الفصل الرابع والعشرون
وقف هال لحظاتٍ يُفكِّر. فُوجِئَ بحدوث أشياء كهذه على الرغم من وجود قطار بيرسي هاريجان في القرية. كان يفكِّر فيما إذا كان ينبغي له الذهاب إلى بيرسي، أو ما إذا كان التلميح إلى كوتون أو كارترايت لن يكون كافيًا.
قال بصوتٍ هادئ: «يا ماري، لا داعي للقلق إلى هذا الحَدِّ. يمكننا الوصول إلى أسلوبٍ أفضل في التعامُل مع النساء، أنا متأكد.»
غير أنها استمرت في البكاء. وقالت: «ماذا يمكنك أن تفعل؟ إنهم يفعلون ما يريدون!»
قال هال: «لا. الأمر مختلفٌ الآن. صَدِّقيني … ثمة شيءٌ يمكن فعله. سوف أتقدَّم وأتحدَّث مع جيف كوتون.»
انطلقَ نحو الباب، ولكنه سمعَ صرخة: «هال!» كان صوتُ جيسي، التي كاد أن ينساها وسط غضبه المفاجئ من رؤساء العمل.
استدار استجابةً لاحتجاجها، ونظر إليها ثم نظرَ إلى ماري. ورأى يدَي الأخيرة تسقطان من على وجهها الملطَّخ بالدموع، وتحوَّل تعبيرُها عن الألم إلى تعبيرٍ عن التعجُّب. «هال!»
قال مسرعًا: «معذرةً. آنسة بيرك، هذه صديقتي الآنسة آرثر.» ثم أضافَ، غير متأكد تمامًا مما إذا كان هذا تقديمًا مُرضيًا، قائلًا: «جيسي، هذه صديقتي ماري.»
لم تكن تربية جيسي الجيدة لتخذلها في أي موقفٍ طارئ. ومن ثَمَّ ابتسمت بكل أدبٍ وقالت: «آنسة بيرك.» لكن ماري لم تقل شيئًا، ولم يفارق التوتُّر وجهَها.
كادت في خِضَم غضبها ألا تلاحظ تلك الغريبة، لكنها حدَّقت إليها الآن، وبدأت تدرك الموقف. كانت فتاة، جمالها من النوع الذي يصعب تصوُّر وجوده في معسكر للتعدين، مُحتشِمة، ولكن من الواضح أن ملابسها كانت باهظة الثمن … حتى مع مِعطَف المطر والحذاء المطاطي اللذَين كانت ترتديهما. اعتادت ماري رؤية فساتين السيدة أوكالاهان الباهظة الثمن، لكن ها هو نوعٌ جديد من الملابس الباهظة الثمن، راقٍ وساحر، وغير متكلَّف بشكلٍ غريبٍ. وتتحدَّث بعَشَمٍ إلى جو سميث، مساعِد عامِل المنجم! وتناديه باسم غير معروف حتى الآن لرفاقه في نورث فالي! لم يكن الأمر بحاجة إلى كلمة من جيري الصغير لتدرك ماري الأمر بغريزتها؛ عرفَتْ على الفور أنها كانت «الفتاة الأخرى».
أدركت ماري فجأة أنها كانت ترتدي فُستانًا قطنيًّا أزرق، مُرقَّع عند الكتف وملطَّخ ببُقع الشحم، وأن يديها كانتا كبيرتَين وخشِنتَين من أثر العمل الشاق، وأن قدمَيها كانتا تنتعلان حذاءً قد بليَ جانب كعبِه ويوشك على الانقطاع عند موضع أصابع القدم. أما جيسي، فقد كانت هي الأخرى تمتلك غريزة المرأة؛ حيث رأت فتاة جميلة، من ذلك النوع من الجمال الذي لم يرُق لها، ولكنها لم تستطع إنكاره … جمال تُكسِبه الصحة القوية، جمال حيواني مُفعَم بالحيوية. لم تكن جيسي تجهل طبيعة مفاتنها، فقد تربَّت جيدًا للعناية بها، كما كانت تدرك جيدًا عيوبَ الفتاة الأخرى … الفستان المرقَّع والمُشحَّم، واليدان الكبيرتان الخشنتان، والحذاء الذي قد بلي جانبُ كعبه. ولكن على الرغم من ذلك، أدركت أن ﻟ «ماري الصهباء» صفة كانت تفتقر هي إليها … وهي أنها ربما بدت هي، جيسي آرثر، بجانب هذه الوردة البرية في معسكر التعدين، زهرة من زهور الحدائق، هَشَّة وعديمة الروح.
لقد رأت هال يضع يَدَه على ذراع ماري، وسمعَتْها تتحدَّث إليه. كانت تدعوه جو! ووثب خوفٌ مفاجئ في قلب جيسي.
كانت جيسي آرثر، مثل العديد من الفتيات اللاتي تربَّين على أن يكُنَّ لطيفاتٍ، تعرف أكثر مما يمكنها التصريح به، حتى لنفسها. كانت تعرف ما يكفي لتدرك أنَّ الشباب الذين يَنعمون بالمُتَع الوفيرة والرفاهية ليسوا دائمًا قدِّيسين وزاهدين. كما سمعتْ عدة مرات الإشارةَ إلى نساء الطبقات الدنيا باعتبارهن «عديمات الأخلاق». ماذا يعني هذا الوصف حقًّا؟ ماذا سيكون سلوكُ فتاة مثل ماري بيرك … مُفعَمة بالحماس والانفعالية، وغير راضية عن نصيبها في الحياة … مع رجل مثقَّف وساحر مثل هال؟ ستشتهيه بالطبع؛ فلا تعرفه امرأةٌ إلا واشتهته. وستُحاول إبعاده عن أصدقائه، وعن العالَم الذي ينتمي إليه، وعن المستقبل المليء بالسعادة والراحة الذي في انتظاره. لا بد أنها تمتلك الوسائلَ التي تستطيع بها فعل ذلك … وسائل مظلِمة ومرعبة، مما يزيد من رعب جيسي؛ لأنها كانت وسائل غامضة. هل قد تتمكَّن بها من التغلُّب حتى على عيوبها من فستانها القطني القذِر، ويديها الكبيرتَين الخشنتَين وحذائها الذي بليَ جانبُ كعبه.
خطرت هذه الأفكارُ، التي كانت تتطلَّب الكثير من الكلمات لشرحها، على ذهن جيسي في لمح البصر. وفهمت الآن، فجأة، الظاهرة التي بدت غير مفهومة … وهي أن يترك هال أصدقاءَه ومنزله وحياته المهنية، ويأتي ليعيشَ وسط هذه القذارة والمعاناة! رأت المعاناة القديمة لروح الإنسان، التنافُس بين الفردوس والجحيم من أجل السيطرة على روحه، وعرفت أنها كانت الفردوس، وأن «ماري الصهباء» كانت الجحيم.
نظرت إلى هال. وبدا لها عاقلًا وصادقًا؛ كانت أمارات الصراحة ظاهرةً على وجهه، كان الاستقامة ذاتها. كلا، كان من المستحيل أن تُصدِّق أنه قد استسلم إلى مثل هذا الإغراء! لو كان الأمرُ كذلك، ما كان ليُحضِرها قطُّ إلى هذا الكوخ؛ ما كان ليدع فرصةً للقائها بالفتاة. كلَّا، لكنه ربما كان يقاوم إغراءَها، ربما كان يكدح في ذلك، ولا يدركه تمامًا. لقد كان رجلًا، ومن ثَم أعمى؛ لقد كان حالِمًا، وسيبدو هذا دأبه؛ أن ينظر إلى هذه الفتاة باعتبارها مثالية، ويصفها بالساذجة والبراءة، مُعتقِدًا أنها لا تعرف حيلَ الخداع! لقد جاءت جيسي في الوقت المناسب لإنقاذه! وستقاتل لإنقاذه … مُستخدِمة حيلًا أكثر دهاءً من تلك التي تمتلكها أي فتاة وقِحة في معسكر للتعدين!