الفصل الخامس والعشرون
كانت هذه آخِر كلماتٍ قالها هال. كانت كلماتٍ شديدة الوضوح، ولكن عندما فكَّر لاحقًا في تلك المصادفة، بدت له فريدةً من نوعها. فبينما كان جالسًا يتجاذب أطرافَ الحديث، كان المستضعَفون المساكين داخل الجبل في خِضَم واحدة من تلك التجارب المثيرة والمروِّعة التي يتَّسم بهما عالَم تعدين الفحم. كان أحدُ الصبية الذين يعملون تحت الأرض — في انتهاكٍ صريحٍ لقانون عمالة الأطفال — متعثِّرًا في أداء مهمته. لقد كان «عامِل تلجيم»، مهمته دَسِّ عصًا في عجلة العربة المحمَّلة لإيقافها وكبحها، وقد كان صغير السن، وكانت العربة تتحرك في أثناء محاولته القيام بمهمَّته. فدفعت به إلى الجدار … ومن ثَمَّ تدحرج بعضُ حمولة الفحم بانحدارٍ ناحيته، واتجه نحوه ستة رجال، ولكن بعد فوات الأوان. تحرَّكت العربة بسرعة، فدارت حول أحد المنحنيات واندفعت خارج مسارها، فتحطَّم خشبُها وتفكَّك. سقط مع الخشب وابلٌ من غبار الفحم، كان قد تراكم لعُقودٍ من الزمن في هذه المنشآت القديمة، وفي الوقت نفسه، كان هناك سلك مصباح أحدثَ شرارة عندما لامسَ العربة.
وهكذا بينما كان هال يتحدَّث إلى قائد المعسكر، سمع فجأة هديرًا يصمُّ الآذان، بل شعرَ به؛ فقد شعر بالهواء من حوله يتحوَّل إلى كائن حي يضربه ضربة قوية، ويطرحه أرضًا. تحطَّمت النوافذُ داخل الغرفة فأمطرته زُجاجًا، وسقط الجَصُّ من السقف على رأسه في وابلٍ آخر.
عندما نهضَ، مبغوتًا بعضَ الشيء، رأى قائدَ المعسكر وقد طُرِحَ أرضًا هو أيضًا؛ فحدَّقَ كلٌّ منهما إلى الآخر بعينَين مُرتعِبتَين. وعلى الرغم من أنهما كانا جاثِيَين، وقعَ ارتطامٌ فوق رأسيهما، واندفعَ نحوهما نصفُ سقف الغرفة، وقد علقت به قطعةٌ كبيرة من الخشب. كان كلُّ شيءٍ حولهما مُحطَّمًا، كما لو أنها نهاية العالَم.
اجتهَدا للوقوف على أقدامهما، وأسرعا نحو الباب، وفتحاه بطرح مِصراعه بعيدًا، كما حطَّمت قطعةٌ مُسنَّنة من الخشب الرصيفَ أمامهما. قفزا إلى الخلف مرة أخرى، وصرخَ قائدُ المعسكر: «إلى القَبو!» وسلك الطريقَ إلى الدرج الخلفي.
ولكن قبل أن ينزلا الدرج، أدركا أن أصوات التحطُّم قد توقَّفتْ. قال هال لاهثًا وهما يهمَّان بالوقوف: «ما هذا؟»
قال الآخِر: «انفجار في أحد المناجم»، وبعد بضع ثوانٍ ركضَا عائدَين إلى الباب.
أول ما رَأَياه كان عمودًا ضخمًا من الغبار والدخان يرتفع في السماء فوقهما. انتشر أمام أعينهما المذهولة حتى أظلمَ كلُّ شيء حولهما. كان هناك وابلٌ من الحُطَام الأخف وزنًا لا يزال يتناثر فوق القرية بينما كانا يُحدِّقان، وتدبَّرا أمرهما سريعًا، وتذكَّرا كيف بدا المكان قبل ذلك، فأدركَا أن المبنى حول بئر المنجم رقم ١ قد اختفى.
صاحَ قائدُ المعسكر: «يا إلهي، لقد انفجر!» وهرعَ الاثنان إلى الشارع، وعندما نظرا إلى الأعلى رأيَا أن جزءًا من المبنى المدمَّر سقطَ من خلال سقف السجن فوق رأسَيهما.
كان هطولُ الحُطَام قد توقَّف، ولكن كانت هناك سحبٌ من الغبار غطَّت الرجُلَين بالسواد، وازدادت السحب سوءًا؛ حتى لم يعُد في استطاعتهما أن يتبيَّنا طريقَهما على الإطلاق. ومع الظلام حَلَّ الصمت، الذي بدا، بعد دَويِّ الانفجار وتكسُّر الحُطَام، كأنه صَمْتُ الموت.
وقفَ هال في حالة ذهولٍ لبضع لحظاتٍ. ورأى سيلًا من الرجال والصبية يتدفقون من محطَّة تكسير الفحم. بينما ظهر من جميع الشوارع سيلٌ آخر من النساء، نساء مُسِّنَات وأُخَر شابات … تركن طعامَهن على المواقد، وأطفالهن في الأَسِرَّة، وكان أطفالُهن الأكبر سنًّا يصرخون مُتشبِّثين بثِيابهن، وقد تجمَّعن في أسرابٍ حول الحفرة التي كانت مثل فُوَّهة بُركان يتصاعد منها الدخان.
ظهر المشرِف كارترايت وهو يركض نحو غرفة التهوية. انضمَّ إليه كوتون، وتبِعه هال. كانت غرفة التهوية مُحطَّمة، وكانت المروحة العملاقة مُلقاةً على الأرض على بُعد مائة قدم، وقد تهشَّمت ريشاتُها. لم تكن خبرة هال الضئيلة للغاية بأمور التعدين لتُمكِّنه من فهم حجم الخطورة فيما رآه، لكنه رأى قائدَ المعسكر والمشرفَ يُحدِّق كلٌّ منهما إلى الآخر في ذهولٍ، وسمع الأولُ يصيح: «يا ويلنا!» لم ينبِس كارترايت بكلمة، لكنه أطبقَ شفتَيه الرفيعتَين، وسكنَ الخوفُ عينَيه.
عادَ الرجلان مُسرعَين إلى الحفرة المتصاعد منها الدخان، وتبعهما هال.
تجمَّع هناك مائةٌ أو مائتان من النساء، يصرُخن مُتسائلاتٍ كلهن في صوتٍ واحد. احتشدن حول قائد المعسكر، والمشرف، وغيرهما من الرؤساء … بل وحول هال أيضًا، يصرخن بصوتٍ هستيري بالبُولندية والبُوهيمية واليونانية. عندما هزَّ هال رأسَه، في إشارة إلى أنه لم يفهمهن، كن يَأْنِنَّ في حُرقة أو يصرخن عاليًا. واصلَ البعضُ التحديق إلى الحفرة المتصاعِد منها الدخان، وغطَّى آخرون الأبصار عن المشهد، أو نزلوا على رُكبهم، ينتحبون، ويُصلُّون رافعين أيديهم إلى السماء.
بدأ هال شيئًا فشيئًا يدرك الهول الحقيقي لحوادث المناجم. لم يكن ضجيجًا ودُخَانًا وظلامًا، ولا نساءً منتحبات محمومات؛ لم يكن أيَّ شيء مما يحدث فوق الأرض، بل كان الهول في الأسفل في تلك الحفرة المظلِمة المتصاعِد منها الدخان! كان بين الرجال! رجال عرفهم هال، وعمِل معهم ومازحَهم، وتبادل معهم الابتسامات، رجال عرف حياتهم اليومية وعاشها معهم! العشرات، وربما المئات منهم، كانوا هنا بالأسفل تحت قدمَيه … بعضُهم قتلى، وبعضُهم الآخر مصاب، أو مشوَّه. ماذا سيفعلون؟ ماذا سيفعل لهم مَن هم على السطح؟ حاول هال الوصول إلى كوتون، كي يطرح عليه الأسئلة، لكن قائد المعسكر كان محاطًا بالحشد، محاصَرًا. كان يدفع النساءَ إلى الخلف، ويصرخ: «ارحلن! اذهبن إلى منازلكن!»
صِحْن: «ماذا؟ نذهب إلى منازلنا؟ بينما رجالنا في المنجم، نذهب إلى منازلنا؟» احتشدن عن مسافة أقرب حوله، في توسُّل وصراخ.
ظلَّ يصرخ: «ارحلن! لا يوجد شيءٌ يمكنكن فعله! لا يوجد شيء يمكن أيَّ أحد أن يفعله! اذهبن إلى منازلكن! اذهبن إلى منازلكن!» كان عليه أن يُرجِعَهن بالقوة لمنعهن من التدافُع والسقوط في الحفرة.
في كل مكان نظر إليه هال كان هناك نساءٌ يقِفن في حسرة، مُتَصلِّبات ومحدِّقات أمامهن كما لو كُنَّ في غيبوبة، وجالساتٍ بأجسامٍ تهتزُّ يَمنة ويَسرة، وأُخريات يجثون على رُكبهن بوجوه مرفوعة إلى السماء يتضرَّعن بالصلاة، وأطفالهن الفَزِعُون مُتشبِّثون بثيابهن. رأى امرأة نمساوية، شابة شاحبة مثيرة للشفقة، تلف رأسها بشالٍ رماديٍّ رثٍّ، وتمدُّ يدَيها صائحة: «زوجي! زوجي!» ثم غطَّت وجهَها، وخفتَ صوتُها في نحيبها اليائس: «ويلاه، زوجي! ويلاه، زوجي!» استدارت مغادِرةً، وهي تترنَّح مثل حيوان أُصيبَ بجُرحٍ مُميت. تبعتها عينَا هال، وقد أصبح صراخُها، الذي تردَّد مرارًا وتكرارًا، اللازمة اللَّحنية لسيمفونية الرُّعب هذه.
كان هال قد قرأ عن حوادث المناجم في جريدته الصباحية، ولكن حوادث المناجم أصبحت هنا واقعًا ملموسًا، بَشَرًا من لحم ودم. وما لم يحتمله فيها هو ذلك العجز التام من جانبه ومن جانب الجميع. ازدادَ وضوحُ هذا العجز أمامه في كل لحظة … من استفسارات كوتون التعجُّبية ومن ردود العُمَّال. لقد كان الأمر وحشيًّا ولا يُصدَّق … ولكنه هكذا كان! يجب أن يرسلوا طلبًا لإحضار مِروحة تهوية جديدة، ويجب أن ينتظروها حتى تأتي، عليهم تركيبها وتشغيلها، وعليهم أن ينتظروا ساعاتٍ بعد ذلك حتى يتلاشى الدخان والغاز من ممرات المنجم الرئيسية، وحتى يتم ذلك لم يكن ثمة شيء يمكنهم فعله … لا شيء على الإطلاق! سيظل الرجالُ عالقِين داخل المنجم. وأولئك الذين لم يموتوا على الفور سيَشقُّون طريقَهم إلى داخل الغرف البعيدة، ويُحصِّنون أنفسهم من «الغازات الخانقة» المميتة التي أعقبت الانفجار. سينتظرون، دون طعام أو شراب، يتنفَّسون هواءً مُلوَّثًا … سينتظرون وينتظرون حتى يتمكَّن طاقمُ الإنقاذ من الوصول إليهم!