الفصل الأول
كانت حفرة الموت تكشف عن أسرارها. كانت الرافعة تعمل بلا كللٍ، وكان المصعد يخرج بحمولة تِلوَ الأخرى، بجثثٍ، وأجسادٍ حية، وأجساد لم يكن في الإمكان الحكم على حالتها إلا بعد أن ضخَّت الآلات الهواء فيها بعض الوقت. وقف هال تحت المطر وشاهد الحشد، وفكر في أنه لم يشهد قطُّ مشهدًا مثيرًا للشفقة والرعب بهذا القدر. يا له من صمتٍ كان سيسود عند ظهور أي شخص قد يحمل خبرًا! يا لها من صرخة ألمٍ مباغتة انطلقت من امرأة انهارت آمالها فجأة! يا لها من أنَّات تعاطُفٍ تردَّدت بين الحشد، بالتناوب مع هتافاتٍ لبعض الأخبار السارَّة، هزَّت نفوس الجمع كعاصفة ريحٍ تهزُّ حقلًا للقصب!
ويا لها من قصصٍ تردَّدت في المعسكر … آتية من العالَم السفلي … قصص معاناة لا تُصدَّق، بل وبطولات تفوق الوصف! رجال ظلُّوا أربعة أيام دون طعامٍ أو ماء، لكنهم قاوموا إخراجهم من المنجم مُفضِّلين البقاء والمساعدة في إنقاذ الآخرين! رجالٌ استلقوا معًا في الظلام والصمت، واستطاعوا البقاءَ على قيد الحياة بالمياه التي تسرَّبت من الصخور فوقهم، متناوبين على الاستلقاء رافعي الرءوس حيث كانت تسقط القطرات، أو مبلِّلين قطعًا من ملابسهم وماصِّين نداوتها! كان أعضاء من فرق الإنقاذ يحكون كيف كانوا يطرقون الحواجز، ويسمعون إشارات استجابة خافتة من الرجال المُحاصَرين، وكيف جاهدوا جهادًا محمومًا حتى ظهرت فجوة صغيرة في النهاية، وسمعوا هتافات الفرح ورأَوا عيون الرجال تلمع في الظلام، وهم ينتظرون، لاهثين، أن تتسع الفجوة، كي يتمكَّن فريقُ الإنقاذ من تمرير الماء والطعام إليهم!
في بعض الأماكن كانوا يكافحون النيران. شُوهِدَت طوابير طويلة من خراطيم المياه تُدلى إلى أسفل، وكان الرجال يتقدَّمون مسافة قدمٍ بعد أخرى، بينما كان الدخان يُسحَب من أمامهم بواسطة المروحة. أولئك الذين قاموا بهذا العمل كانوا يحملون حياتهم على أكُفهم، ولكنهم أدَّوا مهمَّتهم دون تردُّد. كان الأمل موجودًا دائمًا في العثور على رجالٍ في الغرف الموصَدة الواقعة على مسافة أبعد.
بحث هال عن جيف كوتون عند مدخل غرفة المَقْلَب، التي تحوَّلت إلى مستشفًى مؤقَّت. كانت هذه هي المرة الأولى التي يلتقي فيها الاثنان منذ انكشاف شخصية هال في سيارة بيرسي، وكان وجه قائد المعسكر قد خطَّت فيه ابتسامة تنمُّ عن ارتباكٍ. قال: «حسنًا يا سيد وارنر، لقد ربِحتَ.» وبعد قليلٍ من الجدال وافقَ على السماح لبعض النساء بالذهاب إلى غرفة المَقْلَب، وإعداد قائمة بالجرحى والخروج وإذاعة الأخبار للجَمْع. ذهب هال إلى عائلة مينيتي ليطلب من ماري بيرك المشاركة في هذا الأمر، لكن روزا قالت إن ماري قد خرجت خلفه بعدما غادرت الآنسة آرثر، ولا يعرف أحدٌ مكانها. لذلك ذهب هال إلى السيدة ديفيد، التي وافقت على جلب بعض صديقاتها وتنفيذ المهمة، دون تشكيل أي «لجنة». أعلن قائدُ المعسكر: «لا أريدُ أن أسمع عن أي لجان لعينة!»
وهكذا مرَّت الليلة، وجزءٌ من يومٍ آخر. جاء موظف من المكتب إلى هال ومعه ظرف مختوم، يحتوي على برقية، موجَّهة إلى عناية كارترايت. «أتوسَّل إليكَ بشدة أن تعود إلى المنزل في الحال. سيكون الأمر مفجعًا لأبي إذا سمع بما حدث، وسيكون من المستحيل إخفاءُ الأمر عنه فترة طويلة.»
وبينما كان هال يقرأ، عبس وجهه؛ من الواضح أن آل هاريجان قد اتخذوا ردودَ أفعال فورية! ذهب إلى المكتب وأوصلَ ردَّه عبر الهاتف. «أنوي المغادرة في غضون يوم أو يومَين. أنا على ثقة بأنك ستحاول ألَّا يعرف أبي الأمر حتى تسمع روايتي.»
أزعجت هذه الرسالة هال. وجعلته يفكِّر في جدالاتٍ طويلة مع شقيقه وتوضيحاتٍ واعتذاراتٍ لوالِده. لقد أحبَّ أباه حُبًّا جمًّا. يا له من عارٍ إذا جعل أحد مبعوثي عائلة هاريجان يُزعجه بادعاءاتٍ مغلوطة!
كما كان من شأن هذه الأفكار أن تُشعِر هال بالحنين إلى الوطن؛ فقد ذكَّرته على نحوٍ أكثر وضوحًا بالعالَم الخارجي، بإغراءاته المادية … فثمة حَدٌّ لما يستطيع الشخصُ الراقي أن يُجبِر نفسه على تحمُّله من الوجبات غير الصحية والأَسِرَّة القذرة والمناظر المثيرة للاشمئزاز. وجد هال نفسه مُستغرقًا في تخيُّل غرفة طعام النادي، وروائح شرائح اللحم المشوية واللفائف الساخنة، وألوان السلطات والفواكه الطازجة والقشدة. نمت قناعة مفاجئة داخله بأن عمله في نورث فالي كان يوشك على الانتهاء!
مرَّت ليلةٌ أخرى، ويوم آخر. وأُخرِجَت آخِر الجثث، وشُحِنَت إلى بيدرو لإقامة إحدى تلك الجنازات الجماعية التي كانت من سِمات حياة المناجم. أُخمدَت النيران، وأفسحت أطقم الإنقاذ المكانَ لسربٍ من النجَّارين والحطَّابين لإصلاح الأضرار وتأمين المنجم. رحل الصحفيون، وصافح بيلي كيتينج يدَ هال، ووعده بلقائه لتناول الغداء في النادي. وحضر أحدُ وكلاء «الصليب الأحمر»، وكان يُطعِم الجياعَ من تلك التبرعات التي جمعتها السيدة كيرتِس. ماذا كان في إمكان هال أن يفعله أكثر من ذلك … سوى أن يودع أصدقاءَه، ويؤكِّد لهم أنه سيساعدهم في المستقبل؟
كان من بين هؤلاء الأصدقاء في المقام الأول ماري بيرك، التي لم تُتَح له الفرصة للتحدُّث إليها منذ لقائها بجيسي. أدرك أن ماري كانت تتجنَّبه عمدًا. لم تكن في منزلها، وقد ذهب للسؤال عنها في منزل رافيرتي، وتوقَّف لتوديع المرأة العجوز التي أنقذوا زوجها.
كان رافيرتي في طريقه إلى التحسُّن. وقد سُمِح لزوجته بالدخول لرؤيته، وسالت الدموع على وجنتَيها المنكمشتَين عندما رَوَت الأمر. ظلَّ محبوسًا لمدة أربعة أيام بلياليها في نفقٍ صغيرٍ، بلا طعامٍ أو ماءٍ، باستثناء بضع قطراتٍ من القهوة التي شاركها مع رجال آخرين. كان لا يزال غير قادر على الكلام، وبالكاد يستطيع تحريك يده، لكن عينَيه كانتا تُشِعَّان بالحياة، وكانت نظرته بمنزلة تحية نابعة من تلك الروح التي أحبَّتها وخدمتها طوال ثلاثين عامًا وأكثر. ترنَّمت زوجته بتسبيحاتٍ لإله رافيرتي، الذي أخرجه بأمان من هذه المخاطر؛ بدا واضحًا أنه لا بد أنه كان أكثر كفاءة من إله يوهانسون البروتِستانتي، ذلك السويدي العملاق، الذي كان يرقد بجانب رافيرتي وقد فارقَ الحياة.
لكن الطبيب قال إن الأيرلندي العجوز لن يصلح للعمل مجددًا، ورأى هال سحابة من الفزع تغيم على وهَج الفرحة التي كان يشعُّ بها وجه السيدة رافيرتي. كيف يمكن لطبيبٍ أن يقول شيئًا كذلك؟ كان رافيرتي عجوزًا، لا شكَّ، لكنه كان صلبًا … وهل كان في إمكان أي طبيبٍ أن يتخيَّل مدى الكَد الذي يبذله الرجل الذي لديه عائلة يعولها ويتعيَّن عليه الاعتناء بها؟ بالطبع لم يكن رافيرتي ذلك الشخص الذي يستسلم بسهولة بسبب بعض الآلام التي تنتابه بين الحين والآخر! لم يكن أحدٌ بجانبه يكسب المال سوى تيم، وعلى الرغم من أن تيم كان فتًى جيدًا وكان يعمل على الدوام، فقد كان حَرِيًّا بأي طبيب أن يعرف أنه لم تكن أي عائلة كبيرة لتستطيع العيش على أجر صبي يبلغ من العمر ثمانية عشر عامًا. أما بالنسبة إلى بقية الأبناء، فقد كان هناك قانون ينُص على أنهم أصغر من السن القانونية للعمل. اعتقدت السيدة رافيرتي أنه يجب أن يكون هناك مَن يوضِّح الصورة بعض الشيء لواضعي القوانين … لأنهم إذا أرادوا منع الأطفال من العمل في مناجم الفحم، فلا بد لهم بالطبع أن يوفروا طريقة أخرى لإطعامهم.
استمع هال إليها، مؤيدًا رأيَها ومتعاطفًا معها، وفي هذه الأثناء كان يشاهدها، ويتعلَّم من أفعالها أكثر من أقوالها. لقد كانت مطيعة لتعاليم دينها، «أن تُثمر وتُكثر» كما جاء في الكتاب المقدس؛ لقد أمدَّت بطون عالَم الصناعة بثلاثة أبناء بالغين، وكان لا يزال لديها ثمانية أطفال آخرين وزوج لتعتني بهم جميعًا. تساءل هال عما إذا كانت قد استراحت ولو لدقيقة واحدة من نهار طوال سنوات عمرها الأربع والخمسين. فلم يحدث ذلك بالتأكيد طوال فترة وجوده في منزلها! حتى الآن، في أثناء تسبيحها لإله رافيرتي ولومها على المُشرِّعين الرأسماليين، كانت تُعِد العشاء، متحركة بسرعة، في صمتٍ، مثل الآلة. كانت هزيلة مثل حصان عجوز يكدح في الصحراء؛ كان الجلد فوق عظام وجنتَيها مشدودًا كالمطاط، وكان مِعصماها يُظهران أوتارًا كأوتار البيانو.
والآن تنحني خوفًا أمام شبح العَوَز. سأل هال عما كانت تفكِّر في فعله، ورأى غيمة من الفزع تمرُّ عبر وجهها مجددًا. يبدو أنه لم يكن هناك إلا ملاذ واحد للنجاة من الجوع … أن تسمح بأن يُؤخَذ منها أطفالها، وأن يُودَعوا إحدى المؤسسات! وعلى ذكر هذ الأمر، الذي يُعَد أحد الكوابيس الخاصة بالفقراء، أجهشت المرأة العجوز بالبكاء وصرخت مجددًا قائلةً إن الطبيب كان مخطئًا؛ سيرى الطبيب، وسيرى هال أنَّ العجوز رافيرتي سيعود إلى عمله في غضون أسبوع أو أسبوعَين!