الفصل الرابع والعشرون
كان الغضبُ قد بلغَ بقائد معسكر نورث فالي مبلغه إلى درجة أنه لم يستطع البقاء على كُرسيه. تدفَّقت كلُّ مُنَغِّصات حياته المهنية المضطربة إلى ذهنه. أخذ يَذرَع الغُرفة جيئةً وذهابًا، واسترسل في الكلام بلا توقُّف، بغض النظر عما إذا كان هال يستمع أم لا.
«معسكر مليءٌ بالأجانب الأوغاد! لا يسعُهم فَهم أي لغة مُتحضِّرة، ليس لديهم إلا تصوُّر واحد في العالَم … يتملَّصون من أي عمل يقومون به ولو قلَّ، يملئُون عرباتهم بالأردُواز والصخور ويُلقون باللوم على غيرهم، وينطلقون لتجرُّع الخمر. إنهم لا يُخلصون في عملهم ولا في قتالهم … إنهم يقاتلون بسكين في الظهر! ثم تأتون أيها المحرِّضون وتتعاطفون معهم … تبًّا، لماذا يأتون إلى هذا البلد، ما لم يكونوا يُفضِّلونه على بلادهم؟»
سمعَ هال هذا السؤال من قَبل، ولكن كان عليهما أن ينتظرا السيارة … ولأنه تأكَّد الآن من كونه في صفوف المحرِّضين، كان على استعدادٍ لإحداث جميع المشكلات التي في استطاعته أن يحدثها! قال: «السبب واضح بما فيه الكفاية. أليس صحيحًا أنَّ «الشركة العامَّة للوقود» تُوظِّف وكلاءَ في الخارج لإخبارهم بالأجر الرائع الذي يتقاضونه في أمريكا؟»
«حسنًا، لقد تقاضَوه، أليس كذلك؟ ثلاثة أمثال ما كانوا يتقاضونه في أوطانهم!»
«بلى، ولكنه لا يُفيدهم في شيء. فثمة حقيقة أخرى لا تذكرها «الشركة العامة للوقود»؛ وهي أن تكلفة المعيشة هنا أعلى بكثيرٍ من الأجور. كما أنهم يُوهِمونهم أنَّ أمريكا أرضٌ للحرية؛ فيأتون يحدُوهم الأملَ في الحصول على فرصة أفضل لأنفسهم ولأبنائهم، لكنهم يجدون قائدَ معسكر لا يعرف شيئًا عن جُغرافيا المكان الذي يمارس فيه سلطته … يعتقد أنَّ جبال روكي موجودة في مكان ما في روسيا!»
صاحَ الآخر: «أعرفُ طريقة الحديث الخطابية هذه! لقد تعلَّمتُ التلويحَ بالعلم الوطني المرصَّع بالنجوم في طفولتي. لكن إدارة منجم للفحم ليست كإدارة احتفاليات العيد القومي للبلاد في الرابع من يوليو. بعضُ رجال الكنيسة يضعون قانونًا بعدم جواز العمل يوم الأحد … ولكن ما نتيجة ذلك؟ يصبح لدى العُمَّال ست وثلاثون ساعة يحتسون فيها الخمر، ومن ثَمَّ لا يمكنهم العمل يوم الإثنين!»
«لا بد أن هناك حلًّا يا كوتون! ماذا لو رفضَت الشركة تأجير المباني لأصحاب الحانات؟»
«يا إلهي. هل تعتقد أننا لم نحاول فعل ذلك؟ إنهم يذهبون إلى بيدرو للتبضُّع، ويجلبون معهم كلَّ ما يمكنهم حمله … في جيوبهم وعلى ظهورهم. وإذا منعنا ذلك … فسيذهب عُمَّالنا إلى معسكراتٍ أخرى؛ حيث يمكنهم أن ينفقوا أموالهم كما يحلو لهم. كلَّا أيها الشاب، عندما يكون لديك مثل هذا القطيع، عليك أن تقوده! ويستوجب الأمر قبضةً قوية للقيام بذلك … رجل مثل بيتر هاريجان. إذا أردنا الحصول على الفحم، إذا أردنا لعجلة الصناعة أن تستمر في الدوران، إذا أردنا إحراز أي تقدُّم …»
ضحكَ هال، وقال مقاطِعًا حديثَ قائد المعسكر: «نقول ذلك في أغنيتنا!»
قال قائد المعسكر بصوتٍ هادر: «أجل. من السهل للغاية على شاب ذكي مثلك أن يؤلِّف الشعر بينما تعيش حياةً رغدة بفضل كرم الرجل العجوز وجُودِه. ولكن ذلك لا يحلُّ أيَّ نزاعٍ. هل أنتم أيها الجامعيون مستعدُّون لتولِّي عمله؟ أو هؤلاء السياسيون الديمقراطيون الذين يأتون إلى هنا ويتشدَّقون بتلك الخُطَب الحمقاء عن الحرية، ووضع قوانين عمل لصالح هؤلاء الأجانب …»
قال هال: «بدأتُ أفهم. أنت تعترض على السياسيين الذين يُمرِّرون القوانين؛ تشكُّ في دوافعهم … ومن ثَمَّ ترفض الانصياع لها. ولكن لماذا لم تخبرني في وقتٍ مبكر عن ذلك أنك من أنصار اللاسُلطَوية؟»
صاح قائد المعسكر: «اللاسُلطوية؟ أنا من أنصار اللاسُلطوية؟»
«تلك أفكار اللاسُلطويين، أليس كذلك؟»
«يا إلهي. لقد تجاوزتَ حدودك! تأتي إلى هنا، وتُثير العُمَّال … أنت يا أحد محرِّضي الاتحادات النقابية، أو أيًّا ما تكُن … وتعلم أن أول فكرة ستخطر على بال هؤلاء، عندما يُطلَق لهم العِنانُ هي وضعُ الديناميت في آبار المناجم وإضرام النار في المباني!»
سأله هال بنبرة تنمُّ عن المفاجأة: «هل يفعلون ذلك؟»
«ألم تقرأ عمَّا فعلوه في آخِر إضراب كبير؟ ألم يُخبرْك ذلك الواعظُ العجوز الشاحب الوجه، جون إدستروم؟ لقد كان أحد المشاركين في الإضراب.»
قال هال: «لا، أنت مخطئ. إدستروم لديه فلسفةٌ مختلفة. لكنني مُتأكِّد أن ثمة آخرين قد فعلوا ذلك. ومنذ أن وصلتُ إلى هنا، أصبح في إمكاني أن أفهم وجهة نظرهم تمامًا. عندما أشعلوا النيران في المباني، كان ذلك لأنهم اعتقدوا أنك وأليك ستون ربما كنتم بالداخل.»
لم يبتسم قائدُ المعسكر.
تابع هال قائلًا: «إنهم يريدون تدمير الممتلكات؛ لأن هذه هي الطريقة الوحيدة التي اهتدَوا إليها بتفكيرهم للرد على طغيان أصحابها وجشعهم وإنزال العقاب بهم. لكن أعتقد يا كوتون أن شخصًا قد أقنعهم بفكرة جديدة، افترِضْ أن أحدًا قال لهم: «لا تُدمِّروا الممتلكات … بل استولوا عليها!»
حدَّق الآخر إليه، وقال: «يستولون عليها! إذن هذه هي فكرتُك عن الأخلاق!»
«سيكون ذلك أكثر أخلاقية من الطريقة التي استولى بها بيتر على تلك الممتلكات من البداية.»
سأل قائدُ المعسكر، وقد بدا عليه بعضُ السخط: «أيُّ طريقة تلك؟ اشتراها ودفعَ سعرَ السوق، أليس كذلك؟»
«لقد دفعَ سعر السوق للسياسيين لرشوتهم. كنت في ويستِرن سيتي أعرفُ سيدة تعمل وكيلةَ مَدرَسة عندما كان يشتري أراضي المدارس من الولاية … الأراضي التي كان معروفًا عنها أنها تحتوي على الفحم. كان يدفع ثلاثة دولاراتٍ في الفدَّان الواحد، وكان الجميع يعلمون أن ثمنه ثلاثة آلاف دولار.»
قال كوتون: «حسنًا، إذا لم تشترِ السياسيين، ففي صباح أحد الأيام عندما تستيقظ ستجد أنَّ غيرَك قد اشتراهم. إذا كنت صاحبَ أملاك، فعليك أن تحميها.»
قال هال: «يا كوتون، أنت تعمل لدى العجوز بيتر بوَقتِك، ولكن من المؤكَّد أنك لا تبيعه عقلك! يكفي أن تنظر إلى راتبك الشهري لتدرك أنك أيضًا عبدٌ مأجور، ولست أفضلَ حالًا بكثيرٍ من عُمَّال المناجم الذين تحتقرهم.»
ابتسمَ الآخر. وقال: «ربما راتبي أكبر، أُقرُّ بذلك، ولكنني فكَّرتُ في الأمر، وأعتقد أنني أحظى بالراحة عنكم أيها المحرِّضون. إنني الرئيس المسئول، وأتوقَّع أن أبقى في موقع السلطة.»
«حسنًا يا كوتون، إذا كانت هذه هي نظرتك إلى الحياة، فلا غَرو على الإطلاق من احتسائك الخمر بين الحين والآخر. تكالُب، بلا إيمان أو إنسانية، أينما حللتَ! لا تحسب أنني أسخرُ منك … إنني أتحدَّثُ إليكَ من قلبي. لست صغيرًا في السن للغاية، ولست أحمق بحيث لا يسترعي انتباهي هذا الجانبُ في الأمور الذي يدعو إلى التكالُب. لكنْ ثمة شيء في المرء يصرُّ على ألا يتمادى في تكالُبه؛ وهو أنَّ لديه فرصة على الأقل لشيء أفضل. انظر، على سبيل المثال، إلى هؤلاء المستضعَفين المساكين الذين يكدحون داخل الجبل، مخاطِرين بحياتهم في كل ساعة من النهار والليل كي يوفِّروا لي ولك الفحم الذي يُبقينا دافئَين … لكي «تدور وتدور عجلات الصناعة …»