الفصل التاسع عشر
بعد إتاحة الوقت الكافي للمجموعة في عربة الطعام للانتهاء من تناول وجبة الإفطار، ذهب هال إلى السكة الحديدية، وأرسلَ الحمَّالَ إلى بيرسي هاريجان ليُخبره أنه في انتظاره. كان يأمل أن يُقنع بيرسي بأن يرى القرية دون أن يصطحب معه حُرَّاسه؛ فقد استاءَ لما سمعه عن أن المجموعة قد قررت المغادرة بعد بضع ساعات.
قال مُحتجًّا: «لكنك لم ترَ شيئًا على الإطلاق!»
أجاب الآخر: «لن يسمحوا لنا بدخول المنجم. ما الذي يمكننا فعله غير ذلك؟»
«كنت أريدك أن تتحدَّث إلى الناس وتعرف شيئًا عن الأحوال هنا. يجب ألا تُفوِّت هذه الفرصة يا بيرسي!»
«لا بأس يا هال، ولكن عليك أن تفهم أن هذا ليس وقتًا مناسبًا. معي الكثير من الأشخاص، ولا يحقُّ لي أن أطلبَ منهم أن ينتظروا.»
«ولكن، ألا يمكنهم أيضًا أن يتعلَّموا شيئًا يا بيرسي؟»
كان الرد: «السماءُ تمطر. ولن يروق للسيدات أن يقفن وسط الحشد ويرَين الجُثث وهم يخرجونها من المنجم.»
شعر هال بالتوبيخ. أجل، لقد أصبح قاسيًا منذ مجيئه إلى نورث فالي؛ لقد فقدَ رهافة حِسِّه، ذلك الإدراك الحَدْسي لمشاعر السيدات، الذي كان بالتأكيد سيُظهره في فترة ليست بالبعيدة من حياته. كان الحادث قد أثار حماسته؛ فقد كان للأمر مَحْمَله الشخصي لديه، وغابت عن ذهنه حقيقة أن السيدات ضيفات هاريجان لم يكُنَّ يرين من المشهد إلا تفاصيله القذِرة المثيرة للاشمئزاز. إذا خرجن وسط الطين والمطر في قرية التعدين ووقفن يحدِّقن إلى المكان، فلم يكن ما سيشعرن به هو التعاطف الإنساني، بل الفضول فحسب. كان من شأن المَشَاهد التي كن سيرَينها أن تصدِمهن، ولكنها لن تؤدي بهن إلى فعل شيء، بالإضافة إلى أنهن سيُعرِّضن أنفسهن إلى الدعاية المزعجة. أما بالنسبة إلى إظهار التعاطف تجاه الأيتام والأرامل، فقد كان معظمهن من الأجانب، اللاتي لم يكُن من سبيل لأن يفهمن ما سيُقال لهن، واللاتي ربما يشعرن بالحرج — وليس بالعون والمساعدة — من تدخُّل أشخاصٍ من عالَم غريب في أحزانهن.
لقد اختزلت الحضارةُ، التي ساعد هؤلاء السيدات في الحفاظ عليها، مسألةَ إظهار التعاطف في نظام محدَّد، وتصادفَ أن كان من بين الحاضرين شخصٌ على دراية بهذا النظام. فكما أخبر بيرسي هال، كانت السيدة كيرتِس قد تصرَّفت بالفعل؛ فقد وزَّعت أوراقَ اشتراك، وفي بضع دقائق كانت قد جمَّعت أكثر من ألف دولار. وكانت هذه الأموال ستُدفع بشيك إلى «الصليب الأحمر»، الذي كان وكلاؤه يعرفون كيفية توزيع مثل هذه الإعانات على المتضرِّرين. هكذا شعر ضيوفُ بيرسي أنهم فعلوا اللائق وبلباقة، وأن في إمكانهم المغادرة بضميرٍ مطمئنٍّ.
قال ابنُ ملك الفحم: «لن يتوقَّف العالَم لمجرد وقوع حادث في أحد المناجم. للناس التزاماتٌ يجب أن يحافظوا عليها.»
وشرعَ بيرسي في توضيح هذه الالتزامات. هو نفسه كان لديه موعدٌ على العشاء في ذلك المساء، ولم يكن ليتمكَّن من اللحاق به. وكان على بيرت أتكينز أن يلعب مباراة تحدٍّ في البلياردو، وكان على السيدة كيرتِس حضور اجتماع لجنة النادي النسائي. كما أنَّ هذا اليوم هو الجمعة الأخيرة في الشهر؛ هل نسي هال ما يعنيه ذلك؟
بعد لحظة تذكَّر هال … «ليلة الشباب» في النادي الريفي! باغته تصوُّر مفاجئ لمنزلٍ أبيض على طراز منازل الحقبة الاستعمارية على جانب الجبل، بأبوابه ونوافذه المفتوحة على مِصراعَيها، ونغمات الأوركسترا تنبعث منها. وتظهر في قاعة الرقص السيداتُ الشابات من ضيوف بيرسي … ومن بينهن حبيبتُه جيسي … مُرتديةً الشيفون الشفَّاف والحرير، ويحيطها رذاذُ العطر، والألوان، والموسيقى. كن يضحكن ويثرثرن، ويتغزَّلن ويخطِّط كلٌّ منهن للاستحواذ على قاعة الرقص … بينما هنا في نورث فالي، كانت الأرامل المنتحِبات يُعانقن جثثَ أزواجهن المشوَّهة بأذرعهن! كم بدا هذا غريبًا، وكم بدا مُروِّعًا! كم كانت المشاهد تشبه تلك التي قرأ عنها في وصف أحداث عشية الثورة الفرنسية!