برقية تهنئة من الملكة بذكرى الميلاد
تبعَث جلالة الملكة بتهنئتها إلى ألبرت ويبر بمُناسبة عيد ميلادِه المائة، وتتمنَّى له حياةً تمتدُّ سنواتٍ أخرى ينعم فيها بموفور الصحة والسعادة.
لم تُبارح الابتسامة وجه ألبرت وهو يقرأ الرسالة للمرة العشرين.
قال وهو يُعطي الرسالة الملَكية إلى زوجته: «ستكونين أنتِ التالية يا حبيبتي.» لم تكن بِيتي في حاجةٍ إلى قراءة البرقية سوى مرة واحدة لترتسِم على وجهها ابتسامة عريضة هي الأخرى.
كانت الاحتفالات قد بدأت قبل ذلك بأسبوع، وكُلِّلت بحفلٍ أقيم في مبنى البلدية. تصدَّرت صورة ألبرت الصفحة الأولى لمجلة «سومرست جازيت» صبيحة ذلك اليوم، وظهَر في لقاءٍ مع برنامج «بوينتس ويست» أذاعته هيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي»، وكانت زوجته تجلس إلى جواره في فخر.
كان السيد المُبَجَّل عُمدة مدينة ستريت، النائب تيد هاردينج، ورئيس المجلس المحلي النائب بوكلبانك، ينتظران على سُلَّم مبنى البلدية لاستقبال الرجل الذي بلَغ من العمر ١٠٠ عام. اصطُحب ألبرت إلى قاعة استقبال المحافظ؛ حيث قُدِّم إلى السيد ديفيد هيثكوت-أموري، نائب البرلمان عن المدينة، وكذلك نائبة البرلمان عن المدينة، التي عندما سُئل عن اسمها لاحقًا لم يتذكَّره.
بعد التقاط العديد من الصور، وُجِّه ألبرت إلى قاعة استقبال كبيرة، حيث كان حشد يزيد على ١٠٠ من المَدعوِّين في انتظار الترحيب به. وعندما دخل القاعة، استُقبل بعاصفةٍ من التصفيق العفوي، وبدأ أناسٌ لم يَلتقِهم من قبلُ في مصافحته.
في تمام الساعة الثالثة والدقيقة السابعة والعشرين، وهي الدقيقة نفسها التي وُلد فيها ألبرت في عام ١٩٠٧، أحاط بالرجل المُسنِّ أبناؤه الخمسة، وأحفادُه الأحد عشر، وأبناء أحفادِه التسعة عشر، وقطَّع كعكة مُكوَّنة من ثلاثة أدوار بسكِّين ذات مقبَض فضِّي. قوبل هذا التصرُّف البسيط بموجةٍ أخرى من التصفيق، تبعَتها صيحات تقول: «خطبة، خطبة، خطبة!»
كان ألبرت قد أعدَّ كلمة مُوجزة كي يُلقِيها، ولكنَّها تبخَّرت من ذهنه بمجرَّد أن خيَّم الصمت على القاعة.
قالت بيتي وهي تلكز زوجَها برِفق في ضُلوعه: «قل شيئًا.»
طرفت عَينا ألبرت ونظر حوله إلى الحشد المُترقِّب، وتوقَّف، ثم قال: «جزيل الشكر لكم.»
بمجرد أن أدرك الحشد أن هذا هو كل ما سيقوله ألبرت، بدأ أحدُهم يُغني «عيد ميلاد سعيد»، وسرعان ما انضمَّ إليه الجميع في الغناء. تمكَّن ألبرت من إطفاء سبعٍ من الشموع المائة قبل أن يهبَّ أفراد عائلته الأصغر سنًّا لنَجدته، الأمر الذي قُوبل بالمزيد من الضَّحِكات والتصفيق.
بمجرد أن توقَّف التصفيق، نهَض العُمدة واقفًا وجرَّ ذَيل عباءته المطرَّزة بالأسود والذهبي، وتنحنح قبل أن يبدأ في إلقاء خُطبة طويلة.
بدأ خطبته قائلًا: «إخواني المُواطنين، لقد اجتمعنا هنا اليوم للاحتفال بعيد الميلاد المائة لألبرت ويبر، أحد أكثر الرجال المحبوبين في مجتمعنا. وُلد ألبرت في مدينة ستريت في ١٥ أبريل عام ١٩٠٧. وتزوَّج من بيتي في كنيسة الثالوث المقدس في عام ١٩٣١، وعمل طوال حياته في مصنع سي آند جيه كلارك، مصنَعِنا المحلي للأحذية.» وأضاف قائلًا: «في واقع الأمر، قضى ألبرت حياته بأكملها في مدينة ستريت، فيما عدا أربع سنوات عمل خلالها جنديًّا ضمن قوات مشاة سومرست الخفيفة. عندما انتهت الحرب في عام ١٩٤٥ أنهى ألبرت خدمته العسكرية، وعاد إلى مدينة ستريت ليشغَل وظيفتَه السابقة نفسها كقاطع جُلود في مصنع كلارك. وفي الستين من عمره، تقاعَد بعد أن وصل إلى منصب مُدير طابق مُساعد. ولكن نشاط ألبرت لم ينتهِ عند هذا الحد، فقد عمل بعد ذلك في وظيفة حارسٍ ليليٍّ بدوام جزئي، وظلَّ يتحمَّل هذه المسئولية حتى بلغ ٧٠ عامًا.»
انتظر العمدة حتى توقَّفَت الضحكات قبل أن يُواصل خطبته. قال: «منذ نُعومة أظفار ألبرت وهو مُشجِّع وفيٌّ لنادي ستريت لكرة القدم، ونادرًا ما كانت تفُوته مُباراة لفريق الإسكافيِّين على أرضه، وهذا ما دفع النادي لأن يمنحه مُؤخرًا عُضوية شرفية مدى الحياة. علاوة على ذلك كان ألبرت يُمارس لعبة رمي السهام لصالح فريق التاج والمرساة، وكان أحد أعضاء هذا الفريق عندما حلَّ في المركز الثاني في بطولة حانة البلدة.»
اختتم العُمدة خطبته قائلًا: «أنا واثق من أنكم ستُوافقون جميعًا على أن ألبرت قد عاش حياة مُفعَمة بالبهجة والإثارة، ونأمُل جميعًا أن تستمر سنواتٍ طوالًا، فبَعد ثلاث سنوات، سنُقيم هذا الاحتفال نفسه لزوجته العزيزة بيتي.» قال العمدة مُلتفتًا إلى السيدة ويبر: «عندما أنظر إليها لا أصدِّق أنها ستُكمل ١٠٠ عام في عام ٢٠١٠.»
قالت أصوات عديدة: «صدقت، صدقت»، وأحنَت بيتي رأسها في خجَل، بينما انحنى ألبرت نحوَها وأمسك يدَها.
وبعد العديد مِن الوُجَهاء الذين ألقوا كلمات موجزة، والكثير من الصور التي التُقطَت مع ألبرت، اصطحب العمدة ضيفَيه إلى خارج مبنى البلدية إلى حيث تنتظر سيارة رولز رويس، وأخبر سائقها أن يُوصِّل السيد والسيدة ويبر إلى منزلهما.
جلس ألبرت وبيتي في مقعد السيارة الخلفي، كلٌّ منهما مُمسك بيدَي الآخر. لم يركب أيٌّ منهما سيارة رولز رويس من قبلُ في حياته، فضلًا عن أن يكون له سائق.
عندما توقَّفت السيارة أمام منزلهما في حي مارني تيراس للإسكان الاجتماعي، كانا مُرهقَين ومُتخمَين بشطائر السلمون وكعك عيد الميلاد، لدرجة أنه لم يمضِ الكثير من الوقت قبل أن يخلدا إلى النوم.
كانت الكلمات الأخيرة التي قالها ألبرت قبل أن يُطفئ الإضاءة الجانبية: «سيكون دوركِ هو التالي يا حبيبتي، وأنا مُصر على أن أظلَّ على قيد الحياة ثلاث سنوات أخرى لكي أحتفلَ معك بإتمامك ١٠٠ عام.»
قالت: «لا أريد أن تُقام حولي كل هذه الضوضاء عندما يحين الوقت.» ولكن ألبرت كان قد نام ولم يسمع ما قالت.
•••
لم تقَع أحداث كثيرة في حياة ألبرت وبيتي ويبر خلال السنوات الثلاث التالية؛ بعض الأمراض البسيطة من دون أيِّ مرضٍ عُضال يهدد حياتهما، وولادة ابنِ ابنِ حفيدِهما، جود.
ومع اقتراب اليوم التاريخي لاحتفال الفرد الثاني من عائلة ويبر ببلوغه ١٠٠ عام، أضحى ألبرت واهنًا جدًّا؛ ما جعل بيتي تُصِرُّ على أن يُقام الاحتفال في منزلهما، وألا يحضره إلا أفراد العائلة فقط. وافق ألبرت على مضضٍ ولم يُخبر زوجته بأنه كان يتطلَّع بشدة إلى العودة إلى مبنى البلدية ومن ثمَّ العودة إلى منزله مرةً أخرى في سيارة رولز رويس يقودُها سائق خاص.
أُصيب عمدة البلدة الجديد أيضًا بخيبة الأمل؛ فقد كان يتطلَّع لهذا الحدث كي تظهَر صورته على الصفحة الأولى للجريدة المحلية.
مع بُزوغ فجر ذلك اليوم العظيم، استلمَت بيتي أكثر من ١٠٠ بطاقة تهنئة وخطاب ورسالة من المُهنِّئين، ولكن ما أحزن ألبرت بشدَّة هو عدم وصول برقية من المَلِكة. افترض أن مكتبَ البريد هو الملوم وأن البرقية ستصِل في اليوم التالي دون شك. ولكنَّها لم تَصِل.
قالت بيتي في إصرار: «لا عليك يا ألبرت. إن جلالة الملكة مشغولة للغاية، ولا بد أن لدَيها الكثير من الأمور الأهمِّ التي تشغل بالها.»
ولكن ألبرت كان غاضبًا، وعندما لم تَصِل أيُّ برقيات في اليوم التالي، أو الأسبوع التالي، شعر بخيبة أملٍ كبيرة من أجل زوجته التي بدا أنها تتقبَّل الأمر برمَّته بمعنوياتٍ مُرتفعة. ولكن، بعد الانتظار أسبوعًا آخَر من دون وُصول أيِّ برقيات، قرَّر ألبرت أن يتولى الأمر بنفسه.
كانت إلين، ابنتهما الصغرى التي تبلغ من العمر ٧٣ عامًا، تأتي صباح كل خميس لتصحب بيتي بالسيارة إلى المدينة لتتسوَّق. في الواقع، لم يكن الأمر يتخطَّى مشاهدة واجهات المتاجر، فلم تكن بيتي تُصدِّق الأسعار التي تجرَّأت تلك المتاجر على وضعها على السلع. كانت تتذكر الوقت عندما كان سعر رغيف الخبر بنسًا واحدًا، وكان أجر أسبوع كامل جنيهًا واحدًا.
صباح ذلك الخميس، انتظرهما ألبرت حتى انصرَفا، ثم وقف بجوار النافذة حتى اختفَت السيارة عند ناصية الشارع. وبمجرَّد أن غابتا عن ناظرَيه، اتَّجه إلى مسكنه الصغير؛ حيث جلس بجوار الهاتف يراجع الكلمات التي سيقولها إذا تمكَّن من التحدُّث إلى الملكة.
بعد فترةٍ قصيرة، وبمجرد أن شعر أن الكلمات التي أعدَّها مثالية، رفع بصره نحو البرقية التي أحاطَها بإطارٍ وعلَّقها على الحائط فوق رأسه. منحَتْه البرقية قدرًا من الشجاعة يكفيه لالتقاط سماعة الهاتف وإدخال الأرقام الستة.
«استعلامات دليل الهاتف. ما رقم الهاتف الذي تُريده؟»
قال ألبرت بصوتٍ كان يأمُل في أن يكون حازمًا: «قصر باكنجهام.»
مرَّت لحظات من التردُّد على عامل الهاتف قبل أن يقول أخيرًا: «لحظة من فضلك.»
انتظر ألبرت في صبرٍ مع أنه كان يتوقَّع أن يعود إليه العامل ليقول إن هذا الرقم ليس مُدرجًا في الدليل. بعد لحظات، عاد إليه العامل وأخبره بالرقم.
سأله ألبرت المُندهش وهو يُزيل غطاء قلمِه: «هل تُعيد عليَّ الرقم من فضلك؟» «صفر، اثنان، صفر، سبعة، سبعة، ستة، ستة، سبعة، ثلاثة، صفر، صفر.» قال ألبرت: «شكرًا لك.» ثم وضع سماعة الهاتف. مرَّت عدة دقائق قبل أن يَستجمِع ما يكفي من الشجاعة ليُمسِك سماعة الهاتف مجدَّدًا. أدخل ألبرت الرقم بيدٍ مُرتعِشة. استمع إلى نغمة الرنين المألوفة، وكان على وشك أن يضع سماعة هاتفه عندما سمع صوت امرأة يقول: «قصر باكنجهام، كيف يُمكنني مُساعدتك؟»
قال ألبرت مُكرِّرًا الكلمات نفسها التي حفظها: «أريد التحدُّث إلى أحدٍ عن شخصٍ بلغ من العمر ١٠٠ عام.»
«مَن المتصل؟»
«السيد ألبرت ويبر.»
«لا تُنهِ المكالمة يا سيد ويبر من فضلك.»
كانت تلك فرصة ألبرت الوحيدة للهرب، ولكن قبل أن يضع سماعة الهاتف، سمع صوتًا آخر يتحدث.
«همفري كرانشو يتحدَّث.»
كانت المرة الأخيرة عندما سمع صوتًا شبيهًا بهذا الصوت عندما كان يخدم في الجيش. قال ألبرت مُتوترًا: «صباح الخير يا سيدي. كنتُ آمل أن تتمكَّن من مساعدتي.»
أجابه الرجل من الحاشية الملَكية: «بالطبع سأساعدك إذا أمكنني ذلك يا سيد ويبر.»
قال ألبرت مُتذكرًا الكلمات التي أعدَّها: «منذ ثلاث سنوات، احتفلتُ بعيد ميلادي المائة.»
قال كرانشو: «تهانينا.»
قال ألبرت: «شكرًا لك يا سيدي، ولكن هذا ليس سببَ اتصالي. في تلك المناسبة، تكرَّمَت جلالة المَلِكة وأرسلت إليَّ برقية وضعتُها حاليًّا في إطارٍ وعلَّقتُها على الحائط أمامي، وسأحتفظ بها كأحد مُمتلكاتي الغالية لما تبقَّى من حياتي.»
«لطفٌ منك أن تقول ذلك يا سيد ويبر.»
قال ألبرت مُستعيدًا ثقتَه بنفسه: «ولكني أتساءل عما إذا كانت جلالتها لا تزال تُرسِل برقيات لرعاياها متى أتمُّوا ١٠٠ عام؟»
أجابه كرانشو: «إنها لا تزال تفعل دون شك. أعلم يقينًا أن جلالتها تستمتِع للغاية بالحفاظ على هذا التقليد على الرغم من حقيقة أن الكثير من الناس أضحوا في الوقت الحالي يَصلون إلى هذه المرحلة العُمرية المهمَّة.»
قال ألبرت: «أوه، كم يسرُّني سماع ذلك يا سيد كرانشو؛ لأنَّ زوجتي العزيزة احتفَلَت بذِكرى ميلادِها المائة منذ نحو أسبوعَين، ولكن، للأسف، لم تَصِلها برقيَّة مِن الملكة حتى الآن.»
قال الرجل من الحاشية: «كم يُؤسِفني سماع ذلك يا سيد ويبر. لا بد أنه خطأ إداري من جانبِنا. اسمَح لي باستقصاء الأمر. ما اسمُ زوجتِك كاملًا؟»
قال ألبرت بفَخر: «إليزابيث فيوليت ويبر، اسم عائلتِها قبل الزواج هو برايثوايت.»
قال كرانشو: «امنحني لحظاتٍ يا سيد ويبر.»
انتظر ألبرت هذه المرة فترة أطول قليلًا قبل أن يعود صوت السيد كرانشو على الطرف الآخر من خطِّ الهاتف. «معذرة يا سيد ويبر على إبقائك مُنتظرًا، ولكن من المؤكد أنك ستُسرُّ لأن تَعرف أننا عثرنا على برقية زوجتك.»
قال ألبرت: «مسرور للغاية بالطبع. هل يُمكنُني أن أسألك متى مِن المُتوقَّع أن تصلَها البرقية؟»
مرَّت لحظات من التردُّد قبل أن يقول الرجل: «لقد أرسلَت جلالة الملكة برقية إلى زوجتك تُهنِّئها على بلوغها ١٠٠ عام منذ نحو خمس سنوات.»
سمع ألبرت صوت باب سيارة يُغلَق، ثمَّ تلاه بلحظات صوتُ مفتاحٍ يدور في مزلاج باب المنزل. فوضع سمَّاعة الهاتف بسرعة وابتسم.