الفصل الثالث
عندما تحدَّث هال، لم يرد على ملاحظة بيلي كيتينج الأخيرة. لقد كان يستمع إلى إعادة رواية حادث نورث فالي عبر الهاتف؛ ومن ثَم لم يكن يفكِّر في سلامته، بل فيما يقارب مائة وسبعة من الرجال والفتيان المحاصَرين داخل المنجم.
قال: «سيد كيتينج، هل أنت واثقٌ بأن صحيفة «جازيت» ستنشر هذا الخبر؟»
صاحَ الآخرُ: «يا إلهي! ولمَ أنا هنا؟»
«حسنًا، لقد خابَ أملي من قبل، كما تعلم.»
«أجل، ولكنك دخلتَ المعسكرَ الخطأ. صحيفتُنا هي صحيفةٌ للفقراء، وهذا ما نتكسَّب منه قوتَ يومنا.»
«أليس ثمة احتمال أن يجري «التخفيف من حِدَّة الأمر»؟»
«ولا قيد أنملة، أؤكد لك.»
«أليس هناك احتمال أن يَحظُر بيتر هاريجان نشر الخبر؟»
«لقد استنفدَ بيتر هاريجان محاولاته للسيطرة على الصحيفة منذ فترة طويلة يا بُني.»
قال هال: «حسنًا، أخبرني الآن … هل سينجح الأمر؟»
«ماذا تعني؟»
«أعني … أن يجعلهم يفتحون المنجم.»
فكَّر كيتينج للحظة. وقال: «أخشى أنه لن يُحدِث فَرقًا كبيرًا.»
نظر إليه هال في ذهول. فقد اعتبر أنه من المفروغ منه أن النشر سيُجبِر الشركة على التحرك. لكن كيتينج أوضحَ أنَّ مَن يقرءون صحيفته في الأساس هم العُمَّال، ومن ثَمَّ فلم يكن لها إلا تأثير ضئيل نسبيًّا. قال: «نحن صحيفة مسائية، وعندما يقرأ الناسُ الأكاذيبَ طوال الصباح، فليس من السهل أن تجعلهم يصدِّقون الحقيقة بعد الظهيرة.»
«ولكن ألن ينتقل الخبرُ إلى صحفٍ أخرى … أعني في أنحاء البلاد؟»
«نعم، لدينا خدمة صحفية؛ ولكن الصحف كلها مثل صحيفة «جازيت» … صحف للفقراء. عندما يحدث أمرٌ جللٌ، ونُثير ضجةً حوله فترة طويلة، فإننا نجذب الانتباه، ونستطيع على الأقل أن نقلِّل من عدد الأخبار التي يمكن لوكالة الأنباء الغربية قمعَها. ولكن عندما يتعلق الأمر بمسألة صغيرة مثل بعض العمَّال المحاصَرين في المنجم، فكلُّ ما يمكننا فعله هو إثارة قلق «الشركة العامَّة للوقود» بعضَ الشيء.»
هكذا عاد هال من حيث بدأ. وصاح: «يجب أن أجد خطة أخرى.»
أجاب الآخر: «لا أرى حلًّا بديلًا يمكنك فعله.»
صمتا قليلًا فيما كان عامل المنجم الشاب يفكِّر. وقال بشيء من عدم اليقين: «لقد فكَّرتُ في السفر إلى ويسترن سيتي ومناشدة المحرِّرين الصحفيين.»
«حسنًا، فلتسمع مني … من الأفضل أن توفِّر أجرة سفرك. لن يقرَبوا روايتك.»
«وماذا إذا ذهبتُ إلى الحاكِم؟»
«أولًا، ربما لا يسمح لك بمقابلته. وإنْ سمحَ، فلن يفعل شيئًا. إنه ليس الحاكِم الفعلي، كما تعلم؛ إنه مجرد دُمية وُضِعَتْ في ذلك المنصب لخداعك. إنه لا يتحرك إلا عندما يسحب هاريجان خيوطه.»
قال هال: «بالطبع كنت أعلم أنه أحدُ رجال ذلك العجوز. ولكن إذن …» واختتم كلامه بصوتٍ واهن بعضَ الشيء: «ماذا عساني أن أفعل؟»
ظهرت ابتسامةُ شفقةٍ على وجه الصحفي. وقال: «ألاحظتَ أن هذه هي المرة الأولى التي تتصدَّى فيها ﻟ «أصحاب الشركات الكبرى». ثم أضافَ: «أنت صغيرُ السن! عندما تكتسب مزيدًا من الخبرة، سوف تترك هذه المشكلات لأصحاب العقول الأكبر سِنًّا!» لكن هال لم يفهم مَقصِد الصحفي. لقد سمَع هذه الكلمات نفسها بمثل هذه الجدية الشديدة من أخيه! وعلاوة على ذلك، فقد شاهدَ لتوِّه الفظائع على أرض الواقع.
صاحَ: «ولكن ألا ترى يا سيد كيتينج؟ يستحيلُ أن أجلسَ مكتوفَ اليدَين بينما يموت هؤلاءِ الرجال؟»
قال الآخر: «لا أعرفُ ما تعنيه بجلوسك مكتوفَ اليدَين. كلُّ ما أعرفه هو أن كلَّ تحركاتك لن تفيدهم في شيء.»
التفتَ هال إلى إدستروم وماكيلار. وقال: «أيها السادة، استمعوا إليَّ دقيقة.» وكانت ثمة نغمة توسُّل في صوته … كما لو كان يحسبهم يرفضون مساعدته عمدًا! «علينا أن نفعل شيئًا حيال هذا. علينا أن نفعل شيئًا! أنا حديثُ عهدٍ بالأمر، كما يقول السيدُ كيتينج، لكنكم لستم كذلك. فكِّروا في الأمر أيها السادة، وساعدوني في وضع خطة!»
ساد بعد ذلك صمتٌ طويل. ثم قال إدستروم أخيرًا: «الله وحده يعلم. لو كان في إمكاني أن أقترح شيئًا لفعلت.»
قال ماكيلار: «وأنا أيضًا. أنت تقف في طريقٍ مسدودٍ يا بُني. الحكومة هنا مجرد إدارة تابعة ﻟ «الشركة العامَّة للوقود»، والمسئولون محتالون … خَدَمٌ وأتباع للشركة، جميعُهم كذلك.»
قال هال: «لحظة واحدة إذن. دعونا نفكِّر. ماذا لو كانت لدينا حكومة حقيقية … ما الخطوات التي سنتخذُها؟ كنا سنقدم قضية كهذه إلى المدعي العام في المقاطعة، أليس كذلك؟»
قال ماكيلار: «بلى، لا شكَّ في ذلك.»
قال هال: «لقد ذكرتموه من قبل. قلتُم إنه هدَّد بمحاكمة بعض مشرفي المناجم بتهمة تزوير الاقتراع.»
قال ماكيلار: «كان ذلك في أثناء ترشُّحه للانتخابات.»
«أوه! أتذكَّرُ ما قاله جيف كوتون … إنه كان يخطب ودَّ عُمَّال المناجم في خطاباته، ويخطب ودَّ الشركات في أفعاله.»
قال الآخر بفُتورٍ: «هكذا هو بالفعل.»
قال هال: «حسنًا، ألا يجدُر بي الذهاب إليه، ولو على سبيل المحاولة على الأقل؟ مَن يدري، فلربما يتعاطف مع الأمر.»
ردَّ ماكيلار: «الأمرُ لا يحتاج إلى تعاطُف، بل إلى جرأة ودعم.»
«ولكن يجب بالتأكيد أن أطرح الأمر عليه! على الأقل إذا لم يفعل شيئًا، فسأُسجِّل ردَّ فعله، وسيكون هذا خبرًا آخر بين يديك، أليس كذلك يا سيد كيتينج؟»
أقرَّ الصحفيُّ قائلًا: «بلى، هذا صحيح. ماذا ستطلب منه؟»
«عجبًا، سأطلب منه أن يعرض الأمر على هيئة المحلَّفين الكبرى؛ أن يوجِّه الاتهامات إلى رؤساء العمل في نورث فالي.»
«لكن سيستغرق الأمرُ وقتًا طويلًا؛ ومن ثَمَّ لن يُنقذ ذلك الرجال المحاصَرين في المنجم.»
قال ماكيلار: «ما قد ينقذهم هو التهديد بفعل ذلك. لا أعتقد أن أيَّ تهديد توجِّهُه إلى ديك باركر سيكون ذا أهمية كبيرة. فالرؤساء يعلمون أنَّ في إمكانهم منعه من أن يفعل شيئًا.»
«حسنًا، ألا من جهة أخرى أقصدُها؟ ألا أجرِّب الذهابَ إلى المحاكم؟»
«أي محاكم؟»
«لا أعرف. أخبروني أنتم.»
قال الاسكتلندي: «حسنًا، لنبدأ بالأقل شأنًا، هناك قاضي الصلح.»
«مَن هو؟»
«جيم أندرسون، طبيب خيول. إنه مثل أي قاضي صلح آخر عرفتَه على الإطلاق … إنه يعيش على الرِّشا الصغيرة.»
«هل توجد محكمة عُليا؟»
«نعم، محكمة المقاطعة، ويرأسها القاضي دينتون. إنه الشريك القانوني لفاجلمان، مستشار «الشركة العامة للوقود»، فإلى أي مدى تتوقَّع أن يتفق معك؟»
قال هال: «أفترضُ أنني أتمسَّكُ بآخِر خيط للأمل. لكنهم يقولون إنَّ هذا هو حال الغريق، أن يتمسَّك بقَشة. على أي حال، سأذهبُ لمقابلة هؤلاء الأشخاص، وربما أجد بينهم مَن يفعل شيئًا. لن يضرَّ ذلك في شيء!»
فكَّر الرجالُ الثلاثة في بعض الضرر الذي قد يُحدثه ذلك؛ وحاولوا حَثَّ هال على التفكير في خطر التعرُّض للضرب أو إطلاق النار. صاحَ ماكيلار: «سينالون منك! وليس لديهم مشكلة في ذلك … سيُثبِتون أنك تعرَّضت للطعن على يد أحد الإيطاليين السُّكارى، في شجارٍ على امرأة.»
لكن هال كان قد عقد عزمَه، ورأى أنه يستطيع إنجاز هذه المهمة قبل أن يتَّسع لأعدائه الوقت لوضع أي خططٍ. كما لم يكن ليسمح لأي من أصدقائه بمرافقته؛ فقد كان لديه شيءٌ أهم لكلٍّ من إدستروم وكيتينج ليفعلاه … وأما عن ماكيلار، فلا يمكنه التحرك بسرعة كافية. طلبَ هال من إدستروم الذهابَ إلى مكتب البريد والحصول على الخطاب المسجَّل، ثم الشروع فورًا في تغيير الأوراق النقدية. كانت خطتُه هي استصدار إفاداتٍ خَطيَّة، وفي حال لم يتصرَّف المسئولون هنا، سيأخذ هذه الإفادات إلى الحاكم. وكان في حاجة إلى المال للقيام بذلك. واقترحَ أنَّه في هذه الأثناء سيكون بيلي كيتينج بصدد كتابة تقريره الصحفي عن مراقِب الأوزان، على أن يقابله في غضون ساعتَين في الفندق الأمريكي للحصول على نسخٍ من الإفادات لصحيفة «جازيت».
كان هال لا يزال يرتدي ملابس عامِل المنجم التي كان يرتديها ليلة القبض عليه في كوخ إدستروم. لكنه رفضَ عرضَ ماكيلار لإعارته بذلة من عنده؛ إذ كان يعلم أن ملابس الاسكتلندي العجوز لم تكن لتُناسبه، ومن ثَم ربما يكون من الأفضل أن يتقدَّم بمطالبه في هيئة عامِل منجم حقيقي، وليس في هيئة رجل نبيل في غير محلِّها.
بعد تسوية هذه الأمور، خرج هال إلى الشارع، حيث كان بيت هانون، مُهشِّم الأسنان، يلاحقه. انطلقَ عامِلُ المنجم الشاب راكضًا في الحال، وحذا الآخر حذوَه، وهكذا انطلقَ الاثنان مسرعَين في الشارع، ما أثار دهشة الناس في الطريق. ولأنَّ هال كان يمارس رياضة العَدو، فلا شكَّ أن بيت كان سعيدًا أن مكتب المدعي العام للمقاطعة ليس بعيدًا!