مفاجأة … في بيت جاكسون!
عندما غادر الشياطين المقرَّ السِّري، كان النهار يوشك أن يختفي، وكان الشفق الأحمر يمتد في الأفق، ويصبغه بلون أحمر كالنيران، وعندما نزلت بهم الطائرة في مطار «هوستن» كان نفس المنظر يتكرر تقريبًا؛ كان الشفق الأحمر يمتد أيضًا في الأفق، لكنه يعني معنًى آخر، لم يكن هو نهاية النهار، ولكنه كان يعني بداية يومٍ جديد!
كانت الشمس لم تظهر بعدُ، وثمة نسماتٌ باردة قليلًا تهُبُّ، فتجعل الجسم أكثر نشاطًا، وكانت حركة المطار هادئةً بما يكفي لأن يراقب الشياطين كلَّ شيء، كان موظَّفو المطار يتثاءبون، فلم تكن هناك طائراتٌ أخرى قد وصلت، سوى تلك الطائرة التي استقلَّها الشياطين من القاهرة إلى مطار «هوستن» مباشرة، وعند الباب الخارجي، كان الشارع خاليًا من المارة، حتى السيارات الأجرة لم تكن كثيرة في الشارع.
التفت «فهد» إلى مبنى المطار، ثم تحرَّك إلى التليفون المعلَّق قريبًا منه، ثم رفع السماعة، فجاءه الصوت مباشرة، فطلب تاكسيًا، وحدَّدَ المكان ثم وضعَ السماعة، ولم تمضِ خمسُ دقائق حتى كان التاكسي يقف أمام الشياطين الذين كانوا يقفون على الرصيف.
حدَّد «باسم» العنوان الذي يقصدونه، فلم ينطق السائق بكلمة، فقد انطلق إلى العنوان المحدَّد، واستغرق الشياطين في مشاهدة جوانب الطريق الذي كان خاليًا تقريبًا، غير أن الحقول الخضراء كانت تمتد إلى مدى البصر.
قطع «رشيد» الصمت؛ بسؤاله للسائق: هل سمعت شيئًا عن سرقة بنك «تكساس» التي وقعت منذ يومين؟ ودون أن يلتفت السائق أجاب: نعم، لقد قرأت التفاصيل في الصحف، وإن كانت إشاعاتٌ كثيرة تتردد!
لفتت نظر الشياطين كلمة «إشاعات»، حتى إن «عثمان» أسرع يسأل: وماذا تقول الإشاعات؟
قال الرجل: يقولون إن هناك علاقة بين تصوير الفيلم، وسرقة البنك!
ابتسم «أحمد»، ولم يتكلَّم، وإن كان «باسم» قد لاحظ ذلك، ظلَّ «أحمد» صامتًا.
ولم يستطع «عثمان» إلا أن يتحدث، فقال للسائق: كيف؟
أجاب السائق: يُقال إن السرقة تمَّت عندما انتقلت كاميرات التصوير من الشارع إلى داخل العمارة.
عثمان: ممكن أن يحدث هذا بالصدفة!
السائق: إن اللصوص — وهم غالبًا اثنان فقط — ضمن العمال الذين يعملون في الفيلم، وقد دخلا إلى العمارة، وتمَّت السرقة، بينما كان «أنتوني كوين» يمثِّلُ دور رجلٍ هاربٍ من العدالة، وكان يصعد السلالم جريًا، فلماذا لم يستخدم المصعد مثلًا، وهو أسرع؟
عثمان: ربما خوفًا من أن يلتقي بأحد في المصعد، فالجميع يستعملون المصاعد بدلًا من السُّلَّم، خصوصًا وأن البنوك كلَّها تقع في طابقٍ مرتفع، ثم إن المُخرِجَ هو الذي يحدِّدُ وسيلة الهرب.
السائق: قد يكون هذا صحيحًا، ولكن التصوير توقَّف بعد أن تمَّت السرقة مباشرة!
عثمان: تعني بعد اكتشافها؟
السائق: لا، قبل أن تُكتشف!
وتدخَّل «فهد» في الحديث: هل نشرت الصُّحُف هذه الإشاعات؟!
السائق: نعم، ولا تزال تُنشر كلَّ يومٍ تفاصيلُ جديدة، وإشاعاتٌ أخرى.
صمت السائق، وصمت الشياطين، لقد كانت هذه بداية طيِّبَةً لأن يبدأ الشياطين وضع احتمالاتٍ جديدة، على الأقل تكون في البداية … سينمائية.
كانت السيارة مندفعة بسرعة، غير أن الطَّريقَ كان مستويًا، حتى إنهم لم يكونوا يشعرون بسرعة السيارة، وعند بداية شارع رقم ٩٠، طلب «فهد» من السائق أن يتوقَّف، ثم غادر الشياطين التاكسي، وقطعوا المسافة الباقية سيرًا على الأقدام، فالمقرُّ السِّري للشياطين كان يقع في العمارة رقم ٣٧ من الشارع، وكانت حركة الشارع قد بدأت، مع أنه من الشوارع الهادئة في «هوستن».
وفي هدوءٍ، أخذوا طريقهم إلى المقرِّ، وعندما جلسوا، لم يكن أحدٌ منهم قد نطقَ كلمةً واحدةً، إلا أن «باسم» كانت في رأسه علامة استفهام، لماذا ابتسم «أحمد» عندما تحدَّث السائق عن ارتباط سرقة البنك بتصوير الفيلم؟
نظر «باسم» إلى «أحمد»، وسأله عن سبب ابتسامته، فقال في هدوء: مجرَّدُ احتمالٍ طرأ في ذهني فقط، ونحن في الطائرة، إنها خدعة طيِّبَة.
سكت قليلًا، ثم أضاف: إذا كان هذا صحيحًا، فقد تكون الصُّدفة فقط هي التي لعبت دورها … وساد الصَّمتُ فترة، قبل أن يقول «أحمد»: يجب أن نحدد خطواتنا الآن.
التفَّ الشياطين في حلقةٍ دائرية، وبدأ النِّقاش، الذي انتهى عند الاتصال بعميل رقم «صفر» للحصول على الجزء الذي تم تصويره قبل ما شاهدوه وبعده.
وبسرعة، قام «أحمد» إلى التليفون، وأدار رقمًا، فجاءه الردُّ سريعًا، أوضح «أحمد» للصوت الذي رد ماذا يريدون؛ فأجاب: لقد وصلتنا رسالة من رقم «صفر» قبل وصولكم، ولقد طلبنا من شركة «المحيط» نسخة من الأجزاء التي تمَّ تصويرها، فاعتذرت الشركة بأن الفيلم قد احترق، وأنهم سوف يعيدون التصوير عندما تهدأ المنطقة التي يحاصرها البوليس الآن.
رنَّت كلمة «احترق» في أذنَي أحمد أن هذا معناه أن احتمال اشتراك الشركة السينمائية في الجريمة احتمالٌ كبير، أو قائم على الأقل، هكذا كان يفكر؛ ولذلك ظلَّ صامتًا لدقيقة، حتى إن العميل قال: ماذا هناك؟
تنبَّه «أحمد» فقال: هذا يعني أن الجزء الوحيد الباقي من الفيلم، هو الموجود عند رقم «صفر»؟
العميل: هذا صحيح.
أخرج «فهد» من جيبه شريطًا رفيعًا جدًّا، وقدَّمه ﻟ «أحمد» الذي بسطه أمامه، ثم عرَّضه للضوء، لقد كان هو الجزء الذي شاهدوه في المقرِّ السِّري الكبير.
قال «أحمد»: سوف أتصل بك مرةً أخرى.
وضع السماعة، ثم قال ﻟ «باسم»: فلنرَ الشريط من جديد، إنه التسجيل الوحيد لهذه اللحظة التي سرق فيها البنك.
أسرع «باسم» بإحضار جهاز السينما الصغير، ثم أظلموا الحجرة ذات الجدران البيضاء، ثم بدأ العرض من جديد، ظهرت حركة الشارع، وأوقف «باسم» الشريط عند الرجلين اللذين كانا يقفان عند الرصيف الآخر، وقال: إن الرجلين لا يبدو أنهما من المتفرجين مثلًا، ولا من المارة، إنهما يلبسان نفس الملابس التي يلبسها معظم العاملين في الفيلم، لقد ظهر في البداية بعض العمال وهم يمرون قبل مرور «أنتوني كوين»، أليست هذه مسألةً ملفتة للنظر؟
قال «فهد»: فلنرَ الشريط من البداية!
أعاد «باسم» الشريط، وأبطأ سرعته، كان يبدو «أنتوني كوين» عند طرف الرصيف الآخر، يقف خائفًا وهو يتلفَّت حوله، وقريبًا منه كان يقف عدد من الرجال يلبسون ملابس متقاربة؛ دائمًا البنطلون الجينز، والسويتر، وتحرَّك «أنتوني كوين» يقطع الشارع، فسبقه هؤلاء الرِّجال في العبور، حتى الرصيف أمام البنك، ثم سبقوه إلى داخل العمارة، في نفس اللحظة كان الرجلان يدخلان، وبِيَد كلٍّ منهما حقيبة، ثم ظهر السيد «جاكسون» متقدمًا في هدوء، حتى اختفى داخل العمارة، وكان «أنتوني كوين» لم يدخل بعدُ، إلا أن عمق الصورة لم يبيِّن ذلك، والمكان الذي كان يقف فيه الرجلان، ثم انتهى الفيلم عندما دخل الممثل الكبير من باب العمارة.
أضاء «رشيد» النور، ثم قال: من الممكن أن تحدث السرقة في نفس اللحظة، وسط حركة العاملين في الفيلم!
فهد: إن هناك احتمالًا أن شركة «المحيط» لها علاقة بالسرقة!
عثمان: لا أظن، إن ثلاثة ملايين دولار ليست مبلغًا ضخمًا إلى حد أن تقوم شركةٌ سينمائية بسرقته، إن اللصوص قد يكونون من الشركة، أو يكونون قد انضموا إليها بعد أن رسموا خطتهم.
أحمد: هذا أقرب احتمال للحقيقة، في حالة ما إذا افترضنا أن الذين سرقوا من داخل الشركة؛ فقد تكون الحقيقة غير هذا تمامًا.
ثم نظر في ساعته، وقال: أعتقد أننا ينبغي أن نخرج الآن إلى شارع ٤٦، وهو ليس بعيدًا عنا كثيرًا، ونستطيع أن نصل إلى هناك سيرًا.
خرج الشياطين، وكانت حركة الشارع نشطة تمامًا، فاقترب «فهد» من أحد باعة الصحف، واشترى كل الصحف التي صدرت هذا الصباح، وعلى مقهًى صغير في الشارع جلس الشياطين يتصفحون الصحف التي كانت تشنُّ هجومًا عنيفًا على البوليس ورجاله، وخصوصًا على رجال الأمن في مبنى البنك ومبنى العمارة … احتسى الشياطين أكوابًا من العصير، ثم تركوا الصحف مكانها على الطاولة التي كانوا يجلسون حولها … وانصرفوا …
لم يمضِ وقتٌ طويل، حتى كانوا يقفون على ناصية شارع ٤٦، وغير بعيد، كانت عمارة بنك «تكساس» تظهر، فرفع «رشيد» وجهه إلى الطابق الخمسين فيها؛ حيث يقع البنك، ودارت في خاطره فكرة، فنظر إلى «أحمد»، وقال: لماذا لا تكون السرقة قد تمت لصالح بنكٍ آخر من البنوك التي تقع في نفس المبنى؟!
فكَّر أحمد قليلًا، ثم قال: لا أظن! فكيف يقدم بنك على سرقة مثل هذا المبلغ الصغير الذي سرق.
صمت قليلًا ثم قال: إلا إذا كانت السرقة قد تكررت من قبلُ، إما في بنك «تكساس»، أو في بنوكٍ أخرى مثل بنك «هوستن» أو «كريستي»، أو «باتون»، خصوصًا إذا كان واحد من هذه البنوك لم يُسرق مرةً واحدة!
قال «عثمان»: الاحتمالات كثيرة، إننا فقط نحتاج لبداية.
اقترب الشياطين من المبنى الضخم، وقفوا يتأملونه، كان واضحًا أن رجال البوليس السِّريين ينتشرون حول المبنى، واستطاع «أحمد» أن يلمح أحدهم، فأخبر الشياطين.
دخلوا المبنى في هدوء، ثم أخذوا المصعد إلى الطابق الخمسين، وهناك … نزلوا واتجهوا إلى البنك، كان العمل فيه نشطًا، فاليوم الإثنين، بداية الأسبوع عندهم، بينما اتجه «أحمد» و«رشيد» إلى داخل المصعد.
قال «فهد»: سوف أصعد طابقًا واحدًا، وعلى أحدكما أن يطلب الأسانسير، أريد أن أرى كيف يمكن أن ينزل أحد من سقفه!
صعد «فهد» إلى الطابق الواحد والخمسين، في نفس الوقت طلب «باسم» و«عثمان» المصعد، ثم أوقفاه في الطابق الخمسين، وظل «فهد» يفحص سقف المصعد عن بعد، ثم نزل إليهما … وتركوا المصعد.
قال «فهد»: إن ذلك يحتاج إلى فحصٍ آخر، عندما تنتهي ساعات العمل.
عاد «أحمد» و«رشيد»، وبدأ الشياطين يعاينون أماكن البنوك الأخرى، كان بنك «هوستن» يقع في الطابق الأربعين، وبنك «باتون» يقع في الطابق الخامس والسبعين، وبنك «كريستي» في الطابق الثالث والستين.
نزل الشياطين إلى مركز الأمن في أسفل العمارة، حيث التقوا بقائد الأمن، ودار حوارٌ سريع بينه وبينهم، دون أن يعرف الرجل شيئًا عنهم، سوى أنهم أصدقاء السيد «جاكسون» الذي يرقد الآن في بيته مريضًا، ومن خلال الحديث عرف «فهد» عنوان «جاكسون».
وعندما غادر المبنى، كانت فكرة تلمع في رءوسهم، هي زيارة السيد «جاكسون» فورًا؛ وفي أقل من دقيقة كانوا يركبون تاكسيًا إلى حيث يسكن «جاكسون» خارج مدينة «هوستن».
كان الريف يحيط بالطريق، والخضرة تمتد، يقطعها ذلك الشريط الأسود من الأسفلت، الذي ينطلق فوقه التاكسي بسرعةٍ كبيرة، وعندما توقفوا أمام العنوان، كانت هناك فيلا صغيرة ترقد بين أحضان حديقةٍ رائعة الجمال.
نزل الشياطين بسرعة، واتجهوا إلى الحارس الذي يقف بجوار الباب الحديدي، وسألوه عن السيد «جاكسون» فقال الرجل: إنه مريض، ولا يستطيع أن يقابل أحدًا!
قال «أحمد» في هدوء: إننا من رجال الشرطة السِّريين.
صمت الرجل قليلًا، ثم قال: تفضَّلوا!
فتح لهم الباب فدخلوا، ثم تقدمهم إلى حيث باب الفيلا، دقَّ الرجل جرس الباب، ففتحت سيدةٌ متقدمة في السن، تحدث إليها الحارس قليلًا، فأذنت للشياطين بالدخول.
عندما استقروا في حجرة صالون متسعة، أخذوا يرقبون كلَّ شيء، غير أن أقدام أحدِ الرجال شدت انتباههم، ظل صوت الأقدام يقترب، حتى أصبح الرجل أمامهم، وكان ظهور الرجل مفاجأة!