الفصل التاسع
سرعان ما خطَرت على بال هال إحدى ملاحظات ماري بيرك حين قالت إنَّ نورث فالي مكانٌ للخوف. استمعَ إلى حكايات هؤلاء العُمال الذين يعملون تحت الأرض، حتى وصلَ الأمر إلى حَدِّ ارتجافه من الرهبة في كل مرة كان ينزل فيها في المصعد.
كان هناك في الجزء الذي يعمل فيه هال من المنجم رجلٌ كوري سِلكيُّ الشعر وعيناه بلون اللَّوز، يُدعى تشو، وهو من «راكبي الحِبال». كان أحدَ العُمَّال المسئولين عن قطارات طويلة من العربات، تُسمى «الرحلات»، والتي تُسحَب عبر الممرات الرئيسية، وقد أُطلق عليهم «راكبي الحِبال» لأنَّ الواحد منهم كان يجلس على الحلقة الحديدية الثقيلة التي يُربَط بها الحَبل. دعا هال إلى الجلوس معه، وقَبِل هال دعوته، مُعرِّضًا عمله للخطر وكذلك أطراف جسده. كانت معرفة تشو باللغة الإنجليزية بسيطة للغاية، ولم يكن بإمكان المرء أن يفهم منه سوى كلمة بين الحين والآخر. أشار إلى الأرض، وصاحَ فطغى صوتُه على قعقعة العربات: «انظر إلى الغبار الكثيف!» لاحظ هال أن الأرض كانت مغطاة بستِّ بوصاتٍ من غبار الفحم، وحتى الجدران القديمة المهجورة كان بإمكان المرء أن يكتب عليها اسمه من كثرة الغبار. قال راكب الحبل: «من الممكن جدًّا أن يحدث انفجار!» وعندما دُفِعَت آخِر العربات الفارغة إلى غرف العمل، وكان في انتظار القيام «برحلة» عودة، حاولَ جاهدًا أن يشرح ما يعنيه عن طريق الإيماءات. «عربات مُحمَّلة. انفجار مدوٍّ! انفجار كالجحيم!»
عرفَ هال أنَّ الهواء الجبلي في هذه المنطقة كان مشهورًا بالجفاف، ولقد عرف الآن أن جفاف الهواء، الذي يعني الحياة للمَرضى وغير الأصحاء من جميع أنحاء العالم، كان يعني الموتَ لأولئك الذين كانوا يكدحون من أجل توفير الدفء لهؤلاء المرضى في أماكنهم. ذلك أن هذا الهواء في أثناء دفعِه عبر المناجم بواسطة مراوح كبيرة كان يتنزع معه كلَّ ذرَّة من رطوبة، ويترك غبار الفحم شديدَ الكثافة والجفاف إلى درجة وقوع انفجاراتٍ قاتلة من مجرد احتكاكٍ بسيطٍ من مجارف التحميل. وقد حدثَ أن قتلت هذه المناجم أعدادًا كبيرة من العُمال بما يفوق عدد مَن قُتِلوا في أي مناجم أخرى في جميع أنحاء البلاد.
سأل هال، وهو يتحدَّث مع أحد سائِسي البِغال التابعين له، وهو تيم رافيرتي، في المساء الذي تلا رحلته مع تشو، عما إذا كانت هناك وسيلة لإصلاح الأمر. قال تيم إنه كان ثمة وسيلة لذلك؛ فقد اشترط القانون ضرورة رشِّ المناجم ﺑ «غبار الطوب اللَّبِن»، ولم يرَ تيم هذا القانون يُطبَّق سوى مرة واحدة في حياته حسبما يتذكَّر. لقد جاءت بعض «الشخصيات الكبيرة» لتفقُّد الأمور، وقبل زيارتهم كانت هناك حملة رشٍّ واسعة النطاق. لكن ذلك كان قبل عدة سنوات، والآن خُزِّن جهاز الرَّش، ولا يَعرف أحدٌ مكانه، ولا يسمع أحدٌ شيئًا عن الرَّش.
حدث الشيء نفسه مع الإجراءات الوقائية المتعلقة بالغاز. بدا أن مناجم نورث فالي كانت «مملوءة بالغاز» للغاية. في هذه الممرات القديمة المُلتَوِية، كان في إمكان المرء أن يشُمَّ رائحة كريهة كما لو كانت رائحة كل البيض الفاسد الموجود في جميع الحظائر على مستوى العالم، وكان هذا يُعزى إلى غاز كبريتيد الهيدروجين، وهو الأقل خطورة بين الغازات التي كان على عامِل المنجم أن يتعامَل معها. فقد كان هناك أيضًا الغازُ «الخانق»، وهو غازٌ عديم الرائحة وأثقل من الهواء. ومن خلال الضرب في الفحم الليِّن المُشحَّم، قد يفتح المرءُ جيبًا من هذا الغاز، حيث تكمن رواسب ترجع إلى عصور سحيقة في انتظار ضحيتها المقدَّرة لها. قد يستغرق رجل في النوم وهو مستلقٍ في مكان العمل، وإذا تصادفَ أن كان «زميله» أو مساعده بعيدًا عن الأنظار، وتأخَّر دقيقة واحدة، فسينتهي أمر الرجل. وكان هناك أيضًا «الغاز المشتعِل» الأكثر رعبًا، الذي كان من شأنه أن يدمِّر منجمًا بأكمله، ويقتُل العشرات، بل وحتى المئات، من العُمال.
في مواجهة هذه الأخطار، كان هناك «مسئول الحرائق»، الذي كان من واجبه المرور في المنجم وتفقُّده، واختبار وجود الغاز، والتأكُّد من سلامة مسارات التهوية وسلامة المراوح. كان من المفترض أن يقوم «مسئول الحرائق» بجولاته في الصباح الباكر، ونصَّ القانون على أنه يتعيَّن ألا يدخل أحدٌ المنجمَ حتى يُقرَّ مسئول الحرائق بأنَّ كل شيء آمن. ولكن ماذا لو غلبَ «مسئول الحرائق» النُّعاس، أو كان سكرانًا؟ لم يكُن لأحدٍ أن يحتمل خسارة آلاف الدولارات لهذا السبب. ومن ثَم، رأينا في بعض الأحيان رجالًا يُؤمَرون بمباشرة عملهم، وينزلون بالفعل إلى المناجم وهم يتذمَّرون ويسِبُّون. وما هي إلا عدة ساعاتٍ حتى ترى بعضَهم مُطَّرَحين أرضًا من شدة الصداع، ويتوسَّلون لإخراجهم، وربما لا يسمح لهم المشرفُ بالخروج؛ لأنه إنْ سمحَ بخروج القليل منهم فسيُهرع البقيةُ ويطلبون الخروجَ أيضًا.
حدث ذات مرة، في العام الماضي، أن وقع حادثٌ من هذا النوع. أخبر هال بالحادث سائسُ بِغال شاب، وقد كان كُرواتيًّا، وذلك حينما كانا يجلسان ويتناولان عشاءَهما. نزلت أولُ دفعة من العُمال في المنجم محمولين في مصعدٍ، وهم محتجُّون في تجهُّم، وكان أحدُهم قد أنزلَ معه شعلةً مكشوفة، ومن ثَم وقعَ بعدها بوقتٍ قصير انفجارٌ هائل، بدا كأنه انفجارٌ من جَوْفِ العالَم. لقيَ ثمانية عُمال حتفَهم، وكانت قوةُ الانفجار كبيرة إلى درجة أن بعض الجثَث كانت محشُورة بين جدران بئر المنجم والمِصعَد، واستوجَبَ الأمرُ تقطيع الجثث إربًا لإخراجها. كان اليابانيون هم الملُومِين في الأمر، أقسمَ مَن أخبر هال بالحادث على ذلك. لم يكن ينبغي إطلاق العِنان لهم في مناجم الفحم؛ لأنه حتى الشيطان نفسه لم يكن ليتمكَّن من أن يحُول دون تسلُّل رجل ياباني من حين إلى آخر لتدخين سيجارة.
هكذا فهمَ هال كيف كان نورث فالي مكانًا للخوف. تُرى ما الحكايات التي من الممكن أن ترويها الغرفُ القديمة في هذه المناجم، لو كانت لها أصوات؟ شاهد هال جموع العُمَّال يتدفَّقون إلى أعمالهم، واعتقد أنه وَفقًا لإحصائيات الحكومة فقد قُدِّر لثمانية أو تسعة من كل ألف أن يموتوا مِيتةً عنيفة قبل مرور عام واحد، وأنه سيتعرَّض نحو ثلاثين آخرين لإصاباتٍ بالغة. وقد كانوا يعرفون ذلك، كانوا يعرفونه أفضل من كل إحصائيات الحكومة، ولكنهم كانوا يذهبون لمباشرة مهامهم على الرغم من ذلك! عندما جلسَ هال يتفكَّر في ذلك، أصبح ذهنُه مليئًا بالتساؤلات. ما القوة التي أرغمت العُمال على البقاء في هذا العمل؟ هل كان إحساسًا بالواجب؟ هل كانوا يُدركون أن المجتمع يحتاج إلى الفَحم، وأنه على أحدهم أن يؤدي «العمل البغيض» المتمثِّل في توفيره؟ هل كانت لديهم رؤية لمستقبلٍ عظيمٍ ورائع، كان سينبثق من كَدِّهم الذي لا يحصلون عنه على تعويضًا كافيًا؟ أم أنهم مجرد حمقى أو جبناء، يخضعون خضوعًا أعمى؛ لأنهم لم يكن لديهم الذكاء ولا الإرادة لفعل شيءٍ آخر؟ تملَّكه الفضولُ، كان يريد أن يفهم النفوس الداخلية لهذه الجيوش الصامتة والصابرة التي سلَّمت حياتَها على مَرِّ العصور لسيطرة رجال آخرين.