الفصل الرابع
كانت هذه الخطة مناسبة لهال، ولكنه اكتشف في الوقت نفسه تقريبًا الذي توصَّلوا فيه إليها أن ذلك كان بعد فوات الأوان. ذهبَ هو وجيري خلف الحشد، الذي توقَّف أمام أحد مباني الشركة، وعندما اقتربوا سمعوا شخصًا يُلقي خطابًا. كان صوت امرأة، ارتفعت نبراته واضحةً وساحرة. لم يتمكَّنا من رؤية المتحدِّثة، بسبب الحشد، لكن هال تعرَّف على صوتها، وأمسكَ رفيقه من ذراعه. «إنها ماري بيرك!»
قد كانت ماري بيرك حقًّا، وبدا أنها كانت تثير هياج الحشد. كانت كلما قالت جملة، أتى هديرٌ من الحشد، ثم كانت إذا قالت جملة أخرى يأتي هديرٌ آخر. شقَّ هال وجيري طريقَهما بين الحشد، إلى حيث يمكنهما تفسير كلماتها وسط هذه العبارات الغاضبة.
«هل تظنون أنهم سينزلون إلى المناجم بأنفسهم؟»
«لن يفعلوا ذلك!»
«هل تظنون أنهم سيفعلون ذلك وهم يرتدون الحرير والدانتيل؟»
«لن يفعلوا ذلك!»
«هل تظنون أنهم سيفعلون ذلك بأيديهم الناعمة؟»
«لن يفعلوا ذلك!»
«هل سيفعلون ذلك وهم يعتبرون أنفسهم أفضل من أن ينظروا إليكم؟»
«لن يفعلوا ذلك! لن يفعلوا ذلك!»
وتابعت ماري قائلة: «فقط إن اتَّحدتم، سيأتون إليكم راكعين يسألونكم عن شروطكم! لكنكم جبناء، وهم يستغلون خوفكم! أنتم خَوَنة، وهم يشترونكم بأموالهم! إنهم يمزقونكم إربًا، يفعلون بكم ما يحلو لهم … ثم ينطلقون في سياراتهم الخاصة، ويتركون الرجال المسلَّحين ليضربوكم ويدوسوا وجوهكم! إلى متى ستقبلون هذا؟ إلى متى؟»
اندفعَ هدير الحشد بطول الشارع وعرضه. «لن نقبل هذا! لن نقبل هذا!» هزَّ الرجال قبضاتهم المشدودة، وصرخت النساء، وحتى الأطفال صاحوا بالشتائم. «سوف نحاربهم! لن نكون عبيدًا لهم بعد الآن!»
ووجدت ماري كلمة سحرية. صاحت: «سيكون لدينا اتحادٌ نقابي! سنتَّحد ونظل متحدين! إذا رفضوا حقوقنا، فسنعرف بماذا نرد عليهم … سنقوم بإضرابٍ!»
كان هناك هدير مثل هدير ضرب الرعد للجبال. أجل، لقد وجدت ماري الكلمة السحرية! لسنواتٍ عديدة لم يُعلنها أحدٌ صريحة مدوية في نورث فالي، لكنها الآن انتشرت عبر الحشد مثل وميض البارود. «إضراب! إضراب! إضراب! إضراب!» بدا الأمر كما لو أنهم لن يكتفوا منه أبدًا. لم يفهم الجميع حديث ماري، لكنهم عرفوا هذه الكلمة: «إضراب!» ترجموها وأعلنوها بالبولندية، والبوهيمية، والإيطالية، واليونانية. لوَّح الرجال بقُبعاتهم، ولوَّحت النساء بمآزرهن … وفي الضوء الخافت كانوا أشبه بنوعٍ غريبٍ من النباتات قذفته عاصفة. تصافحَ الرجال، وتعانقَ الأجانب الأكثر ميلًا إلى الأُلفة. «إضراب! إضراب! إضراب!»
صاحت المتحدِّثة: «لم نعد عبيدًا! إننا رجال، وسنعيش رجالًا! سنعمل رجالًا … أو لن نعمل على الإطلاق! لن نكون بعد الآن قطيعًا من الماشية، يمكنهم أن يسوقونا كما يحلو لهم! سنُنظِّم أنفسنا، ونقف معًا … كتِفًا بكتفٍ! وإما أن نربح معًا، أو نجوع ونموت معًا! ولن يستسلم رجلٌ منا، لن يصبح رجلٌ منا خائنًا! هل يوجد هنا مَن سيخون زملاءَه؟»
كان هناك عِواءٌ مثل عواء قطيع من الذئاب. فليتجرَّأ رجل سيخون زملاءَه على إظهار وجهه القذر في ذلك الحشد!
«هل سندعم الاتحاد؟»
«سندعمه!»
«هل نُقسم على ذلك؟»
«نُقسم على ذلك!»
رفعت ذراعَيها إلى السماء في دلالة على المناشدة بحماسٍ. وصاحت: «أَقسِموا على ذلك بحياتكم! أن نتماسك، وألَّا يستسلم رجلٌ منكم حتى ننتصر! أقسموا! أقسموا!»
وقف الرجال يُحاكون رفعة ذراعها، بأيادٍ ممدودة إلى السماء. وصاحوا: «نُقسِم! نُقسِم!»
«لن ندعهم يكسرونكم! لن نسمح لهم بإخافتكم!»
«لا! لا!»
«التزموا بكلمتكم أيها الرجال! التزموا بها! إنها الفرصة الوحيدة لزوجاتكم وأطفالكم!» واصلت الفتاة … تحثُّهم بكلماتٍ مفاجئة وذراعَين مرفوعتَين بحماسٍ … كانت رمزًا للتمرد المحتدِم يتمايل عاليًا. استمع هال إلى الخطاب وشاهدَ المتحدِّثة متعجبًا. ها هي معجزة من معجزات النفس البشرية، هنا وُلِد الأملُ من رحم اليأس! وكان الحشد حولها … كانوا يتشاركون في الولادة الجديدة الرائعة، مُلوِّحين ومتمايلين كما تفعل ماري، كأنهم أوركسترا تُحركها عصا قائدها.
انتابت هال رجفة … رجفة الانتصار! كان هو نفسه قد هُزِم، وأرادَ أن يهرب من هذا المكان المروِّع، ولكن الآن يلوح الأمل في نورث فالي … الآن تلوح أمارات النصر والحرية!
منذ أن جاء هال إلى بلدة الفحم، استوعبَ أكثر فأكثر أن المأساة الحقيقية لحياة هؤلاء الناس لم تكن في معاناتهم الجسدية، ولكن في معاناتهم النفسية … ذلك البؤس اليائس البليد في نفوسهم. نما هذا إلى وعيه يومًا بعد يوم، سواءٌ من خلال ما رآه، أو من خلال ما أخبره به الآخرون. كان توم أولسون أولَ من عبَّر عن الأمر بالكلمات: «تكمن أسوأ مشكلاتك داخل رءوس الرجال الذين تحاول مساعدتهم!» كيف كان في الإمكان أن تعطي الأملَ للرجال في هذه البيئة المروِّعة؟ حتى هال نفسه، الذي كان شابًّا وحرًّا، أصابه اليأس. جاء من الطبقة التي اعتادت أن تقول: «افعل هذا» أو «افعل ذاك»، وكان ما تأمر به يتم. لكن عبيد المناجم هؤلاء لم يعرفوا قطُّ هذا الشعور بالقوة، بالطبع، بل على العكس من ذلك، فقد اعتادوا اعتراضَ جهودهم عند كل منعطفٍ، كل دافع للسعادة أو الإنجاز كانت تسحقه إرادةُ شخصٍ آخر.
ولكن ها هي معجزة النفس البشرية! هنا انبثق الأمل في نورث فالي! هنا راحَ الناس ينهضون … وماري بيرك على رأسهم! ها هي رؤياه تتحقق … ماري بيرك والمجد في وجهها، وشعرها يلمع مثل تاجٍ من الذهب! امتطت ماري بيرك حصانًا أبيض بياضَ الثلج، ناعمًا ولامعًا … مثل جان دارك، أو قائدةٍ في موكبٍ للاقتراع! أجل، وكانت على رأس الحشد، سمعَ موسيقى مسيرتها في أُذُنَيه!
في أعماق كلماتِ مزاحه كانت ثمة رؤيا حقيقية، وإيمان حقيقي في هذه الفتاة. منذ ذلك اليوم الذي اكتشفها فيه أول مرة، وردة بريَّة في معسكر التعدين تغسل ملابس عائلتها، أدركَ أنها لم تكن فتاةً عاملة جميلة، بل امرأة ذات عقلٍ وشخصية. كان لديها بُعد نظرٍ، وشعورٌ أعمق من معظم هؤلاء العبيد المأجورين. كانت مشكلتها هي مشكلتهم، ولكنها أكثر تعقيدًا. عندما أراد مساعدتها وعرضَ عليها أن يجدَ لها وظيفة، أوضحت أن ما كانت تتوق إليه لم يكن مجرد راحة من الكدح، ولكن حياة ذات أهمية فكرية. ومن ثَم جاءته فكرة أن ماري يجب أن تصبح مُعلِّمة، قائدةً لسكان بلدتها. كانت تحبهم، وقد عانت من أجلهم ومعهم، وفي الوقت نفسه كانت تتمتع بعقلٍ قادرٍ على البحث في أسباب بؤسهم. ولكن عندما ذهب إليها بهذا المخطط لجعْلها قائدة، قابلته بيأسِها الواهن؛ وقد بدا تشاؤمها كأنه يسخر من أحلامه، فقد جعلها ازدراؤها لعبيد المناجم هؤلاء لا تجد جدوى في جهوده من أجلهم وأجلها.
والآن، ها هي تتولَّى الدور الذي رسمه لها! اعتقد أنها قد وجدت روحَها وسط هذا الحشد الصارخ. لقد عاشت حياة هؤلاء الناس، شاركتهم جميع معاناتهم، ودفعتها الظروفُ إلى التمرد معهم. ولكونه رجلًا، فقد غابَ عنه أمرٌ مهمٌّ في هذا التطور المذهل؛ إذ لم يُدرك أن كلمات ماري البليغة كانت موجَّهة، ليس فقط إلى آل رافيرتي وواكوب وبقية عبيد المناجم في نورث فالي، ولكن إلى فتاة بعينها تُشبه الفتيات التي تظهر على أغلفة المجلات، فتاة ترتدي مِعطفًا مضادًّا للمطر وقُبَّعة باللون الأخضر الفاتح وغطاءَ وجه مُتحركًا ناعمًا وشفافًا وباهظَ الثمن للغاية!