الفصل الحادي والعشرون
ذهب هال إلى عربة الاستقبال. كانت هناك السيدة كيرتِس وريجي بورتر، يلعبان لعبة البريدج مع جينيفيف هالسي والشاب إيفرسون. وكان بوب كريستون يتبادل أطرافَ الحديث مع بيتي جينيسون ويُخبرها بما رآه في الخارج بلا شكٍّ. كان بيرت أتكينز يتصفَّح جريدة الصباح، مُتثائِبًا. واصل هال البحثَ عن جيسي آرثر، ووجدَها في إحدى مقصورات العربة، تنظر من النافذة التي تناثرت عليها زخَّاتُ المطر … وتجول بناظريها متفقِّدةً معسكر التعدين كما يليق بامرأة شابة من طبقتها الاجتماعية.
توقَّع أن يجدها مُضطَرِبة الذهن، وكان مستعدًّا للاعتذار. ولكن عندما رأى نظرة الضيق التي ارتسمت في عينَيها، لم يعرف من أين يبدأ تحديدًا. حاول التحدُّث برباطة جأشٍ، لقد سمع أنها ستغادر. لكنها أمسكتْ بيده، وصاحت قائلة: «هال، ستأتي معنا!»
لم يُجِبْ للحظة، ولكنه جلسَ بجانبها. وسألها: «هل جعلتُكِ تُعانين كثيرًا يا جيسي؟»
رأى الدموعَ تتدفَّق في عينيها. وقالت: «ألم تعلم أنك كنت تؤذيني؟ لقد أتيتُ إلى هنا ضيفةً لبيرسي، فوجدتُكَ تستجوبني! ماذا كان عليَّ أن أقول؟ ماذا أعرف عن الطريقة التي يجب أن يدير بها السيدُ هاريجان أعماله؟»
قال بتواضعٍ: «أجل يا عزيزتي. ربما لم يكن من المفترض أن أزج بكِ في الأمر. لكنه كان مُعقَّدًا جدًّا ومفاجئًا للغاية. هل يمكنكِ تفهُّم ذلك، وأن تُسامحيني؟ لقد سار كلُّ شيء على ما يُرام!»
لكنها لم تعتقد أنَّ كلَّ شيء سار على ما يرام. وقالت: «أولًا، أكتشفُ أنك هنا، في مثل هذه المحنة! بينما كنت أحسبُكَ تصطاد الماعزَ الجبلي في المكسيك!»
لم يستطِع أن يمنع نفسَه عن الضحك، لكن جيسي لم تستطع حتى أن تبتسم. «ثم … أن تزجَّ بحُبِّنا في الأمر، أمام الجميع!»
«هل أزعجكِ هذا حقًّا يا جيسي؟»
نظَرَتْ إليه في ذهولٍ. كيف يمكن له، وهو هال وارنر، أنْ يصلَ إلى هذا الحَدِّ، ألا يدرك كم كان ما فعله فظيعًا! أن يضعها في موقفٍ يتحتَّم عليها فيه إما أن تنتهك قوانين الحب، وإما أن تنتهك قوانين تربيتها الجيدة! عجبًا، لقد وصلَ الأمرُ إلى حَدِّ الشجار العام. سيُصبح حديثَ المدينة … ولن تكون هناك نهاية للإحراج الذي تسبَّب فيه!
قال هال: «لكن يا حبيبتي! حاولي أن ترَي حقيقة الأمر … فكِّري في هؤلاء الأشخاص المحبوسين في المنجم. عليكِ حقًّا أن تفعلي ذلك!»
نظرت إليه، ولاحظت الخطوط العابِسة التي ظهرت مؤخرًا على وجهه اليافع. كما أنها لاحظت نبرة العاطفة المكبوتة في صوته. كان شاحبًا ومرهَقًا، ويرتدي ملابس قذِرة، وغير مصفَّف الشعر، ووجهُه نصفُ مغسول. كان الأمرُ مرعبًا … كما لو كان قد ذهبَ إلى الحرب.
أصرَّ قائلًا: «اسمعي يا جيسي. أريدُكِ أن تعرفي هذه الأشياء. إذا أردنا أنا وأنتِ أن يُسعِدَ كلٌّ منا الآخر، فيجب أن تُحاولي أن تنضجي معي. لهذا كنت سعيدًا بوجودكِ هنا … ستكون لديكِ الفرصة لترَي بنفسكِ. الآن أطلبُ منكِ ألا تغادري دون أن تشاهدي.»
«لكني يجب أن أذهب يا هال. لا أستطيع أن أطلبَ من بيرسي هاريجان البقاءَ وإزعاجَ الجميع!»
«يمكنكِ البقاءُ من دونه. يمكنكِ أن تطلبي من إحدى السيدات مرافقتكِ.»
نظرت إليه في فزعٍ. وقالت: «عجبًا يا هال! يا له من شيء تقترحه!»
«لِمَ العجب؟»
«فكِّر فيما سيبدو عليه الأمر!»
«لا أستطيعُ أن أفكِّر كثيرًا في المظاهر يا عزيزتي …»
قاطعته: «فكِّر فيما ستقوله أمي!»
«لن يروق لها ذلك، أعرفُ …»
«سوف تغضب! لن تسامح أيًّا منا أبدًا. ولن تسامح أبدًا أيَّ شخص يبقى معي. وماذا سيقول بيرسي لو أنني بعد أن أتيتَ هنا ضيفةً له بقيتُ لأتجسَّس عليه وعلى والده؟ ألا ترى كم سيكون الأمرُ منافيًا للعقل ومستحيلًا؟»
نعم، كان يرى. كان يتحدَّى جميعَ أعراف عالَمها، وبدا لها هذا ضربًا من الجنون. قبضَتْ على يدَيه، وسالت الدموعُ على وجنتَيها.
صرخت: «هال، لا أستطيعُ أن أترككَ في هذا المكان المروِّع! أنت تبدو كالشبح، وكالفزَّاعة أيضًا! أريدُكَ أن تذهبَ وتحصلَ على بعض الملابس اللائقة، وأن تعود إلى الديار على متن هذا القطار.»
لكنه هَزَّ رأسه بالرفض. وقال: «هذا غير ممكن يا جيسي.»
«لِمَ لا؟»
«لأن لديَّ واجبًا عليَّ القيام به هنا. ألا تفهمين يا عزيزتي؟ طوال حياتي، كنت أعيش على عمل عُمَّال مناجم الفحم، ولم أتكبَّد من قبل العناءَ للاقتراب من واقع حياتهم، لأرى كيف كانت تأتي أموالي!»
«ولكن يا هال! هؤلاءِ ليسوا عُمَّالك! إنهم عُمَّال السيد هاريجان!»
قال: «نعم، ولكن الأمر كله سواء. إنهم يكدحون، ونحن نعيش على كدحهم، ونعتبره أمرًا طبيعيًّا.»
«ولكن ما الذي يمكننا فعله حيال ذلك يا هال؟»
«يمكننا أن نتفهَّمه، إن لم يكن بيدِنا أن نفعل شيئًا آخر. وأنتِ ترَين ما كان في استطاعتي أن أفعله في هذه الحالة … أن أجعلهم يفتحون المنجم.»
صرخت قائلة: «هال، لا أستطيع أن أفهمك! لقد أصبحتَ شديدَ التشاؤم، لم يعُد في استطاعتك أن تثقَ بأحدٍ! وأصبحتَ مقتنِعًا تمامًا بأنَّ هؤلاء المسئولين قد تعمَّدوا قتل العاملين لديهم! كما لو أنَّ السيد هاريجان كان سيَدَع مناجمه تُدار بهذه الطريقة!»
«السيد هاريجان يا جيسي؟ لقد جمعَ التبرعات في كنيسة القديس جورج! هذا هو المكان الوحيد الذي رأيتِه فيه، وهذا كلُّ ما تعرفينه عنه.»
«أعرفُ ما يقوله الجميع يا هال! أبي يعرفه، وإخوتي … نعم، وأخوك أيضًا! أليس صحيحًا أنَّ إدوارد لن يوافق على ما تفعله؟»
«بلى يا عزيزتي، أخشى ذلك.»
«وتُعارِضه … تعارض كلَّ مَنْ تعرفه! أمِن المعقول أن تعتقد أنَّ الكبار جميعهم مُخطئون، وأنت وحدك على صواب؟ أليس من الممكن على الأقل أن تكون مخطئًا؟ فكِّر في ذلك … صِدْقًا يا هال، من أجلي!»
كانت تنظر إليه مُتوسِّلة، وانحنى إلى الأمام وأمسكَ بيدها. ثم قال بصوتٍ مرتجِف: «جيسي، أعرفُ أنَّ هؤلاء العُمَّال مَقموعون، أعرفُ ذلك جيدًا؛ لأنني كنت واحدًا منهم! وأعلم أن رجالًا مثل بيتر هاريجان، وحتى أخي، مُذنبون! وأنه يجب أن يواجههم أحد … يجب أن يفتح أعينهم! لقد جئتُ لأرى الأمر عن قرب هذا الصيف … هذه هي المهمة التي يجب أن أقوم بها!»
كانت تُحدِّق إليه بعينَيها الجميلتَين الواسعتَين، الممتلئتَين بالرفض والفزع، كانت مُرتعِبة من هذا المجنون الذي أحبَّته. صاحت: «سوف يقتلونك!»
«لا يا عزيزتي … لا داعي للقلق بشأن ذلك … لا أعتقدُ أنهم سيقتلونني.»
«لكنهم أطلقوا النار عليك!»
«لا، لقد أطلقوا النار على جو سميث، مساعِد عامِل المنجم. لن يُطلقوا النار على ابن مليونير … هذا لا يحدث في أمريكا يا جيسي.»
«ولكن في إحدى الليالي المظلمة …»
قال: «لا تُرهقي نفسك بالتفكير، لقد ورَّطتُ بيرسي في الأمر، والجميعُ يعرف ذلك. من المستحيل أن يقتلوني دون أن تظهر القصة بأكملها إلى العَلن … ولذا، فإنني في أمان كما لو كنت في سريري في المنزل!»