الفصل الثامن والعشرون
وصلَا إلى منزل ماري، وكان المنزل المجاور منزل المرأة السلافية، السيدة زامبوني، التي أخبرته عنها ماري من قبل الكثيرَ من الحكايات المرحة. كانت السيدة زامبوني تَلِدُ طفلًا جديدًا كلَّ عام على مدار ستة عشر عامًا، وكان لا يزال أحد عشر طفلًا من هؤلاء الأطفال على قيد الحياة. والآن زوجُها محاصَر في المنجم رقم ١، وكانت حائرة تجوب الشوارع ومعظم أطفالها في عقِبيها. وكانت بين الحين والآخر تُصدِر عواءً كأنها حيوانٌ مُعذَّب، وكان أطفالها يشاركونها العواءَ بمختلف النبرات. توقَّف هال ليستمع إلى أصواتهم، لكن ماري وضعت أصابعها في أُذنَيها وأسرعت إلى المنزل، تبعَها هال ورآها تُلقي بنفسها على الكرسي وتنفجر في بكاء هستيري. وفجأة، أدرك هال مدى التوتر الذي تسبَّب فيه هذا الحادث المروِّع لماري. لقد كان وَقْعُ الأمر سيئًا للغاية عليه … لكنه رجل، وأكثر قدرة على تحمُّل المشاهد المُفزِعة. فقد كان الرجال يَلقَون حتفَهم في الأعمال والحروب، وكان الآخرون يرونهم وهم يموتون وقد اعتادوا المشهد. لكن النساءَ كُنَّ أمهاتٍ لهؤلاء الرجال؛ فالنساءُ هن مَن حملنهم وهنًا على وهن، وأرضعنهم، وربَّينهم بصبرٍ لا ينفد … لم تستطع النساء اعتياد المشهد! ولهذا السبب، كان مصيرُ النساء هو الأسوأ. إذا لقي الرجالُ حتفَهم، فتلك نهايتهم؛ ولكن على النساء في هذه الحالة مواجهة المستقبل، بذكرياته المريرة، والوحدة والكرب في الصراع من أجل البقاء. ويصبح عليهن أن يرَين الأطفالَ وهم يُعانون ويموتون ببطءٍ من الحرمان.
انصبَّت شفقةُ هال على جميع النساء اللاتي يُعانين على الفتاةِ الجالسة إلى جواره. كان يعرف كم هي حنونة. لم يكن لديها زوجٌ في المنجم، لكنها سيكون لديها في يومٍ من الأيام، وقد كانت تعاني آلامَ ذلك المستقبل الذي لا يرحم. نظرَ إليها وهي تجلسُ منكمشة على نفسها في كرسيها، تمسحُ دموعها بطرف فستانها القطني الأزرق البالي. بدت مثيرة للشفقة على نحوٍ لا يُوصَف … مثل طفل أُصِيبَ بالأذى. كانت تُجهِشُ في بكاءٍ يتخلَّله بعضُ الجُمَل بين الحين والآخر، كما لو كانت تتحدَّث إلى نفسها: «آه، يا لَلنساء المكلومات، يا لَلنساء المكلومات! هل رأيتَ وجه السيدة جونوتش؟ كادت تقفز في الحفرة المتصاعِد منها الدخان لولا أنهم منعوها!»
قال لها هال متوسِّلًا: «هوِّني على نفسك يا ماري!» … كما لو كان يظن أن في إمكانها أن تتوقَّف.
صاحت: «دعني وشأني!» «دعني أُنفِّسُ عن ألمي!» ووقفَ هال، الذي لم يكن قد تعرَّض لحالة هستيرية من قبل، بجوارها عاجزًا.
تابعت قائلةً: «هناك بؤسٌ يفوق ما كنتُ أعلمه! إنه في كل مكان تلتفت إليه؛ فهذه امرأة تحترق عيناها ألمًا، تتساءل عما إذا كانت سترى زوجها مرة أخرى! وتلك أمٌّ ربما يحتضر ولدُها ولا يمكنها أن تفعل له شيئًا!»
قال هال مُتوسِّلًا إليها مجدَّدًا: «ولا أنتِ أيضًا يمكنكِ أن تفعلي شيئًا يا ماري. كلُّ ما تفعلينه هو أنكِ تتركين الحزن يستبِد بكِ حتى الموت.»
صاحت: «أنت مَن تقول لي ذلك؟ وقد كنت على استعدادٍ لأن تدع جيف كوتون يطلق النار عليك؛ لأنك شعرت بالأسف الشديد على السيدة ديفيد! كلَّا، لا أحدَ يمكنه تحمُّل المشهد هنا.»
لم يستطع أن يفكِّر في شيء يقوله. سحبَ كُرسيًّا وجلسَ بجانبها في صمتٍ، وبعد فترة بدأت تهدأ ومسحت دموعَها، وجلست تُحدِّق في شرودٍ عبر الباب إلى الشارع الصغير القذِر.
تبِعتْ عينا هال عينَيها. كانت هناك أكوامٌ من الرماد ومعلَّبات الطماطم الفارغة، وكان هناك اثنان من أطفال زامبوني رثَّا الثياب، ينخزان بالعِصِي كومة النفايات … ربما بحثًا عن شيء يأكُلانه، أو شيء يلعبان به. كان هناك عشب جاف بالٍ على جانب الطريق، مُلطخ بغبار الفحم، على غرار كلِّ شيء آخر في القرية. يا له من مشهد! … ولم تكن عينا الفتاة قد وقعت على شيء قطُّ أكثر إلهامًا من هذا. طوال حياتها وهي تنظر إلى هذا المشهد يومًا بعد يوم! كيف له أن يلومها ولو لحظة على «مزاجها السوداوي»؟ هل يمكن أن يبتهج الرجالُ أو النساءُ في بيئة كهذه … هل يمكنهم أن يحلموا بالجَمَال، أو يطمحوا إلى مراتب النُّبل والشجاعة، أو إلى خدمة إخوانهم من البشر بسعادة؟ لقد كان هذا المكان مُحاطًا بجوٍّ موبوء من اليأس؛ لم يكن مكانًا حقيقيًّا … كان مكانًا من نسج المنام … كابوسًا مُشوَّهًا مفزِعًا! كان مثل الثقب الأسود في الأرض الذي طاردَ خيال هال، ثقب يقبع في أعماقه رجال وفتيان يموتون اختناقًا!
خطر ببال هال فجأة … أنه يريد الرحيل عن نورث فالي! يريد أن يبتعد بأي ثمن! لقد استنفدَ المكانُ شجاعتَه؛ ببطءٍ، يومًا بعد يوم، مشاهدُ البؤس والعَوز، والقذارة والمرض، والجوع، والقمع، واليأس قد نخرت في روحه، وقوَّضت أُسسَ نظرياته الرائعة في الإيثار. نعم، يريد الهرب … إلى مكان تشرق فيه الشمس؛ حيث ينمو العشب الأخضر، وحيث يقف البَشَر مُنتصبي القامة، يضحكون ويتمتعون بالحرية. يريد أن يصرف عن ناظريه غبار هذه القرية الصغيرة الكريهة ودُخانها، وأن يصمَّ أُذنَيه عن سماع نحيب النساء المُعذَّب: «ويلاه، زوجي! ويلاه، زوجي!»
نظر إلى الفتاة التي كانت تجلس مُحدِّقةً أمامها، منحنية إلى الأمام، وذراعاها تتدليان في وهنٍ على ركبتَيها.
وقال: «يا ماري، يجب أن ترحلي من هنا! إنه ليس بالمكان المناسب لفتاة رقيقة القلب مثلك. إنه ليس بالمكان المناسب لأي أحدٍ!»
نظرت إليه بحزن للحظة. ثم قالت أخيرًا: «لقد كنت أنا مَن يقول لك أن ترحل. منذ أن أتيتَ إلى هنا وأنا أقول لك ذلك! الآن أعتقدُ أنك بِتَّ تعرف ما أعنيه.»
قال: «نعم، عرفتُ، وأريدُ أن أرحل. لكني أريدكِ أن ترحلي أيضًا.»
سألت: «هل تعتقد أن هذا سيفيدني في شيء يا جو؟ هل تعتقد أن الرحيل سيفيدني في شيء؟ هل سأتمكَّن في يومٍ من الأيام من أن أنسى ما رأيته في هذا اليوم؟ هل يمكنني أن أحظى بأي سعادة حقيقية وصادقة في أي مكان بعد هذا؟»
حاول أن يُطمئِنها، لكن فاقد الشيء لا يعطيه؛ إذ لم يكن قادرًا على طمأنة نفسه. كيف سيكون الأمر معه؟ هل سيشعر يومًا أن له الحق في الشعور بالسعادة بعد هذا؟ هل سيتمكَّن من الشعور بأي ارتياحٍ في عالَم بهيج ومريح، مع عِلمه أن هذه الراحة قد قامت على مثل هذا البؤس الشائن؟ ذهبَ تفكيره إلى ذلك العالم، حيث يسعى المتحرِّرون من الهموم، المحبُّون للمتعة؛ إلى إشباع رغباتهم. خطرَ بباله فجأة أن ما يريده أكثر من الهروب هو أن يجلب أولئك الناس إلى هنا، ولو يومًا واحدًا، أو ساعة واحدة، كي يسمعوا نحيبَ هؤلاء النساء!