الفصل الرابع عشر
ساد صمتٌ مؤلم. جالَ هال بناظريه بين الحضور، واستقرَّ على سيدة رمادية الشعر ترتدي فستانَ سهرة أسود اللون، ويوجد عِقْدٌ من اللؤلؤ حول عُنقها. وقال: «السيدة كيرتِس! ستنصحينه بالطبع!»
أجفلت السيدة ذات الشعر الرمادي … ألم يكن هناك حَدٌّ لجرأته؟ لقد لاحظت الألم الذي شعرت به جيسي. لكن جيسي كانت خطيبته؛ ولم يكن لديه مثل هذا الحق لطلب شيء كهذا من السيدة كيرتِس. أجابت ببرودٍ شديدٍ: «لا أستطيع أن أُملي على مُضيفي ما يفعله في أمرٍ كهذا.»
«سيدتي كيرتِس! لقد أسستِ جمعية خيرية لمساعدة القطط والكلاب الضالة!» همَّ هال أن يقول هذه الكلمات، لكنه لم ينطق بها. وأخذ يجُول بناظريه مجددًا. مَن غيرهما ربما يساعد في الضغط على هاريجان؟
كان ريجي بورتر يجلس بجانب السيدة كيرتِس، واضعًا وردةً في عروة سترة السهرة التي كان يرتديها. وكان هال يعرف ما يفعله ريجي وسط هذا الجَمْع … شكلٌ من المرافقين الذكور، مُضيف مساعِد، مُعجَب بالأثرياء، سَلوى للمَلُولين. كان ريجي المسكين يعيشُ حياةَ الآخرين، كانت روحُه دائمًا مُتحمِّسة لأفكار الآخرين، للقِيل والقال، ولتحضيرات حفلات الشاي، وللثناء على حفلات الشاي السابقة. لديه روحٌ لا تهدأ؛ ونفسٌ تُجري الحسابات، وتُقدِّر الاحتمالات، وتحاول تعويض قلة المال باللباقة والأناقة. ألقى هال نظرة سريعة على وجهه؛ فوجد أن شُعيرات شاربه الأسود الخفيف قد انتصبَت من فرط تأثُّره … كان ريجي يتوقَّع أن يوجِّه هال إليه سؤاله، وكان قد استعدَّ ليردَّ بالإجابة التي من شأنها أن تزيد من مكانته ورصيده الاجتماعي لدى عائلة هاريجان!
عَبْر الممر، جلست جينيفيف هالسي، بقوامِها الرشيق وقامتها الطويلة الممشوقة كالتمثال. عندما تنظر إليها تُذكِّرك بالإلهة جونو ذات العينَين الكبيرتَين الأشبه بعينَي الثَّوْر، وتُشعرِك بالمهابة، ولكن عندما تعرفُها جيدًا تكتشف أنها بليدة الذهن، ولا يشغلها شيءٌ إلا نفسها. كان يجلس بجانبها بوب كريستون، حليقَ الذقن، مُتورِّدَ الوجنتَين، ينضح بمظاهر الرفاهية … كان مثالًا لما يسمونه «الرفيق الجيد»، بطموحه المحمود للفوز بالكئوس لصالح ناديه الرياضي، والحفاظ على نقاط فريق الرماية المنتمي إليه والتابع لميليشيا الدولة. ربما كان في إمكان جولي بوب أن يتحدَّث بدافعٍ من قلبه الطيب، لكنه كان مُغرَمًا بإحدى قريبات بيرسي، وتُدعَى بيتي جونيسون، وكانت تجلس أمامه على الجهة الأخرى من الطاولة … وقد رأى هال عينَيها السوداوين تلمعان، وقد أحكَمت قبضتَيها الصغيرتَين بقوة، وكزَّت على شفتَيها حتى ابيضَّتَا. كان هال يفهم بيتي … لقد كانت أحدَ أفراد عائلة هاريجان، وكانت تؤدي دورها — الذي يُمثِّل عقيدة راسخة لدى العائلة — في تحويل أطفال بائع مُتجوِّل إلى قادة مؤثِّرين في «مراحل شبابهم القادمة»!
تلت ذلك في ترتيب الجالسين «فيفي» كاس، التي كان حديثُها عن الخيول والكلاب وما إلى ذلك من الأمور التي لا تشغل الفتيات عادةً، وكان هال قد ناقش مسائلَ اجتماعية في حضورها من قبل، وسمع رأيَها الذي عبَّرت عنه بجملة لافتة … حين قالت: «إذا كان المرء يأكل بسكينِه، فإني أعتبره عدوِّي الشخصي!» ومن فوق كتفها أطلَّ وجهُ رجل ذي عينَين شاحبتَين وشارب أصفر … إنه بيرت أتكينز، مُتشائم قد أرهقته الحياة، واحد من هؤلاء الذين كانت تشير إليهم الصحف باسم «رجال النوادي»، والذي وصفه شقيقُ هال بأنه «قِطٌّ أليف». كان هناك أيضًا «ديكي» إيفرسون، الذي كان مثلَ هال يحظَى بحظوة لدى النساء، ولكن لم يكن من شيء آخر يُميِّزه، و«بيلي» هاريس، ابن «رجلِ فحمٍ» آخر، وديزي شقيقته، وبلانش فاجلمان، الذي كان والدُها كبيرَ محامي العجوز بيتر، وشقيقُها هو المستشار المحلي وصاحب صحيفة «بيدرو ستار».
وهكذا جالَ هال بناظريه من وجه إلى آخر، وجالَ بتفكيره من شخصية إلى أخرى. كان الأمر أشبه بفتح لفيفة، استعراض لعالَم كاد ينساه. لم يكن لديه وقت للتفكير، ولكنْ ثمة انطباع باغته، انطباع سريع وغامر. لقد كان يعيش ذات يوم في هذا العالَم وقد اعتادَه. لقد كان يعرفُ هؤلاءَ الناس، ورافقَهم؛ وكانوا يَبدون ودودين، ومتعاونين، أشخاصًا صالحين في العموم. والآن، يا له من تغيير! لم يعودوا يبدون ودودين! هل كان التغيير فيهم؟ أم أنَّ هال هو مَن أصبح مُتشائمًا … إلى درجة أنه رآهم بهذا الصورة الجديدة المرعِبة، والباردة، وغير المبالية كالنجوم التي لا تعبأ بالرجال الذين يموتون على بُعد أميالٍ قليلة منها!
عادَ هال بناظريه إلى ابن ملِك الفحم، ورأى أنه قد استشاطَ غضبًا. إذ قال: «أؤكد لك يا هال، لا فائدة من الاستمرار في هذا. لن أسمح لأحدٍ بأي حال من الأحوال بالضغط عليَّ.»
تحوَّل نظرُ بيرسي بعزمٍ مفاجئ إلى قائد المعسكر. وقال: «كوتون، ما رأيُك في ذلك؟ هل السيد وارنر محقٌّ في تصوُّره عن الوضع؟»
قاطعه هال: «أنت تعرف ما سيقوله رجلٌ مثله يا بيرسي!»
وكان ردُّ بيرسي أنه قال: «لا، لا أعرف. أودُّ أن أعرف. ما الأمر يا كوتون؟»
«إنه مخطئ يا سيد هاريجان.» كان صوتُ القائد قويًّا وجريئًا.
«ماذا تعني؟»
«تبذل الشركة قصارى جهدها لفتح المنجم، وقد كانت تفعل ذلك منذ البداية.»
«أوه!» وكانت ثمة نبرة انتصار في صوت بيرسي. «وما سبب التأخير؟»
«كانت المروحة مُعطَّلة، وكان علينا أن نرسل في طلب إحضار مروحة جديدة. يتطلَّب الأمر الكثيرَ من العمل لتشغيلها … مثل هذه الأمور لا يمكن إنجازُها في غضون ساعة.»
التفتَ بيرسي إلى هال. وقال: «أترى! هناك رأيان في المسألة، على أقل تقديرٍ!»
صاحت بيتي جونيسون، وهي ترمُق هال بعينَيها السوداوَين: «بالطبع!» كانت ستستفيض في الحديث، ولكن هال قاطعها، واقتربَ من مضيفه. قال بصوتٍ منخفض: «بيرسي، ركِّز انتباهَك معي من فضلك. أريدُ أن أقول لك شيئًا على انفرادٍ.»
كانت هناك نبرة تهديدٍ في صوت هال، وقد تحوَّل نظره إلى نهاية العَرَبة، حيث لا يوجد إلا نادلان من الزنوج. تراجعَ النادلان على عجلٍ عندما اتجه الشابان نحوهما، وهكذا، عندما انفرد هال بابن ملِك الفحم، خاضَ معركته الأخيرة معه.