الفصل السادس
لمدة ثلاثة أيام، كان هال يعمل بكَدٍّ ومشقَّة في غَيَاهِب المنجم، ويأكل طعامَه، ويطارد القوارض والحشرات في نُزُل «ريمينيتسكي». ثم جاء يومُ أحدٍ مبارَك، وكانت لديه استراحة لمدة ساعتَين استطاع خلالهما الخروج لرؤية ضوء الشمس وإلقاء نظرةٍ على معسكر «نورث فالي». كان المكان عبارة عن قرية ممتدة على طول أكثر من ميل من الوادي الجبلي العميق. كانت تقبع في منتصفها الأبنية المخصَّصة لتكسير الفحم، وبئر المنجم، ومحطة توليد الطاقة بمداخنها العالية، وبالقُرب من ذلك كان مَتجر الشركة وحانتان. كانت هناك عدة أماكن لسكن العُمَّال مثل نُزُل «ريمينيتسكي»، وصفوف طويلة من الأكواخ السكنية يحوي كلٌّ منها ما بين غرفتَين إلى أربع غرف، وبعضُها تسكُنه عدة عائلات. وعلى مسافة قصيرة أعلى أحد المنحدَرَات، كانت هناك مدرسة ومبنًى صغير آخر مكوَّن من غرفة واحدة يُستخدَم ككنيسة؛ حيث كان يقيم رجلُ الدين الممثِّل للانتماء الديني للشركة العامَّة للوقود. وكان قد مُنِحَ حقَّ الانتفاع بالمبنى؛ بدايةً لتوفير كيانٍ مسئول اجتماعيًّا في مُقابل الحانتَين، اللتَين كان يتوجَّب عليهما أن يدفعا إيجارًا كبيرًا للشركة؛ ولكن فيما يبدو أن هذا الأمر قد برهن على الانحراف الفِطري للطبيعة البشرية؛ حيث إنه، حتى مع وجود هذه الميزة، كانت السماء تخسِر في نضالها ضد الجحيم القابع في معسكر الفحم.
كان الانطباع الأول لدى هال، في أثناء تجوُّله في هذه القرية، هو الشعور بالوَحشَة. الجبال شاهقة، وقاحِلة، ومُنعزلة، وتحمل نُدوبًا متناثرة من أثرِ العصور الجيولوجية المتناوِبة عليها. في هذه الأودية العميقة تغرب الشمس في وقتٍ مبكر خلال فترة ما بعد الظهيرة، وتتساقط الثلوج مُبكرًا في فصل الخريف؛ حيث يتجلَّى بطش الطبيعة بالإنسان في كل مكان، وقد استسلمَ الإنسان لقوتها. وداخل المعسكرات، كان المرء يشعر بمزيدٍ من الوَحشَة … حيث الوضاعة والحيوانية. كانت هناك بعض المحاولات البائسة لزراعة حدائق للنباتات، ولكن الرماد والدخان قتل كل شيءٍ، وكان اللون السائد هو لون السُّخام. كان المنظر الطبيعي مطموسًا بأكوام الرماد، والأسلاك القديمة، وعُلَب الطماطم المعدِنية، والأطفال الذين يلعبون مُلطَّخين ومُتَّسخين.
كان هناك جزءٌ من المعسكر يُسمَّى «منطقة الصَّفيح»، وسط أكوام الركام كالجبال، حيث سُمِحَ لبعض الأجانب الوافدين حديثًا من المستويات الأدنى، بأن يبنوا لأنفسهم أكواخًا من الألواح القديمة، والقصدير، وصفائح الورق المُقَطْرَن. كانت أوضاع هذه الأكواخ متدنية للغاية؛ حتى إنها لا ترقى إلى مستوى أعشاش الدجاج؛ حيث كان يتكدَّس في بعضها اثنا عشر شخصًا، رجال ونساء ينامون على خِرَقٍ وبطانيات قديمة على أرضية من الرَّماد. احتشدَ الرُّضَّع هنا كاليَرَقات. كانوا يرتدون، في معظم الأحيان، قطعة واحدة من مَريول رَثٍّ، وكانت أردافهم العارية مكشوفة للعِنان بلا خجلٍ. لا بد أنَّ أطفال رجال الكهوف كانوا يلعبون على هذه الهيئة، هكذا فكَّر هال؛ واجتاحته دفقاتٌ من النُّفور. لقد جاء مدفوعًا بالحب والفضول، غير أنَّ كلا الدافعَين قد انهار هنا. كيف يمكن لرجل مرهَف المشاعر يدرك جماليات الحياة ونِعَمها أن يتعلَّم حُبَّ هؤلاء الناس، الذين كانوا بمثابة إهانة لكل حواسه … زخمةً لأنفه، ورَطانةً في أُذنَيه، ورَكْبًا من العاهاتِ أمام عينَيه؟ ماذا فعلت لهم الحضارة؟ ماذا كان بإمكانها أن تفعل؟ وفي نهاية المطاف، ما الذي كانوا يصلحون له، سوى هذا العمل المتدنِّي غير الآدمي الذي لم يسعهم سوى القيام به؟ هكذا تحدَّث الضميرُ العِرقي المتغَطرِس لهذا الأنجلوسكسوني عندما راح يتفكَّر في جماعات البحر الأبيض المتوسط هذه، تلك التي حتى شكل رءوسها كان مستهجَنًا ومبغوضًا.
لكن هال رفضَ هذه الأفكار، وشيئًا فشيئًا تولَّدت لديه رؤية جديدة. بادئ ذي بدء، رأى سحرَ المناجم. لقد كانت مناجمَ قديمة … مُدُنًا حقيقية محفورة على هيئة أنفاقٍ تحت الجبال، تمتد ممرَّاتها الرئيسية لمسافة أميالٍ. في أحد الأيام، انسلَّ هال من عمله، وذهب في رحلة مع عامِلٍ من «راكِبي الحِبال»، واستطاع أن يدرك من خلال حواسِّ جسمه مدى الاتساع والغَرابة والوحدة التي كانت عليها هذه المتاهة القاتمة. في المنجم رقم ٢، امتدَّ عِرْقُ الفحم على مُنحدَرٍ درجةُ مَيله خمسُ درجاتٍ تقريبًا؛ وفي أحد أجزائه كانت العربات الفارغة تُسحَب على هيئة صفوفٍ طويلة بحبلٍ لا نهاية له، ولكن عندما كانت تعود مُحمَّلةً، كانت تأتي مدفوعة بفِعل جاذبيتها. وكان هذا الأمر يتطلَّب بدوره الكثير من الجهد من جانب «اللجَّامين»، أو الصِّبية المسئولين عن كَبح العربات؛ إذ كان يحدث أحيانًا أن تُفلِت العربات، ومن ثَم يُضاف مزيدٌ من المخاطر عِلاوةً على مخاطر استخراج الفحم اليومية.
يتراوح سُمك عِرْقِ الفحم من أربعة إلى خمسة أقدام؛ حيث أجبرت قسوة الطبيعة العُمالَ عند «سطح التشغيل» — المكان الذي يُقطَّع فيه الفحم الجديد — على خفض رءوسهم. وبعد أن جلسَ هال القرفُصاء فترة من الوقت، وشاهدهم وهم يؤدون مهامهم، أدرك السبب الذي كان يجعلهم يسيرون مُنحني الرءوس والأكتاف ومُتدلِّي الأذرع، إلى درجة أنهم بدَوا له عند رؤيتهم وهم يخرجون من بئر المنجم في الغَسق كأنهم صَفٌّ من قُرود البابون. كانت طريقة استخراج الفحم هي «الجَث والتقطيع» باستخدام المِعْوَل، ثم زحزحته بتفجير شحنة من البارود. وكان هذا يعني أن عامِل المنجم يتعيَّن عليه أن يستلقي على جانبه في أثناء العمل، ومن هنا جاءت بقية التغيُّرات غير المألوفة التي تعتري جسدَه.
وهكذا، كما هو الحال دائمًا، عندما يدرك المرءُ حياةَ هؤلاء العُمال، فإنه يشعر تجاههم بالشفقة وليس الازدراء. يوجد هنا نوعٌ مختلف من المخلوقات، كائناتٌ جَوْفية، تماثيل، حبسَها المجتمع لأغراضٍ خاصة به. وبالخارج على طول الوادي الذي تغمُره أشعة الشمس، تنحدر صفوفٌ طويلة من العربات بحمولتها من الفحم اللَّيِّن، ذلك الفحم الذي كان يُنقَل بعد ذلك إلى أقاصي الأرض، إلى أماكن لم يسمع بها عاملُ المنجم، لتدوير عجلات الصناعة التي لن يرَى عاملُ المنجم منتجاتها أبدًا. كان يُستخدَم في نَسْجِ الحرير الباهظ الثمن للسيدات الجميلات، وفي صَقْلِ الحُلِيِّ الثمينة لزينتهن، وفي تسيير قطاراتٍ طويلة من العربات ذات التنجيد الوثير عبر الصحاري وفوق الجبال، وفي دَفْعِ البواخر الفارهة للخروج من العواصف الشتوية في البحار الاستوائية التي تتلألأ مياهُها تحت أشعة الشمس. وكان من شأن السيدات الجميلات أن ينعَمن في ملابسهن الحريرية وحُليهنَّ الثمينة، فيأكُلن ويَنَمْنَ ويضحكن ويستلقين هانِئاتِ البال مُطمئنَّاتِ النفس … وما كُنَّ ليعرفن شيئًا عن مخلوقات الظلام المتَقَزِّمة أكثر مما عرفته المخلوقات المتقزِّمة عنهن. فكَّرَ هال في هذا، وروَّض كبرياءه الأنجلوسكسوني، مُلتمِسًا العُذر لبشاعة ما عليه هؤلاء الناس … بدءًا من كلامهم الهمجي الثرثار، ومنازلهم المليئة بالهَوامِّ، وحتى أطفالهم ذوي المؤخرات العارية.