك إلى بود مثل أرنب مأخوذ، ولم يتحرك قيد أنملة لحماية نفسه.
أمسك هال بالقضبان، وكان لديه دافعٌ للقفز للدفاع عن صديقه. لكن حارس المنجم لم يسدِّد الضربة المتوقَّعة؛ بل اكتفى بالتحديق إلى الرجل العجوز بشراسة، وإملاء الأوامر عليه. انحنى مايك والتقطَ الأوراق … وقد استغرق ذلك بعض الوقت؛ إذ لم يستطع، أو ربما لم يرغب في، رفع عينَيه عن حارس المنجم. عندما صارت جميع الأوراق في يديه، أصدر بود أمرًا آخر بأن يُسلِّمه تلك الأوراق. وبعدها تراجعَ خطوة إلى الوراء، وتبِعه الآخر، وما زال قابضًا يديه، وبدا أنه كان يوشك أن يسدِّد إليه الضربة في أي لحظة. تراجع مايك خطوة أخرى، ثم أخرى … وهكذا اختفى كلاهما عن الأنظار عند المنعطف. التفتَ الرجال الذين كانوا شهودًا على هذا الحدث الدرامي القصير وذهبوا مُتسلِّلين، ولم تكن لدى هال فكرة عما آلَ إليه الأمر.
بعد ذلك بساعتَين، ظهر سجَّان هال، لكنه لم يكن معه هذه المرة أيُّ خبز أو ماء. فتح البابَ وأمر السجينَ أن «يتقدَّم». نزل هال إلى الطابق السفلي، ودخل مكتب جيف كوتون.
جلس قائد المعسكر على مكتبه والسيجار بين أسنانه. كان يكتب، واستمر في الكتابة حتى خرج السجَّان وأغلق الباب. ثم أدار كرسيه الدوَّار ووضعَ ساقًا فوق الأخرى، متكئًا إلى الخلف ينظر إلى عامل المنجم الشاب في بذلة عمله الزرقاء المتَّسخة، وشعره الأشعث ووجهه الشاحب من فترة حبسه. ظهرت ابتسامةٌ على الوجه الأرستقراطي لقائد المعسكر. قال: «حسنًا أيها الشاب، لقد حظِيتَ بكثيرٍ من المرح في هذا المعسكر.»
أجاب هال: «كان الأمر مُرضيًا جدًّا، شكرًا لك.»
«لقد هَزَمْتَنا على طول الخط، أليس كذلك؟» ثم، بعد برهة، قال: «الآن، أخبرني ما الذي تظن أنك ستَجنيه من ذلك؟»
أجاب هال: «سألني أليك ستون السؤال نفسه. لا أعتقد أنَّ هناك فائدة كبيرة من الشرح. أعتقد أنك لا تؤمِن بالإيثار أكثر من ستون.»
أخرج قائد المعسكر السيجار من فمه، ونفضَ عنه الرماد. علت وجهه الجدية، وساد الصمت بينما كان يتفحَّص هال. سأل أخيرًا: «هل أنتَ منظِّم نقابي؟»
قال هال: «لا.»
«أنت رجل متعلِّم؛ لست عاملًا، هذا ما أعرفه. مَن الذي يدفع لك؟»
«ها أنت ذا! أنت لا تؤمن بالإيثار.»
نفثَ الآخر حلقةً من الدخان في أنحاء الغرفة. وقال: «كلُّ ما تريده هو أن تسبِّب متاعب للشركة، أليس كذلك؟ هل أنت محرِّض من نوعٍ ما؟»
«أنا عامِل منجم، وأريد أن أكون مراقبًا للأوزان.»
«هل أنت اشتراكي؟»
«يعتمد هذا على تطورات الأوضاع هنا.»
قال قائد المعسكر: «حسنًا، أنت شاب ذكي، أستطيع أن أرى ذلك. ولذا سأخبرك بوضوحٍ بما سيكون، وسيُمكنك استيعابه. لن تعمل مراقبًا للأوزان في نورث فالي، ولا في أي مكان آخر له أدنى صلة ﺑ «الشركة العامَّة للوقود». ولن تنعم بفرصة التسبُّب في متاعب للشركة. ولن نَمَسَّك حتى بالضرب ونجعل منك شهيدًا. أوشكت أن أفعل ذلك الليلة الماضية، لكنني تراجعتُ.»
قال هال بنبرة مرِحة: «يمكنك تغيير الكدمات على ذراعَيَّ.»
تابعَ قائد المعسكر، دون الاكتراث لهذه النبرة الساخرة: «سوف نعرض عليك الاختيار بين أمرَين. إما أن توقِّع على ورقة تعترف فيها بأنك أخذتَ الخمسة والعشرين دولارًا من أليك ستون، وفي هذه الحالة سنطردك وننهي الأمر؛ وإما سنُثبِت أنك أخذت ذلك المبلغ، وفي هذه الحالة سنزجُّ بك في السجن لمدة خمس أو عشر سنوات. هل فهمتَ ذلك؟»
عندما تقدَّم هال بطلب الحصول على وظيفة مراقِب الأوزان، كان من المتوقَّع أن يُطرَد من المعسكر، وكان ينوي الرحيل، مُعتبرًا أنه وصلَ إلى بُغيته في الإلمام بهذا المجتمع وتجربة أحواله. ولكن هنا، بينما كان يجلس وينظر في عينَي قائد المعسكر المتوعِّدتَين، قرَّر فجأة أنه لا يريد أن يغادر نورث فالي. أراد أن يبقى ويتعرَّف من كثبٍ أكبر على هذا «اللص المحترف» العملاق، المتمثِّل في الشركة العامة للوقود.
قال: «هذا تهديد خطير يا سيد كوتون. هل تفعل عادةً أشياء من هذا القبيل؟»
كان الرد: «نفعل عندما نضطر إلى ذلك.»
«حسنًا، هذا عرضٌ جديد. أخبرني بالمزيد عنه. ماذا ستكون التُّهمة؟»
«لست متأكدًا من ذلك … سنترك الأمر لمحامينا. ربما سيُسمونها مؤامرة، وربما ابتزازًا. سيختارون التهمة الأطول من حيث سنوات العقوبة.»
«وقبل أن أمثل أمام المحكمة، هل تمانع في السماح لي برؤية الرسالة التي من المفترض أنني كتبتُها.»
قال قائد المعسكر، رافِعًا حاجبَيه وقد تفاجأ بعضَ الشيء: «أوه، لقد سمعت عن الرسالة، أليس كذلك؟» أخذَ من مكتبه ورقة وسلَّمها إلى هال، الذي قرأ:
«عزيزي السيد ستون، لا داعي للقلق بشأن مراقِب الأوزان. ادفع لي خمسة وعشرين دولارًا، وسأتعاملُ مع الأمر كما ينبغي. المخلِص دائمًا، جو سميث.»
بعد استيعاب هال لكلمات الرسالة، تفحَّص الورقة، وأدركَ أن أعداءَه قد تحمَّلوا العناء، ليس فقط لتزوير رسالة باسمه، ولكن أيضًا بتصويرها فوتوغرافيًّا، ثم إعداد لوح طباعة منها، ثم طباعتها. ومما لا شك فيه أنهم وزَّعوها في المعسكر. وكلُّ هذا في بضع ساعات! كان الأمر كما قال أولسون … نظامًا مُنسَّقًا لإبقاء الرجال في حالة من التشكُّك.