الفصل السادس عشر
لم يعرف هال قطُّ ما قاله بيرسي لكارترايت في تلك الليلة؛ ما عرفه هو أنهما عندما وصلا إلى المنجم، استُدعيَ المشرفُ للتشاور، وبعد نصف ساعة ظهر بيرسي مبتسمًا، ومُعلِنًا أن هال وارنر كان مخطئًا منذ البداية؛ فقد بذلت السلطات في المنجم قصارى جهدها لتجهيز المروحة، بهدف فتح المنجم في أقرب وقتٍ ممكن. لم يكن العمل قد اكتمل، وفي غضون ساعة أو ساعتَين كان من المقرَّر تشغيل المروحة، وبحلول الصباح ستكون هناك فرصة لدخول رجال الإنقاذ إلى المنجم. قال بيرسي هذا ببراءة شديدة إلى درجة أن هال تساءل للحظة عما إذا كان ثمة احتمال بأن بيرسي نفسه ربما لم يكن يصدق ذلك. كان موقف هال بصفته ضيفًا على المكان يتطلَّب — بالطبع — أن يتظاهر بلطفٍ بتصديق ذلك، ويوافق على الظهور بمظهر الأحمق أمام بقية الجَمْع.
دعا بيرسي هال وبيلي كيتينج لقضاء الليلة في القطار، لكن هال رفضَ هذا. وقال إنه كان مُتَّسخًا للغاية، إلى جانب أنه أراد أن يستيقظ في أول النهار، ليكون من أوائل الذين ينزلون إلى بئر المنجم. أجابَ بيرسي بأن المشرف قد اعترضَ على هذا الاقتراح … لم يكن يريد أن ينزل إلى البئر أحدٌ سوى الرجال ذوي الخبرة الذين يمكنهم الاعتناء بأنفسهم. وبينما كان هناك الكثير منهم من المستعدين والمتحمسين للنزول، فلم تكن هناك حاجة إلى تعريض حياة غير المختصين للخطر.
على الرغم من احتمال أن يبدو فظًّا، أعلن هال أنه سوف «ينتظر» ويشاهدهم وهم يرفعون الغطاء عن فتحة المنجم. كانت هناك تجمُّعاتٌ للنحيب في بعض الأكواخ، حيث تتجمَّع النساءُ اللاتي لم يكُنَّ يستطعن النوم، وكان من باب الرحمة أن ينقلوا لهن الأخبار الجيدة.
انطلق هال وكيتينج، وذهبا أولًا إلى عائلة رافيرتي، ورأيَا السيدة رافيرتي تنهضُ وتحدِّق إليهما، ثم تصرخ عاليًا مستنجِدة بالسيدة العذراء، ما أيقظ جميعَ أبناء رافيرتي الصغار على صخبٍ مُروِّع. عندما تأكَّدت المرأة من صحة ما يتحدثان عنه، هرعت لنشر الخبر، وهكذا سرعان ما كانت الشوارع تعجُّ بأشخاصٍ يسرعون الخُطى، وتجمَّع حشدٌ من الناس مجددًا عند فتحة المنجم.
واصل هال وكيتينج جولتهما إلى منزل جيري مينيتي. ومن منطلق الشعور بالولاء لبيرسي، لم يفعل هال شيئًا أكثر من أنه كرَّر ما صرَّح به بيرسي من أن كارترايت كان في نيته طوال الوقت فتح المنجم. كان من الممتع رؤية تأثير هذا الإعلان في الناس … يا لها من نظرة نظرها جيري إلى هال! غير أنهما لم يُضيِّعا أيَّ وقت في المناقشة؛ حيث ارتدى جيري ملابسَه مسرعًا، وهرعَ معهما إلى فتحة المنجم.
من المؤكَّد أن ثمة طاقمًا ما كان يعمل بالفعل على إزالة الألواح والقماش. لم يسبق قطُّ منذ وصول هال إلى نورث فالي أن رأى رجالًا يعملون بمثل هذا العزم! وسرعان ما بدأت المروحة الكبيرة في الحركة، ثم في إصدار صوت هدير، ثم صوت كالغناء، وكان هناك جَمْع من مائة شخص يهدرون ويغنون أيضًا.
كان الأمر يستلزم بضع ساعاتٍ قبل أن يتمكَّنوا من فعل أي شيء آخر، وفجأة أدرك هال أنه مرهَق. فعاد هو وبيلي كيتينج إلى كوخ مينيتي وفرشَا بطانية على الأرض، واستلقَيا متنفِّسَين الصُّعَداء. أما بيلي، فسرعان ما بدأ يَغُطُّ، بينما شعر هال بإرهاقٍ مفاجئ من كل هذه الإثارة، وجفَاهُ النوم.
اجتاحت عقلَه الأفكارُ اجتياحًا؛ ذلك العالَم بالخارج، عالَمه، الذي نبذَه عمدًا لعدة أشهر، والذي اضطر فجأة إلى تذكُّره! ما خطَّط له هذا الصيفَ كان بسيطًا للغاية؛ أن يُغيِّر اسمه، وأن يصبح أحد أفراد طبقة اجتماعية أخرى، أن يعيش حياةَ أفرادِها ويفكِّر فيما يفكِّرون فيه، ثم يعود مرة أخرى إلى عالَمِه ليحكي عن تلك المغامرة الجديدة والمدهشة التي خاضها! لم يَرِدْ قطُّ في باله ذلك الاحتمال، احتمالُ أن يدخُل إلى عالَمه، عالم هال وارنر، بصفته جو سميث، مساعِد عامِل المنجم. كان كاللص، الذي يفعل شيئًا في الظلام، وبينما هو كذلك يجد الغرفة فجأةً وقد سطعت بالضوء.
شرعَ في مغامرته، وقد كان يتوقَّع أن تصادفه أمورٌ من شأنها أن تصدمه؛ فقد كان يعلم أنه بطريقة أو بأخرى، في مكانٍ ما، سيتعيَّن عليه محاربة «النظام». لكنه لم يتوقَّع قطُّ أن يجد نفسه في خضم هذه الحرب الطَّبَقِية، يقود هجومًا على خنادق رفاقه. وقد علم أنَّ هذه لم تكُن النهاية؛ فهذه الحرب لن يحسمها الانتصارُ على أحد الخنادق! كان هال يدرك، وهو يرقُد هنا في الظلام والصمت، ما الذي زجَّ بنفسه فيه. ولنُعبِّر عن الأمر بتشبيه آخر، فقد كان مثل رجلٍ اعتاد مغازلة النساء في الشوارع، وفجأة يستيقظ في صباح اليوم التالي ليجد نفسه وقد أصبحَ رجلًا مُتزوجًا.
لم يكُن الأمرُ أنه شعرَ بالندم على المسار الذي اتخذه مع بيرسي. فلم يكن في الإمكان التفكير في أي مسارٍ آخر. ولكن بينما عرف هال أهلَ نورث فالي هؤلاء لمدة عشرة أسابيع، فقد عرف الجَمْعَ الموجود في عربة بيرسي لسنواتٍ عديدة. ومن ثَمَّ فقد كانت هذه الشخصيات الأخيرة تَشغَل وعيَه بشكلٍ أكبر، وهنا في الظلام كانت أفكارُهم عنه، سواء أكانت أفكارًا معادية تمامًا أو ولَّدتها الدهشة ليس إلا، قد فرضت حصارًا على دفاعات عقله.
وجدَ نفسَه يتصارع، على وجه الخصوص، مع جيسي آرثر. ظهر وجهُها أمامه، مُتوسِّلًا، مشتاقًا. كان وجهُها من تلك الوجوه المثالية، التي تأسِر الروح فلا يستطيع المرءُ مقاومتها. كانت عيناها البُنِّيَّتان ناعمتَين، ومُشرقتَين، ومليئتَين بالحنان، وشفتاها سرعان ما تختلجُ بالعاطفة، وبشرتها مثل أزهار التفاح، وبشعرها مسحة كمسحة غُبار النجوم! كان هال ناقمًا بشدة على أصحاب المناجم وحُرَّاسها، لكنه لم يخطر بباله قط أن روح جيسي قد تعكس شيئًا بخلاف هذه المفاتن الجسدية. كان مُغرَمًا بها، وكان صغير السن للغاية، عديم الخبرة في الحب، حتى إنه لم يكن ليدرك أن وراء صبوة الفتاة الحلوة هذه، الشديدة الصفاء والمحبوبة للغاية، قد تكمن عميقًا قسوةٌ لا واعية، موروثة وغريزية … قسوةُ طبقتِها الاجتماعية، قسوة التحيُّز الدنيوي. لا بد للمرء أن يصل إلى منتصف العمر، ويعاني كثيرًا قبل أن يفهم أن مفاتن النساء، أوجه الجمال النادرة والساحرة للعيون والأسنان والشعر، ونعومة البشرة ودقة الملامح، تكلف الكثير من العمالة والعناية على يد عدة أجيال، وتعني حتمًا أن الحياة لطالما كانت وحشية قاسية، وأن تلك العادات والأعراف لطالما كانت مُهلِكة وغير إنسانية.
خذلت جيسي هال في أزمته الطارئة اليائسة. لكنه الآن قد استرجعَ المشهدَ، وأخبر نفسَه أن الاختبار كان غيرَ عادل. لقد عرفها منذ أيام الطفولة، وأحبَّها، ولم يكن قد رأى منها قبل ذلك فِعلًا أو سمع منها كلمة إلا واتَّسمت بالتهذيب واللطف. ولكن … هكذا قال لنفسه … إنها كانت تتعاطف مع مَن تعرفهم؛ ولكن كيف كانت ستُتاح لها الفرصة للتعرُّف إلى العُمَّال؟ يجب أن يعطيها تلك الفرصة، يجب أن يُجبِرها، حتى ولو ضد إرادتها، على توسيع فهمها للحياة! قد يؤذيها ما ستخوضه خلال ذلك، وقد يُفسد على وجهها نعومته الظاهرية، ولكنه سيكون مفيدًا لها … سيكون «ألم النضج»!
هكذا وجد هال نفسه، في أثناء استلقائه في الظلام والصمت، مستغرِقًا في محادثة طويلة مع حبيبته. اصطحبَها في أرجاء المعسكر، يشرح لها الأمور، ويُعرِّفها على هذا وذاك. وأخذَ آخرين من أصدقائه، الذين اعتاد التجوُّل معهم بسيارته الخاصة، وعرَّفهم بأصدقائه من نورث فالي. كان بينهم أشخاصٌ يشتركون في بعض الصفات، ومن المؤكَّد أنهم كانوا سينسجِمون معًا! بوب كريستون، على سبيل المثال، الذي يجيد «الغناء والرقص» … من المؤكَّد أنه سيكون مهتمًّا ﺑ «بلينكي»، مختص العروض المسرحية المتنوعة في المعسكر! والسيدة كيرتِس، التي تحبُّ القطط، ربما كانت ستُكوِّن رابطة أُخُوَّة مع السيدة ناجل العجوز، التي كانت تعيش في المنزل المجاور لمينيتي مع قططها الخمسة! وحتى فيفي كاس، التي تكره الرجال الذين يأكلون بسكاكينهم … ربما ستراودها أفكارٌ عن ارتكاب جريمة قتل عندما ترى آداب المائدة المتَّبَعة في نُزُل ريمينيتسكي، لكنها ستكون سعيدة برؤية «تشارلي الإيطالي»، البغل الذي يمضغ التَّبغ، والذي كان حيوان هال الأليف ذات يومٍ! لم يكن في وسع هال الانتظار حتى الصباح كي يبدأ محاولاته لتحقيق هذا الاندماج الاجتماعي!