حول جبران ومي
(١) بين عين كفاع وعاليه: «الأندلس الجديدة – العصبة – أبو الهول – كراتشوكوفسكي – جبران الخالد»
عدنا فهل من يقول العود أحمد؟
كُتب علي كل عام خطوتان، بل رحلتان: رحلة الشتاء ورحلة الصيف، وإن لم أعبد رب البيت الذي أطعمني من جوع وأمنني من خوف؛ فلأنني أراه يمنيني بما لا يعنيني، فهو لي كابن يقطين بشار، أريده للدنيا وراحتها، ويريدني يوم الدين للدين، ومن لج كفر، فلو زوجني بنته هذه لمهرتها من الغلف والقلف أكثر مما مهر شاول بنت داود الملك والنبي التائب!
ويلي إن شكوت وويلي إن سكت، أنا بين ويلين كهريرة الأعشى، لقد صَمَتُّ مُكرهًا خمس جمع، ولو ذات سوار لطمتني لَلَذَّ لي اللطم، وكانت المصيبة هينة، ولكنها — أجلك الله — تعسة دابة، حطمت الآلة الكاتبة، ورضت لي أضلاعًا، فدوختني أيامًا، وإليك الخبر:
بتنا على سفر فالتأم مجلسنا — مجلس القرية — للوداع، وكان الحديث، ذاك يقول للمكاري: هذه آخر مرة يا بطرس يركب دابتك الأستاذ، وذاك: غدًا؛ أي بعد أشهر، تزمر سيارته في الوطا وتشق الضيعة فينزل قدام الباب، غدًا … غدًا … وكلنا:
ثم كان الوداع الحار: بوس، وشد أيدي حتى حسبتنا نتصارع، وأخيرًا هونها الله فمرت تلك الساعة بسلام.
ثم أصبحنا والأتان مربوطة أمام البيت تامة الكسوة، حلس فبردعة، ومفرشة تحتها خُرجٌ في إحدى عينيه الآلة الكاتبة، وفي الأخرى ما يعادلها من متاع، فالأثقال كالطائفية تتطلب التوازن.
مشت غزالة — اسم الحمارة — وكان العهد بها فارهة؛ لأنها غير عانس، فإذا بها تتلكأ، إن جذبتَ رسنها وقفت، وإن أرخيته اصطكت ركبتاها، فقلت لبطرس: أيش مصيبة دابتك اليوم؟!
فأجاب: خيسها سقوط الليرة أكثر من خمسين بالمائة، خذ حذرك، ظننته يهزل كعادته فقال: ما لك؟ ما نسينا أيام الحرب.
فسكت وسرت وأنا على يقين من أن الحمارة ساجدة شكرًا لله على حملها الخفيف، ولما أسهلنا أخذت تنتق بي، ثم طفقت تنطق من خلف كحمارة الجاحظ، فضحكت وقلت لرفيقي: إنها تكذب بطرس.
فسمعها بطرس وضحك قائلًا: يا ليت …
وبعد سير قليل شرعت تحيد عن الطريق وتمشي في الحقل — والحقل عندنا كما علمت خيرٌ من السكة — فتذكرت أتان بلعام الفصيحة، حين قام صباحًا وشد عليها وانطلق مع رؤساء موآب، فحمي غضب الله ووقف له ملاك الرب في الطريق، وسيفه مسلول في يده، فمالت الدابة عن الدرب مرارًا حتى وقف ملاك الرب في مضيق، فربضت الدابة تحت بلعام، فحمي غضب بلعام كربِّه من قبل، وضربها بالقضيب، ففتح الرب فمها، وكان حديث بين الأتان وبلعام يدل على أن الحمارة كانت من كبار علماء المنطق وأصحاب البحث العلمي، اقرأ هذا الحوار في سفر العدد (الفصل ٢٢)، وإياك أن تنسى أن الملاك قال لبلعام: لو لم تمل حمارتك من قدامي لكنت قتلتك واستبقيتها.
أما أنا فلم يقع لي شيء من هذا، ولا أذكر من هول تلك الساعة إلا أنني سمعت هاتفًا يقول: فَلْتحيَ المساواة، وَلْتعش وزارة النافعة!
•••
سبحان من عرى صيفي وجعل خريفي مورقًا، كيف أطلعني «أحد المعجبين» على مجلة «البرازيل المصورة»، فزادني قرفًا للأدب العربي ما خلا اليسير منه، كانت سياحتي فيها كوجود أحمد فارس الشدياق في مالطة؛ حيث قال: «ومن يكن من العرب ذا غيرة على لغته فلا يطيق أن يسمع الكلام المالطي على فساده.»
ومع كل ما تحلت به البرازيل المصورة من ركاكة، أقول إنني قرأت تقريظًا لها في الأندلس الجديدة والعصبة وأبي الهول.
صار الكلام في شعرنا البلدي — شعر المناسبات — ضربًا من العبث، كان في نيتي أن أحدثك باختصار عما قيل في مأتم المتنبي بدمشق، فوجدت القصائد متقاربة، فقس على ما قيل وما لم يقل، واعذرنا فقد تناولنا المتنبي وحفلاته العديدة أكثر من مرة، فالحمد لله على سلامة لحيته من النتف مرة ثانية، ولكننا لن نعفي أحدهم حين تصل إلينا قصيدته الثانية، التي هجا بها أمة علمته «مدرستها الجديدة» أدبه الذي يعتز به ويحمد عليه، أما الآن فإني محدثك عن «أندلسنا الجديدة» عن أدبنا في البرازيل.
فليلة سفرتي البلعامية حمل إلي صاحب البريد مجلة «الأندلس الجديدة»، وما بلغت عاليه مُطَحْطَحًا حتى وردت علي مجلة «العصبة» وجريدة «أبو الهول» فتعزيت، وهكذا أورق خريفي كما قلت لك، ثم بعد أيام فرحني كتاب «عابرة سبيل» الصادر عن بروكلين، فأنساني بعض أوجاعي.
الأندلس الجديدة مجلة مجلوة كالعروس ليلة زفافها، حسن نفسي في جمال جسدي، فلو رأتها ولادة لضاحكت بين جداولها حبيبها «المسدس» وتذاكرا معًا شعرها الرائق مبنى ومعنى، شعر تنزه أكثره عن البضاعة الرائجة في «بندرنا»، ذاك الشعر الذي يصبحني كل يوم صباحَ أَحْلت أي أَحْلت.
أجل — إلى روح جبران الحبيب — نقدم هذا العدد، وهو كل ما نستطيعه من تكريم ذكراه بمناسبة الحفلات التي يقيمها أدباء الأميركان؛ لمرور أربع سنوات على انتقاله إلى دار الخلود.
فإليك يا جبران الحبيب هذه الأضمومة العاطرة من أزاهر حبنا، تقديرًا لآلامك المريرة وجهودك القاصمة في سبيل تحريرنا من قيود الجهل والتقاليد، والنهوض بنا من مهاوي الظلمة إلى مشارف النور، إليك أيتها المسرجة التي ستتحول مع تحولنا — قلت ولا شك — إلى منارة وهاجة تنير شواطئ أفكارنا وأحلامنا، فنهتدي إلى حقيقة كياننا الضائع في كياننا.
سلم فمك يا شكر الله، امض في سبيلك فالحق معك، لا أقول شيئًا في «غمائك» المطرزة بألوان المغيب الذي أتمتع به في عاليه كل مساء، بل أرجئ كلمتي إلى يوم تظهر في أفق الأدب، وإذ ذاك نقابل طلتها بما يستحق، لا تتوقع مني ثناءً صرفًا، فبوس الأيادي ضحك على اللحى.
صدر الشاعر شكر الله الجر مجلته المومأ إليها بمقاطع من مواكب جبران عنونها «معجزات جبران»، كما فعل من قبل الصديق الأعز الشيخ فؤاد حبيش في المكشوف يوم نشر ردًّا علي، قلت هذا استطرادًا إلى محو ما علق بالأذهان من زعم السيد عباس محمود العقاد يوم نقد «المواكب» حين ظهر، قال في «الفصول» (ص٤٦):
«وقد فتحنا الكتاب — أي المواكب — فوجدنا في أول شطرة من أول بيت خطأ من هذا القبيل في قوله:
يريد أُجبروا.»
قلت: نعم وهي كذلك، كان على الأستاذ العقاد أن يتثبت فيما يقول قبل أن يكتب مهولًا: «في أول شطرة من أول بيت»، كأنما أُنزل على الأرض كسفٌ من السماء فخربت، راجع الفيروزآبادي وغيره حتى أصغر المعاجم لتعلم تعنت العقاد، إننا نسأل العقاد وأضرابه: من أين جاءت الجبرية؟ — الطائفة التي تقول إن الإنسان مجبورٌ لا اختيار له ولا قدرة، وإن الله قدر عليه أعمالًا لا بد أن تصدر منه — أنغلط كل من قالوا الجبر الجبرية، لنخطئ جبران؟ فما رأيت المجبرة إلا لابن النديم.
نعم إن جبر لغة تميم، ولكن الذين تكلموا بهذا الحرف وجاروا بني تميم فيه كلهم عرب صحاح اللسان، أيظل هؤلاء الذين يحلو لهم أن يكونوا جبران يسقطون على هذه السفاسف التي لا تعلي ولا تسقط! لست أنكر أن جبران في نثره أشعر منه في نظمه، ولكنه كيفما دارت به الحال، لا يقل عن العقاد نغمة شعرية على قلة ممارسته النظم، بل يفوقه كثيرًا.
ثم قال العقاد: «لم ننته من الصفحة إلا على خطأ ثانٍ في قوله:
والواجب جزم يندثر.»
قلت: لا يا أستاذنا العلامة! الجزم غير واجب، فمن هنا اسم موصول، ومثل هذا كثيرٌ في كلامهم، فليراجع الأستاذ العقاد كتب النحو، وإن شاء فأنا أدله «مغني اللبيب»، ولا أشك في أنه ذاك، فليفتح صفحة ١٩ من الجزء الثاني طبعة سنة ١٣٠٢ هجرية، على صاحبه وآله أفضل الصلوات وأذكى التحية.
ثم قال العقاد: «هذا وليس في الصفحة إلا أربعة أبيات»، ليوهمنا أن «مواكب جبران» الراقصة من سقط المتاع، ولكن العقاد كان أسود البخت فأخطأ الغرض ونقد الحبة بمنقار أعوج فأفلتت منه سالمة.
ثم انتقل العقاد من نقد المبنى إلى نقد المعنى فقال:
«قلنا — أي العقاد — إنه لا يقول ولكنه يفعل»، قلت أنا: ليس هذا ما عناه الشاعر، وكان على الناقد أن يكون أرحب صدرًا وأبعد نظرًا ليفهم ما يقصد.
إن أكثر من ينتقدون جبران كهذا الفاضل، وجلهم من تبابيع أدبه، يتمنون أن يشبهوا به وإن أعجبوا بمثل هذا النقد الزيف، ولكن عارفي قدره يرون أن عناصره في الأدب الحديث حية لا تموت، ولا يرون من يدانيه أو يقاربه من هؤلاء المقلدين، وأنه سيظل نسيج وحده، وكأنما هذه العبارة كُتبت لتُقال فيه وفي أشباهه من نوابغ العالم الأفذاذ.
وبعد، فإن كان لي كلمة أقولها في مجلة أخي شكر الله، فهي أنه يغالي كثيرًا في تقديم كتابنا إلى قرائه، وينتقي لهم أضخم الألقاب وأفخمها، لا أنكر أن بعضهم جنوا بها وقد يضربون ولا يلبون إن لم يبرزها لهم، ولكن ما علينا لو عودناهم، فالأديب الكبير حقًّا لا يغر بمثل هذه المضحكات، فليته يكتفي بأسمائهم فقط، وليت أدباءنا الكبار يتشبهون بسيدات البيوت الخطيرة، أما تركن التزين بأساور الذهب لخادماتهن ووصيفاتهن!
وأخيرًا لا أكتمه أن تقريظه البرازيل المصورة بقوله: «تشمل على أروع المقالات وأبدع الشعر، وألطف المستظرفات» يثير ظنوني، ويشككني فيما يغدق من ألقاب.
لا تصدق يا أستاذ مسرة، فزملاؤك يمزحون، والحق هو ما قلته أنا فيها، فإن كنت قرأت، فاعمل على تهذيبها وتجميلها إن كنت تطلب لها خاطبين.
أما مجلة العصبة التي رأيت وجهها الصبيح ولم أضرب لها كف موعد، فهي لسان حال «العصبة الأندلسية» أخت رابطة جبران الأدبية، بل بنت تلك المدرسة الدارسة التي يصح فيها قول دعبل في آل البيت:
متع الله عصبة الخير والأدب الصحيح بعمر طويل لنحيي ثقافتنا بين الأمم.
تطالعك مجلة العصبة بأروع مشاهد لبنان، جبار القطر الشامي، وتريك أمجد آثار العرب وتسري إليك بعطر الأندلس ممزوجًا بأريج لبني لبنان، فإلى الأمام يا شباب العرب، ولا أقول شباب لبنان فلبنان أصبح مرادفًا للعروبة، وإن نفره ما تهربه أقلام بعضهم على الطروس، لست أعني إلا بعض أدباء وشعراء، فما أنا بسياسي لأناقش كتابها.
إن صح أن اللسان يوحد الأمم والشعوب، فجماعاتنا المنتشرة في كل الأقطار المسكونة هم دعاة القومية العربية لا غيرهم، فهم الذين حثوا أمس ويحثون اليوم وغدًا كل عربي من مهاجر ومقيم على تقديس لغته وقوميته، وهم الذين احتلوا مقامًا ساميًا بين أمم الأرض، والذين خالطوا شعوبها مخالطة الأشباه والأنداد، وأفهموا بعضهم أنهم أحفاد الأمة العربية، فحنوا على جدتهم المرحومة وذكروها بالخير.
قد تظنني مُبالغًا إن قلت لك إن مجلاتهم الراقية تحبب إلينا لغتنا، ولكنك ذاهب مذهبي — إن شاء الله — متى طالعت «العصبة» الحافلة بكل طريف مفيد من شعر عال وأدب صحيح، إلى تاريخ مجيد يهز النفوس ويرفع الرءوس.
وحياتك يا أخي، إن آثارًا كهذه تجمد شبابنا المائعين فلا يذوبون في الأمم الطارئة علينا، أو الشعوب التي طرأنا عليها، فشكري الخوري في «أبي هوله» لبناني فوق كل لبناني، وهو ممن عيدوا للبنان في زمن عبوديته «٦ أيلول»، حتى حاول الرجل أن ينشئ أدبًا لبنانيًّا لغةً وتفكيرًا، فأخرج لنا منذ عشرات السنين روايته الرائعة «فنيانوس» نعم فنيانوس وشقفه.
لم ينس المتمشرق غناطيوس كراتشوفسكي فضل صاحب أبي الهول في بحثه «أدبنا الحديث» فقال كما ترجموا لنا: وقد شرع شكري الخوري في محاولة طريفة، وهي استعمال اللهجة السورية — قلت اللبنانية — الدارجة في الكتابة ولكن أحدًا لم ينسج على منواله.
واعجبًا للمتمشرق أغناطيوس، أينسى المكرزل صاحب جريدة الدبور الطريفة الحلوة النكتة، وحنا الفغالي صاحب «شموني» القصة البديعة، فهي أخت فنيانوس شكري وعلى طرازها وإن تفاوت سنهما، بل أعجب له سبع مرات، وهو يؤرخ أدبنا المعاصر كيف لا ينسى حليم دموس وينسى هذين المنشئين، فيقول عن شكري الخوري: ولكن أحدًا لم ينسج على منواله.
ولكنك لا تلوم غناطيوس مثلي متى علمت أنه «مكبر فوتوغرافي»، لما كتبه العلامة المدقق الأستاذ جب عن أدبنا الحديث، كما ضخم العقاد مقالات صديقه المازني في ابن الرومي فجاءت كتابًا غليظًا، فالذي يقول — إن صحت الترجمة فليس الأصل عندي — أن القصة العربية التاريخية شاعت أولًا في محيط البستاني فعذره بين كالعنزة البلقاء.
يا لله من بعض هؤلاء المتمشرقين كيف يتصدرون للحكم وما عندهم من آلته شيء، إنهم ككتابهم الذين يكتبون عنا ما لا يعلمون، لقد ذكرني هذا بشكسبير حين أرسى المراكب في حلب، وبشاعر فرنسي — أظنه دي هيريديا — قال: إن لبنان يدخن، ظانًّا أنه جبل بركاني.
فأي طالب علم لا يعلم أن المحيط كتاب لغة وضعه العلامة البستاني فأحل فيه رأس الكلمة محل ذنبها، أظن «غنطوسنا» هذا أراد «الجنان» فأخطأ في النسخ، وجاءت غلطته ثخينة غريبة مثل آرائه العمشاء.
ما رأيت كراتشكوفسكي إلا ناسخًا سالخًا ماسخًا، كما عبر ابن الأثير في «أدب الكاتب»، فهو لم يبرح الدائرة التي رسمها الأستاذ جب، وإن خرج من تلك الصيرة رقص رقصة الجدي هنيهة، ثم عاد إليها يفتش عن ضرع أمه … فما كتبه الأستاذ جب عن أدبنا يدل على درس من يتفهم الكلام ويمحصه، لا على نقل ومسخ كما رأيت في فصول كراتشكوفسكي الثلاثة التي قرأتها مترجمة في رسالة الزيات.
رحم الله الشدياق ما كان أنبهه، حين خص أمثال كراتشكوفسكي بالذكر في «ذنب الفارياق» التعبير للشدياق، فاقرأ هذا الذنب العاقل وقل إن هذا الشدياق الذي يقول عنه كراتشكوفسكي «وفي البلاد غير العربية امتاز العصر بظهور بعض الكتاب النوابغ كأحمد فارس الشدياق»، كان بابًا اللغة لا شدياقها.
لقد حفظها عن ظهر قلبه كالماء الجاري فألف الطرائف المعدومة النظير، وصف لك ما مر على رأسه من المحن، وما ركَّ وما التكَّ، آلمه غرور متمشرق وادعاؤه على قلة بضاعته، فقال في ذنب فارياقه: «وإنما الغرض من هذا الكلام هو أن أبين لهذا الرملي الهارف المتملق، مناضلة عن شيوخي الذين أخذت عنهم من العلم ما أخذت، أن شيوخه لا يحسبون في عداد العلماء، نعم إن لهم باعًا طويلًا في التاريخ فيعرفون مثلًا أن أبا تمام والبحتري كانا متعاصرين، وأن الثاني أخذ عن الأول، وأن المتنبي كان متأخرًا عنهما، وأن الحريري ألف خمسين مقامة حذا بها حذو البديع وما أشبه ذلك، إلا أنهم لا يفهمون كتبهم، ولا يدرون جزل الكلام من ركيكه، وثبته من مصنوعه، ولا المحسنات اللفظية والمعنوية ولا الدقائق اللغوية، ولا النكات الأدبية ولا النحوية، ولا الاصطلاحات الشعرية، فغاية ما يقال أنهم نتفوا نتفة من علوم بواسطة كتب ألفت بالفرنسوية.»
وإن شئت أكثر فخذ «كشف المخبأ»، واقرأ ما يحدثك به عن الدكتور لي حين كان يصحح له ترجمة التوراة، ثم ما كتبه عن بعض أساتذة اللغة العربية في جامعتي كمبردج وأكسفورد.
أجل لقد بذر الشدياق لغتنا الفصحى في كل الأقطار كمصر ومالطة، وإنكلترة وفرنسا وتونس حتى بين أتراك الأستانة، ثم في العالم كله «بجوائبه»، وكأنما عناه ابن زريق البغدادي بقوله: موكل بفضاء الله «يزرعه».
أقدرت الآن هيام لبنان بلغة العرب وسبقه الدائم، أمس واليوم، إلى التجديد؟ فهو باني النهضة الحديثة ولا أقول «الانبعاث»، فاللغة العربية لم تمت لتبعث، بل لاذت إبان محنتها بكهفين: لبنان والأزهر، فاللبناني مشاء دائمًا إلى التجديد والإبداع، ما وقف ولا يقف ولن يقف، ولديه في كل زمان شاهد عدل، حاول ويحاول التجديد في كل دهر، وحسبك شاهدًا هذا التطور الذي تلمسه في مدارسنا الحديثة، وإن لم تتكامل بعد فرؤية الهلال تبشر بنموه.
لا أشك في أنك قليل الإيمان بما أقوله لك، ولكنك ستؤمن مثل العم توما حين يمسها أصبعك، والآتي قريب فادع لي بطول العمر، والله يحفظك ويبقيك.
ولنعد إلى مساق الحديث عن هذه الصحائف التي تذاع في جنوبي أميركا، أليس من الحيف على شباب العرب ألا تكون في متداولهم ومتناولهم، وفيها ما فيها من أدب سني ودروس قومية؟! فليت غرف المطالعة — على الأقل — تطلبها، وهل يكثر بدل الاشتراك الزهيد على من يعلم شبابنا المتهافت على قصاع الأجانب كيف يحب لغته ويعبدها؟
ففي مجلة العصبة نصرة للمغلوب على حقه كقصيدة الشاعر شفيق معلوف الرصينة، وقد نقلتها صحفنا، وفيها رسائل يتيمة لزعيم الأدب الجديد جبران تبين بعض مشاعره الدالة على أنه بشر مثلنا، وليس من الجن والعفاريت كما فهم بعضهم، وفيها قصيدة متينة للشاعر القروي ورسوم رائعة لبعض مشاهد لبنان، وصورة سيد المرسلين محمد — كما تخيله جبران، نابغة الفنين: الرسم والأدب — تليها قصيدتان غراوان في مدح هذا النبي المفرد للشاعرين حسني غراب ونصر سمعان، ثم رسم عربي محض — موت عبد الرحمن الثاني — كله فن وروعة، وهناك بحوثٌ شتى ومقالات وقصص موضوعة ومترجمة تملي على المتفرنجين منا دروسًا عالية، أخص منها بالذكر «ذكاء بدوي» مترجمة عن الإنكليزية لإثبات ما يدل عليه عنوانها، وفيها نبأ ترجمة كتاب نبي جبران آية الشرق للغرب، بقلم الكاتب يوسف مرعب، ترجمه إلى البرتوغالية كما ترجم من قبل دمعة وابتسامة، والأجنحة المتكسرة، والأرواح المتمردة وغيرها من مقالات جبران، فاستقبلت بما يستحقه خيالها السامي وإبداعها الطريف، فهل تسمح مديرية المعارف الجليلة فتتعرف بأديبها المنفي؟
وفيها أخيرًا: أصدر الكاتب المدقق واللغوي المعروف جورج مسرة مجلة شهرية في الحاضرة، دعاها «البرازيل السورية» وقد مر ذكرها، قد يكون الأستاذ جورج كاتبًا مدققًا ولغويًّا محققًا، أما الكعك فما دل على العجين.
ولا أنسى قصيدة الشاعر إلياس قنصل «كيف خلق الله الأزهار»، ففيها شعر أكثر مما في ديوانه «السهام» كله، وهذا دليل جديد — لي — على أن الشعر الوطني أمسى علكة يتعذر الإبداع فيه إلا على القروم، لكثرة ما لاكته الشعراء منذ ابن كلثوم حتى بشارة الخوري وعمر أبي ريشة، فليس كل ما يقوله الشعراء شعرًا وطنيًّا.
وما وقعت عيني على فهرست العدد السادس من العصبة حتى رأيت توفيق ضعون، فتذكرت ما كان يذيعه في «النصير»، رحم الله ذاك العهد، فهل أنت هو يا توفيق؟ فإن كنت ذاك فابعث إلي بعنوانك فلي كلمة أسر بها إليك.
والعدد السادس حافل كأخويه بالشعر الطلي والمباحث المفيدة التي تنم عن مجاهدة مستمرة، أمد الله الأستاذ حبيب مسعود مدير العصبة بصحة وعافية، وأخذ بيده ليثابر على عمله النبيل، وحيا الله إخوتنا في وطنهم الثاني، ولا أقول غربتهم فمن كان هذا شأنهم فكل بلاد الله أرضهم، والعربي مطبوع على الفتح.
أما شكر الله الجر ذاك الكناري الفصيح، فما قرأت له شيئًا في «العصبة»، أتراه اكتفى وترك سربه ليغني وحده كأنه نسي أن الطيور على أشكالها تقع؟
وأخيرًا لا بد لي من رأي أبديه بإخلاص للشاعر القروي صاحب «شرر الفكر» في هذا العدد، فقوله:
أرأيت الغنج والدلال، أأيقنت أن الله جل جلاله سبحانه وتعالى، طويل البال واسع الصدر، ما انتحر ولن ينتحر أحد من عشاقه الكثيرين، وسيعفو عنك عفوًا كبيرًا يليق بعظمته وجبروته، وبينما أنا أحاول ختم حديثي بالتي هي أحسن عن رواد أدبنا الحديث ودعاته في العالمين، وقد أدهشني إخلاصهم للغتهم، إذا بأحد تلاميذي — عراقي — وقد بلغه أني لزمت غرفتي لعارض فأتاني عائدًا، فتجملت في محادثته هنيهة ثم عدت إلى شغلي، وأخذ هو الأندلس الجديدة والعصبة وأبا الهول وقلب أوراقها، وما كاد ينتهي من استقرائها جميعها استقراء عجلان حتى أعجب بعروبة أصحابها وكتابها، وقال لي بلهجته العراقية: هَلْقَد عرب؛ أي أهم عرب بهذا المقدار؟
قلت: نعم وزيادة.
وهكذا أيد التلميذ معلمه، وأحسن ختام مقالة من حيث لا يدري.
وعندما قرأ الأستاذ جب هذه المقالة بعث إلي بهذه الرسالة، وهي ليست أولى رسائله، وقد آثرت نشر صورة لها ليقدر القارئ العربي همة هذا العلامة الكبير واهتمامه بأدبنا العربي الحديث.
(٢) جبران خليل تقي الدين
قرأت في جريدة «المكشوف» الغراء مقالة «جبران خليل جبران كما أفهمه» للشيخ خليل تقي الدين، فخلته يحدثنا عن طهرا بك الفقير الهندي الذي جاء بيروت منذ أعوام وعمل العجائب، أو عن «مغربي» جاز الدكتوراة من «مغارة دانيال» التي ينفتح بابها كل عام مرة كما يقول الناس.
أجل، إن جبران خليل تقي الدين أحجية لا تفك، فكأنه في مولده عمرو بن كلثوم، وفي موته أمية بن أبي الصلت.
ولماذا لا؟ ألم يقل الصديق خليل في جبران: فإذا مولده مطلع عهد جديد، وإذ وفاته تاريخ!
ما هذه الحيرة يا أستاذ؟ جبران بشر مثلنا، ولد في بشري من ذكر وأنثى (سنة ١٨٨٣)، أمه «كاملة» بنت الخوري إسطفان رحمة، وهي أرملة لا عذراء، اسم زوجها الأول حنا عبد السلام رحمة، واسم الثاني خليل جبران «سَمِيُّك»، لا أدري من أوحى إلى الشيخ يوسف توما البستاني تلك الكلمة، التي كتبها في مقدمة «البدائع والطرائف» عن مولد جبران «ويقال بل في بومباي الهند» حتى جعلها ميخائيل نعيمة مفتاحًا لقبر صديقه جبران، لست أعني أن نعيمة أساء إلى جبران بقوله عنه: إنه حب وأحب، ولا فيما خبرنا من قصص، فليس جبران ذا طبيعتين.
أما كلام جبران وهو موضوع بحثنا فعربي مفهوم، أما كيف يخفى على الشيخ خليل ذي العقل الراجح، والنظر الثاقب، فهذا ما يحيرني، لقد حيرني تحويم الشيخ ودورانه، وهذا التجاهل وتلك الألفاظ الضخمة الطنانة التي أنعم بها على جبران بلا كيل ولا ميزان «سر من الأسرار، نبوغ، عبقرية، رسالة، خلود، نبي، رسول، فيلسوف، ألغاز، رموز» وهلم جرا، فكأن جبران هندي حقًّا ومن مواليد بومباي، والشيخ أيده الله، يريد أن يقلده عقدًا من أزهار بستان اللغة.
أنا قلت: إن لجبران أسلوبًا عربيًّا معروفًا كالعنزة البلقاء، ولجبران تلاميذ في كل قطر يقرأ: أبجد هوز حطي، وبسم الله الرحمن الرحيم، وطوبى للرجل، اقرأ ما كتبه «حجازي» في رسالة أحمد حسن الزيات (عدد ١٤٩، ص٧٨٤) عن النهضة الأدبية في شبه جزيرة العرب، فصاحبها يعترف بأنهم كانوا تلاميذ المدرسة الجبرانية قبل أن «يرتدوا»، ويتتلمذوا للمدرسة المصرية التي ناهضت مدرسة جبران باسم الثقافة الإسلامية، كما قال المتمشرق «جب» وقد نشرت السياسة الأسبوعية هذا الزعم بكل فخر (عدد ٢٠١، ص٢)، فلماذا نتجاهل هذا ونحاول تحديد جبران من الجهات الأربع، كأننا نكتب فيه صك بيع؟ إن بحثنا لم يتعد الأسلوب الجبراني، ولم نسأل مجلس المعارف الأعلى إلا وضع صاحبه بين أصحاب الأساليب، فكان ما كان مما لست أذكره.
أما زعم الشيخ أنه قال في ذلك اليوم وتلك الساعة: إن جبران خليق بأن يدرس في كلية من كليات الآداب، فذكرني قصة رجل عزل عن وظيفته فحار في أمره حين سقطت سلطته، وقد تعود الأمر والنهي، فاشترى بضعة أباريق صفها أمام داره لعابري السبيل، فكان إن تناول أحد منهم الإبريق العتيق أمره بأخذ الجديد وبالعكس.
أين كلية الآداب هذه يا شيخ؟! أكلية «عليكرة» ببومباي حيث ولد جبران؟ ثم رأيتك ترجح وضعه في منهاج الفلسفة لئلا يغضب إذا لم ير أعمى المعرة، فحنانيك يا شيخ، إننا نشرب بالإبريق الذي تنقيه لنا فاسْقِنا، إنما بغير الوعد يا كمون، ألا تذكر وعد عام أول؟
لا إخالك تنسى كم ناقشناك، وكم سألناك، حتى ناشدناك ملتمسين «صفو الخاطر» على الفقيد الكريم فما رحمته، ولا تركت أحدًا يرحمه، وهكذا اصطلحت الأضداد في تلك الساعة على روح جبران، كما اصطلحت من قبل على جسد الجاحظ.
والآن فلْأَمر مرًّا خفيفًا بنقط لا بد من إيضاحها تفنيدًا لما كتبته إثباتًا لغموض جبران.
قلت: إن ميخائيل نعيمة الذي عرف جبران وآكله وشاربه أرانا — وتراب جبران لا يزال مبللًا بدموع الباكين — أنه رجل مادي يبيع بالمال كل شيء حتى جسده، ويشتري بالمال كل شيء حتى الحب.
اسمح لي أن أسألك: ما علاقة هذه الحكاية بأدب جبران وأسلوبه؟ هل خبرك أحد أنني أريد «تطويبه» قديسًا؟ ثم من يدري، فقد تكون توهمت ذلك حتى قلت بعد أربعة أسطر: فإذا مات — أي جبران — أرقده رجال الدين في ظلال الأرز الخالد، وجعلوا قبره حجة ومزارًا، وأضاءوا من حوله الشموع، وقدسوا التراب الذي ضم رفاته، ثم دعوا المؤمنين لزيارته على أنه قديس …
على مهل يا شيخ، لقد استعرت قلم غبريال شارم وبيار بنوا، فكأنك من أولئك الكتاب الغربيين الذين يزورون ديارنا ويقولون علينا مثل هذا، فوا عجبًا لك وأنت اللبناني الصميم، ورئيس ديوان المعارف اللبنانية، كيف لا تعرف أن رجال الدين لا يقدسون حتى البابوات والبطاركة! إن الشيوخ الأجلاء عندكم — الجويدين — لا يرحمون من في حياته أقل شبهة — والمسألة في أيديهم — فكيف برجال الدين عندنا ويديهم قصيرة عن هذا، إن مسألة تطويب القديسين مسألة شرحها طويل، وإليك مثلًا يجلو لك الكثير من غوامضها:
حُكي — والله أعلم — أن المجمع الروماني حال دون تطويب أحد الرجال الصالحين، حين ثبت له بعد بحث مائة سنة أنه كان يتنشق العاطوس مثلي، أرأيت ما أصعبها خطة وما أبعدني عنها؟
أما قصة جبران فهاك حديثها: في صيف سنة ١٩٣٠ زرت بشري وحدثت الخوري فرنسيس رحمة، وشبل بك عيسى الخوري، والشيخ خليل صادق بأمر شراء ديار مار سركيس؛ ليكون مأوى لجبران في آخر العمر، فأبى الرهبان الكرمليون بيعه، وبعد شهور مات جبران عن تلك الوصية التي خاب أمل ميخائيل نعيمة فيها، فغر المال الرهبان، والمال غرار، فباعوا الدير — بل الكهف المهجور — ونام فيه جبران إلى يوم يوقظه بوق ميخائيل، أو حين تلده امرأة أخرى كما توهم في نبيه.
إن كل ما يتمتع به جبران من احترام وتكريم لا يد لرجال الدين فيه، فلو مات جبران فقيرًا لما عرف أحد أين قبره ولا الذبان الأزرق، أنحن في أمة تعرف أقدار النوابغ؟
ولزيادة الإيضاح راجع، غير مأمور، رسالة البطريرك إلياس الحويك تعزيةً لبشري بفقيدها جبران، فهي لا تتضمن العبارة «التقليدية»، كل هذا يثبت لك أن لا يد لرجال الدين في كل ما صنع ويصنع لجبران.
كتب واحد — من غير رجال الدين — فوق ضريح جبران بنور الكهرباء «هنا يرقد نبينا جبران»، فأمر بإصلاحها فأطاع وصارت نبينا «بيننا»، وأراني مضطرًّا أيضًا إلى تفنيد زعم آخر، وهو قول الأرشمندريت بشير في مقدمة «النبي»: إن جبران مرشوق بالحرم الثقيل، فلا ثقيل ولا خفيف، ولا كبير ولا صغير، فلو كان جبران محرومًا لما صلوا عليه.
ما هذه المصيبة؟! ما انتهينا من إصلاح «سنكسار» جبران المخرفش حتى اصطدمنا بفنه التصويري، ليقل الشيخ في هذا ما شاء، فماذا يعني مثلي من «الفنون الجميلة»؟
هذا وقد وصلنا إلى عبارة تمس موضوعنا، قال الشيخ: «ونقرأ كتبه — أي جبران — فإذا العربية منها خليط من مقالات كتبت لمناسبات معلومة وروايات أملتها عاطفة الشباب، بعضها يمت إلى الأدب بصلة، وبعضها يمت إلى الفلسفة بصلات.»
كيف تكون الرواية والمقالات يا ترى؟ ومن يكتب غير متأثر بحال من الأحوال، بل من يطلب من الكاتب أن يصير جنيًّا حين يكتب، فلا يحس ولا يشعر؟
ثم قال: «ولكن أكثرها لا يجعل من جبران الأديب الخالد والفيلسوف صاحب المذهب المعروف.»
إذن بقي اسم صالح من أدب جبران، وحيث إنه لا منهاج في الدنيا يدرس الكاتب جملة، فلينتق لنا جناب الشيخ هذا «البعض»، وبهذا يكون حل جزءًا من مسألة جبران الهندسية.
أما زعمه أن جبران هدم بعض الأسس التي قامت عليها اللغة، فوالله لم أدر بعد ما هي، فهل من يدلنا عليها وله أجر وحلوان؟
أما كفانا هذا الجمود أحقابًا؟ فقد أساء الناس الظن بالعقلية العربية.
أما قولك إن جبران قد يكون فكر أن يكون نبيًّا، وما عليه لو فكر؟ ألم يفعل ذلك المتنبي؟ ثم من يقاص الناس بخطيئة الفكر غير الله؟! هذا نيتشه الذي نحا نحوه جبران في نبيه، لم يقل إنه صار إلهًا إلا ساعة خرف، فأخذ يصافح كل من يعرفه قائلًا له: فلنغتبط، إني إله.
أما جبران فلم يخرف ولم يقل شيئًا من هذا، وكأني بالدكتور فيليب حتى وقد رأى الناس في حفلة تكريم جبران يسمعون كلمته واقفين، خاف عليه من هذا التعظيم الفائق فقال له ما قال في تلك الساعة، فمثل دور «اليوناني» الذي كان يهمس في أذن البطل ساعة تأليهه قائلًا له: لا تنس أنك إنسان.
أما الكنيسة التي تليت فيها كتب جبران كالكتب المقدسة، فهاتيك مرسح لا كنيسة، أيصدق الشيخ، جزاه الله صالحة، قول نعيمة عن بيع جبران جسده بالمال، ولا يصدقه حين تكلم عن هذه الكنيسة المجنونة؟
ثم قال: «وبعد ذلك يقوم صديقنا مارون عبود — أذكر جيدًا أني قمت ولم أتكلم قاعدًا — فيعجب كيف لم يدخل اسم جبران في منهاج الأدب العربي في البكالوريا اللبنانية، وأدخل فيه اسم المنفلوطي، وحقنا نحن أن نعجب من هذا»، وبعد أن يبين أن لا شبه بين المنفلوطي وجبران قال: «ألا يعلم الصديق أن مناهج الأدب توضع لبيان تطور الآداب في سيرها نحو الكمال؟»
قلت: بلى، علمت شيئًا، وبناء عليه طلبت تدريس جبران؛ لأنه أخطر حدث أدبي في تاريخ نهضتنا الحاضرة، فلا يشق عليك أيها الصديق، ولا على شيخنا المنذر إن قلت لكم ولكل من يقرأ: إن عمل المنفلوطي لم يفق عمل من يجلو الصدأ عن حوائج البيت المعدنية، وأن كل ما كتبه هامد همود القبور ما خلا بضع مقالات تجول فيها الروح جولان الهر المنازع في جراب، أما التجديد فلا أشرك المنفلوطي فيه ولا بسهم؛ لأنه مقلد للأقدمين يفتش عن خرثيهم، ويحسب الفن كله في العبارة المصقولة، وفي فقه اللغة، والألفاظ الكتابية، ونجعة الرائد، ومعين الشرتوني، غنى للتلميذ عن المنفلوطي، وبرهاني على ما قلت أخذه ترجمة فرح أنطون لبولس وفرجيني، فرمى برنردين وفرحًا بحجر واحد، وكذلك فعل بقصة جبران «صراخ القبور»، فخنق فن جبران ولم يفهم خطًّا واحدًا من خطوطه، فكان كصانع أحمق ينقض على التمثال بمهدته ليجعل منه زاوية للمدماك.
ثم قلت إن المنفلوطي «قدَّم للأدباء الحقيقيين قوالب مصنوعة بيد صانع ماهر.»
أما أنا فأقول: وهل يستعير الأدب الحقيقي قالبًا من عند أحد؟! ومتى كانت الروح تخلق قبل الجسد أو بعده؟!
أليس الكاتب الحقيقي من يخلق الأجساد ولا يستعيرها؟ فهو كالإسكاف وغيره ممن لا غنى لهم عن القالب.
إن الخياط الأستاذ لا يتقيد بالهنداز، وإن فعل فما يخيط ثوبًا مهندمًا، بل قباء كالذي خاطه عمرو لبشار.
ثم قلت إن المنفلوطي كصانع الأقداح يصب الزجاج ويلونه، وعلينا نحن أن نملأه بالراح، أليس الأولى بالأديب والحالة هذه، أن يتشبه بالراعي الذي يكرع من النهر والعين ويترك طاسة الزنخ؟
وبعد، فلا تسم هذه الأباريق والأكواز والدوارق والصحون أقداحًا ملونة، فيتسرب الشك إلى نفسي فيك، فلا تزعزع إيماني، أما ولغ في هذه القصاع مليون لسان؟ أما مستها مليون شفة؟ ليس هذا ما ندعو إليه أبناءنا، أما إذا كنت تريد أن يلهو أبناء هذا الجيل بالقشور فأوصهم بقراءة «افتتاحية» أحمد حسن الزيات في رسالته، فيشبعوا من هذا الخروب حتى البشم.
ولما عرضت لما وقع سنة ١٩٣٣ في مجلس المعارف الأعلى قلت: وضعنا موضع البحث اسم جبران، فقال هذا العاجز: ألا ترى أن هذا «العاجز» منفلوطية بل أقدم عهدًا؟ إنها تستأهل الجواب المألوف: كلك خير وبركة، فلماذا هذا التواضع العميق يا شيخ شباب الأدب؟
أما قولك أخيرًا: «وليس من مخرج لنا من هذا المأزق إلا أن يتقدم صديقنا مارون عبود باقتراح يرمي إلى إدخال الأرشمندريت أنطونيوس بشير في منهاج البكالوريا وعند ذلك تنحل العقدة.»
الله كريم يا شيخ، ولعل من عقد الأمور يحلها، فليتك تصير جبران، ويترجمك الأرشمندريت.
وبعد فأراك تتغنى كثيرًا بالقصة، ألم يعجبك شيء من قصص جبران؟ أليس بين قصصه العربية قصة تستحق الدرس؟ فلماذا تتذرى خلف جبة المطران أنطونيوس بشير، وتتلطى وراء «لاطيته»؟! ما لنا ولأدب جبران الإنكليزي، فنحن نبحث أدبه العربي وأسلوبه وما فيه من فن، فلماذا المغالطة؟ هات الحديث فإما أن تشايعني فيه أو أنني أشايعك عليه.
أما جبران فهاك رأيي الصريح فيه: هو فليسوف يلبس مطرف الشاعر وطيلسان الأديب، وبكلمة أوضح: جبران فيلسوف في أدبه، وأدب جبران فلسفة، والعنصران متحدان في كلامه اتحاد اللون والعطر في الزهرة المنمنمة.
حاشية: أيها القارئ الكريم، لا تتوهمن بعد قراءة هذه الكلمة أن جبران لا عيب فيه، ففي جبران من العيوب ما في كل أديب خطير، ولكن لا تنس أن جبران من أفراد الجيل «العالميين» الجديرين بالنقد والتقدير، وإن ضاق عنه منهاج البكالوريا اللبنانية فحسبه رفوف مكاتب الأدباء في العالمين.
لقد عاد جبران إلى خاصته وخاصته لم تقبله، وكذلك النابغة يزعج معاصريه؛ لأنه لا يساير الجماعة كما قال جورج سوريل.
(٣) حول عكاظ الحكمة
كتاب إبراهيم المنذر
الجمهورية اللبنانية: مجلس النواب
أخي مارون
أجدت أمس كما أجدت في بعض ما كتبته قبل أمس، شأن كل كاتب وناقد يصيب أحيانًا ويخطئ أحيانًا، وقد خرج الخطباء على الإثر من الحفلة فحييناهم ولم تخرج معهم فنحييك.
أما جبران فقد أصبت في ما ذكرت عنه، ولكنك أطلت وطلبت ما أرجح أن المدرسة لا تجيبك إليه، ولا شك أنك تذكر أني كنت وإياك في جانب جبران وزيدان في لجنة المعارف فلم نفلح، ولا يعني انتصارنا لجبران انتقاصًا من قدر المنفلوطي، فإن أسلوبه في الإنشاء (العربي) يفوق أسلوب جبران، ويجب أن نضم الرجل إلى ناشري لواء البلاغة والتهذيب في الشرق، فقولك: «إن اللجنة أبدلت المنفلوطي من جبران» فيه تحقير للمنفلوطي، ولا أظنك تعني هذا بل تعني وجوب وضع جبران في مصف الكتاب المصلحين في منهاج البكالوريا.
وأما حملتك على شعراء العصر في التهاني والترحاب والاستقبالات فحملة مردودة؛ لأن كل شاعر مهما علت منزلته في مثل هذه المناسبات مضطر أن يقول كلمة شكر، ولا تكون كلمة الشكر آية من آيات الفن والخيال والتصور والابتكار.
وهناك أبيات كثيرة من غير هذا الباب فسرتها، يا أبا محمد، بغير ما يريد صاحبها، أو شرحتها باستهزاء والمعنى فيها مقبول مأنوس، وليس بالصعب على كل ناقد أن يزدري قول أعظم شاعر متهكمًا، ويجعل ألفاظه مبتذلة ومعانيه مسروقة.
بقيت المحاسن يا مارون، أين هي؟ فقد يكون للشاعر بيت في قصيدة يعادل قصائد — ويظهر أنك تريد أن تهدم البيوت على أربابها فتقتل جميع ما فيها، وكم هنالك من كنوز تضيع تحت الأنقاض، وليس هذا عمل النقاد المنصفين.
أحييك وأدعو لك.
الجواب
الجامعة الوطنية
أخي وشيخي إبراهيم
لا أنسى يوم كنت تشجعني فتى — عفوًا ما عنيت أنك أسن مني كثيرًا — ولكني أذكر بلذة أيامًا كنت أمر بها على «مكتبك»، فتبسم لي وأعدها نعمة، وإني لا أزال أحرص على رضاك الغالي جد الحرص.
قلت في كتابك الكريم المفتتح بهذا التعبير، فلا حيا الله ولا سلم الله: «أجدت أمس كما أجدت في بعض ما كتبته قبل أمس شأن كل كاتب وكل ناقد يصيب أحيانًا ويخطئ أحيانًا، وقد خرج الخطباء على الإثر من الحفلة فحييناهم ولم تخرج معهم فنحييك.»
لم أخرج مع الخطباء؛ لأن همتي قليلة فسبقوني، واكتفيت بتسليمي عليك، سلام الأحباب بعد الغياب، قبل أن صعدت المنبر ولم يدر في خلدي قط أني غير حاصل على رضاك، أما الإصابة والإجادة فحسبنا منهما الإفادة وإنهاض أدبنا المقعد ما نستطيع، أما الخطأ — والعصمة لا أدري لمن — فليتك تدل عليه ولك من الأدب أجر غير ممنون.
يا شيخنا:
حمل إلي استياءك وبلغني رسالتك الشفهية بل نصيحتك الأخوية، من حملته إياها، فشكرًا وعذرًا وإن كنت تأمر فتطاع، فأنا ماض في سبيلي، فادع لي بالتسهيل، فإن تقدمت بهذا الأدب خطوة صغيرة بلغت أقصى الأماني فأنا رجل قنعان.
أما قولك أني أصبت فيما ذكرت عن جبران، فلك الشكر على ذلك منى ومن نزيل وادي قاديشا ومجاور الأرز، وأما أني أطلت الكلام عنه وطلبت ما ترجح أن المدرسة لا تجيبني إليه فجوابه: إننا في زمن «مطالبات» أولستم كذلك في المجلس؟ فإن فعلت المدرسة أحسنت، وإلا فلا حرج عليها، الزاد زادها تأكل منه ما تشاء وتطعم ما تشاء، كما قال معن بن زائدة للأعرابي.
ثم قلت لي: «تذكر أني كنت وإياك في جانب جبران وزيدان في لجنة المعارف فلم نفلح»، إني أذكر ذلك ولا أنساه، وقد أشرت بقولي: ولم يبق في جانب جبران إلا المتهمون في دينهم مثله؛ أي أنت وأنا ومن لف لفنا.
أما أني قلت: «إن اللجنة أبدلت المنفلوطي من جبران»، فما هكذا قلت، بل: وهكذا أقر المنفلوطي في المنهاج ونفي جبران من وطنه الذي يردد كل يوم:
أما أن أسلوب المنفلوطي يفوق أسلوب جبران، فإننا لا نتفق في هذا يا شيخ، إننا نريد غير هذا الكعك، إنما من العجين، وبكلمة أوضح قد قرفنا خبز الملة.
ثم تقول لي: «وأما حملتك على شعراء العصر في التهاني والترحاب والاستقبالات فحملة مردودة؛ لأن كل شاعر مهما علت منزلته مضطر في مثل هذه المناسبات أن يقول كلمة شكر، ولا تكون كلمة الشكر آية من آيات الفن والخيال والتصوير والابتكار.»
أظن — وبعض الظن إثم — أن هنا «التخلص» يا أستاذ، فإن شئت رأيي في شعر الفرح والترح فإليكه: ليقل الناس الترحيب والتهانئ والتعازي نثرًا فهو خير من هذا الشعر الدميم المقرف، وإن وُفق الشاعر إلى إبداء عاطفته بفن وإبداع فليقل شعرًا، أما متى قال شعرًا مثل هذا الذي نقرأ فليطمره، ولا يدع الهرة أفطن منه كما قال البديع للخوارزمي.
ثم قلت — وأراك تقول كثيرًا اليوم — «وهنالك أبيات كثيرة من غير هذا الباب فسرتها يا أبا محمد، بغير ما يريد صاحبها، أو شرحتها باستهزاء والمعنى فيها مقبول مأنوس، وليس بالصعب على كل ناقد أن يزدري قول أعظم شاعر متهكمًا، ويحمل ألفاظه مبتذلة مسروقة.»
أما أني فسرتها بغير ما يريد صاحبها فلا أظن، أما شرحها باستهزاء فهذا لا شك فيه، ولكن هل يتيسر لي هذا الاستهزاء إذا لم تكن الألفاظ والمعاني مبتذلة؟ أما السرقة فأظنني قبضت على مرتكبيها متلبسين بالجريمة، أما المعاني فأعترف لك أنني ما عدت أقنع منها «بالمقبول» ولا أغصب نفسي عليه.
اسمح لي أن أصارحك بما في نفسي يا سيدي الشيخ، يظهر أنها قصة الباذنجان، لا قصة منفلوطي وجبران، وإنك لمروان كما قال علي لعثمان: ليتك تفقأ هذه الدملة فتستريح.
ثم قلت: بقيت المحاسن يا مارون، أين هي؟ فقد يكون للشاعر بيت في قصيدة يعادل قصائد.
أظن أنني أشرت إلى بعض المحاسن يا أستاذنا، ولكن يظهر أن ما يسرك منها أكثر مما يسرني، وأنا لا أستطيع أن أرى إلا بعيني، وهي ضيقة كما يقول الناس، ولا تكبر الأشياء.
وأخيرًا قلت: ويظهر أنك تريد أن تهدم البيوت على أربابها فتقتل جميع ما فيها، وكم هناك من كنوز تضيع بين الأنقاض، وليس هذا عمل النقاد المنصفين.
لا يا شيخ — يقطع السم — تروَّ قليلًا، هل النقد في عرفك هدم؟ وهل هدمنا حتى الآن غير أكواخ عششت فيها البراغيث والبق والخنافس؟! ما هدمنا بعد يا شيخ غير أكواخ خشبية جريًا على قوانين «البلديات» الحديثة، ليتك تسمي من تعني لنجول جولة حول هذه «الرمم» فتوافقني على هدها، رحمة بأولادنا، ولا يؤثر بقلبك الرقيق عويل أصحابها.
سيدي الشيخ:
حييت ودعوت في ختامك، ولم تقبل وتصافح كعادتك، أما أنا فحالي معك لا تتغير، وهي دائمًا على حد قول شاعرنا العامي القديم:
وأخيرًا وكأني بالغضب قد ضيق صدرك الواسع، فطويت كتابك على البطاقة التي سطرت عليها ما يأتي: «إذا شئت يا أخي أن تنشر هذا الكتاب وتجيب عما فيه فلك ذلك.»
لبيك يا شيخ والأمر لك، ها قد فعلت، وشرطي في الأمر ألا نقف، وأن تصرح في الآتي ولا تلمح، والسلام عليك من أخيك.
(٤) لذكرى جبران الخالد
إلى حضرة الأستاذ حبيب أبو شهلا وزير التربية الوطنية
أما وقد نسخ الاستقلال شعار منصبكم الخطير، فراح وزير المعارف وجاء وزير التربية الوطنية، أفنرجو تنسيقًا جديدًا في منهاج البكالوريا اللبنانية؟ أم نظل ندرس فتياننا ما ينعسهم، فيرون وجهنا كوجه الناعي؟
إن الجديد في هذا المنهاج فلتة، فأكثر شعرائه وكتابه من طراز واحد، نفتتحه بامرئ القيس — أول من بكى واستبكى، وقيد الأوابد — فنبحث معلقته بيتًا بيتًا لندل طلابنا على ما أبدع ونفهمهم خطة الشعر العربي.
ونتغلغل في الأنجاد والصحاري والبطاح فيقبل علينا زهير، أبو من ومن ومن، وربيب أوس المقعد، فتكبح «سئمت تكاليف الحياة …» طموح الشباب وتكرههم العيشة قبل العشرين، ونتركه يتبجح بحكمة مبتذلة يضحك بعضها الأطفال، فيلاقينا طرفة الشاب على ناقته فيصفها لنا من رأسها إلى ذنبها حتى يقتلنا الضجر قبل أن يدعونا إلى «كأس روية»، وتنبري لنا قينته ونرى نداماه البيض كالنجوم، فنقول شيئًا غير ما قلناه في زهير وامرئ القيس.
ولا نخلص من هؤلاء حتى يطل علينا عنترة على ناقته «أولًا»، ويبادينا كالثلاثة السابقين في استنطاق دار عبلة بالجواء، وينزل ذلك الحر الطازج عن ناقته ليركب جواده ويكر، فيشكو الحصان بعبرة وتحمحم، وتلين نفس عبلة العتية أمام البطل الطب بأخذ الفارس المستلئم.
وعلى حدود العصر الجاهلي يلاقينا النابغة الهربان من وجه أبي قابوس فينشد في البلقاء وقلبه في الحيرة، فهؤلاء خمسة في واحد لولا فرق زهيد لا يساوي تعب الأستاذ وتلاميذه، فهلا نكتفي بتدريس اثنين ثلاثة منهم، وإن قلنا الحق، فاثنان يبشمان.
ونبلغ صدر الإسلام وهو أعظم عصور تطور الأدب فنتمسك بالفروع ونترك الأصل، ندرس الحجاج بن يوسف وعبد الحميد، وحجتنا «بدئت الكتابة بعبد الحميد وختمت بابن العميد» وعلى الدنيا السلام.
ثم نتشرف بزيارة البلاط الأموي فنرى هناك ثلاثة فحول يتناطحون، وملوكًا وأمراء يتلهون في نقارهم، نرى الأخطل والفرزدق وجريرًا ينبشون قبور القبائل ويمزقون الأكفان ويصلبون الموتى على مصلبات الطرق، فننظر كارهين إلى تلك المقابر المفتحة ونطمها آسفين، موصين طلابنا باحترام كل دين، لافتين نظرهم إلى شعرهم الإنساني فقط …
ولا نتنفس الصعداء حتى يطلع ابن أبي ربيعة «يعدو به الأغر» في ميدان الشعر الحي، فتطيب نفوسنا إذ نرى الشعر يقلع ثوبه العتيق ويلبس جديدًا.
ويمتد ظل الزمان فنبلغ العباسيين ونرى ابن برد الأعمى بصيرًا بالفن، يقعد القرفصاء بالبصرة ويرسل شعره طيرًا أبابيل وحجارة من سجيل، ونشهد أبا نواس مقبلًا في ظل كرمه يستعرض القدماء البائسين الباكين ويكركر في الضحك، فنمجد الفن في شاعرين ظريفين: خفيف وثقيل، أحسا الحياة وأحباها فجعلاها شعرًا نسَّانا شهورًا سوداء الجبين.
ولا نفارق هذين الشاعرين حتى نعيد سيرتنا الأولى، فنرى أبا تمام والبحتري وابن الرومي، إن في الطائي غنى عن الكبير، أما ابن الرومي فيشفع تصويره في تعبيره.
ونطوف مع المتنبي في الأمصار فيسمع المعلم والتلميذ ما يرضيهما، فنهيم — كل يغني على ليلاه — حتى نستيقظ على صراخ النواحة الأسير في «رُوميَّاتِه» فتمتلئ الغرفة بكاءً بليدًا، ولولا «رائيته» لفطسنا، فما دعا هذا البكاء الحردان إلى محضرنا إلا قول حسود: «بُدئ الشعر بملك وخُتم بملك»، وينقضي نواح أبي فراس فيتلوه غناء الأندلسيين فتشجينا أنغام موشحاتهم، ونرى صورة حياتهم تتحرك أمامنا.
ويجيء النثر فنرى ابن المقفع في كليلة ودمنة يعلو ويسفل كالمكاء، فنقول ما يحضرنا في أسلوبه، وحسبنا منه أنه عدل عن سجع الكهان وفصل الكلام ثيابًا للأفكار، وتنسى التعب إذ يواجهنا الجاحظ أبو الطرف الكحيل، يحمل على لسانه أدبًا نابضًا في كلام راقص، فنمرح في مقاصيره وجناته التي تجري من تحتها الأنهار، فيهزنا الفكر يزهو بثوب النكتة الشفاف.
وننتقل إلى مقلده بديع الزمان فنرتاح إلى أدبه الشخصي ونعذره على تقليد بارى فيه معاصريه، ثم ننتقل إلى الحريري — شيخ لنا من ربيعة الفرس — فينعس الصف وليس على الأستاذ إلا أن «ينتف عثنونه من الهوس» ويرفع الصوت جهرة، ولا بأس عليه من آية أنكر الأصوات، فهو إن لم يفعل يرقد تلاميذه رقدة أهل الكهف، ونختم درس الكتاب بالترحم على الجاحظ الذي خلق أسلوبه الأصفهاني وكتابه الأغاني خزانة الأدب العربي.
أما ابن الأثير وحظه قليل من المدرسين والدارسين، فما أحوجنا إلى درسه، فهو مهذب الذوق اللفظي وأستاذ نقد بصير بمواضيع الكلام، وإن نفخنا ادعاؤه فالصبر جميل، ولا سيما أزمة البكالوريا كانت تقتل الإنشاء، فأمسى الطالب وليس يهمه إلا «المنهاج» ليحمل شهادة.
ونشرف على النهضة الحديثة فنرى على قمتها أحمد شوقي، وفي يده كتابه مرآة العصور السالفة كلها، فنرد الكثير من شعره إلى أصحابه، وندل على إبداعه ونلهو وأولادنا بمسرحياته أيامًا، ثم نتركه لنزور بضعة نفر من أضياف المنهاج: اليازجي والبستاني والمنفلوطي وولي الدين، فنرى الثلاثة يقلدون القدماء ولا يزيدون إلا صقلًا وتمليسًا، ونرى عند الرابع تجديدًا استمده من نفسه الحانقة لا من جملته.
وهكذا تمسح أيدينا من تراب المنهاج اللبناني الذي يستغني عن نصفه ويظل حملًا ثقيلًا، لا نسمع ذكر لبنان إلا مرتين عند المتنبي، حين رأى جبلنا من خلف، وعند شوقي في قصائد أنطقته بها المآدب والأوسمة، هذا في القسم الأول، أما في القسم الثاني فلا شيء من هذا، فلبنان شاعر لا فيلسوف، فكيف تكون البكالوريا لبنانية ونوابغ لبنان مطرودون خارجًا.
أين زعيم النهضة جبران خليل جبران، جبران الشاعر الناثر الأديب الفيلسوف، جبران أبو القصة اللبنانية الحديثة، جبران الخالق أدبًا لبنانيًّا شرقيًّا، فموسيقاه من عيوننا وجداولنا، ورهبته من أوديتنا وكهوفنا، وأبهته من ربانا وقممنا، وسفينته من أخشاب غاباتنا، ومداد ألوانه من قوس قزح لبنان.
جبران الذي عاش لبنانيًّا بين ولولة المعامل وعجيجها، فما الْتَهَى بجسر بروكلين عن قنطرة المدفون، ولم ينس نواح المعصرة وهزج البيادر، فنظم لبنان نشيدًا سليمانيًّا، استوحى هذا الجبل فكان له برقه ورعده، وصواعقه وعواصفه، وصفاؤه وهدوءه، لم يبال بناطحات السحاب فمات وهو يحن إلى شماريخ لبنان، رأى الخلود كله على القرنة السوداء فنام نومة الأبد مغطى بأذيال برقعها الناصع البياض.
يا حضرة الوزير
إن منهاج البكالوريا اللبنانية ناقص جدًّا جدًّا، ولا يتمه إلا اثنان: الشدياق وجبران، فهذان كاتبان مبدعان حقًّا، ونواحيهما شتى ككبار كتاب العالم وأدبائه، وما أبعد النوم والضجر من الدارس والمدارس في ناديهما العامر، فمر بصف كرسيين للأميرين تغنم ثناء الأدب الحي، وأرحنا من بعض أوثان الأدب، وأجرك على الله.
أما أنت يا جبران، يا عريس نيسان الذي غنيته في موكبك، فلا تقنط من رحمة تاريخ الأدب، إنك لحيٌ في الكثيرين وإن لم تتجمع عناصرها كلها في واحد.
نم يا فتى الليل، ولا تترجَ القيامة ثانية يا ابن الفجر، فهيهات — كما قلت لك مرة — أن تلدك امرأة أخرى، هذا حلم رأيته عند صياح الديك ولا تعبير له.
إن العاشر من نيسان ليوم تاريخ نهضتنا الحديثة، ففيه انطفأ كوكب طلع من لبنان، ودار دورته في الأبراج وعاد إلينا رمادًا مطهرًا.
(٥) جبران اللبناني
إن عناصر جبران الفنية لا تعد ولا يستطاع درسها إلا في مجلد ضخم، هذا إذا اعتصمنا بالإيجاز؛ ولهذا أحببت أن أتحدث الليلة عن جبران اللبناني.
ترعرع جبران ونشأ في لبنان فانطبع بطابعه، ثم طوى سجل شبابه واكتهل في أميركا، ولكنه لم يحدثنا عن غير الشرق، فكأن معامل أميركا وعمليتها لم تؤثر شيئًا بروحية جبران، فعاش بين ناطحات السحاب يحلم بظهر القضيب والقرنة السوداء شاعرًا ومصورًا وكاتبًا.
فكر أولًا بإنشاء مدرسة أدبية عربية فكان مؤسس مدرستين في لغة الضاد: الرومنتيكية والرمزية، ففي جبران — وهو سليل الشدياق وإسحاق الحداد، وسبط أيوب وأشعيا وأرميا وسليمان، وإفرام ويعقوب، والمعري والمتنبي والفارض — عناصر تفاعلت فكونت الأسلوب الجبراني.
والرابطة القلمية التي خلقها جبران هي أول مدرسة منظمة في أدبنا العربي، كان غرضها خلق مدرسة أدبية جديدة، فأشبهت من جميع مناحيها المدرسة الرومنتيكية الأوروبية، حتى في التصوير، والأسباب التي كونت هذه المدرسة الأدبية عندنا هي التي كونت تلك هناك، فهناك الثورة الفرنسية وهنا الحرب العظمى الأولى.
وكما زعم رجال النهضة الرومنتيكية أن الشاعر يقوم بأهم عمل اجتماعي، وأنه فوق الناس، كذلك اعتقد جبران وتلاميذه — تصوروا كما تصور هيغو — أن الكتاب هم قادة الإنسانية، والكاتب أكبر من المزربان، وعليه أن يحمل مشعله حتى الموت في يده، وكذلك اعتقد جبران حتى كتب النبي ويسوع ابن الإنسان وآلهة الأرض، وظل يكافح حتى النفس الأخير.
وكأني بالدكتور فيليب حتى، حين رأى الناس يسمعون كلمة جبران في حفلة تكريمية وقوفًا، ويقدمون للناس كتبه مجلدة مفضضة كالإنجيل والكتب السماوية، أعلن على الملأ في كلمته التي ألقاها في تلك الحفلة:
إننا نرجو أن يظل جبران بيننا.
وبعد موت هذا المعلم العربي العظيم قال الدكتور حتى أيضًا:
«والحقيقة هي أن اسم جبران وحده — لسمعتنا ونفوذنا في هذه البلاد — يساوي كل ملايين الدولارات التي ادخرناها.»
هذا هو جبران اللبناني في نظر المنزهين، وقلما نرى كاتبًا تعصب لجنسه وعرقه ولغته كجبران، فإذا فتشنا عن الألوان المحلية المستمدة من المحيط اللبناني وجدناها صارخة في ما كتب جبران بالعربية والإنكليزية، استمد الشاعر هذه الألوان الزاهية في إنشائه من سماء بلاده وأرضها، ففي التعابير الجبرانية بياض الثلوج، وخضرة المروج، واصفرار البيادر، وأنين المعاصر، وشقشقة العواصف، وشموخ الجبال، وحزم الأرز، ونواح الهاوية، وزمجرة الأودية، وثرثرة الينابيع، وعربدة الأنهار، وهلهلة الضباب.
استمد هذه الألوان واللدونة والمرونة والنعومة من أجواء لبنان، فاشتعلت حافات عبارته، وأرسلت نورًا ونارًا وموسيقى، إن تمسك جبران بشرقيته حمله على المحافظة على قوميته، فوقف كل ثروته على بلدته، ووعده هذا وذاك بشيء من ماله، إن صحت الرواية يذكرني بالثوري أحد بخلاء الجاحظ الذي كان يقول عند الإشهاد: «قد علمتم أنه لا وارث لي، فإذا مت فهذا المال لفلان»، فعلل الكثيرين بالآمال، وورَّث واحدًا لا غير.
إن جبران لفي غنى عن الانتساب إلى قومية جديدة فهو وحده قومية، وحرصه على قوميته حمله على أن ينفخ روحًا جديدة في لساننا العربي المبين، فقال في ذلك: «يكتب بعضنا لمن ماتوا ولا يدري أن قراءه في المقابر، ويكتب بعضنا لإرضاء معاصريه حاسبًا أن في ذلك العظمة والخلود فيخطئ المرمى، ويكتب بعضنا؛ لأنه إن لم يكتب يمت وهذا من الخالدين.»
والذي عندي هو أن من يغالي في المحافظة على القديم بحذافيره يكون كمن يحفظ جميع أفراد أسرته ويبقيها في بيته، فأي رعب يحدث له، فلنكلف أنفسنا عناء الخلق، فالحياة إنما تجدد نفسها بمواليدها، ولا نخف آلام المخاض وأخطار الولادة، فهذه من لوازم الحياة.
يظن بعضهم أن ليس جبران إلا كاتبًا خياليًّا، وقد ضل من ظن ذلك، فلجبران غرض أبعد جدًّا من هذا يلبسه ثيابًا محاكة على نول حديث ومفصلة طرازًا جديدًا.
إنني لا أسمع حين أقرأ جبران في جميع أطواره إلا صوتًا عامًّا يغني على نايه لجميع النفوس، بنشيدته المحزنة فتصبح صلاة الأطفال عند يقظتهم في الليل، إنه ينشد أروع شعره المحزن لتذكاراته القوية التي لا تموت، فيحس بتساقط أوراق الخريف موسيقى الأبدية، وهكذا يريك خطوات الموت واحدة إثر واحدة، فإذا شئت أن تحس وطنك وتشم أرض بلادك أيها اللبناني فاقرأ جبران، واشكر للعناية هذه الهبة، فقد أعطتك أديبًا عالميًّا خالدًا.
لكم لبنانكم ولي لبناني، لكم لبنانكم ومعضلاته، ولي لبناني وجماله.
لكم لبنانكم بكل ما فيه من الأغراض والمنازع، ولي لبناني بما فيه من الأحلام والأماني.
لبنانكم عقدة سياسية تحاول حلها الأيام، أما لبناني فتلول تتعالى بهيبة وجلال نحو ازرقاق السماء.
لبنانكم مشكلة دولية تتقاذفها الليالي، أما لبناني فأودية هادئة سحرية تتموج في جنباتها رنات الأجراس وأغاني السواقي.
لبنانكم صراع بين رجل جاء من المغرب ورجل جاء من الجنوب، أما لبناني فصلاة مجنحة ترفرف صباحًا عندما يقود الرعاة قطعانهم إلى المروج، وتتصاعد مساء عندما يعود الفلاحون من الحقول والكروم.
لبنانكم مرافئ وبريد وتجارة، أما لبناني ففكرة بعيدة وعاطفة مشتعلة، وكلمة علوية تهمسها الأرض في أذن الفضاء.
لبنانكم موظفون وعمال ومديرون، أما لبناني فتأهب الشباب وعزم الكهولة وحكمة الشيخوخة.
لبنانكم وفود ولجان، أما لبناني فمجالس حول المواقد في ليالٍ تغمرها هيبة العواصف ويجللها طهر الثلوج.
لبنانكم طوائف وأحزاب وخطب ومحاضرات ومناقشات، أما لبناني فتغريد الشحارير، وحفيف أغصان الحور والسنديان، ورجع صدى الغابات في المغاور والكهوف.
لبنانكم شرائع وبنود على أوراق، وعقود وعهود في دفاتر، أما لبناني فمعطرة في أسرار الحياة وهي لا تعلم أنها تعلم، وشوق يلامس في اليقظة أذيال الغيب ويظن نفسه في منام.
لبنانكم، شيخ قابض على لحيته، قاطب ما بين عينيه، ولا يفكر إلا بذاته، أما لبناني ففتى ينتصب كالبرج، ويبتسم كالصباح، ويشعر بسواه شعوره بنفسه.
لكم لبنانكم وأبناؤه، ولي لبناني وأبناؤه.
فأبناء لبنانكم هم الذين ولدت أرواحهم في مستشفيات الغربيين، واستيقظت عقولهم في حضن طامع يمثل دور أريحي.
أما أبناء لبناني فهم الفلاحون الذين يحولون الوعر إلى حدائق وبساتين، هم الرعاة الذين يقودون قطعانهم من واد إلى واد، فتنمو وتتكاثر وتعطيكم لحومها غذاء وصوفها رداء.
هم الآباء الذين يربون التوت والأمهات اللواتي يغزلن الحرير، هم البناءون والفخارون والحائكون وصانعوا الأجراس والنواقيس، وهم الشعراء الذين يسكبون أرواحهم في كئوس جديدة، وهم شعراء الفطرة الذين ينشدون العتابا والمعنى والزجل.
هم الذين يغادرون لبنان وليس لهم سوى حماسة في قلوبهم وعزم في سواعدهم، ويعودون إليه وخيرات الأرض في أكفهم، وأكاليل الغار على رءوسهم.
هم الذين يولدون في الأكواخ ويموتون في قصور العلم، هؤلاء هم أبناء لبنان، هؤلاء هم السرج التي لا تطفئها الأرياح والملح الذي لا تفسده الدهور، هؤلاء هم السائرون بأقدام ثابتة نحو الحقيقة والجمال والكمال.
لكم لبنانكم ولي لبناني، هذا ما يقوله جبران أما أنا فأقول لروحه في ذكراه السابعة عشرة: لقد تحقق الكثير مما تمنيت وحسب لبنان أنه له جبران.
(٦) في مدينة جبران
ما هذه أول مرة أزور فيها بشري عاصمة مقدمي المردة يوم كان لبنان مهابًا، عرفتها سنة ١٩١٢، ونمت تحت أرز لبنان الراكب على كتفها، تنظره من الحدث والديمان فتخاله زهرة ناضرة شكها الزمن في عروة لبنان.
مررت بها في ذلك الحين بعدما زرت شيخ الجبل البطرك إلياس الحويك، بت عنده ليلتين أحلى وأقصر من ليل عمر، كانت نكاته ونوادره الوجيزة تنعش حضرته، وإذا احتشمنا تحكك بنا لنقول، ويأبى إلا التبسط فنفعل، متذكرين قول الفرزدق في زين العابدين:
ودرى غبطته أنني زائر الأرز غدًا فضحك ضحكة خرساء، ولكنه خبأ النادرة لساعتها، وجئته في الصباح مودعًا فقال: وأين مكاريك؟
وجاء المكاري فإذا هو من بطانة الذيل البطريركي، والبغلة بغلة الكرسي فقال له: توق صاحبك، إصح هه، الطريق عكشة.
وأخذت يده فوضع يسراه على كتفي وقال: زر قصحيا بدربك، فقلت: زرته وما انتفعت.
فضحك وقال: لأن شيطانك كبير. مع السلامة.
وبت بالأرز، وكلفني نفس الأركيلة ثلاثة بشالك — أجرة رسول إلى بشري — وتعشيت كبة نية، ونمت في خيمة نصبها الشيخ نسيم حنا ضاهر لزوار الأرز، وفي الغد اجتزت بشري فرأيتها بيوتًا متراكمة، أوسع طرقاتها أقل من باع، وأكثرها أزقة بالكد يسلكها شاب ضخم مثلي.
وزرت بشري بعد الحرب الكبرى مرات فإذا هي هي، بيوت ملزوزة كخلايا النحل وقرايا النمل، فقلت في نفسي: يا ضياع الماء والهواء في هذا البلد، هيهات أن تظفر بشري بصيف واحد.
وزرتها أمس فأنكرتها، الشوارع مفتوحة كذراعي يسوع حين قال: «تعالوا إلي أيها المتعبون والثقيلو الأحمال وأنا أريحكم» والسبل منفرجة كيدي أم تستقبل وحيدًا حديث الكرج والدبدبة، وساحات فسيحة كصدور أهلها الكرام، وأقنية حديثة تجيش فيها المياه جيشان النخوة في صدور أبناء بنت الأرز، وبكلمة تغني عن ألف: آمنت بفورونوف ورجوع الشيخ إلى صباه بعدما رأيت بشري تبرجت بعد حياء وخفر.
فمن أبرز هذه العروس وجلاها؟ إنه جبران، هذا أول أديب عربي أثرى من القلم، عفوًا، من الريشة، ولست أعني ريشة التصوير بل تلك التي كتبت المجنون، والسابق، ويسوع ابن الإنسان، وآلهة الأرض، وحديقة النبي، ورمل وزبد.
وصى جبران بهذه الثروة الطائلة لمدينة بشري، وحرم منها أخته وأهله جميعًا حتى صديقه ميخائيل نعيمة، الذي لم يصح حلمه كما قال في كتابه جبران خليل جبران.
أما القائمون بهذا العمل فلجنة جبران الوطنية، يرأسها شاب ناهضٌ وفيٌّ هو السيد سليم رحمة، ومن أعضائها الذين اجتمعت بهم — وكلهم ذو همة كرئيسها — الشيخ القاضي طنوس جعجع، والخوري طانيوس جعجع، والشيخ مجيد حنا ضاهر رئيس البلدية، وشابان ناهضان من أسرتي الفخري وسكر، وأمين صندوق اللجنة السيد منصور حبيب لدوس.
أما أمين الصندوق فشيخ يطل على السبعين ولكنه نشيط حريص على المال، ككل خازن وقيم يؤلمه إنفاق فرنك على رخصه، إذا لم يكن طبقًا لنية جبران، هذا الشيخ لم يعقب وقد جمع مالًا كثيرًا أنفقه على البر والإحسان، وهما في عرفه محصوران ببشري كما حصر جبران ثروته بها.
بشري نائمة في حضن الجبل تغني لها الجداول ويهدهدها الهواء، ويمر نهر قاديشا تحت أقدامها فهي أبدًا في حمام بارد، ينتصب فيها الحور كالعمالقة بين أقزام الأشجار المثمرة، فلولا البيوت لخلتها غوطة، ولولا الأجراس التي تقرع دائمًا للصلاة، وخصوصًا جرس الآباء الكرمليين لحسبت أنك في خلوة، لا صراخ ولا عياط في بشري، تمر بقهواتها كأنك مار بغرفة قراءة، وإن لم تر كتبًا أو جرائد.
تحيط بها الجبال من الجهات الأربع، وكيف التفت ترى شماريخ منتصبة كأنها التماثيل والقباب، ومن الشرق يتدلى الشلال فتخاله سلسلة فضية في عنق «الجبة» الحسناء، وترى أنابيب كهرباء قاديشا كأنها الحية التي خدعت أمنا حواء، هذا إذا كانت سوداء، فكل لاهوتي يكسوها لونًا من مخيلته، أما الماء فمثلوج أبدًا، وهو مريء هدام لما تبنيه المطابخ.
وصلت بشري عصر الاثنين ١٢ آب، وقرب الغروب زرت جبران في بيته الموحش، في دير مار سركيس المخبأ في عب غابة تجري من تحتها الأنهار كأنها الفردوس المحكي عنه، يذكرنا هذا الدير بالآية القائلة: يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا، وهذا شأن سكان لبنان القدماء وخصوصًا النساك والحبساء، الدير رهيب لا جميل، كان ملعبًا لجبران في صباه فأخذ عنه أشباح الليل ومواكب النهار، تحيد من السكة وتمشي في لحف الجبل قليلًا فتبلغ الكنيسة، وهي خارج سور الدير كعادة رهبان لبنان في ديورتهم، فالنساء لا يدخلنها أبدًا، تلج الكنيسة — وهي كهف غائر في صدر الجبل — فيواجهك تابوت جبران المسطح في مغارة، كأنها حنية كنيسة مارونية، شرقية لا غربية، مزينة برفرف من متحجرات مغارة قديشا التي اكتشفها الخوري الناهض طانيوس جعجع، ومرتبة التابوت مفروشة بخشب زيتون عتيق كأنه مأخوذ من البستان الذي صلى فيه يسوع، حبيب جبران.
كتب بول بورجه يوم زار بيت غوته شاعر الألمان مقالًا جاء فيه: إن صورة الأشياء التي يعيش بينها كاتب عظيم تتحد بآثاره لتكملها وتوضحها، إن هذا ما شعرت به ثلاث مرات: الأولى في أورشليم والجليل، والثانية في المعرة، والثالثة في بشري.
نمت الليلة متأثرًا وأصبحت ناسيًا، فزرت صديقي الأستاذ خليل صادق ثم اجتمعنا برئيس لجنة جبران المنصرف إلى تكميل فندق جميل أحدثه في قلب بشري، وطوفت في بشري يرافقني أمين صندوق اللجنة السيد لدوس، فأراني أعمال لجنة جبران التي أنفقت في هذا العام على ترميم بشري نحو عشرة آلاف ليرة فحمدت المسعى.
وبلغنا بيت جبران حيث تمت رواية وع وع وع، التي أتحفنا بها ميخائيل نعيمة، فأجفلت كمن رأى أفعى، إنه أشبه بمزرب حمير، لا سقف له ولا جدران، وأدرك ذلك مرافقي الأمين فأنبأني بالمشروع الخطير الذي سيتم في العام القادم، وقد وافق عليها غبطة البطريرك أنطون، وهو هدم كنيسة مار سابا التي يعاد بنيانها على حافة الجبل.
يرى البشراويون جبران غير ما نراه نحن الأدباء، يرون فيه مسيحيًّا مخلصًا حتى للطقسيات؛ ولذلك يقدسون لراحة نفسه كل أحد على مذبح مار سركيس، أما الترحم عليه فلا ينقطع.
وانتقلنا من بيت جبران إلى متحفه فمررنا على ساحة جديدة في وسطها ينبوع يتدفق من أشداق الأسود، ولا عجب أن أوحى إليهم هذا المشهد فهم أسود تلك الغابة.
استقبلنا محافظ المتحف الشجاع وعرفنا فرحب بنا ترحيبًا «شوقيًّا» ينم عن وفاء ورحابة صدر ينسيان الضيف وحشته، وما اكتفى الرجل بالترحيب بنا حتى رحب أكثر من مرة بالسيارة التي حملتنا إلى بشري، وأخذنا توًّا إلى غرفة جبران فرأينا تخته البسيط وعليه فراش ذكرني بالفراش الذي للأب أغناطيوس التنوري، منتثرة فوقه وسائد ومخدات، والصليب معلق فوق رأسه، وفي الناحية الأخرى شماعدين دهرية أظنها عمل بيت شباب، فخلت أنني في مار روحانا عين كفاع، وهناك أيضًا شماعدين ذات سبعة أنوار وجبران مولع بهذا العدد، وتحت الرف القائمة عليه الشماعدين مطبخ جبران الزاهد، من المقلي إلى القصعة والملعقة الخشبية، وقد مدت في أرض الغرفة صورة جبران التي أهداها ميشال العبد إلى بشري، وهي من بلاط صيني كالتي في بكركي تمثل البطريرك عريضة بتاجه وصولجانه وبرفيره، وضعت هذه الصور هناك مؤقتًا وستنقل إلى بيت جبران مع متحفه.
ومضينا إلى قاعة ثانية فإذا هناك أيضًا أشياء جبران الكثيرة، منها عصاه التي رفعها مرة كما أخبرنا الأستاذ نعيمة في رده على الريحاني، وفيها ساعات جبران وكلها عادية، وأقلام وتحف وطرف، وتماثيل صغيرة بينها صورة ماري هسكل وكل عدة مصنع جبران التصويري، وخرجنا إلى الدار نطوف على الصور المعلقة على جدرانه، وأكثرها رمزية توحي حيرة وخشوعًا وعجبًا، ذكرني متحف جبران بقول نشيد الإنشاد: «هو ذا سرير سليمان حوله ستون جبارًا … كبرج داود المبني للسلاح علق فيه ألف مجن.» وفي الدار مكتبة جبران أكثرها إنكليزية، أما كتبها العربية فالأغاني وبعض كتب نحو وبيان، وكتب عديدة مهداة إليه.
فتشتها فلفت نظري رواية ميخائيل نعيمة «الآباء والبنون»، التي يقول في إهدائها إلى جبران إنها أول آثاره يهديها إلى عزيزه جبران وهو ذاهب إلى الحرب، وقد تكون الأخيرة، الحمد لله أنها لم تكن الأخيرة، ولو كانت لخسر الأدب العربي كثيرًا.
واستوقفني أكثر كتاب للآنسة مي، قدمته لجبران بهذه العبارة: إلى «النبي» مع الرعب، وهناك كتاب آخر منها نسيت عبارة إهدائه.
وأخذت أتأمل الصور المجموعة في جلود من الكرتون وكلها بالقلم الرصاصي، فعثرت بينها على واحدة مقدمة لميشلين سنة ١٩٠٨ وهي صورة جبران الشاب بقلمه، وفي المتحف صورتان كبيرة وصغيرة عليهما مخايل القدم لم أفهم سرهما، ولكني متكل على الصديق الفنان الشيخ قيصر الجميل الذي سيدرس متحف جبران بدعوة من اللجنة.
وخرجنا من المتحف مشيعين بنظرات محافظه الباسل السيد حنا مارون، الذي ينام على مسدس كاد يذهب ضحيته ليلة لولا لطف الله به وبعائلته.
وعدت إلى الفندق أتمتع بلطف صاحبه بربر بك الضاهر وإيناسه، وقبل الغروب جاءني السيد لدوس لنذهب إلى اجتماع لجنة جبران في هذه السنة الضيقة، وفي النادي تعرفنا بوجوه بشري أعضاء اللجنة، وبحثنا شئونًا تتعلق بجبران الخالد لو كانت وافقت اللجنة لانتعش الأدب العربي كما أراد جبران وفعل، وسرنا خطوة ثابتة إلى الأمام، والكحل خير من العمى.
لا تتعجب إن قلت لك كنا نخال جبران معنا، فصورته بريشه الجميل في صدر القاعة التي اجتمعنا بها، إن جبران أول أديب عربي له متحف آثار وبيت يزار ومدفن فخم، وسيكون له أشياء غير هذه وهو يستحق، وعلى ذكر يستحق أخبرك أنه استحق شكر لبنان، بعد الموت — من الدرجة الثانية — والبراءة معلقة على جدار متحفه.
إن جبران في تآليفه العربية لبناني محض بل إقليمي حتى في سماء بعض أبطال قصصه وأماكنها، ولا بد للراغب في فهم جبران فهمًا تامًّا من زيارة الإقليم الذي نشأ فيه ودرسه؛ إذ يلمحه في كل مقال كتبه جبران في هذه الكتب العربية من أعظم مفاخر لبنان الأدبية، أما في كتبه الإنكليزية فإنساني شامل وهو فيها مفخرة الشرق كله، حمل إلى العالم عطر الشرق وبخوره وأنوار شموعه.
هرب جبران من ظل الإكليروس ووقف بعين الشمس، ولكنه اليوم ينام بينهم، فهم الذين يصلون عليه كل أحد كما قلت لك، ثابت عندي أن الذين كرههم جبران من رجال الدين هم غير كهنة بشري الودعاء النقية قلوبهم، فكهنة بشري كما رأيت ديمقراطيون لا يعرفون أرستقراطية الإكليروس، ولا يرون لأنفسهم سيادة إلا تحت القبة وجناح الهيكل.
في بشري نحو ثلاثين كاهنًا! لا تتعجب، فأنا أذكر أنه كان في عين كفاع تسعة خوارنة، وعين كفاع أربعون بيتًا، كلهم من طراز: الكبير فيكم فليكن لكم خادمًا.
وأخيرًا لا تتعجب من صوفية جبران، فموقع بشري مدرسة يعلم الصوفية بلا أستاذ، فحيا الله بشري وأهلها، وحيا لجنتها الجبرانية العاملة بلا ملل، ووفقها إلى إحياء ذكراه وإن كان في غنى عني وعنها وعن منهاج البكالوريا.
(٧) من أجل الأدب
إلى الرئيس إدَّه: مجمع جبران وجائزته
سيدي
الرئيس
أذاعت الصحف إنذارًا يمنع رعيتك القلمية أن تذكرك، فهل يمنعنا هذا أن نتذكرك ونذكرك؟
ولا نزال نذكر بالفخر موقفك النبيل عبر البحر المتوسط، غير ناسين أنك باهيت بثقافة هذا البحر، الحق معك يا سيدي، أترى دول أوروبا العظمى تحوم حول هذا الحوض تدعيه، وتنسى أنت أيامنا الغر على شاطئيه الشرقي والغربي؟ ألا تذود عن حوضنا ولو بالكلام؟
أراني فهمت كلمتك الشهيرة على غير الوجه الذي فهمه بعضنا، أدركت أنك تقول للغرب: ولئن كنا اليوم أمة صغيرة نحضر هذا المعرض بتواضع عميق، فلا تنسوا أننا كنا السابقين في هذا الميدان، فاستعمرنا الدنيا وعمرناها، كنا معرضًا جوالًا فتنت العالم محصولاته، وكسا ملوك الشرق الغرب برفيرًا وأرجوانًا.
نعلم وتعلم أنك قلت لأوروبا: لئن فاتنا الغاز الخانق ولم يكن لنا طائرات ومدرعات وغواصات فما فاتتنا الثقافة، ولم ينقصنا الاختراع، فصيرنا البحر طرقًا معبدة فذل لنا وخضع.
ما وجدت مجالًا للفخر بالسلاح المدمر فطاولت بنبوغ أمتك، الذي عجز الدهر عن طمسه بعد ألوف السنين، وكيف لا تطاول بهؤلاء النوابغ وأنت واحد منهم إن شاء الله.
فكرت بهذا يا سيدي ورجعت لنفسي في الخلاء ألومها! لقد أفلست يا نفسي، أما سفهك قومك بأفراد وجماعات، فلا غني فتح كيسه ولا جماعة اهتزت لما دعوت إليه، وبعد ألف جهد ظفرت بمائة ليرة ورقًا، جائزة لأحفاد أولئك الذين افتخر بهم فخامة الرئيس في باريز فلماذا لا تقرعين بابه؟
أتفتح لنا يا سيد؟ أنت تعلم أنه ليس في مكنتنا بنيان دولة عظمى كبريطانيا مثلًا، ولكنه في اليد إنشاء دولة أدبية تمتد حدودها إلى حيث تشاء تخومها كما تروم، فقل كلمتك وهات يدك.
تذكر جيدًا كلمة بطرس ليسوع: «يا سيد قد تعبنا الليل كله ولم نصطد شيئًا، ولكننا لأجل كلمتك نلقي الشبكة»، أتقول هذه الكلمة لأطرح الصوت فيأتي الناس ويعينوني على إخراج شبكتي من بحرك الطامي؟
أتكون الفقيه المثقف ويشقى في عهدك الأدباء؟ إن أشقى الجمهورية اللبنانية أدباؤها، وهم الذين يبنون مجدها الخالد مسخرين غير مأجورين، لست أطمع من فخامتك بشيء، فعندي من خير الله وخيرك خبز وكسوة، ولكني أسألك العون على هذا الأدب، ذخيرتنا الباقية وسلاحنا الفرد، فالأدباء أيتام في مأدبة الجمهورية، لا يذكرهم أحد بكسرة يسندون بها قلبهم، فما يمنع أن تكون لهم «جائزة إدَّه» يتسابقون إلى نيلها واحدًا إثر واحد، تشحذ العقول وينبه بين أمم الأرض ذكر الجمهورية التي أحببتها.
قلت لك — عفوًا إذا تركت الميم — إنني لا أتمنى شيئًا غير هذا، فوالله وبالله وتالله (بكسر الهاء) بل لا أتمنى الحياة إلا للعمل الدائم في بنيان هذه الدولة التي نحن بها مستهزئون.
إننا في أنفسنا قوة ولكننا — ويا للأسف — عن إظهارها عاجزون، ما نفع «الاستحقاق اللبناني» يعلق على التوابيت؟ وهل تروق دفينًا جودة الكفن؟ إذا استعرضنا التواريخ تخبرنا أن الأدب لا يعيش إلا في ظل دولة، فابسط عليه ظلك، ورفه عن رجاله تسمع الأناشيد الخالدة، إننا نريحك من الأنغام السمجة، ونسمعك ما ترتاح إليه نفسك، خذنا حصتك وأنت الرابح.
جعلت في الربيع الفائت جائزة ضخمة للخيول الأصيلة، فجرب أجعلها العام القادم للبشر، لهؤلاء الذين يصاولون بأيديهم وأرجلهم ليخلقوا اللون اللبناني الذي لا يحققه لك غيرهم، لهؤلاء الذين يجرون كل يوم شوطًا وعليقهم غير مضمون في المساء.
•••
أما الآن فلنؤد الحساب لإخواننا الأدباء، إن سعينا المستمر لم يذهب سدى، ولم تعد يدنا فارغة، فلجنة جبران الوطنية ما خاست بعهدها، وإن نفرح الآن فبالنواة التي نسوسها لتمسي دوحة إذا أنعشها الهواء وواتاها الماء والغذاء، وهذه قطعة من رسالة رئيس لجنة جبران توضح ما نقول:
قيامًا بما قطعناه من العهد أمامكم بجعل جائزة أدبية لجبران عقدت جلسة خصوصية للبحث بهذا الموضوع، فعلقت اللجنة النتيجة على استشارة رئيسها الفخري غبطة البطريرك عريضة، وفي موعد آخر تقرر أن تكون الجائزة مائة ليرة لبنانية تدفع للفائز نقدًا، وأرصد ستمائة ليرة أخرى لنفقات مجمع جبران الأدبي، فتكون الجائزة بظاهرها مائتين، ولم نتوفق إلى أكثر.
وإن شاء الله تعلمنا التجربة الأولى وتفهمنا نتائجها وفوائدها فنجعل الجائزة التالية أضعافًا، وقد اتخذ قرار يعهد إليكم بتأليف مجمع جبران من خيار أدبائنا بنظام رسمي معترف به، وتعطى النتيجة — الحكم بالجائزة — في بشري خلال حفلات ذكرى رجوع جبران إلى بلدته كما اقترحتم في الاجتماع.
يقول المثل العربي: أول الغيث قطر، ويقول المثل اللبناني: مص القصب عقدة عقدة، وطلوع السلم درجة درجة، أما المجمع فنحن ساعون إلى تأليفه ووضع قانونه، أما عدد أعضائه فسبعة، ينضم إليهم عند الحكم رئيس لجنة جبران وعضو آخر تنتخبه اللجنة، أما جائزة جبران لعام ١٩٣٨ فستكون للقصة الطويلة يحكم بها المجمع في بشري، وفقًا للشروط التي تذاع قريبًا مع أسماء الأعضاء ليبعث إليهم الأدباء بقصصهم.
إننا نثني أطيب الثناء على لجنة جبران الوطنية، فلعملها تتهلل روح جبران، وهو عندي أقرب أعمالها إلى نية الواهب كل ما يملك لبلدته، فجبران سعى جهده في حياته، بل وقفها كلها على هذه الفكرة، فأنشأ الرابطة القلمية التي مرضت بمرضه وماتت بموته، فعسى أن يكون هذا المجمع الجديد من أبناء الحياة فتفرح به روح جبران فرح الجد بحفيده، وعسى أن نبشر الأدباء بجائزة الرئيس إدَّه التي ستكون سنية إن شاء الله.
حاشية: إذا متع الله هذا الأدب اليتيم بجائزة إدَّه فلتكن محرمة علي منذ الآن ما عاشت وعشت، وكذلك جائزة جبران التي تحققت، أقول هذا دفعًا لسوء الظن، رب يسر ولا تعسر.
أخي الشيخ فؤاد حبيش
قرأت كلمتك الآن عن مجمع جبران وجائزته، ورأيتك «تود» — وودك في محله — أن يكون للشعراء والمصورين نصيب من جائزة جبران.
سيكون ذلك يا شيخ، فالجائزة القادمة عام ١٩٣٨ للقصة الطويلة، وجائزة ١٩٣٩ للشعر، وجائزة ١٩٤٠ للتصوير، هذا إذا بقيت الجائزة قزمة ولم تكبر، أما إذا نمت فسنجعلها للفنون الثلاثة في كل عام، صل معي للقديسة تيريز من كل قلبك.
شكرت لك ثناءك علي، وتقنفشت ثم اقعنسست، لا تتعجب يا فؤاد فالشاعر صادق:
ساعدونا يا أخي، طوفوا معنا حول الصناديق وانفخوا في الأبواق، فلعلها تسقط أمامنا كما سقطت أسوار أريحا عند أقدام البطل يشوع بن نون عدونا الألد.
ليس فينا من يستطيع أن يحدق إلى الشمس دقيقة، إنما نحن أبناء الليل تطربنا موسيقى الزوابع وترجفنا الصواعق ولا تخيفنا، إننا نرقب وجه الصباح لننام في الضحى كصاحبة امرئ القيس رحمها الله.
اليوم قرعت باب رئيس الجمهورية، كما قرأت أو تقرأ في صوت الأحرار، أتقول إنه يصرفني؟ لا تنس يا فؤاد أن مارون لا ينصرف، والرئيس غير شاعر، عفوًا الرئيس شاعر أعمال، والصرف وعدمه بضاعة كلام، فسترى أن رجائي لن يخيب، وقد رفعت إليه الآن كتابًا خاصًّا، أحسن الله الجواب والمآب.
أصافحك مشتاقًا إلى أحماضك الحبيشية التي تغني عن «معكرونكم»، فأسأل الستار أن يكشف عني هذه الكربة، وينبت المرعى فلا تبقى حزازات النفوس كما هي.
ولبراءة الذمة أقول للقارئ الكريم إنه لم يتحقق شيء من آمالي.
(٨) خطبة بشري
جئت وفي نيتي ألا أتكلم، ولكنني فعلت إذ بلغني، والعهد على المخبرين أنكم سيدات وسادات، مشتاقون جدًّا إلى طلعتي البهية، أشكركم جدًّا، فقد جبرتم خاطري المكسور، وفهمتموني أن الله لا يبلو حتى يعين، فهو إن تكرم علي ببطن كافوري يتقدمني بلا حياء إلى كل محضر، فقد رزقني من يقبلني على علاتي.
سيداتي وساداتي
لست اليوم خطيبًا، ولكنني محش، أعلق على الهوامش، وبكلمة أبرع: رجل يقطع من كل واد عصا، فانعتوه ما شئتم.
جئنا لتعظيم جبران ولا بد لكل زعيم في الدنيا والدين من ناس تؤيده، فحاكم لا تشد ظهره رعية لا يهابه الناس وأمره يكون رخوًا، وقديس لا يطلب شفاعته أحد ولا تقرع له صدور العجائز يعيش بلا شأن في عالم الإيمان، فالقديس برلام مثلًا، زبائنه قلائل جدًّا، ولا يعرف أحد باب بيته مع أنه اختصاصي بحب الصبا والنمش، وله رأي مفيد يشفي من المغص، وإن قلتم: من أين جئت بهذا القديس الذي لم يسمع به حتى الخوارنة العتاق منا؟ أقول لكم: راجعوا السنكسار فاسمه مدرج فيه كبقية الآباء القديسين.
إذن لا بد من تعظيم جبران، وتمجيد أورفليس مدينة المصطفى، فهنا أروع أودية الدنيا، كان وادي الحبساء والقديسين، وصار اليوم وادي النوابغ وأبطال الدنيا والدين.
يقولون إن الله موجود في كل مكان، وفي ملتي واعتقادي أنه — لاسمه السجود — يمضي أغلب أوقاته في الجبة، فجبة بشري جبة الله، والله في الجبة كما قال الحلاج المتصوف المتهوس، فلا عجب أن يصيف سبحانه وتعالى بين الأرز والديمان، فهذا الماء يطول العمر، وهذا الهواء يصفي الأرواح وينقي الأبدان.
وإذا كانت السماء يا أخي عمر فاخوري، جنات تجري من تحتها الأنهار كما وصفها الله في كتابه العزيز، فهي — علم الله — هنا أو هنا ملحق لها كما هي الحال في لوكندات المصايف، وكأني بالجبة من الحدث إلى إهدن قد خلقها الله مقرًا لعباده الصالحين، الذين يصابون بالضغط العالي وتصلب الشرايين ولا يستطيعون الإقامة عنده في أعلى عليين.
وإذا كان في بيت أبي يسوع منازل كثيرة، كما حدثنا إنجيله الطاهر عن مساحة السماء، فهنا أحد هذه الأمكنة، اجعل اللهم نصيبي من جنتك في بقعة خيرة كهذه، وما يضرك لو تخلدني بشحمي ولحمي فألاقيك في السحب مع الجدين الجليلين: إيليا وأخنوخ، وإن لم تعد كما وعدت، فخير وبركة، فالإقامة هنا لا بأس بها.
سامحوني إن تفلسفت اليوم قليلًا، فقد فعلت دفعًا لتوهم الناس أنني مع هذه الشيبة الطاهرة لا أعرف أتفلسف، الخير فضلتي يا جماعة، وأنا كالمتفلسفين من معاصري، والفرق بيننا أنهم يتفلسفون «رسميًّا» وبكثرة تقطع الرزق، وأنا أتفلسف ضاحكًا ومضحكًا، تلبس فلسفتي — غصبًا عن رقبتي — ثوب المرافع القليل الحشمة، وما حيلتي فيها؟ إنها تحب الرقص، فاعذروها إذا لم تترصن.
هنيئًا لبشري أرزها الخالد، وبطركها الشيخ الفتي، وواديها الرهيب، وجبرانها العبقري، ومغارتها العجيبة، كاتدرائية الله — لا تنسوا أنه يصيف هنا — ما أعظم حظ بشري! أعطاها الله وكثر، وهي تستاهل.
وإذا ذكرنا مغارة قاديشا تمثل لنا الخوري طانيوس جعجع: كولومب الجبة أو القائد المتنكر بثوب خوري، كما سماه الجنرال غورو، فعسى أن تشمله الحكومة الكريمة بنظرة فابتسامة، فكلام تأويله استحقاق شكر لبنان.
في لبنان أعياد صيفية أكثر من أعياد الطائفة المارونية، فعيد كبير للشجرة نتمنى أن تثمر طحينًا وبرغلًا، وعيد أزهار نتمنى أن تضفر إكليل حمد لحكومتنا الساهرة، وفيه محاضرات في عواصم الاصطياف أحدثها وزير التربية والاقتصاد الوطنيين، فشكرًا لما يبذل معاليه من جهود جبارة في سبيل الإنعاش، أخذ الله بيده.
أف! لعنة الله على الشيطان، نسيت أعياد ملكات الجمال، ليتهم يجعلون جائزة للجمال المعتدل، ولو مرة، فأريحها وأستريح قليلًا، فلا راحة لي ما دامت غلة الأدب: سلم بوزك.
إذن لا عيد أدبي في الصيف الذي يضيع اللبن، إلا عيد جبران نبي لبنان، لست أريد النبي بمعناه الديني، فالأنبياء قد خُتموا، ولكن عنيت جبران النبي بأسلوبه وتفكيره وخياله، إن جبران وسام رفيع، لا كالأوسمة، علقه الدهر أبو العجائب، على صدر لبنان، مصدر البرفير والأرجوان.
واليوم يحدثكم عنه أديبان خطيران يفهمان سر الأدب، ولا شك أن حبيبنا جبران سيغتبط جدًّا؛ إذ يسمع ما يقال فيه من الأستاذين عمر فاخوري وخليل تقي الدين، ولما سيكتبه الحبيشي غدًا في «مكشوفه» ساتر عورات الكرام.
فلحفلة هذه السنة معان كثيرة يستنتجها اللبيب، ففيها المراعاة للمادة ٦ و٦ مكررة، ومنها يعلم أن في لبنان كنيسة أدبية جامعة من أمرائها جبران وفرح أنطون والشدياق، ودفتر العماد في دار المكشوف، كثر الله هذا النسل المبارك، فبه لا بغيره تمتاز الجمهورية اللبنانية.
إن في لبنان اليوم بنائين جددًا يزيدون على هذا الهيكل قببًا شامخة تسر العيون، وأجراسًا عبُّودية تشرح وترعد، فكاتب «الباب المرصود» أديب بكل حواسه، بل هو الرصد الذي ينشر أمامك ذهبه، ثم يحوله حجارة إن جهلت قيمته، فحذار فكل ما يحققه العقل يخلقه خيال الأديب أولًا.
هلم أيها الأستاذ واركب المنبر في هذا الزمن العصيب، فمهما يكن شموسًا فإن ظهره سيلين لك.
•••
قد سمعتم عمر فاسألوا الله أن يقلل من كسله، وألا يشغله السجل العقاري عن تسجيل قطع أدبية واسعة الأطراف مغلال يملكها أبناؤنا وينعمون بخيراتها.
أما السيد حليم كنعان الذي أقدمه لكم الآن فهو كاتب فَتِيٌّ جديد يتأهب بإخلاص واجتهاد للمعامع الأدبية، وإنني أتوسم فيه خيرًا، وإن زججناه اليوم بين الفحول فليتعود أن يسد المكان الذي سدوا، والآتي قريب.
•••
والآن جاءت نوبة الأستاذ تقي الدين، والشيخ خليل من رجال الحكومة كصاحبه عمر أفندي، عمر يقيد صكوك البيع وخليل يراقب تدوين الحكي؛ أي ما يقال في مجلس النواب، ولكن هناك إلى جانب الحكي كتاب «عشر قصص»، وهي حكايات بلدية طيبة كعرائس المروج والأرواح المتمردة، إنما بصورة أخرى ولو كان خليل أصغر سنًّا لقلت جبران قد تقمص «القضية ثابتة» يا شيخ، وجبران يؤمن أن امرأة أخرى ستلده.
إننا ننتظر من خليل تصوير «الخلوة» وما فيها، كما صور جبران الصوامع والديورة، فأدبنا مفتقر جدًّا إلى تصوير الخبايا والزوايا والتكايا، وبدون هذا لا يصير عالميًّا.
المنبر يدعوك يا شيخ، فانس ثرثرة مارون، فللعمر حق، وللسن حصة كبيرة، أسمع جبران صوتك، فبيته قريب منا، وإن شككت مرة فبطرس شك ثلاث مرات، وبولس أكل كفًا سخنًا على طريق الشام.
لو كنت على رأس الدولة لعزلت خليل تقي الدين — لا تخافي يا ست، مع المعاش وحبة مسك — وما فعلت إلا لأصرفه إلى الأدب الخالص، فيخلق أبطاله قصصه وأحاديثهم كما يشاء، لا كما تقتضي الجريدة الرسمية.
•••
يظهر أن الحال اقتضت أن يتكلم الأستاذ الشهير فؤاد إفرام البستاني، فأكثركم إن لم أقل كلكم، يعرف صاحب الروائع، ومن جهله فستعرفه به محاضراته المتتابعة كقافلة ابن العاص إلى ابن الخطاب، إن كلمته استغاثة كما سماها لي، فعسى ألا تكون من «الأعماق».
•••
أما كلمة الختام فلا ترعبكم، فليس هناك خطيب آخر، إنها كلمة: شكرًا، شرفتم، قوموا إلى المأدبة.
(٩) الحداد وجبران
الخوري يوسف الحداد هو ابن عمتي، وابن ضيعتي ذات الطريق المشهورة، وهو أيضًا أحد شيوخي الذين أخذت عنهم، وكثيرًا ما حاولت أن أظهر عبوديتي لهذا الذي علمني حروفًا وأمسكت قلمي، خفت أن تتهم حكومتي فيه وأن يقرئني «مادح نفسه» سلامًا أنا مستغن عنه.
ظهرت «النجوى» كتاب ابن عمتي الحي بتفكيره وتعبيره، فقرأت أقوال المنصفين ولم أحرك ساكنًا كما يقولون، وما لهذا الخوري ذنب إلا أن أباه منذ مائة سنة اختار عمتي من بين الصبايا.
وعام أول، أو هذا العام — لا أذكر — أذاع معهد الحكمة الخطير أسماء الذين حرثوا كرمه، ونسي الحداد مع أنه ذكر الجميع حتى فاعل الساعة الحادية عشرة، فعتبت وجاء العذر مقبولًا، فكان العتاب صابون القلوب.
واليوم وقعت عيني على كلمة الأستاذ إلياس أبي شبكة، مقدرًا الأستاذ الكبير منوهًا به بعد ما تناساه كثير ممن أحبهم حبًّا جمًّا، شاركه فيه الكير والمطرقة والسندان، عدة الحداد.
أرى أن عقل الأستاذ أبي شبكة وقلبه قد اشتركا في المقادرة بين الخوري يوسف الحداد ورجال زمانه، عده الأسبق في الطبقة الأولى من أدباء الجيل السابق، وهذا حق ننفق في سبيل تأييده عن سعة، أما العاطفة ففي قول الأستاذ: «ولا أذكر أنني هففت إلى رجل قطع هذه المرحلة من العمر كما أهف إلى الخوري يوسف الحداد.»
لقد صدق الأستاذ، فكل من عرف شيخنا الجليل يهفو إليه، فتحت جبته السوداء قلب كالذي تمنى داود أن يخلقه الله فيه، ونفس ذكية لا تحتاج إلى الغسل بالثلج، ذهبي الفم على المذبح، كناري الفم في المجالس، وهبه الله إحدى خصال أمه بلغه الله عمرها، فهو يحبو إلى الثمانين ولا يزال كإيوان كسرى الذي يقول فيه البحتري:
فشكرًا لأبي شبكة عن سيدي الرائح الجائي كل مساء بين ساعدي شط جونيه اللازوردي كأنه الرمح دارجًا، مشغولًا في جسده عن متاعب القلم، ولكنه — كما وصفه أبو شبكة — «ما برح أخضر الذوق، طري التفكير، طلي الحديث.»
ابن الخال الحبيب
السلام عليك، وعلى شق الطريق إلى عجوز ابن الخطاب.
كتبت إلي تستفسرني عن جبران، وهل كان من تلاميذي في مدرسة الحكمة، ثم تشعرني بتوفيقك إلى شق الطريق.
أما جبران فهاك عنه ما يعلق بذاكرة أستاذه، درس علي جبران سنة واحدة فيها كنت له لسانًا وقلمًا، وكان أذنًا تعي ما عناها، وقلبًا تابعًا لهوى متبوع، ونفسًا وثابة، وعقلًا متمردًا، وعينًا هازئة بكل ما تقع عليه، مقلًا من الإخوان، يزرع حقله في عقله وفي يوسف سعد الله الحويك، مجتزئًا به بين سائر الرفاق، كثير الانتقاد، شديد التمسك برأيه، مفكرًا قلما ترتسم الابتسامة على ثغره، طموحًا تحت مهماز لا رفق معه، يجدُّ ليجد ناظرًا في أفق بعيد.
وفي قص خبر اتصاله بي ما يفتح لدرسه منفذًا يطل عليه، وكثيرًا ما يقاس الحاضر على الماضي (والطبخة الطيبة تعرف من العصر)، اسمع: في أواخر تشرين أول سنة قرع علي باب غرفتي، وعلى كلمة «تفضل» دخل شاب ربعة ذو وجه حنطي مشرب حمرة، وعينين ناعستين ما بين أجفان ذابلة كزهرة تطل من أكمامها، ترسلان نظرات طويلة مثبتة، وله شعر مرسل يلامس أذنيه.
– الاسم الكريم، وهل أصلح لخدمتك في شيء؟
– أنا جبران خليل جبران من بشري، أنهيت دروسي في الإنكليزية، نائل شهادة الفلسفة، أتيت لبنان لأدرس آداب لغة وطني وأبدي فيها أفكاري، فكان نصيبي الصف الابتدائي.
– ماذا تعرف من مبادئ العربية؟
– أحسن القراءة فقط.
– أفلا تعلم أن السلم يرقى درجة درجة!
– وهل يجهل الأستاذ أن الطائر لا ينتظر السلم في طيرانه؟
– إنني لم أرك قبل الساعة فمن دلك علي؟
– عيني رأتك وقلبي دلني.
اقشعر بدني من الجوابين وشعرت أن أمامي عقلية بارزة في فتى له حكمة الشيوخ، وذكرت للمتنبي: «ليس الحداثة من حلم بمانعة.»
– والآن ماذا تريد مني؟
– رأيتك مرارًا فسألت تلميذك يوسف الحويك من يكون هذا الخوري؟ فقال: هذا أستاذنا الحداد وله رفق بتلاميذه وعطف، وكلمته مسموعة عند الرئيس، فجئتك في أمري، دعني أحضر عندك لا أسأل ولا أُسأل، وإني دافعٌ مرتب المدرسة كله حالًا، وأنا المسئول عن نفسي، لا أمي ولا أبي، وإن لم أنل مطلوبي فتشت عن غير هذه المدرسة التي تتعلق بحرفية القانون ولا تفهم تلاميذها.
– مهلًا وأعود، وما زلت بالرئيس حتى قال كلمته «التاريخية»: النتيجة يا حبيبي أنت المسئول، وأين راتب المدرسة؟
– حاضر.
وعدت إلى جبران، وما رآني حتى أقمر ليله وابتدرني قائلًا: انقضى غرضي يا أستاذي.
– ومن أين عرفت؟
– من وجهك الضاحك وعينيك.
وثاني يوم كان جبران بين تلاميذي على مقعد التدريس، وقدامي على المكتب كتابة منه: قبل مرور ثلاثة أشهر لا تسألني عن شيء وبعد ذلك سل ما تشاء.
لم يكن جبران وقت اللقاء الأمثولة يفتح كتابه بل كان آذنًا وعينًا، وتلك الأذن العطشى لا ترتوي وتلك العين لا تشبع، وكان يختلف إلي حينًا إثر حين، يلقي علي أسئلة ويستشيرني في انتقاء كتب المطالعة فحولته على كليلة ودمنة والأغاني، ومقدمة ابن خلدون، ونهج البلاغة، ورسائل بديع الزمان، والدرر لأديب إسحاق، والمتنبي والبهاء زهير، والتوراة، ودرس الطبيعة وطبائع البشر وأخلاقهم وعاداتهم والتواريخ.
وكان يأتيني بمقالات من عندياته يستقل بها، فأرى منها جسمًا متناسق الأعضاء عليه مسحة من الجمال تحت ثوب من اللفظ لا يشاكل المعنى، فأمشي معه في ثقافته مشية من يرى تلميذه أكبر من تلميذ، وضعت له هذه القاعدة: «فكِّر طويلًا واكتب قليلًا، تكتسب كثيرًا إلى أن تفيض القريحة فيضًا.»
ومن أول مقال له أدركت ما هو جبران وقلت له: إنك صائرٌ شاعرًا مطبوعًا، وكاتبًا خياليًّا فاتق الله، إلى الأمام.
وكان جبران ينمو في أسلوبه نمو الحورة وينبثق انبثاق الحوض، ومعه تقوى الروح الوثابة العابثة المتمردة.
وفي آخر السنة تركت المدرسة ولم أعد أذكر إلى أين أتجه، إلى أن أهدى إليه كتابه وعليه العبارة: «أنت أولى بأولى بواكيري»، فكتبت إليه في بعض نقط فقطع الحبل، وكل ما أقوله: لا تتعجل بنشر نقد جبران قبل أن تلم به من كل ناحية، وجبران كان يحذق فن التصوير وهو في المدرسة.
لا أقدر أن أبدي رأيي في جبران؛ لأني لم أطالع تآليفه كناقد، ولا جلد لي اليوم، بل أعتقد أنك بدرسك له الدقيق تجد الغث والسمين، وعسى نقدك أن يكون نظير عصا موسى وراء عصي سحرة مصر، إن شاء الله الذي لا توفيق إلا منه.
(١٠) شيءٌ عن مي
يا حبذاه!
هكذا أجابتني مي إذ دعوتها إلى الكلام في حفلة جبران التذكارية، كانت يومئذ مجاورة بالفريكة بعد محنتها، وقد صحبنا إلى زيارتها صديقنا وصديقها الريحاني.
تلك أول مرة رأيت فيها وجه مي الذي أطراه الناس نعتًا، رأيتها فخلتني أمام كنيسة مهجورة، في عتمتها روعة وجلال، وفي شقوق جدرانها رائحة الفن والدهر، من أين جاءت إلى ذهني في تلك الساعة، صورة ابن الفارض كما رسمها جبران؟ لست أدري، رأيت في محياها ظل الشباب مسفوحًا على الهرم، قعدت على «طراحة» كعادتنا اللبنانية، وجلست هي على كرسي بالقرب مني، فاعتراني اضطراب القاعد قرب جدار متداعٍ، أدركت فورًا أنني أمام امرأة لبنانية لم تمح مصر ولا مدنية الغرب خطًا واحدًا من خطوطها الجميلة.
يا حبذاه! تلك عبارتنا الإقليمية عند الحسرة الممزوجة بالألم، فهي بنت قرية من قرانا المتواضعة، وهي ما برحت تحتفظ بلحن عذب تحدث به لبنانيًّا عتيقًا لا يتمطق ولا يلوك لسانه، قابلته ماري زيادة بالمثل، وهي بنت الجبل مثله، لا تعرف مضغ الكلام ولا صبغ الأحاجيب كبدويات المتنبي.
كم كنت غليظ القلب في إلحاحي عليها، فوا عجباه ثم وا عجبا! كيف لم أفهم أن هذه الهاء هي هاء السكت والندبة، كيف لم أدرك ما احتوت عليه «يا حبذاه» من تفجع يعتلج في صدر تلك المسكينة، فرحت أزيد الطين بلة ولا أحس، كانت مي تلك الساعة:
قد — والله — كنت أقل من طفل، وإني لأذكر ذلك وضميري يؤنبني، فمغفرة يا روح بنتنا العزيزة.
كنت أتأمل مي وأنا في حضرتها، كأنني غيلان أطوف بربعها الخرب، كانت تحدثنا بصوت في قرارته حسرة تحاول إخفاءها فلا تختفي، رأيتها تأبى الجلوس بين الصديق الشيخ فؤاد حبيش والسيدة عقيلته، عملًا بتقليدنا اللبناني الذي تلقته في مدرسة البيت، لم تبدر منها بادرة لا عهد لي بها، فباتت في عيني مثال المرأة اللبنانية، لا تجود بأكثر من ابتسامة لما كان نقهقه من نكات شاردة حضرتنا في تلك الساعة، أسمعت بقولهم: بنت مقهورة، لقد رأيتها تلك الليلة بشخص مي فاستغنيت عن البحث والتفتيش.
قرأت أن الدكتور فهمي ختم خطبته، وموضوعها «نزعات مي في حياتها»، بهذه الكلمات التي يقال أنها كتبتها قبل موتها: «هذا قبر فتاة لم ير الناس منها غير اللطف والبسمات، وفي قلبها الآلام والغصات، لقد عاشت وأحبت، وتعذبت وجاهدت ثم قضت.»
من نكد الحظ أن تبتدئ حياة مي بالمقلوب، فبعد ما أمست الكاتبة الأولى أحبت الكاتب الأول فمضى لسبيله، وكان الكبت وكان الانفجار، ولم تفز مي بالتصعيد الفرويدي المزعوم لتتسامى بفنها وتستولي على الأمد، فلو أحبت في فجر طلعتها الأدبية لظلت أمامها رقعة الأمل واسعة، ولكنها ابتدأت حيث ينتهي الناس فلم تتحول غريزتها الجنسية إلى أسمى من الهوى، إلى حب الجمال والموسيقى فذهبت ضحية «الفكرة الثابتة».
«الفكرة الثابتة» شر من التنين الذي رآه يوحنا، فإذا احتلت ساحة الشعور سيطرت عليها واستعمرتها، وكيف لا تفترس حملًا وديعًا لا حاجب على حظيرته ولا بواب، مات الأب ولحقت به الأم، وأمست البنت وحدها، وجهها والحيط كما يقولون، وجبرانها أمسى عريس البلى.
قد يقال ما هذا الحب وبينهما بحور أقل أمواجها جبل؟ فنجيب أن بشار بن برد قد انبرى لحل هذه العقدة فاستفتوا شعره، وإذا كان علم النفس يعلل الحب العياني زاعمًا أن المرء لا يحب شخصًا حقيقيًّا، بل يعشق شخصًا خياليًّا فينتزع من نفسه أشياء يسبغها على معشوقه، حتى يخال أنه اكتشف بذلك أسرار النهاية وحقيقة الوجود، فكيف بمي المفتونة بسحر جبران حتى ترى فيه شخصًا أسمى من البشر؟
إن التقاليد التي شن عليها جبران ألف غارة، هي التي ختمت مأساة من أحبته حبًّا جمًّا هذا الختام الفاجع، أبت الفتاة أن تخفف رأسها وتذهب إلى لقاء الشاب، فعلى الشاب أن يسعى، وقبل أن يلهما حلًّا ملائمًا مات جبران وعاشت مي بعده كراحيل لا تريد أن تتعزى، استبدت بها «الفكرة الثابتة» فأبغضت الناس وتحامتهم؛ لأنهم سعدوا دونها، حتى أبت أن تستقبل الدكتور طه حسين الذي سعى إليها، بل أنبأته — كما رُوي — بأن ليس بينها وبين غيرها من الناس اتصال، ولا خطاب ولا حديث إلا من طريق الكتابة، فإن كانت لك كتب لم أقرأها فأرسلها إلي، وأما شخصك فلا أراه ولا يراني.
أقيمت لمي في العالم العربي أعراس تليق بالعروسة الخالدة، ولا بدع أن كان خيرها عرس مصر، فقد أسدت إلى الكنانة خير الأيادي، وجددت عهد الأندلس في ذلك الوادي البهيج، فهذا إسماعيل صبري باشا يتلهف بشعره الرصين إلى يوم الثلاثاء — يوم صالون مي — ليرى مي وإلا فلا كان يوم الثلاثاء، وهذا أمير المنبر الدكتور نقولا فياض يهتف من على منبر الجامعة الأميركية:
وهذا الدكتور طه حسين يقول في ناديها: «وحسبكم أنني استطعت أن أصل إليه حين لم أكن أكثر من طالب بالجامعة القديمة.»
وهذا الدكتور شميل يخاطبها بقصيدة لتلين ويفرخ روعها بعد ما دخل خدرها محتشمًا فأفزعها:
ومي ترصد هذا الحساب الضخم بما أوتيت من فصاحة ولسن وشدة عارضة، كانت في ذلك المعترك — معترك العقول الكبيرة لا الأحداق والمهج — كما يقول المثل اللبناني: يا بحر ما يهزك ريح، وظلت شامخة كأنها سنديانة الكنيسة حتى اقتلعتها العاصفة الشمالية.
ليس بين يدي من كتب مي إلا كتاب واحد عنوانه بين «المد والجزر» كأني به عنوان حياتها، ولكنه لا يكفيني لرسم صورتها كاملة، بيد أنني أستعين بذاكرتي فأتخيلها وأرسمها ببضعة خطوط قد تبدي للأذهان صورتها المصغرة.
مي غربية شرقية في تفكيرها، تفاعلت في قلمها الثقافتان فكان من نتاجها تعبير رصين لم تظفر بمثله أنثى قبلها، فمي الكاتبة خير أنثى عرفها الشرق العربي، وهي في أسلوبها المتين تبز الكثيرين من الفحول كما قيل في بنت عمها الخنساء.
نفست الخنساء كربتها بما قالته في رثاء أخيها صخر، واعتصمت مي بالحياء فماتت بدائها، ولها عذرها فالأم غير البنت، والشقيقة غير الحبيبة.
في منثورها رائحة شعر ذكية، وفي تعبيرها موسيقى بعيدة الأثر، كان أدب المقالة مسيطرًا في عهد صباها، فتأثرت كغيرها بأسلوب الشدياق والحداد وإسحاق وغيرهم من كتاب القرن التاسع عشر، ثم ضمت إلى قسماتها الفنية بعض ملامح جبرانية ريحانية.
الكثير من أدب مي يؤثر بقارئه؛ لأنه ابن الانفعال، والانفعال كما يقول ريبو خميرة الإبداع الفني.
يحس قارئ مي أنها قرأت كثيرًا، وتمثلت ما قرأته فأخرجته متسمًا بطابعها الشخصي، وإن لم يكن في هذا الطابع نتوء يدلك عليه فتعرفه أنى وجدته، والذي عندي أن مي ليست ممن يرسلون المقال عفو الخاطر بل تنقح وتحكك، فإذا كان الحطيئة عبد الشعر، فمي أمة النثر، أما أثرها في بنات جنسها فبعيدٌ جدًّا، إنها ربة البند والعلم، وبحق يعقد لها اللواء في أدبنا النسائي الحاضر والغابر، وحسبها هذا.
رحم الله فتاة نابغة هي إحدى حلقات سلسلتنا الذهبية، وفي ذمة الله حياة ضاعت «بين الجزر والمد»، «إن المطرة ظلت وحدها تشيع السفينة — سفينة نبي جبران — بنظرها حتى توارت بالضباب».
أشارت إليها المحبة فاتبعتها، فدرستها على بيدرها، وغربلتها لتحررها من قشورها، وطحنتها لتجعلها نقية كالثلج، وعجنتها بدموعها حتى تلين، وأعدتها لنارها المقدسة، فكانت خبزًا طاهرًا ومحرقة نقية.
أمد الله في حياة أخواتها الكاتبات وأبقى لهن رداء الشباب.
(١١) ما بين مي وجبران: رسالة تكشف الغطاء وتزيل الستر، نعيمة وكتابه «جبران خليل جبران»
يا صديقي
لا تتعجب أن أخاطبك بيا صديقي، فقد كنا وما زلنا أصدقاء وإن ضرب الدهر بيننا، وفرقنا أيدي سبأ.
تذكر أيام المدرسة، وقد شبت وشبنا، وحينما — تمرون الديار ولم تعوجوا — أنظر إلى حركاتك وسكناتك فأتذكر مارون المرح كالبرذون الفارة، لا تسعه الأرض التي يحلها أو يحتلها، وعندما أسمع حديثك أو أقرأك أتذكر لواذع نكاتك التي كنت ترمينا بها فنفرنقع عنك بعد تكأكئنا عليك نتحرش بك، أتذكر «عاصي» و«الناكوزي» وغيرهما؟!
تلك أيام «وهيدي بدالها» يا مارون.
سمعت حديثك في راديو الشرق فعرفتك، أرشدني إليك ما في صوتك من بحة وصحل لا أزال أذكرهما — ماركة مسجلة — فبقيت أسمع حتى انتهت كلمتك عن مي — الله يساعدها — وأعلن المذيع أنك أنت هو، ذلك المارون الذي كنا نحب قوارص كلامه كالنساء اللواتي يستطيبن اللطم والضرب، أسمعت بهن؟ يظهر مما أقرأ لك أنك بكل شيء عليم، الحمد لله على هذه النعمة.
قد طال الحديث وأتصورك كعادتك سئمت، وقلت: أيش بدك يا خيي! قل وحل عني.
ألومك يا مارون؛ لأنك نبشت قبر مي، وشرحت تلك المستورة على قارعة الطريق، أليس الراديو مثل قارعة الطريق وأكثر؟ ما كنت ألومك لو لم تأت ما نهيت عنه، أما لمت الكاتب الكبير ميخائيل نعيمة حين تحدث عن حب جبران لميشلين، وما كان بينهما من علاقات؟ أليست هذه كتلك؟ ماذا تهم الأدب هذه النواحي، أليست عيوبًا يجب أن تغطى، فالإنسان ضعيف، وما خلق إلهًا كاملًا منزهًا عن كل عيب وضعف.
«ب. ع» نصف بعبع، من هذا؟ لست أدري، جمعت قوى ذاكرتي واستعنت بدفاتري، وانتظرت الفرصة انتظار القارم اللحم والصائم بيضة العيد، فقرأت كتابي الجوائز لسنتي ٩٠٥ و٩٠٦ من الجلد إلى الجلد، فلم أوفق إلى شخص عرفته وعرفني في مدرسة الحكمة يبتدئ اسمه واسم أسرته بهذين الحرفين.
ذكرني هذا الرفيق بأيام «البنوتية» التي لا أنساها، وأحس أنني أحياها وأنا أزاحم الستين، فلم أبلغ بعد الساعة التي أقول فيها مع أبي نواس: «وأراني أموت عضوًا فعضوًا»، وأظنني لا أبلغها.
اسمع أيها الصديق «الحشري»، أتألم ألم الأستاذ ميخائيل نعيمة؛ لأنه قال: إن جبران بشري أحب كما يحب الناس، ويشرب كما يشرب عبيد الله، وجمع من حطام الدنيا مثلما يجمع معظم الخلق. وهل أنا مجنون لأعتقد أن جبران لا يعيش باللحم والدم كسائر الناس؟
لا أشك أبدًا في أن دم جبران حار جدًّا، وإن زعمت غير ذلك فرسومه تكذبني، إن تياراته الفكرية في أدبه وفنه تتجه دائمًا صوب الحب الذي يراه الحياة كلها، ومن قرأ أول حرف وآخر حرف مما كتبه جبران — حتى يسوع ابن الإنسان — رأى «الحب» كنجمة القطب وإليها تتجه سفينة جبران.
ولست أشك أيضًا في أن حياة الأديب الفيلسوف ميخائيل نعيمة أقرب إلى الصالحين المتعففين، وإن حياة جبران أقرب إلى الوثنية اللبنانية العريقة منها إلى المسيحية الطارئة، ولكن هذا لا يدعو إلى تلك «الزحمة» الكبيرة التي صرف إليها نعيمة همه، بدلًا من أن يدرس أدب جبران درسًا جامدًا وعلى ضوء لا يترجرج ولا يتذبذب.
أنا لم أكتب حرفًا بعد عن كتاب نعيمة في جبران، وإن كان في نظري على علاته خير ما كتب عن جبران، ما أبطأت عن ذلك إلا لأنني سأتكلم عن مدرسة جبران وأثرها في أدبنا الحديث حين تتجمع لدي الوثائق الكافية فلا باس علينا من قول كلمة عابرة.
بين كلامي وكلام نعيمة فرق واضح. إن الأستاذ نعيمة تحدث عن «فضائح»، وأنا لم أتحدث إلا عن حب طاهر، أين منه الحب العذري؟ قد رأى جميل بثينة، والمجنون ليلى، أما مي فوا لهف قلبي عليها، إن نعيمة يروي حديثًا يعجز عن إثباته بالوثائق التي هي مقطع الحق الأول، أما أنا فسأريك — أمهلني قليلًا — ما يزيل كل شك يخامرك ولا يمس مي وجبران بضر، إن حبهما كحب أبي وأمي، وأبيك وأمك يا صديقي «ب. ع»، أما ما ذكره الأستاذ ميخائيل — ولا أستبعد وقوعه؛ إذ ليس جبران أعظم من داود — ففيه جموح وتعد يؤاخذ عليه من قال فيه نابغتنا الدكتور فيليب حتى: إن ملايين الدولارات التي كسبناها في هجرتنا لا تساوي جبران خليل جبران.
ليست «ميشلين» شخصًا وهميًّا في حياة جبران، فهناك صورة لها بريشة جبران محفوظة في متحفه، وأذكر أن تاريخها سنة ١٩٠٨ إن ميشيلين شخص من لحم ودم مر في طريق جبران، ولكنه أصبح — كما أظن — تحت قلم الأستاذ نعيمة شخصًا روائيًّا.
فكتاب نعيمة في جبران وإن كان ذا قيمة فنية رفيعة، فهو كروايات ديماس يختلط فيها حابل التاريخ بنابله، أخرجه الأديب الكبير بشكل رواية بدأها بوع وع، وختمها بغر غر، أي من المهد إلى اللحد، وهدف نعيمة في كتابه إعلامنا أن جبران بشر مثلنا — آمنا وصدقنا.
وما رأيت نعيمة يملك وثيقة تؤيد ما زعم، ولا هو شاهد عيان، بل لا يملك آخر مقطع من مقاطع الحق وهو «التواتر»، فأكثر الذين خالطوا جبران ولابسوه ردوا على نعيمة بعنف وقسوة.
خاف نعيمة كما ظهر من مقدمة كتابه، أن يصير صديقه جبران أسطورة أو نبيًّا، فأرانا أن جبران إنسان لا غير، وإلا فما هذه الحكايات عن فلانة وفلانة، والأوروبيون يذكرون المرأة التي أحبها الأديب ليبينوا أثرها في فنه وأدبه، ولم نر شيئًا من هذا في كتاب نعيمة، فميشيلين وفلانة أشباح لا علاقة لها قط في الأدب الجبراني، وقد يكون لهن علاقة ولكن شيئًا من هذا لم يذكر، فكأن الغاية القصوى من سرد الحوادث بيان أن جبران أحب حبًّا خسيسًا وإعلان أن جبران «نبأ كاذب».
يقول ذلك نعيمة في (ص١٧٩) ويروي أن جبران قال ذلك عن نفسه، أراد أن يعترف لصديقه في البرية، ولكن تواضع ميخائيل حال دون سماع ذلك الاعتراف القاسي «هالني أن يمضي في اعترافه أمامي فيجلد نفسه العاتية المتمردة أمام عيني، وينزع عنها دروعها العديدة، ويتركها عريانة وبلا سلاح، ومن ثم فَمَنْ أنا لِأَتَقَبَّلَ اعترافَ نفس وإن تكن أختًا لنفسي؟! وقد تكون نفسي أحوج إلى الاعتراف منها» ص١٩٠.
ليته سمع ذلك الاعتراف وحل جبران من خطاياه بعد التثبت من توبته وندامته، وجاءنا بالتفاصيل ولم يتركنا فيما تركنا من حيرة، فأنا أجل الأستاذ ميخائيل وأحترم أخلاقه النبيلة، وأصدقه إذا قال سمعت بأذني، وبعد فهذا الاعتراف يذكرني باعتراف دوستويفسكي لتورغنيف، ولكن نعيمة كان أرحب صدرًا.
لقد وفق الأستاذ نعيمة كل التوفيق في إخراج قصة جبران، فهي خير ما كتب، وخير ما أذاع وما أذيع له، شاء الدكتور طه حسين والأستاذ توفيق الحكيم أن يكونا بطلي قصة، فكتبا في سالنش قصة «القصر المسحور»، ولكنهما قصرا جدًّا عن الأستاذ نعيمة في كتابه جبران خليل جبران، الذي هو ابن عم المثل السائر لحًّا، فكثيرًا ما يلتقي نعيمة بابن الأثير فيدعي أبو الفتح ويتواضع ميخائيل والمطلوب واحد.
ولنعد الآن إلى حب مي المسكينة، فقد كان له أعظم أثر في توجيه حياتها، فختمت تلك المأساة، كما علمنا وعلمت أيها القارئ العزيز، فمَي بين المحبين كداود بين التائبين، توبة داود متقدة صارمة ومحبة مي مؤلمة عارمة، وفي كلتيهما لذة كالقشعريرة التي تأخذنا عند فجر أيلول في الخيمة، وإذا صح ما زعم علماء النفس في تولد الهوى كان الجاني على مي خيالها القوي.
يعلمنا مبحث اللاشعور أن ميول الناس واعتقاداتهم تتبدل، من حيث لا يدرون، إذا خابت آمالهم وكبت خيول أمانيهم في ميادين الحب، والخبر عن مي كما روى أدباء مصر الذين خالطوها بعد محنتها وقبل أن يلفها الغسق، أن عاطفتها الدينية نمت وتضخمت في طورها الأخير، إن طور اليأس والغم والقنوط — ومنبعه الكبت — يوجه الضعاف إلى هذا الملجأ المنيع، فكل عمود من أعمدة قصر العواطف الدينية يرتكز على قمة هرم قطعت حجارته من مقلع ميول وأهواء مكبوتة.
تلك حالة المغلوب إذا كان رجلًا فكيف به وهو امرأة بل بنت «مقطوعة» منبتة، فكم أدى الفشل الحبي إلى ظلمة الديورة، وما الفرق بين فتاة تدفن حبها المقهور في قرنة، وبين مي التي جعلت من بيتها ديرًا قبرت حبها في زاويته، وصلت عليه صباح مساء، إن عزلة مي لمفزعة، فقد عادت طفلة في دنيا الحب والهوى إذا اعتبرنا الحب كما سماه برغسون «طفولة جديدة»، وقد انتهت مي في طفولتها الجديدة إلى نسيان «الأنا» فصارت ميولها «غيرية» وعالية، كأنها أدركت أن سفينة آمالها الأنانية قد تحطمت على صخور جزيرة الحب، فكتمت داءها واستعلت على حبها بينها وبين الناس، أما بينها وبين نفسها فظلت متمسكة بذلك الخيط الواهي تجد لذتها في ألمها، وفي الألم لذة لا تخفى على الخبراء.
ولا بدع في أن تلجأ مي إلى دينها في تلك العزلة الموحشة، فالحياة الدينية ينبوع العواطف العذبة والأحلام اللذيذة: طوبى للحزانى فإنهم يعزون.
والعاطفة الدينية تنمو غالبًا في تربة الحرمان، وتمتد جذورها حتى الطبقة التي يعيش فيها الكبت، وهي الطبقة القريبة من النار في قلب العالم الأكبر الأصغر «الإنسان».
وكأني أسمعك يا صاحبي «ب. ع» تقول: قتلتنا يا هو! هات البرهان ودعنا من اللت والمط، فاقرأ إذًا يا صاحبي المجهول هذا الكتاب من مي إلى جبران.
مصطفى
ماذا جرى للبريد، لقد كان يصل سابقًا في ثلاثة أسابيع أو أقل أحيانًا، وها مكتوبك يصل بعد أربعين يومًا، ومعه تذكرتا بريد في غلاف خاص تمثلان الوجهين اليونانيين البديعين تناسقًا ومعنى، ما أبطأ الرسائل في انتقالها! أتراها تجيء من أقاصي الدنيا، من أميركا، لتصرف كل هذه الأيام في الطريق؟
عيد ميلاد يسوع — يوم رأس السنة — عيد معمودية يسوع وميلاد جبران في يوم واحد، أتتصور كم في هذه المواسم من فراغ ووحشة؟ لا سيما عندما تمر أمامنا وجوه، ثم وجوه إلا ذاك الوجه الذي نشوق إليه، ونسمع أصواتًا ثم أصواتًا إلا ذلك الصوت الذي نطلبه ونناديه فيلبي منه الصدى «المفترض»، حتى نسيت أن تعايدني يا كثير النسيان! في حين أن بعض أصحابنا يغتنمون هذه «الفرصة» ليهنئوني «كثيرًا» أو على الأقل ليتحفوني بزركشة كهذه: يا مي عيدك يوم وأنت عيد الزمان … إلخ.
لقد كنت يوم ٦ يناير بطوله موضوع تفكيري، وكنت ماثلًا أمامي بصورة طفل، نونو نونو، تتحرك يداه الصغيرتان في الهواء بإشارة الباحث عن أدوات قدر له أن يحملها ويعالجها، وتيسر لي أن أتفرغ للتفكر والتأمل في المولود النونو؛ لأني كنت مصابة بنزلة طفيفة علمت من رسالتك أنها جاءتني منك «كيف ذلك؟» تستفهم أنت؟ ذلك أنك اجتزت كما تقول، مسافة طويلة ليلًا وفي سيارة مكشوفة فكنت معرضًا نفسك للبرد، فظهرت نتيجة ذلك البرد في، مفهوم؟ فلتوفر علي في المستقبل جميع صنوف النزلات والوافدات وما شاكلهن، لا تعرض نفسك للبرد واتق كل ما يؤذيك، مفهوم؟ وهل يوافق مصطفى على هذا الاقتراح؟
كأنك تلومني لأني أسألك عن صحتك! وهل يمكن ألا أسأل؟ إنك مدين لي بأن تقول عنها ما قلته في هذه الرسالة، فتسعدني بعد أن كنت تطعنني في الرسائل السابقة كلما قلت إنك مريض، وبدلًا من أن أشكرك على هذه البشرى أراني مسوقة إلى العتاب؛ لأن في نفسي لك قسطًا وافرًا من العتاب على ما يلوح.
لماذا لم تخبرني بشفائك قبل اليوم، قبل أن أسالك؟ قبل أن نعود إلى التراسل؟ لماذا لم تقل لي أنك شفيت منذ أن شفيت؟ لست مغرمة بحكاية أبريق الزيت إلا إلى حد محدود، ولكن كيف استطعت أن تهمل تطميني وأنت تعلم أن ليس من يطمني غيرك؟ كيف استطعت ألا تفكر فيَّ كل هذه الشهور ولا مرة واحدة؟
«علامة الاستقلال هذه» قد تقول أنت «النسيان بعض أشكال الحرية» قد يدل كذلك على شيء آخر في بعض الظروف.
«إذا تخاصمنا في المستقبل فيجب ألا نفترق مثلما كنا نفعل في الماضي، بل أن نبقى تحت سقف بيت واحد حتى نمل الخصام … إلخ.»
سمعًا وطاعة … يجيب أهل إهدن، ولكن الرجاء إلى سيدي الأستاذ أن يذكر أنه لا بد من اثنين للخصومة، فيجعل لأهل بشري نصيبًا من النصيحة الحكيمة التي نفح بها جيرانهم ومناوئيهم، وأن يذكرهم — هم يعني أهل بشري — بأن نصائحه ومشوراته أثمن من أن يفرط فيها، كم فعلوا — هم أهل بشري الذين فعلوا — يوم أن نسوا — هم أهل بشري الذين نسوا — صندوق الذهب الحلو المليح الذي كان يصلح الأمور ويحل المشاكل، أفدني — أجارك الله من غضبات أهل بشري — أيجوز لجيراننا هؤلاء أن ينسوا ذلك الصندوق الواجب الوجود؟
أما من جهتي فلدي من خطير المشاغل ما يبعدني حينًا عن كل تنازع وضوضاء، إني عاكفة على تفهم هذه الأعجوبة: أعجوبة ابيضاض الشعر بفودي تلك الجبهة التي أعرفها، يا للتفصيل الحلو الحلو الفتان! إنه يستحق لفرط لطافته أن يدمج في صف واحد هو والذقن المطبوعة.
وعلى ذكر نقرة الذقن لا تحسب أني سأخاصمك لأجل اللحية التي تهددني بها، بل بكل حصافة وهدوء أتشرف بأن أحيط مولانا علمًا بأن من الشئون ما لا شأن فيه لمولانا، وإن ذقن مولانا من الشئون التي لا شأن فيها لمولانا، فليتفضل إذن — بلا مؤاخذة — فيقف عند حده.
انتهيت من الكلام الرسمي الحصيف، وإذا شئت أن أترجمه لك بلغتي العامية قلت: إنني لا أريدك بلحية، وإذا أبيت إلا أن يكون لك لحية توليت أنا أمر حرقها … ها!
«هذه الابنة — يحتد مولانا — هذه الابنة تصل منها الجرأة بل الوقاحة إلى إخطاري بأنها ستحرق لحيتي المنوي إرسالها!»
الأمر كما تفضلت يا مولانا، سأحرق لحيتك ضاحكة كما أضحك الآن، ولا أحتاج للقيام بذلك خير قيام إلى أكثر من سيجارة أقدمها لك، وعود كبريت «أتلطف» بإشعاله، وهناك يكون ما أريد، فتظل الذقن على ما أرادتها الطبيعة تحمل بين هضاب «الجمود والنقمة» صورة مصغرة للوادي المشحون بشتى المعاني، وصورة من عطف الزهرة التي وضعت عليها علامتها …
أما «الشروط» التي تتعهد بتتميمها بعد الاطلاع عليها، فحسبي أن أقول إن هذا كلام يليق بقائله، فاعلم إذن أن البند الأول من هذه الشروط هو أن يهتدي إليها «المغلوب» من تلقاء نفسه، أما البنود الأخرى فتأتي بالتبع، فهات أرنا مثالًا جديدًا من ذكائك الفريد! واحذر خصوصًا أن تخطئ في معرفة ذلك البند لئلا تزعج حسن ظني بفراستك وصدق نظرك!
ما أحلى رسالتك في قلبي يا مصطفى، ما أحلى كلامك بين تافه الكلام وركيكه! إن ألفاظك وسطورك جدول نور وندى وتشعع وحرارة ولطافة وإنشاد، ومع ذلك فقل ما أخبرتني به عنك، لم تقل شيئًا عن كتاب «نحو الله» وعن تلك الرسوم الزيتية، وعما يشغلك الآن من كتابة أو تصوير أو هجس، ولا نصف خبر عن الوادي! أيصدق أني أشعر بأسف كلما فكرت في الرسوم التي تنقشها ولا أراها؟ فأستعيض عنها بالنظر إلى الرسوم المنشورة في كتبك وأكتشف فيها كل مرة شيئًا جديدًا، هي خاصة فنك الأولى أن يكون زاخرًا بالأسرار والمعاني، متفلتًا من كل تعريف، هازئًا بكل حصر وتقييد.
جبران، كتبت كل هذه الصفحات ضاحكة لأتحايد قول أنك محبوبي، لأتحايد كلمة الحب، إن الذين لا يتاجرون بمظاهر الحب ودعواه في السهرات والمراقص والاجتماعات ينمو الحب في أعماقهم قوة ديناميتية رهيبة، قد يغبطون الذين يوزعون عواطفهم في اللألاء السطحي؛ لأنهم لا يقاسون ضغط العواطف التي لم تنفجر، ولكنهم يغبطون الآخرين على راحتهم دون أن يتمنوها لنفوسهم، ويفضلون وحدتهم ويفضلون السكوت، ويفضلون تضليل قلوبهم عن ودائعها والتلهي بما لا علاقة له بالقلب والعاطفة، يفضلون أي غربة وأي شقاء (وهل من شقاء وغربة في غير وحدة القلب؟) على الاكتفاء بالقطرات الشحيحة.
ما معنى هذا الذي أكتبه؟ إني لا أعرف ماذا أعني به، ولكني أعرف أنك محبوبي وأني أخاف الحب، إني أنتظر من الحب كثيرًا فأخاف أن لا يأتيني بكل ما أنتظر، أقول هذا مع علمي بأن القليل من الحب كثير، ولكن القليل في الحب لا يرضيني، الجفاف والقحط واللاشيء خيرٌ من النزر اليسير.
كيف أجسر على الإفضاء إليك بهذا وكيف أفرط فيه! لا أدري، الحمد لله أني أكتبه على الورق ولا أتلفظ به؛ لأنك لو كنت الآن حاضرًا بالجسد لهربت خجلًا بعد هذا الكلام، ولاختفيت زمنًا طويلًا، فما أدعك تراني إلا بعد أن تنسى، حتى الكتابة ألوم نفسي عليها أحيانًا؛ لأني بها حرة كل هذه الحرية، أتذكر قول القدماء من الشرقيين: إنه خير للبنت أن لا تقرأ ولا تكتب؟ ها قد صح علي ارتيابهم وصدق في سوء ظنهم، لا تقل إن القديس توما يظهر هنا، وليس ما أبدي هنا أثر الوراثة فحسب، بل هي شيء أبعد من الوراثة، ما هو؟
قل لي أنت ما هو هذا؟ وقل لي ما إذا كنت على ضلال أو على هدى، فإني أثق بك وأصدق بالبداهة كل ما تقول، وسواء أكنت مخطئة أم غير مخطئة، فإن قلبي يسير إليك وخير ما في يظل جاثمًا حواليك يحرسك ويحنو عليك.
غابت الشمس وراء الأفق، ومن خلال السحب العجيبة الأشكال والألوان حصحصت نجمة لامعة، نجمة واحدة هي الزهرة، إلاهة الحب، أترى يسكنها كأرضنا بشر يحبون ويشوقون؟ ربما وجد فيها من هي مثلي، لها واحد جبران، حلو بعيد بعيد، هو القريب القريب، تكتب إليه الآن والشفق يملأ الفضاء، وتعلم أن الظلام يخلف الشفق، وأن النور يتبع الظلام، وأن الليل سيخلف النهار، والنهار سيتبع الليل مرات كثيرة، قبل أن ترى الذي تحبه، فتتسرب إليها كل وحشة الشفق وكل وحشة الليل، فتلقي بالقلم جانبًا لتحتمي من الوحشة في اسم واحد: جبران!
لم أتناول بحث حب مي لجبران إشفاقًا من أن تصير مي نبية مثل صفورة، وجبران كموسى أو أحد الأنبياء، ولكنها نواة درس نبدأ به على أن يتمه غيرنا إن لم نتمه نحن.
عد بنا إلى الوراء، إلى أول كتاب مي ففيه كلمة جبران النونو، إن الطفل يا صديقي يشغل حيزًا كبيرًا من دماغ مي، وجبرانها النونو يذكرني بأحلام الصبا، فكم عرس كاذب أقمناه، وكم بنية رأيناها تحتضن دميتها وتحنو عليها حنو المرضعات على الفطيم، اقرأ لمي في «ظلمات وأشعة» «أنا والطفل» تعرف حب مي للأطفال، طالع أولًا قراءتها ما خطته يد الأقدار في كف روبرت من خطوط الحياة والعقل والقلب، وكيف رأت تل المريخ يرتفع في تلك الكف الصغيرة متهددًا متوعدًا (ص٧).
إن مي انقلبت مع روبرت — اسم هذاك الطفل — «بصارة براجة»، وهذا ما يثبت ما يؤكده علم النفس من أن صاحب الميل والهوى يتعلق بحبال الهوا ويصدق السفاسف، وإذا بلغت «ص٣٤» وقعت على مقالة «بكاء الطفل» فتقرأ فيها: «فدنوت منه متوسلة وضممته إلي بذراعي التي لم تضم يومًا أخًا أو أختًا صغيرة، وأجلسته على ركبتي حيث لا يجلس سوى أطفال الغرباء.»
«صمت الطفل حائرًا؛ لأنه شعر بأن روحًا تناجي روحه، صمت هنيهة ثم حدق في سائلًا عن أعز عزيز لديه، وقال بصوت هادئ كأصوات الحكماء: ماما، ماما.»
«صغيرك يناديك فلماذا لا تجيبين، يا أم الصغير! لست بالعليلة؛ لأني رأيتك منذ حين تميسين بقدك تحت برنيطتك، والجواهر تطوق العنق منك، أنت صحيحة الجسم فلماذا لا تسرعين؟»
«عودي من نزهاتك الطويلة، وزياراتك العديدة، وأحاديثك السخيفة، عودي واركعي أمام الصغير واستميحه عفوًا، لقد خلقت امرأة قبل أن تكوني حسناء، وكيفتك الطبيعة أمًّا قبل أن يجعلك الاجتماع زائرة.»
«تعالي اسجدي أمام السرير، سرير الصغير، اسجدي أمام هذا المهد الذي لعبت بين ستائره طفلة، وحلمت به فتاة، وانتظرته زوجة، فما خجلت أن تهمليه أمًّا.»
هذه هي أحلام مي، هذا هو الشوق الكمين في سجاياها، والحنين الدفين في لا شعورها، هذه أحلام الفتاة الكامنة في كتلتها كمون الحياة في البرعم تحت برد كانون، وعواصف شباط وصواعق آذار، تنتظر نيسان لتبرز، ولكن نيسان مزق سجوف أحلام مي ومات جبران فيه، ولاح لها غدها الأشمط.
إن أدب مي نوعان: أدب منبري، وأدب شعري، وفي أدبيها كليهما تسود عاطفة الشفقة والحنان والرحمة، وهذه كلها وليدة الألم، فمي تألمت جدًّا وأنكى آلامها الحرمان، حرمت الزوج والأمومة وهي ترى أن المرأة ما خلقت إلا لتكون أمًّا.
يلوح من مكتوب مي أنها البادئة في إعلان حبها، وأن جبران كان كعادته يطوف حول الموضوع ولا يلجه، إن بين سطور «مكتوبها» مشاهد وآلامًا وشجونًا فيه حب مي وأطواره كلها، وفيه ارتياع من مستقبل هذا الحب، وفيه شروط وبنود لا يوضحها لنا إلا المفقود من رسائلهما، فرسائل مي لجبران ورسائل جبران لمي — الموجودة مسودتها — لم تسعفني على البت في حل عقدة مصير هذا الحب.
قرأت في كتاب «حياة مي» للأستاذ محمد عبد الغني حسن أن مي أعادت رسائل الأدباء إلى أصحابها، فإلى من أعادت رسائل جبران يا ترى؟ فهل من يرشدنا إليها وله الشكر.
لسنا نسأل عنها لنتثبت أمر هذا الحب، فهو لا يحتاج إلى إثبات، وقد حالت تقاليدنا الشرقية دون تحقيق هذه الأمنية، فجبران لم يستطع المجيء أو لم يجئ، والبنت لا تذهب، وهذه هي البنود والشروط المومأ إليها في رسالة مي.
وإن زالت مي من دنيا الحب والهوى فهي باقية في دنيا الأدب بقرب حبيبها جبران، وقد تكون صارت إليه أقرب، إذا اعتقدنا كما يعتقد أصحابنا تلاميذ جبران.
ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل، بل ما أقل عقل الإنسان، إن العقل في المعنويات كالبطنة في الذاتيات أصل كل بلاء، فيا ويل الإنسان من عقله.
(١٢) إلى شكر الله الجر
أخي شكر الله
هكذا أنا يا عزيزي شكر الله، فما زلت كما فارقتني على مقعد التدريس في جبيل، أراني كما كنت تسمع مني من على ذلك المنبر:
لقد صدق الحوراني، فما يأخذ الدهر مني مثقال ذرة عزمًا، ولم ينل الزمان من همتي قدر «حبة الخردل»، وفي من الإيمان بالحياة أكثر من مقدارها؛ ولهذا أحس أنني أستطيع أن أقول للجبل انتقل من ها هنا إلى هنالك فينتقل.
تطلب صورة «معلمك» لترى تلك الكهولة الصالحة، ولا تقول الشيخوخة لئلا … فإليك أحدث صورة في مكتبه بعاليه، وإليك أيضًا صورة أخرى وهي صورة تلك «الدابة» التي تتصورني أركبها منتصبًا من فوقها كالرمح، وهي من تحتي تغني الميجانا والعتابا وتدق موسيقى.
لا تسلني أين ذهبت شوارب الزناتي خليفة! فقد سددت بهما منذ زمان فم الدهر ليراني الناس جديدًا أو أقل سنين، فأطلب أن يطول الله عمري لأؤدي رسالة ندبت نفسي، أو لا أدري من ندبني إليها، وإنني لأتخيل أنني استأجرت الدنيا من الذي نفسي بيده، فآجرنيها عشرين سنة، وعسى أن نجدد العقد بعد انقضاء مدته، ومن الشروط بيننا وبينه أن يظل «الطابق العالي» عامرًا، أبشر بطول سلامة يا مربع، إن لم يجد ما يفسخ الإيجار، وإلا فأقول أنا:
لا إخالك ناسيًا أيام جبيل، مسقط رأس جدك وجدتك لأمك، وملعب صباك، ولا يوم كنت تجلس قبالتي على مقعد التلمذة، كأنك «الحركة الدائمة» التي اخترعها أبوك وحده، تدندن كالنحلة في القفير، وتحاول نظم الشعر الذي أفلحت فيه، فكنت تلميذًا طاهرًا كبطرس، وحبيبًا كيوحنا.
أي يا بني في الأمس، وأخي اليوم، نق الكلمة التي تريدها، لا تهب الشيخوخة فتشيخ قبل الأوان، هات أصبعك من وراء البحار والمس فؤادي إن كنت لم تصدقني، وكن مؤمنًا لا غير مؤمن، أسمعت يا توما؟
أقرأ السلام عني جميع أخوتك، رسل الأدب العربي المبشرين بعهده الجديد، وليكن شعاركم — وهو كذلك — ما قاله سيد الشعراء: ما جئت لأحل الناموس بل لأكمل.
كملوا رسالة القدماء ولا تنقضوها كلها، ففي ذلك القديم جديد رائع، إن شعر الحياة يبقى جديدًا إلى الأبد، وهذا ما يجب أن يعلمه الأدباء وأخص الناشئين منهم، إن أدبنا كبيت قديم راسخ بنيانه، ولكن أبوابه شبابيك، وشبابيكه نوافذ، فعلينا أن نوسعها لتدخله الشمس، ويصح البدن.
الحياة عندنا — عنيت الأدبية ولا يعنيني غيرها — في نشاط، والشباب المثقف يسعى إلى مقعده وسيجلس عليه أو كاد، ويا ويل من لا يماشي الزمان ويظل قاعدًا أمام دكانه يكش الذبان عن «الحلاوي» المحمضة.
إن مملكة لبنان الأدبية، كمملكة إنكلترة، لا تغرب الشمس عن أرضها، والفضل لكم أيها المجاهدون، وللغزاة الفاتحين وزعيمهم جبران وأركان حربه الذين شيدوا وأسسوا قبلكم فلا تنسوهم، لا نكن كأولئك الملوك الذين كان يمحو الخلف منهم اسم السلف ويكتب اسمه موضعه، فليضع كل منا مدماكًا في هذا الهيكل العظيم كما يفعل القرويون حين يبنون كنيسة لتمجيد ربهم، واكتساب رضى قديسهم.
إن من يفعل هكذا فقد وفى نذره، أما من يفعل كذلك الملك فهو ديوث منافق.
كتبت إليك اليوم من مكتب عاليه، وأوراق تلاميذي أمامي تنظر إلي بألف عين، وسأكتب إليك غدًا من «أبرشيتي» الصغيرة — عين كفاع — صفحة من ذكريات الماضي، وما أكثرها وما أحلاها، أما الآن فأعانقك، وأعانق كل أخ لنا بالأدب، وراء البحار في إمبراطوريتنا الواسعة.