أدب الظل
كان أقصى أماني الأديب أن يشارف قصرَ ملك أو أمير، والسعيدُ مَن ينفتح له الباب ويدنو من السُّدَّة والسرير؛ حيث يَنعم بعيش أخضر فيُوهب ويهب حتى الغلمان والجواري والضِّياع إن صار وزيرًا؛ فحُسنُ التحرير والتحبير كان سُلَّمًا للوزارة، كما قال المأمون لأحدهم حين جوَّدَ كتابًا عرَضَه عليه.
وكذلك قُل في الشعراء من أبي سلمى حتى شوقي؛ فالأدب، وخصوصًا الشعر منه، ما نبَتَ وجنَّ إلا في ظلال القصور، وعنه نشأ هذا الأدب الذي نقرأ — أدب الظل — فما أشبهه إلا بتلك النباتات التي تُغرس في الأصص زينةً للدار، تصعِّر خدَّها إذا هشَّ لها نور النافذة الحليم، وتستقيم أخادعها إذا ضربتها الشمس ضربةً فرزدقية، فتعود إلى البوق كالحلزون.
فلا يلومنَّ أدباءُ اليومِ زملاءَهم أدباءَ الأمس، فلا يكون القماش إلا على هوى العصر. فصَّل أسلافنا نسيجَ الكلام وفقًا للطراز المرغوب فيه، فكان منهم الخياط الماهر، وكان منهم كالذي خاط قباء لبشار فوقع في لسانه، فلا تظنن أنهم كانوا أقل عقلًا منا، يقلِّدون ولا يطمحون إلى التجديد، فكم تبرَّمَ زعماؤهم بشهوةِ أمرائهم للمدح، فغرفوا لهم الثناء من بحور الشعر حتى صار المديح كالعبث والسخرية.
إنك تلمح الجديد في آثار هؤلاء الأدباء بين العتيق المعفن، فكأنك في دكان «سمانة» فيه كلُّ ما يحتاج إليه البيت. ولا غرابةَ فيما أقول، فالشاعر أيضًا كان من حوائج القصر، كالهراج والنديم والسمير، فالناسُ ألهيةُ الناس.
فلو قرأتَ عمر بن أبي ربيعة، وبشارًا، وأبا نواس، وابن الرومي، والبحتري، لَرأيت أن كلًّا منهم قال شِعرَين: شعرًا أرضى به نفسه، وشِعرًا رضي عنه كيسُه، أنفق ما أجداه شِعرُ الكيس على إنماء شِعر النفس، والمُضِي في الطريق الحديث الذي هداه إليه وجدانُه الحكيم.
مساكين الشعراء، فلا يغرك ما تقرأ في كتب الأدب عن الحفاوة بهم وإعظامهم، فقد كان يقف الشاعر بباب الأمير الشهر والشهرَين، والعام والعامَين، ولا تطأ رجله البساط ليقبل بين يدَي سيد السرير، وينشده قصيدة سَدَاها الكذب ولحْمتها التمليق، وكم كان هؤلاء الأسياد يعبثون بالشعراء، بل كم كانوا يَئِدون بناتهم، فهذا صراخُ ابن الرومي يجرح القلبَ على بُعْد العهد به، فيقول:
أرأيت ماذا تعقب خيبة الشاعر؟! وإن تسمع بالأخطل المدلَّل فهذا واحدٌ لا غير، وقد مات ذلك الدلال بموت ممدوحه عبد الملك، وعفى عليه عمر بن عبد العزيز، فطرد الشاعر، فانزوى في صحرائه القاحلة حتى مات، وهو يذكر بطن الغوطة و«الخبر» الذي أتى.
مساكين الشعراء! مات المتنبي وفي قلبه جرحٌ أليم من ضربة الدَّوَاة التي خلَّد مدادَها سيفُ الدولة، وإن قال: «فما لجرح إذا أرضاكم ألم»، فلا تصدِّقه، فقد رافَقه ذلك الألم إلى القبر. وخيبة أبي نواس بالخصيب، والمتنبي بكافور، تُنبِئك كم كان يكدح قوَّالو الشعر في إدراك الرغيف، فتركض ويركضون، ويعلم الله مَن يسبق. وإن شبعوا حمدوا الله على تلك النعمة وقالوا في الأمير ما يَزهى به كالغراب، والجَسُور منهم كان يهجو إذا استبطَأَ العطاءَ؛ فطَوْرًا يأتيه، وتارةً يقضي عليه.
وما كانت حال الشعراء في غير أمتنا إلا كحالهم عندنا، فهذا كورنيل يسترحم القصرَ ليُجرِي على بوالو قليلًا من المال يتقوَّت به، كما أوصى قبله أبو تمام أمراءَ المعرة بابن البحتري، فأكرموه على بذاذته، وأخيرًا نهض الغرب، فأبى أن يكون كالدجاج، يزرب في الحوش، ويُنثَر له الحب، ويشرب الماء الآسِن من الجرن، فطار في الأفق الفسيح، يفتِّش عن هواء طليق، وشمس حُرة، وماء طَهُور، وألِفَ الجِنَان، فألهمَته غناءً أطرب القصورَ والأكواخ، وزأر — والشعراء أُسْدٌ وطَيْر — فأرعَدَ فرائصَ العروش، وشعر أنه ملِك دولة الرأي العام فبسط عليها سلطانه، وأوغل في طلب حُريته، وذاقت الأممُ حلاوتَها، فتهافَتَت على ما يُطبخ ويُنضج، فكان للنابغ الثروة والسعادة والمجد. أَلَمْ يتوِّجوا فولتير قبل موته بأشهُر؟ ألم تمشِ فرنسا في مَناحةِ هيغو؟ … إلخ.
أما المتطفِّل على موائد الأدب، في كل جيل وأمة، فظلَّ قلبه يتعصَّر مشتهيًا عضَّةَ كِسْرة، كاليعازار، ولا يجدها، وإن يَئِس علَّل نفسَه بالجلوس في حِضْن إبراهيم، ولكن ليس في الأدب لهؤلاء المَعَاتِيه جَنةٌ يخلدون بها.
أما عندنا، فظلَّ الأدبُ يتسكَّع في الظلال حتى كانت الحرب الكبرى التي نفخَت في العالمين روحًا جديدة، وخلقت أدبًا جديدًا، فأدرك أدباؤنا أنهم خُلِقوا لغير التسوُّل والشحاذة، فأبَتْ عليهم أنفُسهم أن يظلوا راسِفين في تلك القيود — إلا الذين ما برحوا مدَّاحين نوَّاحين — فنحَوْا منحًى جديدًا في كل ألوان الأدب، وإن لم يُعرفوا بعدُ بصنف خاص، فإنهم سيظفرون بالطابع إن فكَّروا بعقولهم لا بعقول جيرانهم كأكثر الناس، وإن عبَّروا بلغة جيلهم وزمانهم تعبيرًا صحيحًا، ولم يرَوا مثَلَهم الأعلى في تلك الرواسم، التي يجدحون من سويقها ولا يتأبَّون، ولم يخالوا الأدب كله في عبارة مُقفَّعية، وجملة جاحظية، وسَجْعة همذانية، فالجاحظ الأديب الساخر لم تُقِرَّ له الأجيالُ بالإمامة إلا لأنه فكَّر بعقله، ونطق بلسان جيله، وأبى أن يتكلَّم كالمتقدمين، فقال للناس: أنا أبو عثمان، أنا الجاحظ، ولست قُسًّا ولا سحبانَ، ولا أكثم بن صيفي.
لسنا نبحث الآن تطوُّرَ الأدب ونهضته الحديثة — هذا بحث طويل كشهر الصوم، وأنا صائمٌ دائمًا ولا أرتجي أجرًا — ولكنها كلمةٌ عرضَت، ساقنا إليها فرَحُنا ﺑ «بنك مصر» الواهب الألف الجنيه، ولمن يأخذونها المنَّة والشكر، فلا عذْرَ بعد اليوم، ولا شكوى لأدباء القُطْر الشقيق. فإلى الميدان أيها الجِياد، وأرونا فتحًا لا غزوًا، أرونا تأليفًا لا ترجمةً ونقلًا.
قلنا فيما مضى للأستاذَين الرافعي والعقاد إن المستقبل للقصة، فَلْيَتركا الشباب وشأنهم فيها، فجادَلا وماحكا لأن ليس لهما قصة، فما يقولان اليوم وقد ردَّدَت أجواء مصر صدى النفير العام، عفوًا بل النفير الخاص، ينفخ فيه بنك مصر داعيًا الكتَّابَ إلى الجهاد القلمي، وما علينا نحن إلا أن نردِّد: نصرٌ من الله وفتحٌ قريب.
أية كلمة تَفِي بالثناء الواجب لبنك مصر، فتَّشت فما وجدتُ إلا كلامًا مبتذلًا، فلو كِلْنا المدحَ بالمدِّ لمَن حقَّق آمالنا لَقصَّرْنا، فخيرٌ من المدح تمنياتٌ قلبية لهذه المؤسسة، وحثُّ كل عربي ليجعلها بيتَ ماله فيستثمره ويفيد أمته، فهي رافعة رأس العرب، إن شاء الله.
كنا نحس ألمًا حين نقرأ في صحف الغرب عن الجوائز الأدبية التي جلَتْ صدأَ العقول، وفتحت للإنتاج الفكري أبوابًا، فعقد القوم لكل لون من الأدب جوائز، أمَّا نحن فكنا نلهو بالتفاهة، كأن الأدب سباق أُطَيْفال يجريهم فكه في المضمار، وللمجلي كرة أو ليمونة.
فكَّرنا منذ أشهر بخلق جائزة ولو زهيدةً، وطرقنا بابَ كثيرين فعُدْنا من عندهم نردِّد قولَ الحطيئة:
لم يخطر على بالنا أن نقرع باب «بنك»، لعلمنا أن صناديق البنوك حديدية، وليقيننا أنها لا تُعْنى إلا ﺑ «مِن وإلى»، حتى طلع علينا بنك مصر بهذه الأريحية، ويأتيك بالأخبار مَن لم تزود.
نعم إن الجائزة للكتَّاب المصريين، كما يدل ما قرأت، والموضوعات أيضًا قصصٌ مصرية محضة، فنحن لا يَعْنينا مَن يأخذ المال، فسواء أعندنا مصريًّا كان أم عراقيًّا أم مراكشيًّا، ما دام اللسان عربيًّا، فكل ما نحلم به ونصبو إليه أن تربو ثروةُ الأدب العربي ويُرزق مولودًا جديدًا ولو أنثى.
وإن كان لي ما أقول في هذا الصدد، فرجاءٌ إلى طلعت حرب باشا ألَّا تكون لغة «الحوار»؛ لأن القصص تفقد طرافتَها متى عُرِضت في الأقطار العربية التي لا تفهم اللسان المصري العامي، على ظرافته وحُسْن جَرْسه، فكم كنت أتألم — لا لشيءٍ إلا لأني لم أفهم — حين أسمع حديثًا تنطق به أشباحُ السينما المصرية.
أما الذين هززناهم للجائزة الصغيرة وظلوا جامِدين كالصنم فَلْيَعذرونا، ظننا بهم خيرًا فأزعجناهم، وما علمنا أنهم لا ينفقون مالهم إلا على جاهٍ باطل، وصِيت زيف، على موائد خضر، ودفاترَ غيرِ دفاترنا السوداء.