الأدب الساخر
كما تقتضينا بعض الحفلات والسهرات طرازًا معلومًا من الثياب كالسموكن وغيره، أو لونًا خاصًّا على الأقل كالأسود أو الكحلي، هكذا قضى نقادنا على أحفاد امرئ القيس، فأمسى الشاعر كالقطار الحديدي، إن تنكَّب عن سكَّته وخطوطه بضع سنتمترات، تدهور وتحطَّم.
وكما أن في أوروبا ثيابًا مُعدة تُستأجر لتُلبس في الحفلات، هكذا استعار شعراؤنا بزَّاتهم من عند امرئ القيس ليمثلوا بها في ديوان العرب.
بقي مخزن الملك الضليل مُشرع الأبواب مئات السنين، ينتقي منه الغادي والرائح ثوبًا على قده، فتنفتح له أبواب القصور، ويهتك دونه الحجاب الصعب، وظلت صفة الطلول قيد التجويد والتنقيح أدهارًا، كأنها أحد اكتشافات باستور التي نجَّت البشر من أعدائهم غير المنظورين.
وكان عنترة — ذلك الغراب الغرِّيد — أول من شك في هذا المذهب الشعري، وما علينا لو سميناه: الطقس الأدبي، فللشعراء طقوسٌ يمارسونها بورع وخشوع، شك عنترة وآمن في مطلع مطولته المشهور:
وكأنه لم يطمئن، ففتش عن مرعى لقريحته، فرآه في جلده فاستغله، والأرض السوداء مغلال.
واستيقظ العصر العباسي الأول، وهو عصر الثورة في الأدب العربي، فتفتحت عيون شعرائه الخلعاء على حضارة مجنونة بالترف والجمال، ففطموا أنفسهم عن الحليب واللبن، وعبدوا الأحمرين: الخمر واللحم، وكان شكٌّ وكان مجون، وكانت حرية بعيدة المدى، ولكن إلى أجل مسمى، فتقديس القديم من سجايا الناس الرئيسية، وهو منبع العبودية.
ثم همدت تلك الثورة بانطواء سجل هذه العصابة، وعاد الشعر بعدها إلى تزمُّته، فخلع ثياب المرافع ليلبس البجاد المفروض، فعاد الشعر إلى سمته، لا يتعداه إلا بمقدار محدود، فدار شعراؤنا على أنفسهم في حلقة ضيقة اختطها لهم القدماء، كأنهم أجرام النظام الشمسي، كلٌّ في فلك يسبحون.
وإذا كان النثر كالمشي، والشعر كالرقص، فجلُّ شعرنا رقص الدراويش؛ أغراض موجزة كحياة البدوي، في ناقته تتجمع كل مرافق حياته، من وبرها يكتسي، ومن درها يغتذي، وبفحمها يصطلي، وهي مركبه إذا أسرى، وخيمته إذا لذعه الهجير، فمن يلومه إن وصفها جملةً وتفصيلًا، ومن ذا يعنفه إن استبدت صورتها بخياله، فتجلَّت لنا في تعابيره؟ فلو لم تخصه الطبيعة بذوق سليم لأضاف: لله وبرها وبعرها، إلى الله درها، وأورثناها.
ليس هذا عجيبًا، ولكن العجيب الغريب هو أن يفرض أناس أوليون أساليبَهم على مَن سكنوا الدور والقصور من ذريتهم، فانحلَّت الشخصية العربية، وذابت في خطة امرئ القيس، فلم يخرج عليه غير نفرٍ قليل.
وقف هذا النفر في باب الصيرة وتنشقوا الهواء النقي قليلًا، فلا يستسلمون إلى سجيتهم حتى يتذكروا الوقار والترصن المفروضَين، فيخلعوا مباذلهم ليندسُّوا في بزَّة الشعر الرسمية، وهذا «مالوش» الأدب العربي و«فيلوكسيرا» الشعر.
تتراءى الشخصية في خلفاء امرئ القيس كوميض الحباحب في عتمة الغسق، فيسخر طرفة طرفة عين، ويتهكم زهير بآل حصن عابرًا، ويهزأ ابن حلزة بإخوانه الأراقم مقتصدًا، ويرشد الحطيئة إيثاره العافية إلى ذاته، من حيث لا يدري، فيقول لمهجوِّه التاريخي:
وانتشر نهار الإسلام، فاضمحلت ظلمات الجاهلية، وتراجعت لتقعد القرفصاء في دياميس الشعراء، لم ينسخ الدينُ الجديد روحَ الشعر الجاهلي، فظل الأخطل وجرير والفرزدق جاهليين قلبًا وقالبًا، أكبر همهم من الفن مضارعة الأقدمين، فعبَّروا عن الحياة الجديدة بالقوالب المعهودة، اللهم إلا ومضات تقل عند الأخطل، وتكثر عند جرير، أما الفرزدق فما انفك يقرع مروة الجاهلية وصفاتها.
أرسل الأخطل نفسَه على سجيتها في هذه الأبيات:
وهو لو نحا في شعره هذا النحو لَترك في صحراء الشعر الجاهلي قطعًا من الرياض. أما جرير صاحب الهجاء الحلو المر، كما نعَتَه القدماء، فكان أوقحَ من الأخطل وأفتح عينًا، فلم يحفل بجبروت السلطان وأبَّهة سريره، فضحك في حضرته مادحًا فقال:
وهَزِئ متغزِّلًا:
وامتاح البحور مازحًا:
وهجا ساخرًا:
وقال في خصمه الآخَر:
وما زال ينحو هذا النحو، كلما انفتح له مجال، حتى نام عن السخر وتولى رعيَه الأسدُ الأعمى، فأطلق لذاته العِنانَ واستولى على الأمد.
سخر بشار من كل شيء، وفي كل شيء، سخر في المدح، وسخر في الرثاء، وسخر في الهجو، وسخر في الحديث وفي … وفي … فلم ينجُ من وخزاته المؤلمة وجراحاته الدامية إلا مَن لا يعرفه.
تهكمٌ مر، وسخر مؤلم، لا الصداقة تَقِي، ولا الإحسان يَعصم. غريبٌ أمرُ هذا الضرير؛ فقد بذَّ البصراء في كل ميدان، اتخذ مما حوله مادةً لصوره، ولم تتوارَ شخصيته في مجالات القريض جميعها، فهو في جده شخصي، وفي هزله شخصي، وفي مدحه ووقوفه على الأطلال شخصي، نفسٌ عاتية متمردة، نفضت عنها رماد الماضي، وأضرمت نارًا جديدة في هيكل الأدب.
ثم نام الجبار على أشواك تمرُّده نومة الأبد، راسمًا صورته للذرية في ثلاثة خطوط خالدة:
وآلت زعامةُ السخر بعده إلى المستهتر أبي نواس، فضحك الأدب العربي حتى بدَت نواجذه. وكانت ثورةٌ أدبية قوَّضت الخيام، وكبت اللبن، وأحلت الخوابي والدوارق على دست الحكم. وما أغنانا عن سردِ شيءٍ من شعر أبي نواس، فكل عربي يلمُّ بطرفٍ منه.
ويطوي الدهر مدرسة الخلعاء فيخلع الشعر طيلسانه، ويستعيد عباءته، فتتجهَّم الوجوه حتى يطلع ابن الرومي بسخره الذي يكشر له القارئ ولا يبتسم، ثم ينطوي العلم مع المتنبي، ولو أسرف أبو الطيب في سخره لَفاز بسهمي فاطمة امرئ القيس، ولكن كبرياءه أبَتْ عليه إلا التزمُّت والتوقُّر، وقديمًا جنَتِ الكبرياء على الملائكة فبدلت الأجنحة الخضراء بأذنابٍ سوداء وآذانٍ وطواطية.
ولزم الشعر وقارَه، حتى الساعة، فما بانَت له سن، وانتهت به هذه العبوسة إلى الجفاف فاليبوسة.
أما النَّثْر فما نبه له شأنٌ قبل الجاحظ، أنزله هذا الزعيم العبقري منزلةَ الشعر، فانفتحت بوجهه القصور. كانت عناكب الأقلام لا تنسج خيوطها إلا حول رجال الحول والطول والأبهة والوقار، فإذا بها في يد الجاحظ تدور حول عبد الرحمن وأضرابه، فخلق الأدب الشعبي. جدَّ الجاحظ ضاحكًا، وتفلسف ساخرًا، وحل أخطرَ المعضِلات وأدقَّها هازئًا، فكان كل مَن جاء بعده عيالًا عليه حقًّا، فهو أستاذ الأصبهاني في أغانيه، وهادي أبي العلاء إلى سلاح العميان وعَتَادهم.
قرأت في ملحق لكتاب اليتيمة قال فيه مؤلِّفه إنه عرف في المعرة شاعرًا ظريفًا، يعني أبا العلاء. لم أستغرب نعت أبي العلاء بالظرف، فالرجل ظريف أي ظريف، ولئن لبس الثوب المفروض ليدخل ديوان العرب، فقد خلعه في رسالة الغفران ووقف بين الخالدين.
ونام السخر نومةَ آل الكهف حتى أيقظه الشدياق في منتصف القرن التاسع عشر، فكتب «الفارياق» و«الواسطة» و«كشف المخبأ»، فأخرج العقل العربي من دياميس الحريري وكهوف القاضي الفاضل، فابتسم الأدب حينًا، ثم عاد إلى تجهُّمه، لا يتجه زعماؤه إلى هذا الصواب كأنهم مسمَّرون على صلبانهم، ما خلا كاتبًا واحدًا طواه الموت منذ أعوام هو فيلسوف الفريكة، فدبَّت روحُ المرح، وفاضت الابتسامة على حفافي كتب رحلاته، من «ملوك العرب» إلى «قلب لبنان».
ثم كانت الضحكات الغامضة النادرة في كلام الكاتب العبقري عمر فاخوري، رحمهما الله وخلف علينا.