الفصل الثاني عشر
تلألأت المفارش البيضاء والزجاج المزخرف لقاعة الطعام تحت الإضاءة الكهربائية البرَّاقة، وقد لطَّفَ من وَقْعِها على العين وجودُ ستائر وردية. كان يجلس إلى الطاولات ستة من الفتيان وعدد مماثل من الفَتيات، جميعهم شباب في ثياب السهرة؛ بالإضافة إلى امرأتَين أو ثلاث أكبر سِنًّا. كانوا قد شرعوا في تناول الطبق الأول من وجبتهم، وكانوا يضحكون ويتبادلون أطراف الحديث عندما جاءَ هذا الزائر غير المتوقَّع فجأة، مُرتديًا ملابس عُمَّال المناجم الملطَّخة بالفحم. لم يُثِر إزعاجًا في طريقة دخوله، ولكن سرعان ما جاء خلفه رجلٌ سمين، يتصبَّب عَرَقًا، ذو ملامح جامحة، وكان يَئِزُّ كمحرك بخاري قديم الطراز، ومن خلفه جاءَ سائقُ القطار، في حالة هياجٍ لا تقل وضوحًا. ومن ثَمَّ، انقطعت المحادثة بالطبع. استدارت الفتياتُ في كراسيهن، بينما هَبَّ عددٌ من الفتية الشباب ناهضين.
أعقبَ ذلك صمتٌ، حتى تقدَّم أحد الشباب. وسأله بنبرة استحقاق في طرح السؤال: «ما هذا؟»
تقدَّم هال نحو المتحدِّث، الذي كان شابًّا نحيفًا، حسن المظهر، ولكن لم يكن ثمة ما يُميِّزه. قال هال: «مرحبًا يا بيرسي!»
ظهرت نظرة دهشة على وجه الآخر. أخذَ يحدِّق إليه، ولكن بدا أنه لا يستطيعُ استيعاب ما يراه. وفجأة جاءت صرخة من إحدى الفتيات، صاحبة الشعر الذي بلون حلوى تُوفي دبس السكر عندما تسحبه … ولكنه هفهافٌ ورائع تمامًا مع مسحة كمسحة غبار النجوم. كانت وجنتاها بلون الفراولة بالحليب، وكانت عيناها البُنيَّتان واسعتَين ومليئتَين بالعجائب. كانت ترتدي فستان سهرة باللون الأخضر الزيتوني ووشاحًا من قماش شفَّاف باللون الأبيض الكريمي مُلقًى حول كتفَيها العاريتَين.
نهضتْ واقفة على قدمَيها. وصاحت: «إنه هال!»
ردَّد الشابُّ هاريجان: «هال وارنر! عجبًا، ما الذي …؟»
قاطعته ضجة في الخارج. قال هال بهدوء: «انتظر لحظة. أعتقد أن شخصًا آخر سيأتي.»
دُفِع الباب وفُتِح بعنفٍ. دُفِع بعنفٍ شديد حتى إنَّ بيلي كيتينج وسائق القطار قد اندفعا جانبًا، وظهر جيف كوتون عند المدخل.
كان قائد المعسكر يلهث، وكان وجهُه محمومًا جراءَ المطاردة. كان يحمل في يده اليُمنى مُسدَّسًا. نظر حوله، ورأى الرجلَين اللذَين كان يطارِدهما، كما رأى ابن ملِك الفحم، وبقية الجمع المندهِش. وقفَ صامتًا كالأبكم.
دُفِعَ الباب مجدَّدًا، فاضطر إلى التنحِّي جانبًا، واندفعَ رجلان آخران إلى الداخل، كلاهما يحمل مُسدَّسًا في يده. كان الأول بيت هانون، وقد وقفَ هو الآخر مذهولًا. كان «مُهشِّم الأسنان» قد كُسِرَت له سِنَّتان، وكان هذا العيب يُرى واضحًا عندما يفتح فكَّه الشبيه بفَكِّ ملاكِم محترف. ربما كانت هذه هي المرة الأولى التي يرى فيها جمعًا كهذا، وكان مثل صبي بدين أمسكوا به مُتلَصِّصًا في خزانة للحلوى.
أصبح أسلوب بيرسي هاريجان متعجرفًا على نحوٍ واضحٍ. وسأل: «ماذا يعني هذا؟»
كان هال هو مَن أجاب. فقال: «إنني أبحثُ عن مجرمٍ يا بيرسي.»
«ماذا؟» أطلقت النساء بعضَ صيحات الذُّعر.
«أجل، مجرم؛ ذلك الرجل الذي أغلقَ المنجم.»
ردَّد الآخر: «أغلق المنجم؟ ماذا تعني؟»
«دعني أشرح لك. بداية، دعني أُقدِّم أصدقائي. هاريجان، هذا هو صديقي كيتينج.»
تذكَّر بيلي فجأة أنه يضع قُبَّعة. فخلعَها، لكنه نسي بقية آداب اللياقة الاجتماعية الواجبة. فقد كان مشدوهًا. حتى إنه كان لا يزال يلهث.
قال هال: «بيلي صحفي. ولكن لا داعي لأن تقلق … فهو رجلٌ نبيل، ولن يخون الثقة. تفهم ذلك يا بيلي.»
قال بيلي بصوتٍ خافتٍ: «نعم … نعم.»
قال هال: «وهذا هو جيف كوتون، قائد المعسكر في نورث فالي. أعتقد أنك تعلم يا بيرسي أن مناجم نورث فالي تابعة للشركة العامَّة للوقود. كوتون، هذا هو السيد هاريجان.»
ثم تذكَّر كوتون قُبعتَه، وكذلك مُسدَّسه الذي حاول أن يواريه عن الأنظار بوضعه خلف ظهره.
تابع هال: «وهذا هو السيد بيت هانون، وظيفته هي أنه مُهشِّم أسنان. وهذا الرجل الآخر، الذي لا أعرف اسمه، من المفترض أن يكون مُهشِّم أسنانٍ مساعِد.» ثم واصل هال، مُتبعًا آدابَ التعارُف الاجتماعي، كي يمنح عقله الفرصة للتفكير. فقد كان الأمر يعتمد كثيرًا على النهج الذي سيختار اتِّباعه في هذا الموقف الطارئ! هل يجب أن يأخذ بيرسي جانبًا ويخبره القصة بهدوء، ويترك القرار لوازعِه الإنساني وإحساسه بالعدالة؟ كلَّا، لم تكن هذه الطريقة المناسبة للتعامل مع آلِ هاريجان! لقد شقُّوا طريقَهم بالقوة ليتصدَّروا الصفوفَ الأولى في المجتمع؛ وإذا كان شيءٌ سيُفلح معهم، فلا بد أن يكون بالقوة. إذا كان يريد أن يحصل على شيء من بيرسي، فسيكون ذلك بمواجهته أمام هؤلاء الضيوف، وفضح الوضع أمامهم، وتأجيج مشاعرهم واستغلالها لإثاره استيائه تجاه ما حدث!
راحَ ابن ملِك الفحم يطرح الأسئلة مجددًا. لِمَ كل هذا؟ ومن ثَمَّ، بدأ هال في وصف وضع العمَّال داخل المنجم. فقال: «ليس لديهم طعام أو شراب، إلا ما كان لديهم في دِلاء العشاء، وقد مرَّت ثلاثة أيام ونصف اليوم على الانفجار! إنهم يتنفَّسون هواءً مُلوَّثًا؛ رءوسُهم تؤلِمهم، والعروق تنتفخ في جباههم، وألسنتُهم تتشقَّق، ويسقطون على الأرض لاهثين. ولكنهم منتظرون … وقد تشبَّثوا بالحياة بفضل ثقتهم في أصدقائهم خارج المنجم، الذين سيحاولون الوصول إليهم. إنهم لا يجرءُون على إزالة الحواجز؛ لأن الغازات ستقتلهم دفعة واحدة. لكنهم يعرفون أن رجال الإنقاذ سيأتون، ومن ثَم ينتظرون أن يسمعوا أصواتَ الفئُوس والمعاوِل. هذا هو الوضع.»
توقَّف هال وانتظر ظهور أي أمارات للقلق على وجه الشاب هاريجان. لكن شيئًا كهذا لم يظهر. ومن ثَمَّ، تابع هال:
«فكِّر في الأمر يا بيرسي! يوجد رجلٌ عجوز في ذلك المنجم، أيرلندي، ولديه زوجة وثمانية أطفال ينتظرون معرفة مصيره. أعرفُ امرأة لها زوجٌ وثلاثة أبناء محتجَزون داخل المنجم. مضت ثلاثة أيام ونصف والنساءُ والأطفالُ عند فتحة المنجم؛ رأيتُهم جالسين ورءوسهم مُنكَّسة فوق رُكَبهم، أو يهزون قبضاتِ أيديهم ويصرخون لاعنين المجرم المسئول عن ذلك.»
سادَ بعضُ الصمت. سألَ الشابُّ هاريجان: «المجرم؟ لا أفهم!»
«لن تصدِّق ذلك؛ ولكن لم يُتَّخذ أيُّ إجراءٍ لإنقاذ هؤلاء العُمَّال. غطَّى المجرم فتحة المنجم بالألواح وأوصدها، ووضعَ القماشَ المشمَّع فوقها … حابسًا الرجال والصبيان حتى الموت!»
تعالى صوت همهماتٍ فَزِعة من الجمع الجالس إلى مائدة العشاء.
«أعلم أنه لا يمكنك تصوُّر شيء كهذا. السبب هو أنَّ حريقًا قد اندلع في المنجم؛ وإذا شُغِّلت المروحة، سيحترق الفحم. ولكن، يمكن في الوقت نفسه إزالة الدخان من بعض الممرات، وإنقاذ بعض الرجال. ومن ثَمَّ، فالمسألة هي إما الحفاظ على الملكية وإما على الأرواح؛ وقد قرَّر المجرم الحفاظ على ملكيته. اقترَح الانتظار أسبوعًا، أو أسبوعَين، حتى تخمد النيران، وعندئذٍ بالطبع سيكون الرجال والفتيان قد ماتوا.»
سادَ الصمتُ. ولكن قطعَه الشابُّ هاريجان. «مَن فعل هذا؟»
«اسمه إينوس كارترايت.»
«ومَن يكون؟»
«لقد ضلَّلتُك قليلًا يا بيرسي عندما قلتُ إنني أبحث عن المجرم. وقد فعلتُ ذلك لأني أردتُ أن أستجمِع أفكاري.» توقَّف هال قليلًا، وعندما واصلَ حديثه أصبح صوتُه أكثر حِدَّة، وكان وَقْعُ كلماته كضرباتِ السوط. قال: «المجرم الذي أخبرتُك عنه هو المشرف على المنجم … رجلٌ عيَّنَته الشركة العامَّة للوقود ووضعته في السلطة. والشخص الذي يطاردونه الآن ليس الشخص الذي أغلقَ المنجم، ولكن الذي طالب بفتحه. لقد عاملوه معاملة المذنِبين؛ لأنَّ الشركة العامة للوقود انتهكت قوانين الدولة وكذلك قوانين الإنسانية؛ فاضطرَّ إلى أن يلجأ إلى عربتك، علَّه يجد مَلاذًا لإنقاذ حياته من البلطجية والمسلَّحين العاملين لدى الشركة!»