الفصل الثالث والثلاثون
لكن تصادفَ أنَّ النقاشَ بشأن القائمة والسبيل إلى إعلانها للجميع قد قطعه أمرٌ أكثر إلحاحًا. جاءَ جاك ديفيد بأخبارٍ عن مشكلة جديدة في المنجم. كانت المروحة الجديدة يجري وضعها في مكانها، لكن العمل على ذلك كان بطيئًا، بطيئًا جدًّا إلى درجة أن بعض الناس قد اقتنعوا أن الشركة لم تكن تنوي تشغيل المروحة من الأساس، وإنما كانت تُبقِي المنجم مغلقًا للحيلولة دون انتشار الحريق. اتجهت مجموعة من هؤلاء الساخطين إلى السيد كارمايكل، نائب مفتش المناجم بالولاية، لحثِّه على أن يتخذ إجراءً حيال الأمر، وقد احتُجِز متزعِّم هؤلاء المحتجِّين، هوسار، النمساوي الذي كان أحد أفراد مجموعة هال التي تشكَّلت للمطالبة بمراقِب للأوزان، وقادوه مُسرِعين إلى بوابة الحظيرة!
قال جاك ديفيد أيضًا إنه يعرف نجَّارًا كان يعمل في غرفة التهوية، وقد قال إنه لم يكن هناك أي نوعٍ من العجلة في الأمر. وقد كان هذا رأي جميع العاملين في غرفة التهوية كذلك؛ لقد أُغلِقَ المنجم، وكان سيبقى مغلقًا حتى تتأكد الشركة من إخماد الحريق.
قال هال: «لكن، إذا فتحوه، فسوف تنتشر النيران، وعندئذٍ ألن يحُول ذلك دون مباشرة أعمال الإنقاذ؟»
قال «جاك الكبير»: «لا على الإطلاق.» وأوضحَ أنه كان في إمكانهم عند تشغيل المروحة سحب الدخان إلى أعلى عبر مجرى الهواء، الأمر الذي كان من شأنه تصفية الممرات الرئيسية وتفريغها لبعض الوقت. «ولكن، كما تعلم، قد تضطرم النيران في بعض قطع الفحم والأخشاب، وقد يحدث انهيار صخري، ومن ثَمَّ لن يتمكَّنوا من الوصول إلى بعض الغرف مرة أخرى.»
صاح هال في ذُعرٍ: «إلى متى سيُبقون المنجمَ مغلقًا؟»
«لا أحدَ يعلم. في منجم كبير كهذا، قد تظل النيران مشتعلة لمدة أسبوع.»
صاحت روزا مينيتي، وهي تعتصر يدَيها وقد باغتها الحزن فجأة: «سيموتون جميعًا!»
التفتَ هال إلى أولسون. وقال: «هل من الممكن أن يفعلوا شيئًا كهذا؟»
كان رَدُّ المنظِّم النقابي: «لقد فعلوه بالفعل … أكثر من مرة.»
سألَ ديفيد: «ألم تسمع أبدًا عما حدث في قرية تشيري بولاية إلينوي؟ لقد فعلوا ذلك هناك، ولقي ما يزيد على ثلاثمائة شخص حتفَهم.» وواصلَ حديثَه راويًا تلك القصة المروِّعة، التي يعرفها كلُّ عامل في مناجم الفحم. فقد أغلقوا المنجم، وفقدت النساءُ وعيهن، ومزَّق الرجالُ ملابسهم في ذُعر … وفقدَ بعضُهم عقلَه. وأبقوا المنجم مغلقًا لمدة أسبوعَين، وعندما فتحوه كان واحدٌ وعشرون رجلًا لا يزالون على قيد الحياة!
أضاف أولسون: «لقد فعلوا الشيء نفسه في بلدة دياموندفيل بولاية وايومنج. فقد بَنوا حاجزًا، وعندما أزالوا الحاجز، وجدوا كومة من جثث الرجال المتوفين، الذين زحفوا نحو الحاجز، وقطَّعوا أصابعَهم حتى العظام وهم يحاولون اختراقَه.»
صاح هال، وهبَّ واقفًا على قدمَيه: «يا إلهي! وهذا الرجل كارمايكل … هل كان سيَسكت عن ذلك؟»
قال «جاك الكبير»: «سيخبرك أنهم يبذلون قصارى جهدهم. وربما يحسبهم كذلك بالفعل. لكنك سترى … سيظل الأمر هكذا؛ سيؤجِّلون من يومٍ إلى آخر، ولن تعمل المروحة إلا بعد أن يصبحوا مستعدين.»
صاح هال: «يا إلهي، إنها جريمة قتل!»
قال توم أولسون بهدوء: «إنها تجارة.»
جالَ هال بناظرَيه بين وجوه العُمال، وتفقَّدهم من وجه إلى آخر. لم يكن من أحدٍ بينهم إلا ولديه أصدقاء في هذا الحصار، ولم يكن من أحدٍ بينهم إلا ومن المحتمل أن يقع في الحصار نفسه غدًا!
صاحَ، مخاطِبًا نفسه في جزءٍ من كلامه: «يجب أن تصمدوا!»
ردَّ ديفيد: «ألا ترى الحرَّاس عند فتحة المنجم؟ ألا ترى الأسلحة تُطِلُّ من جيوبهم؟»
قال جيري مينيتي: «لقد جلبوا المزيدَ من الحرَّاس هذا الصباح. رأتهم روزا وهم يترجَّلون من العربات.»
قالت روزا: «إنهم يعرفون ماذا يفعلون! كلُّ ما هنالك أنهم يخشون أن نكتشفَ الأمر! لقد أخبروا السيدة زامبوني أن تبتعدَ وإلا أخرجوها من المعسكر. والسيدة جونوتش العجوز … زوجها وأبناؤها الثلاثة بالداخل!»
قالت السيدة ديفيد: «إنهم يتوحَّشون يومًا بعد يوم. ذلك الرجلُ الضخم الذي يَدعونه بيت، الذي أتى من بيدرو يعامل النساء بطريقة مُخزية!»
قال أولسون: «أنا أعرفُه، بيت هانون. لقد أرسلوه إلى شيريدان عندما افتتح الاتحادُ النقابي أول مقرٍّ له هناك. لقد هشَّم فَم أحد مُنظِّمينا النقابيين وكسرَ له أربع أسنان. يقولون إنه من أرباب السجون.»
كان هال طوال العام السابق يستمع في الكلية إلى محاضراتٍ في الاقتصاد السياسي مليئة بالثناء على «المِلكية الخاصة». حفَّزت هذه الملكية الخاصة روح المبادرة وطوَّرت الاقتصاد؛ فقد أبقت على دوران عجلات الصناعة، وحافظت على الرواتب الكبيرة لهيئات التدريس بالكليات الجامعية، وتكيَّفت مع قوانين العَرض والطلب المقدَّسة، فكانت أساسَ التقدُّم والازدهار اللذَين حُبِيَت بهما أمريكا. وهنا وجدَ هال نفسه فجأة وجهًا لوجه مع حقيقة الملكية الخاصة؛ رأى عينَيها المستَذئبتَين تُحدِّقان إلى عينَيه، وشعرَ بأنفاسها الساخنة في وجهه، ورأى أنيابَها اللامعة وأصابعَها المخلبية تقطر بدماء الرجال والنساء والأطفال. الملكية الخاصة لمناجم الفحم! الملكية الخاصة للمداخل المغلقة ومخارج الطوارئ المعدومة! الملكية الخاصة لمراوح التهوية التي لا تعمل، للرشَّاشات التي لا تُستخدَم. الملكية الخاصة للهراوات والمسدسات، والملكية الخاصة التي تُخوِّل لهم الاستعانة بالبلطجية وأرباب السجون، وطرد رجال الإنقاذ وحبس الأرامل المكلومات والأيتام البائسين في منازلهم! كم يصدح كهنة الملكية الخاصة الهانئون الممتلئو البطون في القاعات الأكاديمية بمديح ذلك الشيطان الدموي!
تسمَّر هال فجأة في مكانه. استيقظ فيه شيء ما، شيء لم يكن لديه أدنى فكرة عن وجوده. ظهرت على وجهه نظرة جديدة، واكتسبَ صوتُه عُمقًا مثل صوت رجلٍ قوي عندما قال: «سأجعلهم يفتحون ذلك المنجم!»
نظروا إليه. وكانوا جميعًا على حافة الجنون، لكنهم لاحظوا النبرة الغريبة في كلامه. «سأجعلهم يفتحون ذلك المنجم!»
سألَ أولسون: «كيف؟»
«لا يعرف عامَّة الناس شيئًا عن الحادث. إذا أُذِيعَ الخبر، فستحدث ضجة كبيرة، ولا يمكن للوضع أن يستمر!»
«ولكن كيف ستُذيعُ الخبر؟»
«سأُدلي به إلى الصحف! لا يمكنهم التكتُّم على شيء كهذا … لا يُهمُّني مدى تحيُّزهم!»
سألت السيدة ديفيد: «ولكن هل تعتقد أنهم سيُصدِّقون ما يقوله لهم مُساعِد عامِل منجم؟»
قال هال: «سأجد طريقة لأجعلهم يُصدِّقونني. سأجعلهم يفتحون ذلك المنجم!»