الفصل السابع
تصادف أنه قبل عدة أيام حصل هال على إجازة، مما خفَّفَ من وطأة مهامِّه الرتيبة كعامل إسطَبل، لقد كانت إجازة عارضة، لم تنُص عليها صفقته مع رئيس العُمَّال بالمنجم. حدث خطأ في مسار التهوية في المنجم رقم ٢، وبدأ يشعر بالصداع، وسمع العُمالَ يتذمَّرون من انخفاض ضوء مصابيحهم. ثم، عندما بدأت الأمور تزداد خطورة، صدرت الأوامر بإخراج البِغال إلى السطح.
كان الأمر بمثابة مغامرة مُسلِّية. كانت فرحة حيوانات هال الأليفة عند رؤيتها لضوء الشمس مَشهدًا هَزليًّا تصعب مقاومته. لم يكن بالإمكان منعها من الاستلقاء والتمرُّغ على ظهورها في الشارع المليء بالرماد، وعندما تجمعتْ في جانبٍ قَصِي من المعسكر، حيث ينمو عشب حقيقي، أطلقت للجَذَل العَنان، كأنها مجموعة من التلاميذ الصغار يمرحون في نزهة.
هكذا حظِيَ هال ببضع ساعاتٍ من الراحة؛ ولأنه كان لا يزال شابًّا يافعًا ولم يبرأ بعدُ من نُزوعه الفطري إلى الفضول وحب الاستطلاع، الذي جعله لا يُؤثِر الراحة؛ فقد راح يتسلَّق جدار الوادي لرؤية الجبال. وفي أثناء نزوله، مع اقتراب المساء، لاحت أمامه نقطة مُضيئة في صورته الذهنية لحياة المناجم؛ فقد وجد نفسه في الفناء الخلفي لأحد الأشخاص، ولاحظته ابنةُ أحدهم؛ حيث كانت تجمع ملابس أسرتها بعد غسْلِها ونَشْرها. لقد كانت فتاة بديعة الهيئة، فارعة الطول ومفعمة بالحيوية، وشعرها من ذلك النوع الذي يطلقون عليه في البيئات المهَذَّبة شعرًا كستنائيًّا، ووجنتاها ذواتا حُمرة متوهِّجة تمنحها الطبيعة تعويضًا للأشخاص الذين يعيشون في بيئة مطيرة. لقد كانت أول مشهدٍ جميل رأته عينا هال منذ صعوده الوادي، وكان من الطبيعي أن تُثير اهتمامه. بدا له أنه ما دامت الفتاة تُحدِّق فيه، فإنه يَحِقُّ له أن يُبادلها التحديق. لم يخطُر بباله أنها أيضًا كانت ترى فيه منظرًا مُبهِجًا لها … وأنَّ هواءَ الجبل كان قد خضَّبَ وَجنتَيه، وأضفى بريقًا على عينَيه البُنِّيتَين المرِحتَين، بينما عصفت رياحُ الجبل بشعره البُني المتموِّج.
قالت أخيرًا بصوت دافئ، بلهجة أيرلندية واضحة: «مَرحبًا.»
قال هال باللهجة السائدة: «مرحبًا بكِ»، ثم أضافَ بمزيدٍ من الأناقة: «اعذريني إن اقتحمتُ عليكِ مكانكِ.»
ازداد اتساع عينَيها الرَّماديتَين. وقالت: «لا بأسَ، فَلتَمضِ في طريقك!»
قال هال: «ولكني أُفضِّلُ البقاء. إنه مشهدُ غروبٍ جميل.»
«سأغادر كي تتمكَّن من رؤيته على نحوٍ أفضل.» حملتِ الملابس التي ملأت ذراعَيها ووضعتْها في السَّلَّة.
قال هال: «لا. لم يعُد المشهد بهذا الجمال الآن. فألوان السماء تتلاشى.»
التفتَتْ وحدَّقتْ فيه مرة أخرى. وقالت: «ارحل إذا سمحت! لقد نشأتُ على تنمُّر الناس عليَّ بسبب شعري، حتى قبل أن أتمكَّن من الكلام.»
قال هال مُجاريًا إياها: «إنه بدافع الحسَد»، واقترب منها بضع خطواتٍ، حتى يتمكَّن من تفحُّص شعرها مِن كَثَب. كان شعرُها مُنسدِلًا فوق جبينها في خصلاتٍ متموِّجة تتوافق مع حُبِّ الزينة الغريزي لدى الفتيات، وانسدلَت جديلة ثقيلة ومُحكَمة منه على كتفَيها، وتدلَّتْ إلى محيط خصرها. ثم لاحظ كتِفَيها، القويتَين؛ حيث كان من الواضح أنهما قد اعتادتا على العمل الشاق؛ فلا تتوافقان مع معايير الأنوثة الرومانسية المتعارَف عليها، وإنما كان لهما جمالهما الرياضي الخاص. وكانت قد غطَّتهما بثوبٍ قُطني ذي لون أزرق باهت، ولم يكن، للأسف، نظيفًا تمامًا؛ كما لاحظ الشابُّ وجودَ خَرق في كتِف واحدة ظهر منه جزءٌ من جِلدها. بدا التحدي واضحًا في عينَي الفتاة، اللتين كانتا تتَّبعان عينَيه؛ فوضعت قطعة من غسيلها على إحدى كتفَيها، حيث بقيتْ هكذا طوال اللقاء.
ثم سألته فجأة: «مَن أنت؟»
«اسمي جو سميث. أنا عامل إسطبل في المنجم رقم ٢.»
«وماذا كنت تفعل هناك، إذا جاز لي أن أسأل؟» رفعت عينَيها الرماديتَين إلى جانب الجبل العاري، الذي تسلَّقه نزولًا وهو ينزلق في وابل من الحصى الطليق والتراب.
قال: «كنت أتفقَّد إمبراطوريَّتي.»
«تتفقَّد ماذا؟»
«إمبراطوريتي. الأرض ملك للشركة، لكن المنظر الطبيعي ملك لمَن يهتم به.»
أرجعت رأسها إلى الوراء قليلًا. وقالت: «أين تعلَّمت التحدُّث هكذا؟»
قال: «في حياة أخرى … قبل أن أُصبح عامل إسطبل. لم آتِ فارغَ الذهن والكيان، بل جئتُ وأنا أحمل معي مُكتَسباتٍ لغوية وأخلاقية بحُكم تَنشِئتي.»
حاوَلَت بصعوبة أن تفهم ما قال. ثم ارتسمت ابتسامة على وجهها. وقالت: «بالتأكيد، إنه مثل كتاب من الشعر! قُل المزيد!»
قال هال مُقتبِسًا بالألمانية: «أوه، استمرِّي في الغناء، أيتها الجميلة الرائعة!» … ورأى نظرة الدهشة على وجهها.
سألت: «ألستَ أمريكيًّا؟» وضحك هو. لم يكن التحدُّث بلغة أجنبية في نورث فالي علامة على الثقافة!
قال مُبرِّرًا: «لقد كنت أستمع إلى الحشد في نُزُلِ ريمينيتسكي.»
«أوه! هل تأكل هناك؟»
«أذهبُ إلى هناك ثلاثَ مراتٍ في اليوم. لا يمكنني القول إنني آكُل كثيرًا. أيمكنكِ العيشَ على الفاصولياء المُزيَّتة؟»
ضحكت الفتاة قائلة: «بالطبع، ولكن هنيئًا لي البطاطس؛ فهي وجبة جيدة بما يكفي.»
قال: «ظننتُكِ تعيشين على بتلات الورود!»
«كفاكَ إذا سمحت! لا بد أنك قد قبَّلتَ حجر بلارني الأيرلندي، فمنحكَ القدرة على الحديث المعبِّر المقنِع!»
«ولكني لا أُضيع قُبلاتي على الحجارة.»
«لقد أصبحتَ جريئًا يا سيد سميث. لن أستمعَ إليك.» واستدارت بعيدًا، وشرعت بكَدٍّ في جمع ملابسها من على الحبل. لكنَّ هال لم تَرُقْ له فكرةُ أن يُطرَد. ومن ثَم، اقتربَ منها خطوة.
وقال: «عندما نزلتُ من جانب الجبل، وجدتُ شيئًا بديعًا. الأرض قاحلة وكئيبة هناك، لكنني وجدتُ ركنًا ظليلًا، نَمَتْ فيه وردة بريَّة. وردة واحدة فقط! فقلتُ في نفسي: «إذن فالورود تنمو، حتى في أكثر المناطق وَحشةً في العالَم!»
صاحت: «بالطبع، ها هو كتاب شعر مرة أخرى! لماذا لم تُحضِر الوردة؟»
«هناك كتابُ شعرٍ يقول لنا «اتركوا الوردة البرية في ساقها.» عندئذٍ فقط ستواصل الإزهار والتفتُّح؛ أما إذا اقتطفها أحدُهم، فستذبل في غضون ساعاتٍ قليلة.»
لم يكن يقصد بهذا أكثر من مواصلة حديثهما معًا. ولكن إجابتها قلبتْ مجرى تعارفهما.
«لا يمكنكَ الجزم أبدًا أيها الشاب. ربما تهبُّ عاصفةٌ الليلة وتنثُرها إربًا. ربما لو كنت قد اقتطفتَها وأدركتَ السعادة، لآتى الأمرُ ثماره المرجوة وأزهرت الوردة.»
أيًّا كان ما يحاول الشاعر أن يُبديه من إعجابٍ غير صريح في موقفه تجاه الفتاة، فقد تداعتِ الآن حبكتُه في هذا الغموض الماكر الذي لا نهايةَ له. لقد حقَّقت الفتاة أول انتصار للمرأة، سواء أكانت على درايةٍ بهذا الانتصار أو مهتمَّة بتحقيقه من الأساس أم لا. لقد أسَرت عقلَ الرجل، وأثارت فضوله. تُرى، ما الذي كانت تعنيه هذه الوردة البرية، ابنة معسكرات الفحم؟
كانت الوردة البريَّة مشغولة بالغسيل، ويبدو أنها لم تكُن واعية بأنها قالت أيَّ شيء غيَّر مجرى حديثهما، وفي تلك الأثناء تفحَّص هال وارنر ملامحَها، وتأمَّل كلماتها. لو أن هذه الكلمات صدرت من سيدة راقية، لما كان لها إلا معنًى واحد، وهو أنها كلمات من قبيل التودُّد والاستمالة، أما وإنه لم يكن في عينَي هذه الفتاة الرماديتَين الصافيتَين شيء من رعونة، فلا معنى لهذه الكلمات إلا الألَم. ولكن لماذا هذا الألم البادي في وجهِ وكلماتِ شابَّة مثلها شديدة الصغر، مُتَّقدة الحماس، ومفعَمة بالحيوية؟ هل كان الشجنُ والابتئاسُ المتعلق بعِرقها، ذلك الذي نجده في الأغاني الشعبية القديمة؟ أم كان نوعًا جديدًا ومميَّزًا من الكآبة والسَّوداوية، يتولَّد في معسكرات التَّعدين في أقصى غرب أمريكا؟
كانت ملامح الفتاة آسِرة مثل كلماتِها. كانت عيناها الرماديتان مرسومتَين أسفل حاجِبَين داكنَين ومُحدَّدَين، لا يتناسبان وشعرها. وكانت شفتاها مُحدَّدتَين بوضوحٍ، ورفيعتَين، بلا انحناءاتٍ تقريبًا، حتى بدا كما لو أنَّ فمها قد رُسِمَ في وجهها بقلمٍ قِرمزي اللون. كانت ملامحُها، حين تنظر إليكَ، تُضفي عليها مظهرًا حيويًّا، ومُدهشًا، وجريئًا، مع لمسة من التحدي. ولكن عندما تبتسم إليك، كانت شفتاها الحمراوان تنحنيان فتصبحان أرقَّ، وكانت عيناها الرماديتان يملؤهما الحزن، ويزداد لونُهما دكانةً. كانت هذه الفتاة الأيرلندية فاتِنةً بحقٍّ، ولكنها لم تكن ساذجة!