الفصل السابع
وصلوا إلى المكان المحدد دون أي مقاومة. وفي هذه الأثناء، وضع هال في ذهنه خطة للتواصل مع هذا الحشد المتعدِّد اللغات. كان يعلم أن نصف الرجال لا يستطيعون فهم كلمة واحدة باللغة الإنجليزية، وأن النصف الباقي لا يفهم إلا كلمات قليلة جدًّا. وبالطبع، إذا أراد توضيح الأمور لهم، فلا بد أن يُقَسِّمهم إلى مجموعاتٍ حسب جنسياتهم، وأن يجد مترجمًا موثوقًا لكل مجموعة.
كانت عملية التقسيم بطيئة، ولم تخلُ من الصراخ المتواصل والتدافع غير العدائي … البولنديون هنا، والبوهيميون هنا، واليونانيون هنا، والإيطاليون هنا! عندما أُنجِزت هذه المهمة، وعثروا على رجلٍ لكل مجموعة يفهم الإنجليزية بما يكفي ليتولَّى الترجمة لزملائه، بدأ هال يُلقي خطابًا. ولكن قبل أن يقول الكثير، ارتفع الضجيج. بدأ جميع المترجمين في الحديث في الوقت نفسه … وبأعلى صوتهم؛ فكان الأمر أشبه بموكبٍ تقف فيه الفرق الموسيقية بالقرب من بعضها! أصيب هال بالبكم؛ ثم شرع في الضحك، وشرعت الجماهير المختلفة في الضحك؛ وتوقف المترجمون المفوَّهون، في حيرة من أمرهم … ثم شرعوا هم أيضًا في الضحك. ومن ثَم انتشرت موجة بعد أخرى من البهجة بين الحشد؛ وتغيَّر المزاج العام للجمع كله دفعة واحدة؛ إذ تحوَّل من الغضب والجدية إلى البهجة الشديدة. تعلَّم هال درسَه الأول في التعامل مع هذه الجحافل الشبيهة بالأطفال، الذين كانت أمزجتهم سريعة التحوُّل، والذين كانت عواطفهم تتأثَّر بأقل شيء.
وكان عليه أن يكمل كلمته حتى النهاية، ثم يُبعِد الجماهير المختلفة عن بعضها، ليتعامل معهم المترجمون كلٌّ على حدة. ولكن لاحت مشكلة جديدة في ذلك الحين. كيف يمكن لأي شخصٍ الإلمام بهذا الفيض من العبارات البليغة؟ كيف يتأكد من أن رسالته لن تُحرَّف؟ لقد حذَّر أولسون هال من محققي الشركة الذين يتظاهرون بكونهم عُمالًا، لكسب ثقة الرجال من أجل حثِّهم على العنف. وبالتأكيد كان بعض هؤلاء المترجمين من ذوي المظهر العنيف، وبدت كلمات أحدهم غريبة في ترجماتهم!
كان المترجم اليوناني، على سبيل المثال، رجلًا عنيفًا، ذا شعر أشعث، وعينَين جامحتَين، وبدا كأنه يمزِّق حماسته إلى قِطَعٍ، ويقذف بها في صورة كلماتٍ على سامعيه. وقف على رأس برميل، مُسلَّطًا عليه ضوء مصباحَين، وكان نحو عشرين من بني وطنه يقفون عند قدمَيه، وقد لوَّح بذراعَيه، وهزَّ قبضتَيه، وهاج وماج. ولكن عندما شعر هال بعدم الارتياح تجاهه، ذهب وسأل يونانيًّا آخر يتحدث الإنجليزية عما يقوله ذلك المترجم اليوناني، وكان الجواب أنه كان يَعِد بضرورة تطبيق القانون في نورث فالي!
وقف هال يُراقِب هذا الرجل الضئيل الحجم المتحمِّس، في درسٍ لما يمكن أن تفعله الإيماءات. وقف بصدرٍ ممشوقٍ وكتفَين مُستقيمتَين، حتى كاد يرمي بنفسه للوراء من فوق رأس البرميل؛ إذ كان يقول لهم إن عمال المناجم سيتمكَّنون من العيش مثل بقية الرجال. ثم جثى وحنى رأسه وهو يئنُّ؛ إذ كان يحدِّثهم عما سيحدث لو أنهم استسلموا. ثم أمسك شعره الأسود الطويل بقبضته، وبدأ يجذبه بقوة، جذبه ثم مدَّ يدَيه فارغتَين ولم يخرج معهما شيء، ثم جذبَ شعره مرة أخرى بقوة إلى درجة أن المرء كاد يصرخ من الألم عند مشاهدته. وعندما سأل هال عن سبب ما يفعله، كان الجواب إنه يقول: «ابقوا مُتَّحدين! عند شد شعرة واحدة، فإنها تنخلع بسهولة، ولكن عند شد الشعر كله، فإنه أبدًا لا ينخلع!» لقد أعاد المرء إلى أيام إيسوب وخرافاته!
كان توم أولسون قد أخبر هال شيئًا عن أسلوب منظِّم الاتحادات النقابية، الذي يريد ترويض مثل هذه الجحافل الجاهلة. كان عليه أن يعيد مرارًا وتكرارًا، حتى يدرك أقل جمهوره ذكاءً ما يَعنيه، حتى يستوعبوا فكرة التضامن التي فيها خلاص الجميع. عندما عبَّر مختلف الخطباء عما عليهم إيصاله، وعاد الجمهور إلى مكان اجتماع الحشد، ألقى هال كلمته مرة أخرى، بكلماتٍ بسيطة من مقطعٍ لفظي واحد، وبتلك اللغة الإنجليزية المبسَّطة التي تفي بالغرض في المعسكرات. كان هال يتوقف في بعض الأحيان ليؤكد ما يقوله بكلماتٍ يونانية أو إيطالية أو سلافية قد التقطها. أو ربما كانت بلاغته تشعل حماس أحد المترجمين مجدَّدًا، ومن ثَم كان ينتظر بينما يهتف الرجل ببعض العبارات لبني وطنه. لم يكن من الضروري أخذ مسألة الملل في الاعتبار؛ لأن هؤلاء كانوا رجالًا صبورين وطويلي الأناة، وقد أصبحوا الآن شديدي الجدية.
إنهم بصدد تنظيم اتحادٍ نقابي، وسيؤدُّون المهمة بالطريقة المعتادة، بطاقات عضوية، والمسئولون سيختارونهم عن طريق الاقتراع. ولذا أوضح لهم هال الأمر خطوة بخطوة. لم تكن هناك فائدة من تشكيل نظامٍ نقابي ما لم تكن لديهم النية في الحفاظ عليه. سوف يختارون قادة، واحدًا من كل مجموعة لُغوية رئيسية، وسوف يجتمع هؤلاء القادة ويضعون مجموعة من المطالب، التي ستُسلَّم في اجتماعٍ جماهيري، ويُصدَّق عليها، ومن ثَم تُعرض على الرؤساء مع الإعلان عن أنه لن يعود عاملٌ واحدٌ في نورث فالي إلى المناجم حتى تُلبَّى هذه المطالب.
نصح جيري مينيتي، الذي كان يعرف كلَّ شيء عن الاتحادات النقابية، هال بتسجيل الرجال في الاتحاد على الفور؛ فهو يثق بالتأثير النفسي لتقدُّم كل رجل وذكر اسمه. ولكنهم وجدوا أنفسهم أمام مشكلة تواجه جميع المنظِّمين؛ وهي نقص الأموال. إنهم يحتاجون إلى أقلامٍ وأوراقٍ للتسجيل، وكان هال قد أعطى كلَّ ما معه لجاك ديفيد! فاضطر إلى اقتراض ربع دولار وإرسال رسول إلى المتجر. وقد صوَّت المندوبون على أن كل عضو يجب أن يحصل على عشرة سنتات عند انضمامه إلى الاتحاد. كما يتعيَّن عليهم إرسال بعض البرقيات وإجراء بعض الاتصالات الهاتفية إذا كانوا سيطلبون المساعدة من خارج بلدتهم.
شكَّلوا لجنة مؤقتة، مُكوَّنة من تيم رافيرتي وواكوب وهال، لحفظ قوائم الأعضاء والأموال، ولإدارة الأمور حتى يتمكَّنوا من عقد اجتماعٍ آخر في الغد، كما عيَّنوا اثني عشر حارسًا من أقوى الرجال وأكثرهم موثوقية لمرافقة اللجنة وحمايتها. عاد الرسول ومعه الدفاتر والأقلام، وجلس على الأرض على ضوء مصابيح المناجم، وكتب المترجِمون أسماء الرجال الراغبين في الانضمام إلى الاتحاد، وتعهَّد كل رجل بدوره بالتضامن وحفظ النظام. ثم أعلنوا تأجيل الاجتماع حتى الصباح، وتفرَّق العُمال ليناموا في منازلهم، وقد غمرتهم الفرحة وإحساسٌ بالقوة لم يشعر به من قبل سوى القليل منهم.