الفصل العشرون
أخذت المحادثة بعد استئنافها اتجاهًا مغايرًا تمامًا وغير متوقَّع. قال السجين: «كوتون، أرى أنك رجلٌ مُتعلِّم. يبدو لي أنك كنت حتمًا، ذات يومٍ، مثالًا لما يدعوه العالَمُ رجلًا نبيلًا.»
فارت الدماء في وجه قائد المعسكر. وقال: «فلتذهب إلى الجحيم!»
تابع هال: «لم أكُن أنوي طرح الأسئلة. أفهم جيدًا أنك قد لا تهتم بالإجابة عنها. ولكن ما أريد توضيحه هو أنك بصفتك رجلًا نبيلًا سابقًا، فقد تُقدِّر جوانبَ معينة من هذه القضية تفوق فَهم مُروِّضِ زنوجٍ مثل ستون، أو خبير كفاءة مثل كارترايت. يمكن للرجل النبيل أن يميِّز الرجل النبيل ولو كان في زي عامِل منجم، أليس كذلك؟»
توقَّف هال منتظرًا الإجابة، ونظر إليه قائد المعسكر بحذرٍ. وقال: «أفترض ذلك.»
«حسنًا، بادئ ذي بدء، لا يُدخِّن الرجلُ النبيل دون أن يدعو الآخر إلى الانضمام إليه.»
رمقه الرجلُ بنظرة أخرى. حسبَ هال أنه سيَلعنه مجددًا. ولكنه أخرج سيجارًا من جيب سترته وأعطاه إياه.
قال هال بهدوء: «لا، شكرًا لك. أنا لا أُدخِّن. لكنني أحب أن أُدعَى.»
ساد الصمت فترة، بينما كان الرجلان يتفحَّص كلٌّ منهما الآخر.
شرع السجينُ في الحديث قائلًا: «الآن يا كوتون، لقد وصفتَ مشهدَ محاكمتي. اسمح لي أن أُكمِلَ لك القصة. لقد خطَّطتَ لقضيتك بالكامل، هيئة المحلَّفين التي اخترتها بنفسك للجلوس في المقصورة، والقاضي الذي اخترته بنفسك لاعتلاء المنصة، والمدعي العام الذي اخترته بنفسك ليتولَّى المهمة؛ أنت الآن على أُهْبة الاستعداد للزجِّ بضحيتك في السجن، ليكون عبرة لبقية موظفيك. لكن ألا يجب أن نفترض أنه في ذروة إجراءات الدعوى، قد تكتشف أن ضحيتك شخصٌ لا يمكن الزج به في غياهب السجن؟»
ردَّد الآخر: «لا يمكن الزج به في غياهب السجن؟» كانت نبرتُه تشير إلى أنه يُجيل الأمر في ذهنه. وأضافَ: «هلَّا فسَّرت ما تعني؟»
«بالطبع، ولكن ليس لرجلٍ في ذكائك! ألا تعلم يا كوتون أنَّ هناك أشخاصًا لا يمكن الزج بهم في غياهب السجون؟»
أخذ قائد المعسكر بعض الأنفاس من سيجاره. وقال: «يوجد بعضٌ منهم في هذه المقاطعة. لكنني كنت أعتقد أنني أعرفهم جميعًا.»
قال هال: «حسنًا، ألم يخطُر ببالك قطُّ أنه قد يوجد بعضٌ منهم في الولاية؟»
امتدت ذلك فترةُ صمتٍ طويلة. راحَ كلٌّ منهما يحدِّق إلى عين الآخر، وكلما حدَّقا، استشفَّ هال الشكَّ الذي اعترى قائد المعسكر وبدا واضحًا في وجهه.
تابعَ قائلًا: «فكِّر كم سيكون الأمر مُحرِجًا! لقد خطَّطتم لمسرحيتكم على أكمل وجه … كما فعلتم في الليلة قبل الماضية … ولكن ستُعيدون الكَرَّة الآن على مسرح أكبر، أمام جمهور أكثر أهمية؛ وفي النهاية ستجدون أنكم بدلًا من أن تُبرِّئوا ساحتكم أمام العمَّال في نورث فالي، تُدينونَ أنفسكم أمام جمهور الولاية. ستُثبتون للمجتمع بأسره أنكم منتهكون للقانون، والأسوأ من ذلك … ستُثبتون أنكم حَمقى!»
حدَّق إليه قائد المعسكر هذه المرة طويلًا حتى انطفأ سيجاره. وفي هذه الأثناء كان هال مستلقيًا على كرسيه، ويبتسم له ابتسامة غريبة. كان المشهد كما لو أنه يتبدَّل أمام عينَي قائد المعسكر؛ سقطت «بذلة عامل المنجم الزرقاء» عن جسد هال، واكتسى مكانَها بملابس السهرة!
صاح الرجل: «مَنْ أنت بحق الجحيم؟»
ضحكَ هال: «عجبًا! تتباهَى بكفاءة قسم الاستخبارات لديك! فلتكلِّفهم بحل هذه المعضِلة. شابٌّ في الحادية والعشرين من عمره، طوله خمسة أقدام وعشر بوصات، ووزنه مائة واثنان وخمسون رطلًا، ذو عينَين بُنيتَين، وشعر كستنائي مموَّج بعضَ الشيء، دَمِثُ الخلق، ويتمتَّع بالحُظوة والقبول لدى النساء … هذا على الأقل ما تقوله ملاحظات صفوة المجتمع … مفقود منذ أوائل شهر يونيو، من المفترض أنه ذهبَ لصيد الماعز الجبلي في المكسيك. كما تعلم يا كوتون، لا توجد إلا مدينة واحدة فقط في الولاية لديها «نخبة اجتماعية» بشكلٍ من الأشكال، وفي تلك المدينة لا يوجد إلا خمسة وعشرون أو ثلاثون عائلة ذات شأن. وفي الواقع، هذه مهمة سهلة للغاية على قسم استخباراتٍ كذلك التابعِ ﻟ «الشركة العامة للوقود».»
ساد الصمتُ مرة أخرى، حتى كسره هال. فقال: «انزعاجُك هذا يدُل على أنك قد أدركتَ الأمر. الشركة محظوظة بأن يتصادف كون أحد قادة معسكراتها من الرجال النبلاء سابقًا.»
تورَّد وجه الآخر حنقًا مجدَّدًا. وقال لنفسه بصوتٍ منخفض بعضَ الشيء: «حسنًا، يا إلهي!»
ثم قام بمحاولة أخيرة لإحكام خدعته … «أنتَ تمزح معي!»
فردَّ عليه هال: «المزاح، كما تُسميه، هو إحدى الحالات المفضَّلة لدى مجتمعنا، يا كوتون. جزءٌ كبير من تعامُلاتنا ينطوي عليه … على الأقل بين الفئة الأصغر سنًّا.»
نهضَ قائد المعسكر فجأة. وسأله: «اسمع، هل تمانع في العودة إلى الطابق العلوي لبضع دقائق؟»
لم يستطع هال أن يمنع نفسه من الضحك عند سماع هذا السؤال. ومن ثَم قال: «أمانع جدًّا. لقد عشتُ على الخبز والماء طوال ست وثلاثين ساعة، ويُفترَض أنني أتوق بشدة الآن إلى الخروج وتنفُّس الهواء النقي.»
قال الآخر بصوتٍ واهن ضعيف: «لكن، يجب أن أرسلك إلى الطابق العُلوي.»
أجاب هال: «هذه مسألة أخرى. إذا أرسلتني، سأذهب، لكنكم في حاجة إلى توخِّي الحذر. لقد أبقيتموني هنا دون حقٍّ قانوني، ودون تُهمة ضدي، ودون مَنحي فرصة لتوكيل محامٍ. وإذا لم يجانبني الصواب كثيرًا، فأنت مسئول جنائيًّا عن ذلك، والشركة مسئولة مدنيًّا. الأمرُ يرجع إليك بالطبع. أردتُ أن أوضِّح موقفي فحسب … عندما تسألني هل أمانع من العودة للطابق العلوي، فإن إجابتي هي أنني حقًّا أُمانع بشدة.»
وقفَ قائد المعسكر برهة لا يُحرِّك ساكنًا، وهو يمضغ في توتر سيجاره المنطفئ. ثم اتجه صوبَ الباب. ونادى: «أنت يا جاس!» ظهر سجَّان هال، وهمسَ له كوتون، وانصرفَ مرة أخرى. وقال القائد: «أخبرته أن يُحضِر لك بعض الطعام، ويمكنك الجلوس وتناوله هنا. هل سيكون ذلك أفضل لك؟»
قال هال مُستغِلًّا الموقف إلى أقصى حَدٍّ: «على حسب. هل تدعوني بصفتي سجينًا لديك أو بصفتي ضيفَك؟»
قال الآخر: «أوه، كفاك!»
«لكني يجب أن أعرف وضعي القانوني. سيكون له أهميته لدى المحامين الذين سيتولَّون قضيتي.»
قال قائد المعسكر: «بصفتك ضيفي.»
«ولكن إذا أكلَ الضيف، فله مطلق الحرية في الخروج إذا كان يريد ذلك!»
«سأخبرك بما سيحدث قبل أن تُنهي طعامك.»
«حسنًا، أسرع. فأنا آكلُ بسرعة.»
«هل تَعِدُ أنك لن ترحل قبل ذلك؟»
ردَّ هال ضاحكًا: «إذا رحلتُ، فسأرحلُ إلى مكان عملي. ويمكنك أن تبحث عني في المَقلَب يا كوتون!»