الفصل العاشر
ومن ثَم غادر هال على عَجَلٍ، وشقَّ طريقَه في الشارع المؤدي إلى منزل المشرف، والذي كان عبارة عن بيتٍ خَرساني من طابقٍ واحدٍ يقع على ارتفاعٍ صغيرٍ يطل على المعسكر. دقَّ الجرس، وانفتح الباب، وكان شقيقه يقف في المدخل.
إدوارد وارنر يكبُر هال بثماني سنوات، وهو نموذجٌ لرجل الأعمال الأمريكي الشاب. يتمتع بقوامٍ ممشوق وبِنية رياضية، وذو ملامح ثابتة وقوية، صوته، وسلوكه، وكل شيء فيه ينمُّ عن أنه شخصٌ صاحب قرار هادئ، وطاقة موجَّهة بدقة. يرتدي عادة ملابس تشبه عارضي الأزياء، ولكنْ ثمة شيء غير معتادٍ في ملابسه وكذلك في سلوكه قد طرأ في تلك اللحظة.
كان قلق هال قد تفاقم كثيرًا وهو في طريقه إليه. صاحَ: «ما خطب أبي؟»
كان الرد: «أبي بخيرٍ … حتى الآن.»
«إذن ماذا …؟»
«إن بيتر هاريجان في طريق عودته من الشرق. ومن المقرر أن يصل إلى ويسترن سيتي غدًا. ولعلَّك تستوعب الآن أن خطبًا ما سيحلُّ بأبي ما لم تترك هذا الأمر في الحال.»
شعر هال فجأة بأن خوفه قد تلاشى. صاح: «إذن هذا كل شيء!»
كان شقيقه يُحدق إلى عامل المنجم الشاب، الذي كان يرتدي بذلة العمل الزرقاء المُشحَّمة، بوجهه المُلطَّخ بالسواد، وشعره الأشعث المتجعِّد. وقال: «لقد أرسلتَ إليَّ برقية تُخبرني فيها أنك ستغادر من هنا يا هال!»
«أجل كنت أنوي ذلك، ولكن حدثت أمورٌ لم أستطع توقُّعها. هناك إضراب.»
«أجل، ولكن ما علاقة ذلك بالأمر؟» ثم قال بنبرة ساخطة: «عجبًا لأمرك يا هال، إلى أي مدًى تتوقع أن تمضي في هذه الحال؟»
وقف هال بضع لحظات ينظر إلى أخيه. وحتى في ظل ما كان فيه من توترٍ، لم يستطع أن يمنع نفسه من الضحك. وقال مخاطبًا أخاه: «أعرف كيف يبدو كل هذا لك يا إدوارد. إنها قصة طويلة؛ لا أعرف من أين أبدأ سردها.»
قال إدوارد بنبرة صارمة: «لا، لا أعتقد ذلك.»
وضحك هال مرة أخرى. وقال: «حسنًا، نحن مُتفقان إلى هذا الحد، على أي حالٍ. ما كنت آملُه هو أن نتمكَّن من الحديث عن الأمر بهدوءٍ، بعد أن يهدأ انفعالنا. عندما أشرح لك الوضع في هذا المكان …»
لكن إدوارد قاطعه. وقال: «حقًّا يا هال، لا فائدة من جدالٍ كهذا. لا دخل لي بما عليه الوضع في معسكرات بيتر هاريجان.»
غادرت الابتسامة وجه هال. وقال: «هل كنت تُفضِّل أن أتفقَّد الوضع في معسكرات وارنر؟» حاول هال أن يكظِم غضبه، ولكن ببساطة لم يكن هناك سبيلٌ لاتفاق هذَين الشخصَين. وأضاف: «كثيرًا ما تَجادلنا بشأن هذه الأمور يا إدوارد، وكنتَ دائمًا تتفوق عليَّ … كنت تقول لي إنني ما زلت طفلًا، وإنه ليس من الأدب أن أعترض على تأكيداتك. أما الآن … حسنًا، لم أعد طفلًا، وعلينا أن نتناقش على أساسٍ جديدٍ.»
كان لنبرة هال وقعٌ أكبر من كلماته. فكَّر إدوارد قبل أن يتكلم. ثم قال: «حسنًا، وعلى أي أساسٍ جديدٍ نتحدث؟»
«أنا الآن بصدد إضراب عُمالي، ولا يسعُني التوقف كي أوضح لك الأمر.»
«ألا تُفكر في أبي وسط كل هذا الجنون؟»
«أفكر في أبي، وفيك أيضًا يا إدوارد، ولكن هذا ليس الوقت المناسب …»
«إن كان ثمة وقت مناسب لذلك من الأساس، فإنه الآن!»
تأوَّه هال في نفسه. وقال: «حسنًا، اجلس. سأحاول أن أعطيك فكرة عن قصة انخراطي في هذا الأمر وانجرافي إليه.»
بدأ يتحدث عن الظروف التي وجدها في معقِل «الشركة العامَّة للوقود». وكالعادة، عندما تحدث عنها، انغمس في جوانبها الإنسانية؛ وظهرت الحماسة في لهجته، واستمر في ذلك، كما كان عندما حاول مجادلة المسئولين في بيدرو. غير أن سردَه البلاغي قد انقطع، تمامًا كما حدث من قبل؛ فقد اكتشف أن شقيقه كان في حالة من السخط جعلته لا يستطيع الاستماع إلى حديثه المتلاحق.
إنها القصة القديمة نفسها، ودائمًا ما كانت على هذا النحو حسبما تذكَّر هال. بدا الأمر كأنه سرٌّ من أسرار الطبيعة، كيف يمكن أن ينبثق طبعان مختلفان تمامًا إلى هذا الحد من نسلٍ واحدٍ. إدوارد عملي وحاسم، يعرف ما يريده في الحياة، ويعرف كيف يحصل عليه، لا تُزعزِعه الشكوك مطلقًا، ولا يعبأ بمساءلة الذات، أو بأي مشاعر جارفة، ولا يستطيع فهم الأشخاص الذين يُهدرون طاقتهم الذهنية في مثل هذه الأمور. لا يستطيع أن يفهم الأشخاص الذين «ينجرفون وراء الأشياء» ويسمحون لها أن تجتاحهم اجتياحًا.
في البداية، كانت علاقة إدوارد مع هال مُغلَّفة بهيبة الأخ الأكبر. كان إدوارد وسيمًا مثل إلهٍ يوناني شاب، ويتَّسم بالقوة والبراعة، سواءٌ في تزلُّجه على الجليد بحركاتٍ قوية وواثقة، أو في اختراقه الأمواج بكتفَين لامعتين، أو في إطلاقه النار على طائر الحجل بثقة وبسرعة مثل صاعقة برق؛ فهو تجسيدٌ حقيقي للنجاح. وعندما يحكم على أفكار شخصٍ ما بأنها «مُتعفِّنة»، أو عندما يتحدث بازدراء عن «المدلَّلين»، فإنه يكون لوقع كلماته أثرٌ قويٌّ في نفس مُحدِّثه، حتى إن الشخص ليقرأ في أعمال شيلي وروسكين الأدبية بحثًا عن ملاذٍ يستعيد فيه شجاعته.
بدأ هال تساؤلاته حول الحياة في وقتٍ مبكرٍ للغاية؛ فقد بدا أن ثمة شيئًا في طبيعته اضطرَّه إلى البحث في جذور الأشياء، وبقدر ما كان يتطلَّع إلى أخيه الرائع ويتخذه قُدوة له، أدرك أن هناك جوانبَ من الحياة كان أخوه غافلًا عنها. وكان أول هذه التساؤلات ما اعتراه من شكوك دينية؛ ذلك الكرب الذي يُصيب الشاب عندما يتبادر إلى ذهنه أول مرة أن الإيمان الذي نشأ عليه ما هو إلا حكايات خيالية من نوعٍ أسمى. يبدو أنه لم يتبادر إلى ذهن إدوارد مثل هذه التساؤلات قطُّ. فقد كان يذهب إلى الكنيسة؛ لأنه شيء يتوجَّب عليه القيام به، لا سيَّما أنه كان من دواعي سرور الفتاة التي يرغب في الزواج منها أن تراه في الكنيسة مُرتديًا الملابس الأنيقة، وأن يصطحبها إلى هذا المكان الجميل في أيام الآحاد؛ حيث الموسيقى والزهور والعطور، وحيث تلتقي بأصدقائها وهي ترتدي أيضًا ملابسها الأنيقة. كم بدا غريبًا لإدوارد أن يتخلَّى شابٌّ عن هذه العادة اللطيفة، لمجرد أنه لا يستطيع التأكد من أن يونان قد ابتلعه الحوت كما جاء في العهد القديم!
ولكن عندما هاجمت شكوك هال شريعةَ أخيه الدنيوية — شريعة الربح — أصبح الخلاف بينهما على أشده. لم يكن هال في البداية يعرف شيئًا عن شئون العمل، وكان من واجب إدوارد أن يردَّ على أسئلته. أخبره إدوارد أن ازدهار البلاد قد تحقَّق على أيدي الرجال الأقوياء، وقد كان لهؤلاء الرجال أعداء … أشخاص ذوو عقلية شريرة، تحركهم الغيرة والأهواء الدنيئة الأخرى التي تسعى إلى هدم هذا البناء الضخم. أرضت نظرية الشيطان هذه الصبيَّ في البداية، ولكنه بعد ذلك قرأ ولاحظ، وأحدقت به الشكوك. وفي النهاية، حسب ما سمعه من حديث أخيه، وقرأه في كتابات مَن يُسمَّون ﺑ «الصحفيين الاستقصائيين»، أدرك فجأة أن هذا الجدال يتضمن عقليتَين مختلِفتَين … عقلية تركز على الأرباح، وأخرى تركز على منفعة الإنسان.
انزعجَ إدوارد من الكتب التي يقرؤها هال، وانزعج أكثر عندما لاحظ الأفكار التي يعود إلى المنزل وعقله مشحونٌ بها من الكُلِّية. لا بد أن تغييرًا غريبًا قد حدث في كلية هاريجان خلال السنوات القليلة الماضية؛ فلم يكن أحدٌ يحلم بمثل هذه الأفكار عندما كان إدوارد طالبًا فيها! لم يكن أحدٌ يكتب أغاني ساخرة عن الكلية، أو عن التماس تبرعات خيرية من ذوي الشأن الرفيع!
في تلك الأثناء، كان إدوارد وارنر الأب قد أصيب بسكتة دماغية تسبَّبت في إصابته بالشلل، وتولَّى إدوارد الابن مسئولية الشركة. وقد أكسبته السنوات الثلاث التي مضت على مزاولته هذا العمل نظرةَ أصحاب مناجم الفحم نفسها، من صلابة استمرَّت معه طوال حياته. كان نهج صاحب مناجم الفحم في العمل أن يشتري عمالته بأرخص الأسعار، ويُحقق أعلى إنتاجٍ في أقصر وقتٍ، ويبيع المنتج بسعر السوق إلى الأطراف الذين كان وضعُهم المالي مُرضيًا. وكان النجاح من وجهة نظره أن يتمكَّن من تحقيق تلك الأهداف؛ ومن ثَم، فإن أي اقتراح بأن ذلك من شأنه الإضرار بالعُمَّال الذين يحفرون تلك المناجم؛ يُتَّهم صاحبه بالوقاحة وفرط العاطفة.
كان إدوارد قد انزعج حين سمع من شقيقه أنه ينوي دراسة الصناعة من خلال قضاء إجازته كعامِلٍ عادي. ولكن، عندما فكَّر في الأمر، مال إلى الاعتقاد بأن الفكرة لم تكن سيئة. ربما لن يجد هال ما يبحث عنه، ولربما يساعده العمل بيديه في طرح هذه الخرافات عن ذهنه!
ولكن ها هي التجربة قد تمَّت، وتبيَّن لإدوارد أنها باءت بالفشل الذريع. لم يُدرك هال أن العمَّال مثيرون للشغب وكُسالى وغير أكْفاء وفي حاجة إلى يدٍ قوية لتحكمهم، بل على العكس، أصبح واحدًا من هؤلاء العمَّال المثيرين للشغب أنفسهم! أصبح بطلًا في الكسل والعجز، مُحرِّضًا، ومُهَيِّجًا للتحيُّز الطبقي، وعدوًّا لأصدقائه ولشركاء أخيه في العمل!
لم يسبق أن رأى هال إدوارد غاضبًا إلى هذا الحد. كان هناك شيء غير طبيعي حقًّا فيه، أدرك هال ذلك، وحيَّره على نحوٍ غامضٍ في أثناء حديثه، لكنه لم يفهمه حتى أخبره أخوه كيف أتى إلى هنا. لقد كان يحضر حفل عشاء راقصًا في منزل أحد الأصدقاء، واتصل به بيرسي هاريجان عبر الهاتف في الساعة الحادية عشرة والنصف ليلًا. كان لدى بيرسي رسالة من كارترايت، مفادها أن هال يقود أعمال شغب في نورث فالي، وقد وصف بيرسي الموقف بوضوحٍ جعل إدوارد يهبُّ من فوره ويلحق بقطار منتصف الليل، مُرتديًا ملابس السهرة، ودون أن يُحضر معه فرشاة أسنانه!
لم يستطع هال أن يمنع نفسه من الانفجار في الضحك. أخوه، المنمَّق الرصين، ينزل من عربة النوم في السابعة صباحًا، مُرتديًا بذلة سهرة وقُبعة حريرية! وها هو، إدوارد وارنر الابن، الأنيق، الذي لم يدفع قطُّ أقل من مائة وخمسين دولارًا في البذلة الواحدة، يرتدي ثيابًا «مُستعارة» دفع مقابلها اثني عشر دولارًا وثمانيةً وأربعين سنتًا في «متجر يهودي» في بلدة للفحم!