الفصل الرابع والثلاثون
في أثناء تجوُّل هال في أرجاء المعسكر، رأى العديدَ من الشُّبَّان الذين تبدو عليهم الاستنارة يحملون دفاتر ملاحظاتٍ في أيديهم. وقد لاحظَ أن الشركة كانت تستضيف هؤلاء الشُّبَّان، الذين كانوا يتبادلون أطرافَ الحديث مع الرؤساء على نحوٍ وديٍّ، ولكنه اعتقد أنه قد يجد بينهم مَن لديه وازعٌ أو ضمير … أو مَن لا يستسلم بأي ثمنٍ لإغراء «السَّبْق الصحفي». لذلك، تركَ الاجتماع في منزل ديفيد وزوجته، واتجه إلى فتحة المنجم، باحثًا عن أحد هؤلاء الصحفيين، وعندما وجدَه تبعَه بعض الوقت على أمل الوصول إلى مكان لا يزعجهما فيه أيٌّ من «جواسيس» الشركة. وفي أولِ فرصة، تقدَّم وطلبَ من الصحفي بأدبٍ أن يرافقه إلى شارع جانبي، حيث يمكنهما التحدُّث دون أن يزعجهما أحد.
استجابَ الصحفيُّ لطلبه، وكبح هال مشاعره حتى لا ينفر منه، وأعلمَه أنه يعمل في نورث فالي منذ عدة أشهر، وأنه في إمكانه أن يخبره الكثيرَ عن الأحوال في المعسكر. فهناك، على سبيل المثال، مسألة غبار الطوب اللَّبِن. فقد كان في الإمكان الحيلولة دون وقوع الانفجارات في المناجم الجافة عن طريق رشِّ الجدران بهذه المادة. هل سمعَ الصحفيُّ من قبل أن ادعاءَ الشركة باستخدامها لها كان محضَ كَذِب؟
كانت إجابة الصحفي بالنفي، فلم يكن قد سمعَ بهذا. وقد بدا مهتمًّا بالأمر، وسألَ عن اسم هال ووظيفته. فأخبره هال أن اسمه هو «جو سميث»، وأنه «مساعِد» اختاره العُمَّال مؤخرًا ليكون مراقِبًا للأوزان. طرحَ عليه الصحفي، الذي كان شابًّا نحيلًا حادَّ الملامح، الكثيرَ من الأسئلة … أسئلة ذكية، وذكر على نحوٍ عابر أنه كان المراسِل المحلي لدى وكالة الأنباء الغربية الكبرى التي كانت أخبارها عن الحادث تجوبُ كلَّ ركن من أركان البلاد. بدا هذا لهال حظًّا فريدًا، وشرعَ في إخبار السيد جراهام بالإحصاء الذي أجراه بعضُ العُمَّال؛ فقد استطاعوا حصر أسماءِ مائةٍ وسبعة من الرجال والفتيان المحاصَرين داخل المنجم. وأبلغه هال أن القائمة ستكون تحت تصرُّفه في حال كان مهتمًّا بالاطلاع عليها. بدا السيدُ جراهام أكثر اهتمامًا من أي لحظة مضت، ودوَّن الملاحظات في دفتره.
تابع هال قائلًا إنَّ هناك شيئًا آخر، أكثر أهمية، وهو مسألة التأخير في تشغيل المروحة. فقد مرَّت ثلاثة أيام منذ وقوع الانفجار، غير أنه لم تكن هناك أي محاولة لدخول المنجم. هل رأى السيدُ جراهام الضجَّة التي كانت حول فتحة المنجم في ذلك الصباح؟ هناك رجلٌ طُرِدَ من المعسكر لمجرد أنه قدَّم التماسًا إلى نائب مفتش المناجم بالولاية؟ أخبره هال بما صار اعتقادًا راسخًا لدى الكثيرين … بأن الشركة كانت تحمي الممتلكات على حساب العُمَّال وأرواحهم. وواصلَ حديثَه مُشيرًا إلى الجانب الإنساني في الحادث … تحدَّث عن السيدة رافيرتي العجوز، عن تدهور صحتها وأطفالها الثمانية، وعن السيدة زامبوني، التي لديها أحد عشر طفلًا، وعن السيدة جونوتش، التي حُوصِر زوجُها وأبناؤها الثلاثة في المنجم. بدأ هال بدافعٍ من اهتمام الصحفي يُظهِر بعضًا من مشاعره. إنهم بشرٌ، وليسوا حيوانات؛ يُحبُّون ويعانون، رغم أنهم فقراء ومتواضعو الحال!
قال السيد جراهام: «بكل تأكيدٍ!» أنت على حقٍّ، كن مطمئنًا وأؤكد لك أنني سأنظر في الأمر.»
قال هال: «هناك شيء آخر. إذا ذُكِرَ اسمي، فسوف يطردونني، كما تعلم.»
قال الآخر: «لن أذكره.»
«بالطبع، إذا لم يكن في استطاعتك نشر الخبر دون ذكر مصدره …»
قال الصحفيُّ مُبتسِمًا: «أنا المصدر. لن يضيف ذكر اسمك شيئًا.»
تحدَّث بثقة وهدوء؛ وقد بدا أنه يدرك تمامًا حجمَ الموقف وواجبَه تجاهه، وهو ما أشعرَ هال بنشوة الانتصار. كان الأمرُ كما لو أن ريحًا قوية قد هَبَّت من العالَم الخارجي، مُبدِّدةً الضبابَ الذي خيَّم على أرجاء معسكر الفحم. أجل، كان هذا الصحفيُّ هو العالَم الخارجي! إنه يمثِّل قوةَ الرأي العام، التي أظهرت نفسها في معقل الخُبث والخوف هذا! إنه صوتُ الحقيقة، والشجاعة، والاستقامة لدى مؤسسة صحفية عظيمة، تمارس رسالتها باستقلالية بمنأًى عن التأثيرات السرية، مُترفِّعةً عن الفساد!
قال السيد جراهام في النهاية: «أنا مَدينٌ لك»، وهكذا اكتملَ شعورُ هال بالنصر. يا لها من فرصة استثنائية … أن صادفَ مُمثِّلًا عن وكالة الأنباء الغربية الكبرى! سوف تجوب الأخبار عالَم الصناعة الضخم، الذي كان اعتمادُه على الفحم كاعتمادِ الجسد على الدماء. حان الأوان أخيرًا للرجال في المصانع التي تدور آلاتها بالفحم … للمسافرين على متن القطارات التي كانت تُسيَّر بالفحم … حان الأوان لهم جميعًا أن يسمعوا أخيرًا عن معاناة الذين كدحوا في أحشاء الأرض من أجلهم! حتى السيدات، المتَّكئات على متن السفن البخارية الفاخرة في البحار الاستوائية التي تتلألأ مياهُها تحت أشعة الشمس … لقد كانت قوة تأثير وكالات الأخبار الحديثة هائلة للغاية، حتى إنَّ هؤلاء السيدات ربما يسمعن أيضًا صرخات استغاثة هؤلاء الكادحين وزوجاتهم وأطفالهم! ومن هذا العالَم العظيم ستأتي الاستجابة، صرخة عامة من الرعب، من اللعنة، التي من شأنها أن تجبر الجميعَ، بمَن فيهم العجوز بيتر هاريجان، على الرضوخ! هكذا اعتقد هال … لصِغر سنِّه، وحَداثة عهده في الكفاح.
لقد كان سعيدًا جدًّا إلى درجة أنه استعادَ قدرته على التفكير في أموره الخاصة، وعلى الانتباه إلى أنه لم يأكل شيئًا في ذلك اليوم. كان وقتُ الظهيرة قد حَلَّ، فاتَّجه إلى نُزُل «ريمينيتسكي»، وكاد ينتهي من نصف الطبق الأول من وليمة ريمينيتسكي المكوَّنة من طبقَين عندما باغتته الحقيقة المؤلِمة التي جعلته يستفيق من وهمه!
نظرَ إلى أعلى ورأى جيف كوتون يدخل غرفة الطعام، مُتوجِّهًا إليه مباشرة. امتلأت عينا قائد المعسكر بالشرر، ورأى هال ذلك، فنهضَ عَفويًّا.
قال كوتون: «تعالَ!» وأمسكَه من كُمِّ معطفه، وسار به خارجًا، قبل أن يتمكَّن بقية الحضور من التقاط أنفاسهم.
لم تكن الفرصة متاحة لهال الآن للتحلِّي بأيٍّ من «آداب حفلات الشاي» مع قائد المعسكر. في أثناء سيرهما، أعرب كوتون عن رأيه فيه؛ إذ وصفه بالظربان، والجرو، شخص مبغوض الأصل، وعندما حاول هال أن يطرح سؤالًا … وهو ما فعله بحُسن نية تمامًا، غير مُدرِك لمعنى ما يحدث له أو للسبب وراءه … أمره القائد بأن «يخرس» وشدَّد على الأمر بليِّه ياقة معطفه. في الوقت نفسه، أخذه اثنان من أعتى حُرَّاس المنجم كانا ينتظران عند باب غرفة الطعام، حيث أمسكَ كلٌّ منهما بذراعٍ من ذراعَي هال، واستحثَّاه على المضي قُدمًا.
ساروا في الشارع ومرُّوا بمكتب جيف كوتون، دون أن يتوقَّفوا عنده هذه المرة. كانت وجهتُهم هي محطة السكة الحديدية، وعندما وصل هال هناك رأى قطارًا واقفًا. سارَ به الرجالُ الثلاثة نحو القطار، ولم يطلقوا سراحه حتى ألقوا به في أحد المقاعد.
قال كوتون: «الآن أيها الشاب، سنرى مَنْ يُدير هذا المعسكر!»
بحلول هذا الوقت كان هال قد استعادَ جزءًا من رباطة جأشه. وسألَ: «هل أحتاجُ إلى تذكرة؟»
قال القائد: «سأتولَّى بالأمر.»
«وهل يمكنني الحصول على أغراضي؟»
أسكته القائد قائلًا: «احتفِظ ببعض الأسئلة لأساتذة كليتك.»
انتظر هال، وبعد دقيقة أو دقيقتَين وصلَ رجلٌ مُسرِعًا ومعه متعلقاته القليلة ملفوفة في حزمة ومربوطة بحبلٍ. لاحظ هال أن هذا الرجل كان ضخم البِينة قبيحًا، وكان قائد المعسكر يناديه باسم «بيت».
صاح سائق القطار: «ليركب الجميع!» وفي الوقت نفسه انحنى جيف كوتون نحو هال وهمَس إليه مُهدِّدًا: «اسمع نصيحتي أيها الشاب، لا تتوقَّف في بيدرو، وتابِع سيرَك على عجلٍ، وإلا فترقَّب ما سيحدث لك في إحدى الليالي المظلمة.»
وبعد ذلك، سار في الممر، وقفز من القطار في أثناء تحرُّكه. لكن هال لاحظَ أن بيت هانون، مُهشِّم الأسنان، بقيَ في العربة على بُعد بضعة مقاعد خلفَه.