الفصل الثالث عشر
كان هال يدرك بحُكم معرفته الجيدة بهؤلاء الأشخاص وَقْعَ هذه الصاعقة التي نزلَ بها عليهم. كانوا أشخاصًا تَعنِيهم الكياسة والذوق أكثر من أي فضيلة أخرى؛ كان يعلم مدى انزعاجهم مما قال. وإذا كان يريد أن يستميلهم إلى جانبه ولو بأقل قدرٍ ممكن، فلا بد أن يشرح سببَ وجوده هنا … واقتحامه المكانَ مُتَعديًا على ممتلكات عائلة هاريجان.
تابعَ قائلًا: «بيرسي، تذكر كيف اعتدتَ توبيخي في العام الأخير في الكلية؛ لأنني كنت أستمع إلى «الصحفيين الاستقصائيين». لقد اتخذت الأمر على محمل الإهانة الشخصية. كنت تعلم أن حكاياتهم لا يمكن أن تمتَّ للحقيقة بصِلة. لكنني أردتُ أن أرى بنفسي، ومن ثَمَّ ذهبتُ للعمل في أحد مناجم الفحم. كنت حاضرًا لحظة الانفجار، ورأيتُ هذا الرجل المدعو جيف كوتون، يقود النساءَ والأطفال بعيدًا عن فتحة المنجم مُنهالًا عليهم بوَابلٍ من الضرب والسباب. وشرعتُ في مساعدة الرجال المحاصَرين داخل المنجم، فطردني القائدُ من المعسكر. قال لي إنني إن لم أهتمَّ بشئوني الخاصة، فعليَّ أن أترقَّب ما سيحدث لي في إحدى الليالي المظلمة. وكما ترى … فهذه ليلة مظلمة!»
انتظر هال ليمنح الشاب هاريجان فرصة لاستيعاب الموقف وتولِّي زمام الأمور. ولكن يبدو أن الشاب هاريجان لم يكن يُدرك وجود قائد المعسكر ومُسدَّسه. حاول هال مرة أخرى، قائلًا:
«من الواضح أن هؤلاء الرجال لا يتورَّعون عن قتلي؛ فقد أطلقوا النار عليَّ للتوِّ. ولا يزال القائدُ يحمل مُسدَّسه، ويمكنك أن تشمَّ رائحة دخان البارود. ولهذا تجرَّأتُ على الصعود إلى عربتك يا بيرسي. كان ذلك لإنقاذ حياتي، وعليك أن تعذِرَني.»
وهكذا حظي ابن ملِك الفحم فجأة بفرصة لإظهار شهامته. فسارعَ لاقتناصها. وقال: «بالطبع يا هال. كان من الصائب تمامًا أن تأتي إلى هنا. إذا كان موظفونا يتصرفون بهذه الطريقة، فإنهم لم يُمنحَوا السلطة التي تُخوِّل لهم ذلك، وسوف ينالون جزاءَهم بالتأكيد.» تحدث بثقة وهدوء؛ فقد كانت هذه هي طريقة آل هاريجان المعهودة، ووقفَ جيف كوتون وحارسَا المنجم وقد بدت عليهم ملامح الدهشة والإجفال.
قال هال: «شكرًا لك يا بيرسي. هذا ما علمتُ أنك ستقوله. أنا آسف لأنني قاطعتُ حفل عشائك …»
«لا على الإطلاق يا هال؛ لم يكن حفلًا بالمعنى المقصود.»
«كما ترى يا بيرسي، لم يكن الأمر لإنقاذ نفسي فحسب، بل أيضًا لإنقاذ أولئك الأشخاص في المنجم! إنهم يموتون، وكل لحظة تمرُّ هي فرصة ثمينة لا تُقدَّر بثمنٍ. سيستغرق الأمرُ يومًا كاملًا على أقل تقديرٍ للوصول إليهم، ومن ثَمَّ سيكونون في الرمق الأخير. وأيًّا كان الإجراء الذي سيُتَّخَذ، فلا بد من الشروع فيه في الحال.»
انتظر هال مجدَّدًا … حتى باتَ الصمتُ مُربِكًا. كان الحضور لا يزالون يُعلِّقون أنظارهم به، ولكنهم تحوَّلوا الآن بأنظارهم إلى الشاب هاريجان، وشعر الشاب هاريجان بهذا التحوُّل.
«لا أعرف ما تتوقَّعه مني تحديدًا يا هال. إنَّ والدِي يوظِّف رجالًا أكْفَاء لإدارة أعماله، ولا أتصوَّر بالطبع أن لديَّ المعرفة الكافية لإمدادهم بأي اقتراحات.» هذا أيضًا من أساليب عائلة هاريجان، لكنه أظهر ضعفَه أمام نظرة هال الحازمة. وأضاف قائلًا: «ما الذي يمكنني فعله؟»
«يمكنك إصدارُ الأمر بفتح المنجم، وتشغيل مِروحة التهوية. هذا من شأنه أن يسحب الدُّخَان والغازات، ومن ثَمَّ يتمكَّن رجال الإنقاذ من النزول إلى المنجم.»
«ولكني أؤكد لك يا هال أنني لا أتمتع بسلطة إصدار أمرٍ كهذا.»
«يجب أن تتولى السُّلطة. والدُك في الشرق، وموظَّفو الشركة نائمون في أَسرَّتهم في المنازل، وأنتَ هنا!»
«لكنني لا أفهم مثل هذه الأمور يا هال! لا أعرف أيَّ شيء عن الوضع … باستثناء ما تقوله لي. ومع أنني لا أشكُّ في كلامك، فالخطأ واردٌ لأي شخص في موقف كهذا.»
«تعالَ لترى بنفسك يا بيرسي! هذا كلُّ ما أطلبه، وهو أمرٌ في غاية السهولة. لتجعل قطارك، ولا يزال محركُه يعمل، يتَّجِه إلى فرع الشركة في نورث فالي، ويمكننا أن نصل إلى المنجم خلال نصف ساعة. وبعد ذلك، دعني آخذُك إلى الرجال الذين يعرفون كُلَّ شيء! الرجال الذين قضوا حياتهم في العمل داخل المناجم، الذين شهدوا تلك الحوادث مرارًا وتكرارًا، والذين سيُخبرونك بالحقيقة … وهي أن ثمة فرصة لإنقاذ العديد من الأرواح، وأن هذه الفرصة تُهدَر في سبيل الحفاظ على فحمٍ وأخشابٍ وقُضبان تُقدَّر ببعض الآلاف من الدولارات.»
«ولكن حتى إن كان هذا صحيحًا يا هال، فليست لديَّ أي سلطة!»
«إذا ذهبتَ إلى هناك، فيمكنك كسر الحواجز الروتينية في دقيقة واحدة. ما يفعله هؤلاءِ الرؤساءُ هو أمرٌ لا يمكن فِعله إلا في الظلام!»
انهزمَ أسلوب عائلة هاريجان أمام حماسة هال وضغطه؛ إذ تحوَّل ابن ملك الفحم إلى شاب عادي تمامًا مُشوَّش الفِكر. ولكن، كانت هناك قوة أكبر من هال وراءه. ومن ثَمَّ، هَزَّ الشاب رأسه. وقال: «صاحبُ الشركة هو المنوط بالأمر يا هال. ولا يحقُّ لي أن أتدخَّل!»
التفتَ الآخرُ يائسًا إلى بقية الجَمْع. واستقرَّ نظره، الذي كان يُجيله من وجه إلى آخر، على وجه تلك الفتاة الشبيه بما يظهر على أغلفة المجلات، بعينَيها البُنِّيتَين الواسعتَين، والمليئتَين بالعجائب.
«جيسي! ما رأيك في ذلك؟»
أجفلت الفتاة، ووثبَ الحزنُ إلى وجهها. وسألته: «ماذا تعني يا هال؟»
«أخبريه أنَّ عليه أن ينقذ تلك الأرواح!»
بدت اللحظات كأنها دهورٌ بينما كان هال ينتظر ردَّها. كان يدرك أنه اختبار. غضَّت الفتاة عينَيها البُنيتَين لأسفل. وقالت: «أنا لا أفهم في مثل هذه الأمور يا هال!»
«لكني أشرحها يا جيسي! يوجد رجال وفِتيان يختنقون حتى الموت، توفيرًا لبعض الأموال. أليس هذا واضحًا؟»
«ولكن كيف لي أن أعرف يا هال؟»
«أؤكد لكِ يا جيسي. وما كنت لأُناشِدَكم حتمًا لولا أنني أعرفُ أنه أمرٌ مؤكَّد.»
كانت لا تزال متردِّدة. وهنا ظهرت فجأة نبرة من العاطفة في صوته: «جيسي، عزيزتي!»
رفعت الفتاة عينَيها للنظر إليه، وبدت كأنها مَسلوبة الإرادة، ورأى وهَجًا قِرمزيَّ اللون من الإحراج ينتشر على حَلْقِها ووَجنتَيها. قال هال: «جيسي، أعلم أن طلبي يبدو ثقيلًا! ولكنكِ لم يسبِق أن تصرفتِ بوقاحة مع أي من أصدقائكِ. لكني أتذكَّر أنكِ قد نسيتِ ذات مرة أدبَك وأخلاقك ونحَّيْتِهما جانبًا عندما رأيتِ رجلًا غليظ القلب في الشارع يضرب حصانًا عجوزًا مُنهَكًا. ألا تتذكَّرين كيف اندفعتِ نحوه … مثل وحش جامِح! والآن … فكِّري في الأمر يا عزيزتي، هناك مخلوقاتٌ كادِحة مسكينة تُعذَّب حتى الموت، ولكنها ليست خيولًا … بل عُمَّالٌ!»
كانت الفتاة لا تزال تُحدِّق إليه. كان في إمكانه أن يرى الحزن والفزع في عينَيها، رأى الدموع تنهمر منهما، وتسيل على وجنتَيها. صاحت: «أوه، لا أدري، لا أدري!» وأخفت وجهَها بين يدَيها، وأجهشت بالبكاء.