الفصل الرابع
قال الموظف في المكتب الخارجي إنَّ السيد ريتشارد باركر مشغول، الأمر الذي لم ينزعج له هال؛ فقد منحه ذلك فرصة لالتقاط أنفاسه. وعندما رأى الموظفُ شابًّا يلهث بشدة وقد احتقن وجهُه بالدم، حدَّق إليه بفضولٍ، لكن هال لم يُطلِعه على السبب، ووقفَ مُهشِّمُ الأسنان ينتظره بالخارج في الشارع.
استقبل السيد باركر ضيفَه بعد دقيقتَين. كان رجلًا بدينًا ذا عنق مكتنز وذقن ضخم، كان قد حلقَه لتوِّه وفركه ببودرة التلك. كانت ثيابُه أنيقة، وكان قميصه نظيفًا، مما يعطي انطباعًا للمرء بأنه شخص «يعتني بنفسه جيدًا». وكانت هناك أوراق على مكتبه، وبدا مشغولًا.
قال وهو يُلقي نظرة سريعة على عامِل المنجم الشاب: «حسنًا، ما الأمر؟»
«على حَدِّ علمي، فأنا أتحدَّث إلى المدعي العام لمقاطعة بيدرو، أليس كذلك؟»
«هذا صحيح.»
«هل لديك أي فكرة يا سيد باركر عن مُلابَسات الحادث الذي وقعَ في نورث فالي؟»
قال السيدُ باركر: «كلَّا. لماذا؟»
«لقد أتيتُ للتوِّ من نورث فالي، ويمكنني أن أُمِدَّك بمعلوماتٍ ربما تُهمُّك معرفتُها. هناك مائة وسبعة من الرجال والفتيان مدفونون داخل المنجم، وقد أغلقَ مسئولو الشركة المنجم عليهم، مُضَحِّين بذلك بتلك الأرواح.»
وضعَ الآخرُ المراسلاتَ التي كان مشغولًا بها جانبًا، وتفحَّص ضيفَه ناظِرًا إليه من أسفل جفنَين ثقيلَين. وسأله قائلًا: «كيف عرفتَ ذلك؟»
«لقد غادرتُ المكان لتوِّي قبل ساعاتٍ قليلة. جميع العُمَّال في المعسكر يعرفون تلك المعلومات.»
«هل تتحدَّث عما سمعتَه؟»
«بل أتحدَّثُ عما رأيتُه بنفسي. لقد شهِدتُ الحادثَ، رأيتُ فتحة المنجم تُغلَق وتُغطَّى بالقماش. أعرفُ رجلًا طُرِدَ من المعسكر هذا الصباح لأنه اشتكى من التأخير في بدء تشغيل مروحة التهوية. لقد مرَّت ثلاثةُ أيام على الانفجار، ولم يُتخَذ أيُّ إجراءٍ حتى الآن.»
شرعَ السيد باركر في طرح مجموعة من الأسئلة، بالطريقة الحادة المتشكِّكة المعتادة لمسئولي النيابة. لكن هال لم يمانع تلك الطريقة، فقد كان من حق الرجل أن يتأكَّد من الأمر.
ثم سأله على الفور كيف يمكنه إثبات تصريحاته.
كان الردُّ: «سيستلزم الأمرُ أن تذهبَ إلى هناك.»
«تقول إن العُمَّال هناك على علمٍ بهذه الحقائق. أعطني أسماءَ بعضهم.»
«ليست لديَّ السلطة للإدلاء بأسمائهم يا سيد باركر.»
«أيُّ سلطة تحتاج إليها؟ سيُخبرونني بأسمائهم، أليس كذلك؟»
«قد يخبرونك، وقد لا يخبرونك. لقد فقدَ رجلٌ وظيفته بالفعل، ليس جميع الرجال على استعدادٍ لخسارة وظائفهم.»
«أتتوقَّع مني أن أذهبَ إلى هناك لمجرد شائعاتٍ من القيل والقال تُخبرني بها؟»
«أنا أُقدِّم لك أكثر من مجرد شائعاتٍ وأقاويل. أقدِّم لك إفادة وشهادة.»
«ولكن ما الذي أعرفُه عنك؟»
«تعرفُ أنني أعملُ في نورث فالي … أو يمكنك التأكُّد من ذلك عبر الهاتف. اسمي جو سميث، وأعمل مُساعِدًا في المنجم رقم ٢.»
لكن السيد باركر قال إن ذلك ليس كافيًا، وإن وقته ثمينٌ، وإنه يتعيَّن قبل ذهابه إلى نورث فالي أن يحصل على أسماء شهود الإثبات فيما أدلى به من أقوالٍ.
صاح هال: «أقدِّم لك إفادة! وأقولُ إنني على علمٍ بأن هناك جريمة تُرتكَب … إن حياة مائة وسبعة من الرجال يُضحَّى بها. ألا تعتبر ذلك سببًا كافيًا حتى لإجراء تحقيق؟»
أجابَ المدعي العام مرة أخرى بأنه يرغب في القيام بواجبه، ويرغب في حماية حقوق العُمَّال، لكن ليس في وُسعه أن يقوم ﺑ «مطاردة عقيمة» لا طائل منها، يجب أن يعرف أسماءَ الشهود. ووجد هال نفسه يتساءل. هل يبحث الرجلُ فقط عن ذريعة كي لا يفعل شيئًا؟ أم إنه من الممكن أن يَبلُغ الأمرُ بمسئول حكومي أن يساعد الشركة في معرفة أسماءِ «مثيري الشغب»؟
على الرغم من عدم ثقته، صمَّم هال أن يمنح الرجلَ كلَّ فرصة في وُسعه أن يمنحها له. استعرضَ قصة الحادث بأكملها. أطلعَ السيدَ باركر على أحوال المعسكر، وجعله يرى النساء المكلومات والأطفال الفزِعين المحتشدين حول فتحة المنجم، وكيف كان الحُرَّاس يُبعِدونهم بالهراوات والمسدسات. ذكرَ عائلةً تِلوَ الأخرى، أرامل وأمهات وأيتامًا. تحدَّثَ عن عُمَّال المناجم الذين طالبوا بفرصة للمخاطرة بحياتهم من أجل إنقاذ زملائهم. تركَ مشاعره تجتاحه بقوة، وتوسَّل بشدة من أجل أصدقائه المُعذَّبين.
قاطعَ الآخرُ حديثَه البليغ، قائلًا: «أيها الشاب، منذ متى وأنت تعمل في نورث فالي؟»
«منذ نحو عشرة أسابيع.»
«ومنذ متى وأنت تعمل في مناجم الفحم؟»
«كانت تلك تجربتي الأولى.»
«وهل تعتقد أنك تعلَّمتَ في عشرة أسابيع ما يكفي ليُخوِّل لك الحقَّ في توجيه تهمة «القتل العمد» ضد رجال قضَوا حياتهم في تعلُّم صناعة التعدين؟»
صاح هال: «كما أخبرتُكَ، هذا ليس رأيي فحسب؛ إنه رأي أقدم عمَّال المناجم وأكثرهم خبرة. أقول لك إنه لم يُتخَذ أيُّ إجراء لإنقاذ هؤلاء الرجال! الرؤساء لا يهتمون بتاتًا برجالهم! سمعَ حشدٌ من الناس أحدَهم، وهو أليك ستون، يقول: «اللَّعنة على العُمَّال! أَنقِذوا البِغال!»»
قال الآخر: «الجميع هنا ممتعضون وثائرون. لا يستطيع أيٌّ منهم أن يفكِّر بشكلٍ صحيحٍ في الوقت الحاضر … أنتَ نفسك لا يمكنك التفكير بشكلٍ صحيحٍ. إذا اشتعلَ المنجم، وإذا امتدت النيرانُ إلى الحَدِّ الذي يتعذَّر معه إخمادُها …»
«ولكن يا سيد باركر، كيف لك الجزم بأنها سوف تمتد إلى مثل هذا الحَدِّ؟»
«حسنًا، كيف لك الجزم بأنها لن تمتد إلى مثل هذا الحَدِّ؟»
صمتَا برهة. قال المدعي العام فجأة: «على حَدِّ علمي، هناك نائب لمفتش المناجم. ما اسمه؟»
قال هال: «كارمايكل.»
«حسنًا، وماذا يقول عن الواقعة؟»
«لقد طُرِدَ عامل المنجم هوسار من المعسكر عندما حاول أن يُقدِّم إليه التماسًا.»
قال السيد باركر: «حسنًا»، وظهرت نبرة في صوته عرف هال من خلالها أنه وجدَ العُذر الذي كان يبحث عنه … «حسنًا، إنها مهمة كارمايكل، ولا يحقُّ لي التدخل في شئونه. إذا جاءني وطلبَ توجيه الاتهامات، فسأتصرَّف، ولكني لن أفعل شيئًا ما لم يُطلَب مني ذلك. هذا كلُّ ما لديَّ لأقوله في هذا الشأن.»
نهض هال. وقال: «حسنًا يا سيد باركر. لقد عرضتُ عليك الحقائق. قيلَ لي إنك لن تفعل شيئًا، ولكنني أردتُ أن أمنحكَ فرصة. والآن، سأطلبُ من الحاكِم إقالتَك!» وبهذه الكلمات خرجَ عامِلُ المنجم الشاب من المكتب.