الرسالة الأولى
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
اعلم أيها الأخ أنَّا قد فرغنا من رسالة الحدود والرسوم التي هي آخر رسائل النفسانيات العقليات، حسبما وعدنا في فهرست صدر كتابنا هذا، فنريد الآن أن نذكر في هذا القسم الرابع الكلام في الإلهيات، وهو الغرض الأقصى والغاية القصوى، فنبدأ أولًا بالرسالة الأولى منها في الآراء والديانات، فنقول: اعلم أن الناس مختلفون في آرائهم ومذاهبهم كما هم مختلفون في صور أبدانهم وأخلاق نفوسهم وأعمالهم وصنائعهم.
واعلم أن سبب اختلاف أخلاقهم هو من أربع جهات: إحداها من جهة اختلاف تركيب أبدانهم ومزاج أخلاطها، والأخرى من جهة اختلاف ترب بلادهم وتغيرات أهويتها والأزمان التي تنشأ فيها، والأخرى من جهة نشوئهم على عادات آبائهم في سنن دياناتهم، وعلى عادات من يربيهم ويؤدبهم، والأخرى من جهة أشكال الفلك ومواضع الكواكب في أصول مواليدهم ومساقط نطفهم، وقد بيَّنا طرفًا من هذا العلم في رسالة الأخلاق، ونريد أن نذكر في هذه الرسالة طرفًا من فنون اختلافات العلماء الذين هم أصَّلوا الآراء والمذاهب وفرَّعوا منها أنواع المقالات والأحكام، وكم هي تلك الآراء والمذاهب، وما هي تلك الأسباب التي أدت بالعلماء إلى الاختلاف، وكم هي. ولكن قبل ذلك نحتاج أن نذكر أجناس الأشياء التي اختلفوا فيها: كم هي، وما هي، فنقول: إن الأشياء المختلف فيها ثلاثة أنواع: أولها في الترتيب هي الأمور المحسوسة، وبعدها الأمور المعقولة، وبعدها الأمور الإلهية المبرهنة.
أما الأمور المحسوسة فهي صور في الهيولى تدركها الحواس المباشرة لها وتنفعل عنها كما بيَّنا في رسالة الحاس والمحسوس.
وأما الأمور المعقولة فهي رسوم تلك المحسوسات التي أدتها الحواس إلى القوة المتخيلة إذا بقيت مصورة في الأوهام بعد غيبة المحسوسات عن مباشرة الحواس لها، كما بيَّنا في رسالة العقل والمعقولات.
وأما الأمور الإلهية المبرهنة فهي أشياء لا تدركها الحواس ولا تتصورها الأوهام، ولكن الدليل والبراهين الصادقة باعثة للعقول إلى الإقرار بها والقبول لها، كما نبين ذلك في كتب الهندسة وبيان المنطقية جميعًا.
مثال ذلك أنه قد قام البرهان في كتاب إقليدس على أن كل مقدار ذي نهاية أي مقدار كان جسمًا كان أو سطحًا أو خطًّا، فإنه يمكن أن يوجد منه ظل دائمًا أبدًا لا يفنى، وهذه الحكمة مما لا تدركها الحواس ولا تتصورها الأوهام البتة، وأمثال هذه الحكمة كثيرة في هذه الكتب وفي غيرها من كتب الهندسة، وهكذا أيضًا قد قام البرهان بطريق المنطق الحكمي الفلسفي على أن خارج العالم لا خلاء ولا ملاء، وهذه الحكمة أيضًا مما لا تدركها الحواس ولا تتصورها الأوهام، وأمثال هذه الأشياء كثيرة معروفة عند العلماء بخاصة إقرار الموحدين لله والعارفين به بأن الله تعالى حي قادر عالم حكيم خالق، لا يوصف بالقيام ولا بالقعود، ولا الدخول ولا الخروج، ولا الحركة ولا السكون، وما شاكل ذلك من الأوصاف مما يوصف بها النفس والعقل الفعال والصور المجردة من الهيولى وما شاكلها من الجواهر البسيطة المسمين الملائكة والروحانيين، وذلك أن الحواس لا تدركها ولا تتصورها الأوهام بوجه من الوجوه ولا سبب من الأسباب.
فأما أوصاف الجاهلين بالله فهي أنهم يصفون الله تعالى بصفات المخلوقين بعد أن نزه الله تعالى نفسه عن ذلك بقوله: سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ، فقد تَبيَّن إذَنْ مما ذكرنا أن الأمور المبرهنة التي لا تدركها الحواس ولا تصورها الأوهام، ولكن البرهان الضروري والحجة القاطعة يضطران العقول إلى الإقرار بها مقررة.
ثم اعلم أن البراهين هي ميزان العقول، كما أن الكيل والذرع والشاهين موازين الحواس، وكما أن الناس إذا اختلفوا في حزر شيء وتخمينه من الأشياء المحسوسة، رجعوا إلى حكم الكيل والذرع ورضوا بها وارتفع الخلف من بينهم، فهكذا العقلاء الذين يعرفون البراهين الضرورية إذا اختلفوا في حكم شيء من الأشياء التي لا تدرك بالحواس ولا تُتصوَّر بالأوهام، رجعوا عند ذلك إلى دليل وبرهان وما ينتج من المقدمات الضرورية وأقروا بها وقبلوها، وإن كانت لا تدركها الحواس ولا تتصورها الأوهام لأنهم يرون الإقرار بالحق أولى من التمادي في الباطل، وقد تبين مما ذكرنا أن الأمور المختلفة فيها ثلاثة أجناس حسب، التي هي المحسوسة أو المعقولة أو المبرهنة، ونريد أن نذكر الآن كمية أسباب اختلاف الناس في إدراكهم من كم وجه يكون.
(١) فصل في بيان اختلاف كمية إدراك المعلومات
فنقول: اعلم أن أسباب اختلاف الناس في إدراك هذه الأمور الثلاثة التي تُعلم وتُعرف من ثلاث جهات: إحداها دقة المعاني ولطافتها وخفاها، والثانية فنون الطرق المؤدية إليها الأسباب المُعِينة على إدراكها، والثالثة تفاوت قوى نفوسهم الدراكة لها في الجودة والرداءة، وهي الأصل والسبب في اختلافهم في الآراء والمذاهب وسائرها فروع عليها ونحتاج أن نشرح هذا الباب، فنقول:
لما كان الإنسان إنما هو جملة مجموعة من جسد جسماني ونفس روحانية، صار يقوي نفسه الروحانية بدرك المعقولات، كما أن بأعضاء جسده الجسماني يعمل الصنائع؛ لأن كلية العلوم موضوعة بإزاء قوى نفوس جميع الناس، كما أن كلية الصناعات البشرية موضوعة بإزاء قوى أجساد جميع الناس؛ وذلك لأنه لا يتهيأ لإنسان واحد بقوته الجزئية الاستنباطُ بجميع العلوم والاحتمال لسائر الصنائع، وذلك أن لنفسه قوًى كثيرة، وله بكل قوة منها أفعال عجيبة، كما أن لجسده مفاصل كثيرة وأعضاءً طريفة، وله بكل عضو من جسده حركات مختلفة، كما بيَّنا طرفًا من هذا الفن في رسالة تركيب الجسد.
ولكن نريد أن نذكر هنا ثمانية أنواع منها: وهي القوة الدراكة للمعلومات، ونبدأ أولًا بذكر القوى الحساسة الخمسة؛ إذ كانت هي أول قوى النفس التي ينال بها الإنسان العلوم والمعارف، ثم نذكر القوة المتخيلة التي مسكنها مقدم الدماغ، ثم القوة المفكرة التي مسكنها وسط الدماغ، ثم القوة الحافظة التي مسكنها مؤخر الدماغ.
ثم اعلم أن الناس متفاوتون في الدرجات في هذه القوى بين الجودة والرداءة في إدراكهم المعلومات تفاوتًا بعيدًا، وهي أحد أسباب اختلافهم في الآراء والمذاهب، وذلك أن من الناس من يكون حاد البصر يرى الأشياء الصغيرة البعيدة، ومنهم من يكون دون ذلك، ومنهم من لا يبصر شيئًا البتة.
وهكذا تجد حالهم في القوة السامعة، وذلك أن منهم من يكون جيد السمع يسمع الأصوات الخفية ويميز بين النغمات الموزونة والمنزحفة، ومنهم من يحتاج في ذلك إلى مفاعيل العروض، ومنهم من لا يحس بشيء من ذلك.
وعلى هذا القياس يكون حكمهم في سائر قوى حواسهم من الذوق واللمس والشم، وهكذا حكمهم في ذكاء نفوسهم وجودة قرائحهم وصفاء أذهانهم؛ وذلك أنك تجد كثيرًا من الناس من يكون جيد التخيل دقيق التمييز سريع التصور ذَكورًا حفوظًا، ومنهم من يكون بليدًا بطيء الذهن أعمى القلب ساهي النفس، فهذا أيضًا أحد أسباب اختلاف العلماء في الآراء والمذاهب؛ لأنه إذا اختلفت إدراكاتهم اختلفت آراؤهم واعتقاداتهم بحسب ذلك.
(٢) فصل في بيان علة اختلاف إدراك القوى العلامة
فنقول: اعلم أن هذه التفاوتات التي ذكرنا من هذه القوى الداركة العلامة ليست هي من أجل أنها مختلفة في ذواتها بين الجودة والرداءة، ولكن من أجل اختلاف أحوالها في إدراكها صور المعلومات، وأن علة اختلاف أفعالها هو من أجل اختلاف أدواتها واختلاف آلاتها في الجودة والرداءة؛ وذلك أنه لما كان كل عضو من الجسد هو آلة وأداة لقوة من قوى النفس، وكانت أعضاء الجسد مختلفة الهيئات المتفاوتة في الجودة والرداءة في بعض الناس أو في بعض الأحايين؛ اختلفت أفعال هذه القوى بحسب تلك الاختلافات، مثال ذلك الحدقتان فإنهما عضوان من الجسد، وهما أداتان للقوة الباصرة، فإذا كانتا سليمتين من الآفات العارضة صحيحتين صافيتين مجليتين، تراءت فيهما صور المرئيات المقابلات لهما كما يتراءى في المرايا صور الأشياء المقابلة لها، فأدركت هذه القوة تلك المبصرات على حقائقها. فأما إذا كانتا على غير ما ذكرنا لعارض من الآفات، عاقت القوة الباصرة عن إدراكها محسوساتها.
وهكذا أيضًا حكم القوة المفكرة المستبطنة وسط الدماغ متى كان معتدلًا على الأمر الطبيعي سالمًا من الآفات العارضة، كان فكر الإنسان ورؤيته وتمييزه وفهمه على ما ينبغي، ومتى عرضت هناك آفة لعارض من الأعراض أو خروج عن الاعتدال، عوقت النفس عن أشراف أحوالها وأفعالها، التي هي الفكر والتمييز والروية والتحصيل وما شاكلها؛ لأن هذا العضو من أشرف الأعضاء بعد القلب. وهكذا أيضًا حكم القوة الحافظة المستبطنة مؤخر الدماغ في التذكار والنسيان، وإنما ذكرنا في هذا الفصل هذه الأشياء لأن من هذه القوى تكون معارف الحيوان كلها، ومن تعاون أدوات هذه القوى بالمعاونات اللائقة تزيد في قواها، ومن تفاوتها يكون اختلاف معارفها في الجودة والذكاء أكثر وأقل، وهي الأصل في جميع العلوم والمعارف، ومن تفاوت أفعال هذه القوى يكون أكثر اختلاف الناس في معلوماتهم ومنازعات العلماء في آرائهم ومذاهبهم، وخصلة أخرى أيضًا أن كثيرًا من العلماء ممن ينظر في علوم النفس ويتكلم في أحوالها، يظن أن لها قوًى وأفعالًا وأخلاقًا مختلفة تفعل بها اختلافات مختلفة ولا يدرون اختلاف أحوالها وأخلاقها إنما هو من جهة اختلاف أدواتها في الهيئة والجودة والرداءة، التي كل واحد منها عضو من الجسد — كما بيَّنا ذكرها — وخصلة أخرى أن كثيرًا من العلماء الطبيعيين والمنطقيين لما اعتبروا هذا الرأي الذي ذكرنا من أن النفس إنما هي مزاج البدن لما رأوا أن تغيير أفعال الحيوان وأخلاقها عند تغيير مزاج الأعضاء واختلاف هيئاتها، وخاصة تغيير أفعال الإنسان وأخلاقه عند الأمراض وعند تغيير مزاج هذه الأعضاء واحدًا واحدًا.
فأما الإلهيون فَيَرَون خلاف ذلك، وقد ذكرنا أقاويلهم في خلال رسائلنا الإحدى والخمسين، وذكرنا البراهين عليها في الرسالة الجامعة، فهذا الذي ذَكَرنا في هذا الباب هو أحد أسباب اختلاف الناس في معارفهم ومعلوماتهم المؤدية بهم إلى اختلاف الآراء والمذاهب.
وأما السبب الثاني الذي هو من جهة دقة المعاني ولطافتها وجلائها وظهورها، فهو مثل التفاوت الذي بين الأمور الجسمانية الظاهرة المدركة بالحواس، وبين الأمور الروحانية الخفية عن إدراك الحواس، التي لا تعلم إلا بدلائل العقول ونتائج البراهين، كما تقدم ذكرها. وهذا الباب هو أكثر أسباب اختلاف العلماء في آرائهم ومذاهبهم.
وأما الوجه الثالث من الأسباب المؤدية للناس إلى اختلافهم في معلوماتهم فهو استعمالهم القياسات المختلفة وطرقات استدلالاتهم المتفاوتة، وهذا الباب هو أكثرها تفرعًا وتشعبًا، وهو اكتساب منهم، وعليه يجازون من الذم والمدح والثواب والعقاب.
وأما الوجهان الأوَّلان فليس باختيار منهم ولا اكتساب لهم فيه.
(٣) فصل في بيان كمية القوى العلامة
وإذ قد تَبيَّن مما ذكرنا أسبابُ اختلاف الناس في مدركاتهم من الأمور المختلفة فيها من كمْ وجه يكون، وكان أحد الوجوه تفاوُت القوى الداركة العلامة التي هي أربعة أنواع: الحساسة والمتخيلة والمفكرة والحافظة. وقد تَقدَّم شرح تفاوتها في الجودة والرداءة قبل هذا، فنريد أن نذكر في هذا الفصل الأسباب المُعِينة لها على إدراكها مدركاتها والمعوقة لها عن ذلك، ونبدأ أولًا بذكر القوى الحساسة، ثم نذكر القوى المتخيلة، ثم المفكرة، ثم الحافظة.
فأما بيان ما تحتاج كل حساسة من الشرائط في إدراكها محسوساتها حسبما نبين ها هنا، فنقول: إن كل حاسَّة من الحواس الخمس تحتاج في إدراكها محسوساتها إلى شرائط معدودة، لا زايدة ولا ناقصة، فمتى عدم واحدة من تلك الشرائط أو بعض، أو زاد أو نقص على المقدار الذي ينبغي، عوقها عن إدراك محسوساتها على حقائقها.
مثال ذلك القوة الباصرة، فإنها تحتاج في إدراكها المبصرات إلى ضوءٍ ما، وإلى بعدٍ ما، وإلى محاذاتٍ ما، وإلى وضعٍ ما؛ فمتى عدم شيء منها، عاقها ذلك عن إدراك المبصرات بحقائقها؛ وذلك أنه لا يمكنها إدراك الضياء المفرط والنور الباهر، كما لا يمكنها إدراك المبصرات في الظلمة الظلماء؛ وذلك أن الإنسان لا يمكنه النظر إلى عين الشمس نصف النهار في يوم صائف، كما لا يمكنه رؤية الأشياء الصغار في الظلمة الظلماء ولا رؤيتها في البعد الأبعد، ولا في القرب الأقرب إذا وضعت يده مثلًا قرب الجفن، ولا رؤيتها من غير محاذاة ولا رؤية الأشياء المتحركة الشديدة الحركة كالنبل المار متى رُمي عن قوس شديدة.
وعلى هذا القياس حكْم سائر الحواس، فإنها تحتاج في إدراكها محسوساتها إلى شرائط معدودة، فمتى عدمت واحدة منها، أو نقصت عن المقدار أو زادت عليه، عوقها عن إدراك محسوساتها.
(٤) فصل في بيان ما لكل حاسَّة من المحسوسات بالذات
فاعلم أن لكل حاسَّة محسوسات مختصة لها بالذات ومحسوسات بالعرض، وهي لا تخطئ في المدركات التي هي لها بالذات، ولكن في التي لها بالعرض.
مثالُ ذلك البصرُ، فإن المبصرات لها بالذات هي الأنوار والضياء والظلم.
وأما الألوان فإن ذلك لها بتوسط النور والضياء.
وأما سائر الأجسام وسطوح أشكالها وأوضاعها وأبعادها وحركاتها فهو بتوسط اللون، وذلك أن كل جسم لا لون له لا يرى ولا يدركه البصر.
ثم اعلم أن البصر هو أشرف الحواس وأشدها تحقيقًا لمدركاته، كما يقال: ليس الخبر كالمعاينة، وبين الحق والباطل أربع أصابع؛ يعني بين العين والأذن. ولكن مع شرفه وتحقيقه لمدركاته عظيم الخطأ كثير الزلل؛ وذلك أن الإنسان ربما يرى الشيء الصغير كبيرًا أو الكبير صغيرًا، أو القريب بعيدًا أو البعيد قريبًا، كما يرى الدرهم في قعر بركة صافي الماء قريبًا كبيرًا.
وهكذا يرى فيما وراء البخار الرطب يرى الشيء أعظم مما هو، فكذلك ربما يرى الإنسان الشيء المتحرك ساكنًا والساكن متحركًا، كما يرى من يكون في الزورق إذا نظر إلى الشطوط فإنه يرى الأشخاص الساكنة متحركة ويرى نفسه ومَن معه ساكنًا.
وهكذا ربما يرى الشيء المستقيم معوجًّا والمنتصب منكوسًا، كما يرى العود المنتصب في الماء. وربما يرى الشيء المرتفع منخفضًا والمنخفض مرتفعًا، كما يرى سقف الرواق وأرضه في البعد متقاربين وما شاكل هذه الفنون، كما ذكر عللها في كتاب المناظر بشرح طويل، وإذا كان الخطأ والزلل الذي يدخل على الإنسان العاقل المميز من جهة مدركات البصر، الذي هو أشرف الحواس وأجلُّ القوى الداركة، هذا القدر فما ظنك يا أخي بما دونها من سائر الحواس والقوى الداركة على هذا المثال.
(٥) فصل في بيان الحواس التي لا تخطئ في إدراكاتها المدركات التي هي لها بالذات
فنقول: اعلم أن لكل حاسَّة مدركات بالذات ومدركات بالعرض، وهي لا تخطئ في مدركاتها التي لها بالذات، وإنما يدخل عليها الخطأ والزلل في المدركات التي لها بالعرض.
مثال ذلك البصرُ، فإن الذي له من المدركات بالذات هي الأنوار والظلمة، وهي التي لا تخطئ في إدراكها في جميع الأوقات البتة.
فأما إدراكها الألوان والأشكال والأوضاع والأبعاد والحركات وما شاكلها، فهي تدركها بتوسط النور والضياء على الشرائط التي ذكرناها، وقد يدخل عليها الخطأ والزلل في ذلك إذا نقصت الشرائط التي تحتاج إليها.
وعلى هذا القياس يجري حكم سائر الحواس ومحسوساتها، فتَعقَّلْ يا أخي في هذا الباب، فإن الذين دفعوا حقائق الأشياء وكيفياتها والنظر فيها وأنكروها، من هذا الباب أتوا.
أما القوة السامعة التي لها بالذات هي بالأصوات والنغمات حسْب، والتي للذائقة هي الطعوم حسب، والتي للشامة هي الروائح حسب، والتي للَّامسة فهي عدة أشياء، قد ذكرناها في رسالة الحاس والمحسوس، فاعرفها من هناك.
ثم اعلم أ، لكل قوة من هذه الحواس الخمس خاصية ليست للأخرى، ولكن الخاصية التي تعمها هي أنها لا تخطئ في مدركاتها إذا تمت شرائطها ولم يعرض لها عائق، وخاصة أخرى أنها لا يدرك كل واحد منها محسوسات أخواتها التي لها بالذات.
مثال ذلك البصرُ، فإنه لا يدرك الأصوات ولا الروائح ولا الطعوم! وهكذا أخواتها، ولكن بما تشترك في المحسوسات اللاتي لهن بطريق العرض؛ مثل الحركة، فإنها تدرك وتعلم بالبصر واللمس بالسمع جميعًا.
(٦) فصل في بيان زيادة القوى التي في حواس الإنسان
فنقول: اعلم أن الله تعالى خلق في حواس الإنسان زيادة قوة وجودة تمييز ما لم يجعل في حواس سائر الحيوانات، وبخاصة في القوة اللامسة فضله عليها وكرمه بها، كما جعل في قوة يديه من الصنائع العجيبة، وفي قوة لسانه من اللغات المختلفة ما لم يجعل في أيديها ولا في ألسنتها، كما هو بيِّن ظاهر جلي لا يخفى على أحد من العقلاء. وقد يظن كثير من الناس العقلاء أن بعض الحيوانات يفهم معاني الكلام ويمتثل الأمر والنهي، ولكن لا يقدر على الكلام كمثل الفيل والفرس الجواد والجمل والغنم والبقر والكلب والسنور والقردة والببغاء، وأمثالها من الحيوانات المسخرة للإنسان المستأنسة به المنقادة لخدمته.
ولَعمري أنها تفهم معاني بعض الكلام كالزجر والأمر والنداء وما شاكلها التي هي بعض أقسام الكلام.
فأما أن تفهم معاني الخبر والسؤال والجواب والاستفهام فلا، وقد بيَّنا علة ذلك في رسالة الحيوانات.
ثم اعلم أن الإنسان مع استماعه الأصوات وتمييزه بالنغمات يفهم معاني اللغات والأقاويل والكلمات، كما أنه عند نظره إلى الخطوط والكتاب يفهم ما تتضمنه من معاني الكلام والعبارات ما لا يفهم عليها غيره من الحيوانات.
ثم اعلم أن من هاتين الطريقتين أكثر معلومات الإنسان التي ينفرد بها دون سائر الحيوانات.
واعلم أن بني الإنسان في هاتين القوتين متفاوتو الدرجات تفاوتًا بعيدًا جدًّا؛ وذلك أن من الناس من لا يفهم إلا لغة واحدة ولا يعرف أيضًا من معاني تلك اللغة من الأشياء والألفاظ والأقاويل إلا شيئًا قليلًا، ومن الناس من يفهم عدة لغات ويُحْسن أن يقرأ عدة كتابات، ويفهم من كل لغة أسماءً وألفاظًا وأقاويلَ كثيرةً، ويفهم معاني دقيقة ما لا يفهم غيره من الناس، وهذه أحد أسباب اختلاف الناس في المعارف واختلاف العلماء في الآراء والمذاهب.
فأما بيان كمية معلومات الإنسان حسبما نذكره ها هنا فنقول: إنه لما كان جميع معلومات الإنسان من جهة الزمان ثلاثة أنواع فحسب، فمنها ما قد كان مع الزمان الماضي، ومنها ما سيكون في المستقبل، ومنها ما هو كائن في الوقت والزمان والحاضر.
ولما كان أحد الطرق التي تعلم الإنسان الأمور الماضية مع الزمان استماع الأخبار، وكان رب مخبر كذاب ورب مستمع له مصدق، وهكذا أيضًا مخبر صدوق ورب مستمع له مكذب.
وعلى هذا القياس أيضًا حكم الأخبار عن الكائنات قبل كونها وعن الأشياء الموجودة في الزمان الغائبة بالمكان، فهذا أيضًا أحد أسباب اختلاف الناس في المعلومات واختلاف العلماء في الآراء والمذاهب.
(٧) فصل في بيان ما يخص الإنسان من المعلومات
فنقول: إن الله لما خلق الإنسان الذي هو آدم أبو البشر، عليه السلام، وفضله على كثير ممن خلق قبله تفضيلًا، جعل أحد فضائله كثرة العلوم وغرائب المعارف وجعل له إليها عدة طرقات؛ فمنها طرق الحواس الخمس التي بها يدرك الأمور الحاضرة في المكان والزمان، كما بيَّنا في رسالة الحاس والمحسوس، ومنها طريق استماع الأخبار التي ينفرد بها الإنسان دون سائر الحيوانات، يفهم بها الأمور الغائبة عنه بالزمان والمكان جميعًا، كما ذكر الله تعالى ومنَّ به عليه، فقال: خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ، ومنها طريق الكتابة والقراءة يفهم بها الإنسان معاني الكلام واللغات والأقاويل بالنظر فيهما عمن لم يَرَه من أبناء جنسه مع الزمان أو مَن هو غائب عنه بالمكان، كما قال الله ومنَّ به على الإنسان، فقال لنبيه محمد عليه السلام: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ. وبهذه الفضيلة شارك الإنسانُ الملائكةَ الكرام كما قال الله تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ.
واعلم أن فهم القراءة والكتابة ومعرفتها متأخرة عن فهم الكلام والأقاويل، كما أن فهم الكلام والأقاويل معرفتها إنما هي متأخرة عن فهم المحسوسات كما هو بيِّن ظاهر لا يخفى على العقلاء؛ وذلك أن الطفل إذا خرج من الرحم فإنه في الوقت والساعة تدرِك حواسه محسوساتها، فيحس بالقوة اللامسة الخشونة واللين، وبالقوة الباصرة النور والضياء، وبالقوة الذائقة طعم اللبن، وبالقوة الشامَّة الروايح، وبالقوة السامعة الأصوات، ولكنه لا يعلم معاني الكلام والأصوات إلا بعد حين؛ فأول شيء يحس باللمس فيتألم؛ لأن حساسة اللمس أعم الحواس، ثم يحس بالطعم فيميز لبن أمه من غيره، ثم يميز بين الروائح فيعرف الشم، ثم يميز بين الصوت الشديد الجهير، وبين الصوت الضعيف الخفيف، ثم يفرق بين الصور، ثم يميز على ممر الأوقات بين نغمة الأم ونغمة الأب والإخوة والأخوات والأقرباء وغيره. ثم شيئًا بعد شيء على التدريج، وعلى هذا المثال فهمه ومعرفته بسائر الحواس ومحسوساتها إلى أن تتم سن التربية ويغلق باب الرضاع ويفتح الكلام والنطق. ثم بعد ذلك تجيء أيام الكتابة والقراءة والآداب والصنايع والرياضيات وإسماع الأخبار والروايات، والفقه في الدين، والنظر في العلوم والمعارف، وطلب حقائق الموجودات، والبحث عن الكائنات، والاستدلال بالحاضرات على الغائبات، والمحسوسات على المعقولات، وبالجسمانيات على الروحانيات، وبالرياضيات على الطبيعيات، وبالطبيعيات على الإلهيات، التي هي الغاية القصوى في العلوم والمعارف والسعادة الأبدية والدوام السرمدية، بلغك الله وإيانا إلى هذه الغاية، وشرح صدرك، وفتح قلبك، ونوَّر فهمك، وصفَّى نفسك، وحسَّن أخلاقك، وأصلح شأنك، وزكَّى أعمالك، وأنعم بالك، وأكرمك مما أنعم به على أوليائه وأنبيائه بما علمهم من البيان والكتاب، كما قال تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا.
(٨) فصل في بيان القوة المتخيلة
فنقول: إنا قد ذكرنا طرفًا من أحوال القوة الحاسَّة وكيفية التفاوتات التي بينها في إدراكها محسوساتها، وما الأسباب المُعِينة لها على ذلك والمعرفة لها عنها فيما تقدم، فنريد أن نذكر طرفًا في هذا الفصل من أحوال القوة المتخيلة التي مسكنها الدماغ؛ إذ كانت التالية للقوى الحساسة في تناولها رسوم المحسوسات منها، ونذكر أيضًا بعض الأسباب المعينة على أفعالها والمعوقة عن ذلك، ونذكر تفاوت درجات الناس في هذه القوة؛ إذ كان ذلك أحد أسباب اختلافهم في العلوم والمعارف والآراء والمذاهب، ولكن من أجل أن هذه القوة أكثر القوى الحساسة متخيلات وأعجبها أفعالًا، احتجنا أن نذكر علة ذلك، فنقول: إن لهذه القوى خواصَّ عجيبة وأفعالًا ظريفة، فمنها تناولها رسوم سائر المحسوسات جميعًا وتخيلها بعد غيبة المحسوسات عن مشاهدة الحواس لها، ومنها أيضًا أنها تتخيل وتتوهم ما له حقيقة وما لا حقيقة له بعد أن عرف بسائطها بالحس؛ إذ له من القوة ما يَقْدر أن يوافي الصور التي أداها الحس إلى النفس في هيولاه كيف شاء؛ لأنه كان يجدها مجردة عن الهيولى التي هي ماسكة للصور ومختفية بعضها دون بعض، فإذا أخذها مجردة لا إمساك لها ولا ربط، أمكنه أن يؤلف بينها كما شاء ويركِّبها ويصل بعضَها ببعض ما لم تكن متصلة بالهيولى، مثال ذلك أن الإنسان يمكنه أن يتخيل بهذه القوة جَملًا على رأس نخلة، أو نخلة ثابتة على ظهر جمل، أو طائرًا له أربع قوائم، أو فرسًا له جناحان، أو حمارًا له رأس إنسان، وما شاكل هذه مما يعمله المصورون والنقاشون من الصور المنسوبة إلى الجن والشياطين وعجائب البحر، مما له حقيقة ومما لا حقيقة له. وإنما يستوي للإنسان بهذه القوة المتخيلات والتصور لها لعلتين اثنتين: إحداهما من أجل أن هذه المتخيلات يجتمع عندها مواد كثيرة من رسوم المحسوسات مع اختلاف أجناسها وفنون أنواعها وسائر أشخاصها، فهي يمكنها بهذا السبب أن تركِّب منها ضروب التراكيب مما له حقيقة في الهيولى ومما لا حقيقة له.
والعلة الأخرى من أجل شرف جوهر النفس ولطافتها وشدة روحانيتها وسهولة قبولها رسوم المعلومات في ذاتها وتصورها لها؛ وذلك أن كل هيولى تكون ألطف جوهرًا وأشد روحانية فإنه يكون لقبول الصور أسرع انفعالًا وأسهل قبولًا؛ مثال ذلك الماءُ العذب، فإنه لما كان ألطف جوهرًا من التراب، صار لقبول الطعوم والأصباغ أسرع انفعالًا وأسهل قبولًا، لنظافته وعذوبته وسيلانه. وهكذا لما كان الهواء ألطف جوهرًا من الماء وأشد سيلانًا، صار قبوله للأصوات والروائح أسرع انفعالًا وأسرع قبولًا. وهكذا لما كان الضياء والنور ألطف من الهواء، صار قبولهما للألوان والأشكال أسرع وأشد روحانية. فكيف لطافة النفس وروحانيتها! ولعل هذا الباب يخفى على كثير ممن ينظر في دقائق العلوم من المحسوسات، فكيف بالنظر في الأمور الروحانية! وذلك أن جوهر النفس ألطف وأشد روحانية بكثير من جوهر النور والضياء، والدليل على ذلك قبولها رسوم سائر المحسوسات والمعقولات جميعًا، فلهاتين العلتين صار الإنسان بالقوة المتخيلة يقدر على أن يتخيل ويتوهم ما لا يقدر عليه بالقوى الحساسة؛ لأن هذه روحانية وتلك جسمانية، ولأنها تدرك محسوساتها في الجواهر الجسمانية من خارج.
وأما القوة المتخيلة فهي تتخيلها وتتصور في ذاتها، والدليل على صحة ما قلنا أفعال الصناع البشريين؛ وذلك أن كل صانع يبتدئ أولًا يتفكر ويتخيل ويتصور في وهمه صورة مصنوعة بلا حاجة إلى شيء من خارج، ثم يقصد بعد ذلك إلى هيولى ما، في مكانٍ ما في زمانٍ ما، فيصور فيها ما هو مصور في فكره بأدواتٍ ما وبحركاتٍ ما، كما بيَّنا في رسالة الصنائع العملية.
ومن خاصة هذه القوة أنها تعجز عن تخيل شيء لم تؤدِّ إليه حاسَّة من الحواس؛ وذلك أن كل حيوان لا بصر له فهو لا يتخيل الألوان، وما لا سمع له فلا يتخيل الأصوات، ولا يتوهمها؛ لأن التخيل أبدًا في تصوره للأشياء تبع للإدراك الحسي، والعقل في استنباطها تبع الدليل النفسي، فأما الإنسان فإنه لما كان يفهم الكلام أمكنه أن يتخيل المعاني إذا وصفت له.
(٩) فصل في عجائب هذه القوة المتخيلة وتفاوت الناس فيها
فنقول: اعلم أن الناس في هذه القوة متفاوتو الدرجات تفاوتًا بعيدًا جدًّا، والدليل عليه أنك تجد كثيرًا من الصبيان يكون أسرع تصورًا لِمَا يسمعون وأجود تخيلًا لما يصف لهم كثير من المشايخ والبالغين؛ وذلك أن كثيرًا من العلماء والعقلاء والمرتاضين في العلوم والآداب تعجز نفوسهم عن تصور أشياء كثيرة قد قامت الحجة والبراهين على صحتها.
ثم اعلم أن العلة في تفاوت درجات الناس في هذه القوة ليست من اختلاف جواهر نفوسهم، ولكن من أجل اختلاف تركيب أدمغتهم واعتدال أمزجتها أو فسادها وسوء مزاجها، كما ذكر ذلك في كتب الطب. ومن عجائب أفعال هذه القوة أيضًا، وما يتأتى للإنسان أن يعمل بها أعمالًا عجيبة، ما يحكى عن قوم من الكهنة من أهل الهند أنهم يؤثِّرون في غيرهم بأوهامهم أشياء عجيبة ينكرها أكثر الناس، فأما حكماء بلاد اليونان وفلاسفتها فيرون ذلك يمكن ويتأتى للإنسان في نفسه، فأما في غيره فبعيد جدًّا، ونحن قد بيَّنا ذلك في رسالة الزجر.
ومن عجائب أفعال هذه القوة أيضًا أنها تركب القياسات وتحكم بها على حقائق الأشياء بلا روية ولا اعتبار، مثل ما يفعل الصبيان والجهال وكثير من العقلاء أيضًا، مثال ذلك أن الصبي الطفل إذا نشأ ورأى والديه وتأملهما وميز بينهما، ثم رأى صبيًّا آخر مثله حَكَمَ بتوهمه بأن لذلك الصبي والدين أيضًا قياسًا على نفسه، وإن يكن له أيضًا أخ أو أخت يظن ويتوهم بأن لذلك الصبي مثل ما له قياسًا على نفسه من غير فكرة ولا روية ولا تأمل.
وأنت يا أخي ما تقول في هذا، هل هذا قياس صحيح أو خطأ؟ حتى إنه ربما رأى في دار والديه دابة أو متاعًا أو أصابه حر أو برد أو جوع أو عطش أو وجع أو غم، ظن وتوهم أن سائر الصبيان قد أصابهم مثل ذلك، قياسًا على أحوال نفسه من غير فكر ولا روية في صوابه وخطائه، حتى إذا كبر وتفكر وميز تبين له صوابه من خطائه في قياسه.
ثم اعلم أنك تجد كثيرًا من الناس العقلاء ومن يتعاطى العلم هذا حكمهم في قياساتهم؛ وذلك أن كثيرًا من الناس مَن إذا رأى في بلده ليلًا أو نهارًا، أو شتاءً أو صيفًا، أو حرًّا أو بردًا، أو ريحًا أو مطرًا؛ ظن وتوهم بأن سائر البلاد مثله في ذلك الوقت، قياسًا على ما وجد في بلده، فإذا نظر في علم الرياضيات من الهندسيات والطبيعيات تَبيَّن له أن قياسه كان خطأ أو صوابًا. وهكذا تجد كثيرًا من المرتاضين بهذه العلوم يتوهمون ويظنون بأن خارج العالم فضاءً بلا نهاية، قياسًا على ما يجدون خارج بلدانهم من بلادهم من سعة الأرض، ومن ورائها سعة الهواء، ومن ورائها سعة الأفلاك.
وهكذا أيضًا إذا فكروا في كيفية حدوث العالم وخلق السموات والأرض، ظنوا وتوهموا أن ذلك كان في زمان ومكان، قياسًا على أفعال البشريين، وإذا سمعوا من أهل البصائر قولهم بأن العالم لا في مكان لا يتصورون كيفية ذلك، فإذا قيل لا في زمان ظنوا وتوهموا أنه قديم بلا حجة ولا برهان.
(١٠) فصل في بيان فضيلة هذه القوة
فنقول: اعلم أنَّا قد ذكرنا أن لهذه القوة المتخيلة عجائب كثيرة، ووصفنا خواص أحوالها من أجل أنها من أعجب القوى الداركة، وأن أكثر العلماء تائهون في بحر هذه القوة وعجائب متخيلاتها؛ وذلك أن الإنسان يمكنه بهذه القوة في ساعة واحدة أن يجول في المشرق والمغرب والبر والبحر والسهل والجبل وفضاء الأفلاك وسعة السموات، وينظر إلى خارج العالم، ويتخيل هناك فضاءً بلا نهاية، وربما يتخيل من الزمان الماضي وبدء كون العالم، ويتخيل فناء العالم ويرفع من الوجود أصلًا، وما شاكل هذه الأشياء مما له حقيقة ومما لا حقيقة له.
وهذا الباب أحد الأسباب من جهة اختلاف العلماء في آرائهم ومذاهبهم في المعلومات؛ وذلك أنك تجد كثيرًا من العقلاء إذا تفكروا وتخيلوا بهذه القوة شيئًا ما، ظنوا أن ذلك حق وحكموا عليه حكمًا حقًّا بلا حجة ولا برهان.
وأيضًا أن كثيرًا منهم إذا سمع شيئًا من العلوم فلم يتصوره — لعجز هذه القوة ونقصان فعلها فيه — أنكر وجحد ولم ينظر إلى الدليل والبرهان البتة.
فأما العقلاء المنصفون في الحكومة، الطالبون للحق، غير المعجبين بأنفسهم؛ إذا سمعوا بالأخبار عن شيء متوهم وتخيلوا شيئًا، غالبًا لم يحكموا على صحته وعلى بطلانه إلا بعد الحجة والبرهان على تحقيقه أو بطلانه كما يفعل المهندسون والمنطقيون.
وإذ قد ذكرنا طرفًا من خواص هذه القوة المتخيلة وعجيب أفعالها نريد أن نذكر طرفًا من خواص القوة المفكرة التالية في تناولها رسوم المحسوسات المتخيلات منها، التي هي أشرف أفعالًا وأكثرها عجائب.
(١١) فصل في بيان أفعال القوة المفكرة
فنقول: اعلم أن للقوة المفكرة خواصَّ كثيرة وأفعالًا عجيبة تستغرق فيها أفعال هذه القوة المتخيلة وأفعال سائر القوى الحساسة الدراكة؛ وذلك أن أفعال هذه القوة نوعان: فمنها ما يخصها بمجردها، ومنها ما تشترك هي مع قوة أخرى من قوى النفس، فمن ذلك الصنائعُ فإن أكثرها أفعال مشتركة بين هذه القوة المفكرة التي آلتُها وسط الدماغ، وبين القوة الصناعية التي آلتها اليدان، ومنها الكلام والأقاويل واللغات أجمع فإنها أفعال مشتركة بين هذه القوة وبين القوة الناطقة التي آلتها اللسان، ومنها تناول رسوم المحسوسات المتخيلات فإنها أفعال مشتركة بين هذه وبين المتخيلة التي آلتها مقدم الدماغ، ومنها تناول رسوم المعلومات المحفوظة فإنها المشتركة بين هذه وبين القوة الحافظة التي آلتها مؤخر الدماغ.
وأما الأفعال التي تخصها بمجردها فهي الفكر والروية والتمييز والتصور والاعتبار والتركيب والتحليل والجمع والقياس البرهاني، ولها أيضًا الفراسة والزجر والتكهين والخواطر والإلهام والوحي ورؤية المنامات وتأويلها.
أما بيان ذلك فنقول: إن الإنسان بالتفكر يستخرج غوامض العلوم بالروية، ويمكن له تدبير الملك والسياسة، وبالاعتبار يعرف الأمور الماضية مع الزمان، وبالتصور يدرك حقائق الأشياء، وبالتركيب يستخرج الصنائع، وبالتحليل يعرف الجواهر البسيطة والمركبة، وبالجمع يعرف الأنواع والأجناس، وبالقياس يدرك الأمور الغامضة الغائبة بالزمان والمكان، وبالفراسة يعرف ما في الطبائع، وبالزجر يعرف الحوادث وتصاريف الأحوال، وبالتكهين يعرف الكائنات بموجبات الأحكام الفلكيات، وبالمنامات وتأويلها يعرف الكائنات والبشارات والإنذارات، وبقبول الوحي والإلهام يعرف الوضع للنواميس الإلهية وتدوين الكتب المنزلة.
فأما فضائل هذه القوة وقضاياها على ما بين ها هنا وذلك أن هذه القوة المفكرة من بين سائر القوى الحساسة والمتخيلة ومدركاتها كالقاضي بين الخصماء ودعاويهم؛ وذلك أن من سنَّة القاضي ألا يحكم بين الخصوم إلا على سبيل معرفة شرعية وضعية معروفة بينهم، أو مقاييس عقلية متفق عليها بين الخصمين، ولا يقبل الدعاوى إلا بالشهود والصكوك وموازين ومكاييل معلومة معروفة بين الخصماء.
فهكذا حكومة هذه القوة المفكرة اتي مسكنها وسط الدماغ وقضاياها بين مدركات الحواس ومتخيلات الأوهام فيما يدعي العقلاء بينهم من المنازعات والخصومات في الآراء والديانات والمذاهب، فهي لا تحكم لأحد بين الخصمين بالصواب ولا بالخطأ إلا بعدما شهد شاهدان من الحواس الخمس أو نتائج مقدمات جزئية من أوائل العقول.
مثال ذلك في رجلين اختلفا في الحكومة في لون الشراب؛ يحكم أحدهما بأن ذلك لون الماء والآخر أبى، ثم تحاكما إلى القوة المفكرة، فلم تحكم هي لأحدهما بالصواب ولا بالخطأ إلا بعد شهادة شاهدين من الحواس؛ وهما القوة الذائقة والباصرة.
وعلى هذا المثال والقياس ينبغي أن يكون سائر قضايا القوة المفكرة بين الناس فيما يختلفون فيه من الحكومة على المحسوسات والمتخيلات في الحكومات والقضايا جميعًا.
فتفقَّدْ يا أخي هذا الباب واعتبِرْ؛ فإنه أول طريق العلوم وأول الاختلافات التي وقعت بين الناس في المدركات من المحسوسات والمتخيلات.
وإذ قد ذكرنا طرفًا من أسباب الاختلافات التي وقعت بين الناس في المدركات من المحسوسات والمتخيلات أجمع، فنريد أن نذكر طرفًا من أسباب الاختلافات التي وقعت بين العقلاء في الأشياء التي تعلم بأوائل العقول؛ إذ كان هذا الباب تالي المحسوسات في النظام والترتيب؛ وذلك أن المعقولات التي هي في أوائل العقول ليست شيئًا سوى رسوم المحسوسات الجزئيات الملتقطة بطريق الحواس من الأشخاص المجتمعة في فكر النفس المسمى أنواعًا وأجناسًا، كما بيَّنا في رسالة القاطيغورياس.
ثم اعلم أن العقلاء متفاوتو الدرجات في معرفتهم هذه الأشياء التي تعلم بأوائل العقول تفاوتًا بعيدًا جدًّا، والدليل على ذلك بما قلنا أنك تجد كل إنسان يكون أكثر تأملًا من المحسوسات وأجود اعتبارًا للمتخيلات، فإن الأشياء التي تعلم بأوائل العقول تكون في نفسه أكثر عددًا وأشد تحقيقًا من غيره من الناس مثل المشايخ والمجربين للأمور المحسوسة.
والدليل على ذلك قوله تعالى: وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا، وقال: عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ، وقال: وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ، وقال: وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ، وقال: يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ.
(١٢) فصل في بيان ما يعلم بأوائل العقول
فنقول: اعلم أن الأشياء التي تعلم بأوائل العقول، بعضها ظاهر جلي لكل العقلاء، وبعضها غامض خفي يحتاج إلى تأمل قليل، وبعضها يحتاج إلى تدقيق النظر وتأمل شديد؛ مثال ذلك قولهم: الكل أكثر من الجزء، إن هذا عند الحكماء ظاهر في أوائل العقول السليمة.
وأما قولهم إن الأشياء المختلفة إذا زيدت عليها أشياء متساوية كانت كلها في جميع أوائل العقول السليمة مختلفة يحتاج فيها إلى تأمل قليل.
وأما قولهم إذا كانت أربعة مقادير على نسبة واحدة، فإن في الأول من أضعاف الثاني مثل ما في الثالث من أضعاف الرابع، فهذا أيضًا من الأشياء التي تعلمها بأوائل المعقول، ولكن يحتاج إلى بحث أشد ونظر أدق، وعلى هذا المثال يكون تفاوت المعقولات والأشياء التي تعلم بالعقول الثاقبة.
ثم اعلم أن كثيرًا من العقلاء يظنون أن الأشياء التي تعلم بأوائل العقول مركوزة، فنسبتها لما تعلقت بالجسم، فهي تحتاج إلى التذكار، ويسمون العلم تذكرًا ويحتجون بقول أفلاطون: «التعليم تذكر»، وليس الأمر كما ظنوا، وإنما اراد أفلاطون بقوله «العلم تذكر» أن النفس علامة بالقوة فتحتاج إلى التعليم حتى تصير علامة بالفعل، فسمي العلم تذكرًا، ثم إن أول طريق التعاليم هي الحواس ثم العقل ثم البرهان، فلو لم يكن للإنسان الحواس لما أمكنه أن يعلم شيئًا؛ لا المبرهنات ولا المعقولات ولا المحسوسات البتة.
والدليل على صحة ما قلنا أن كل ما لا يدركه الحواس بوجه من الوجوه لا تتخيله الأوهام، وما لا تتخيله الأوهام لا تتصوره العقول.
وإذا لم يكن شيء معقول، فلا يمكن البرهان عليه؛ لأن البرهان لا يكون إلا من نتائج مقدمات ضرورية مأخوذة من أوائل العقول، والأشياء التي هي في أوائل العقول إنما هي كليات أنواع وأجناس ملتقطة من أشخاص جزئية بطريق الحواس.
والدليل على ذلك الصبي لولا أنه قَدَّر أن عشر جوزات أكثر من خمس، أو خشبة طولها عشرة أذرع أطول من أخرى لها ستة أذرع، فمن أين كان يمكنه أن يعلم أن الكل أكثر من الجزء؟
وعلى هذا القياس حكْم سائر المعقولات، فإنها مأخوذة أوائلها من الحواس، والدليل على ذلك أيضًا أنك تجد من كان أكثر محسوسات ولها أكثر تأملًا وللمتخيلات أجود اعتبارًا، فإن الأشياء المعقولة عنده أكثر عددًا، ونفسه لها أكثر تحققًا، فقد تَبيَّن بما ذكرنا أن الأشياء المعقولة ليست بشيء سوى رسوم المحسوسات الجزئيات الملتقطة بطريق الحواس من الأشخاص مجموعة في فكر النفس المسمى أنواعًا وأجناسًا، وأن العقل للإنسان — إذا تبين — ليس هو شيئًا سوى النفس الناطقة، إذا تصورت رسوم المحسوسات في ذاتها، ميزت بفكرها بين أجناسها وأنواعها وأشخاصها، وعرفت جواهرها وأعراضها، وجربت أمور الدنيا واعتبرت تصاريف الأيام بين أهلها.
ثم اعلم أن كلَّ مَن كان أكثر تأملًا للمحسوسات، وأدق نظرًا في أمور الموجودات، وأجود بحثًا عن الخفيات، وأكثر تجارب للأمور الدنياوية، وأحسن اعتبارًا لأهلها؛ كان أرجح عقلًا من أبناء جنسه وأكثر علمًا من أهل طبقته.
ثم اعلم أن العقلاء متفاوتو الدرجات في عقولهم تفاوتًا بعيدًا جدًّا، لا يقدر قدره إلا الله تعالى، الذي خلقهم وفضل بعضهم على بعض كما اقتضت حكمته وسبق علمه في خلقه.
ثم اعلم أن لتفاوت الناس في درجات عقولهم عللًا شتى وأسبابًا عدة، فمن إحدى تلك العلل كثرة فضائل العقول ومناقب العقلاء التي لا يحصي عددها إلا الله تعالى، ولا يمكن أن تجتمع تلك الفضائل في شخص واحد موفرة، كما بيَّنا، من امتناع ارتياض النفس الواحدة بجميع أصناف العلوم مع قِصَر العمر واعتراض العوائق؛ ولأن كلية العلوم موضوعة بإزاء قوى جميع الناس، كما أن كلية الصناعات موضوعة بإزاء قوى جميع الصناع.
ولكن يجب للإنسان أن يختار الأَولى والأشرف والأفضل؛ وذلك أن العقلاء هم أفاضل الناس، والإنسان أفضل من الحيوانات، والحيوان أشرف من النبات، والنبات الأركان ومخ طبائعها، والإنسان صورة مختصرة من جميع صور الحيوان، وهو المجموع فيه أمزجة قوى النبات وخواص المعادن وطبائع الأركان والمولدات الكائنات منها أجمع.
وهذه كلها لا يمكن أن تجتمع في شخص واحد، فتفرقت في جميع الأشخاص هذه الصور، فمكثر ومقل، حتى عمرت الدنيا بهم، فهذا أحد أسباب اختلاف طبائعهم، واختلاف طبائعهم أحد أسباب اختلاف تفاوت عقولهم.
والعلة الثانية في تفاوت الناس في درجاتهم في عقولهم هي خواص جواهر نفوسهم التابعة في إظهار أفعالهم لأمزجة أبدانهم. والثالثة هي كثرة غرائب علومهم ومعارفهم التي لا يمكن أن يحويها كلها إنسان واحد. الرابعة عجائب أفعالهم وفنون أعمالهم واختلاف صنائعهم وتصاريفهم في طلب معاشهم، وأحكام تدبيرهم في سياستهم كثيرة لا تحصى، ولا يمكن أن ينهض بها كلها إنسان واحد. والخامسة اختلاف أخلاقهم المتضادة في الحسن والقبح ومجاري عاداتهم بين الجودة والرداءة مما لا يمكن أن تجتمع كلها في إنسان واحد. والسادسة نشوءهم على اختلاف سنن دياناتهم وتبايُن مذاهب آبائهم وآراء أستاذيهم ومعلميهم.
ثم اعلم أن هذه الخصال والمناقب كلها لا يمكن أن تجتمع في شخص واحد، فمن أجل هذا فُرِّقَت في جميع أشخاص الإنسان كلها، مع كثرتها، ولا تخرج من صور الإنسان البتة التي هي إحدى الصور التي تحت فلك القمر، وهي صورة الصور، فلأجل ذلك تراه في غاية الاعتدال في حال الفطرة، ثم تخرجه عن ذلك عاداته الحسنة والرديئة فتصير كالطبع له، والعادة توأم الطبيعة، وقيل طبيعة منتزعة، وقيل صعب عادة منتزعة، كما قيل صعب طلب ما ليس في الطبع.
ثم اعلم أن هذه الصورة هي خليفة الله في أرضه متحكمة فيها مع كثرتها على حيواناتها ونباتاتها ومعادنها حكم الأرباب على خولها إذ سجدوا لها بجملتها، وهي صورة واحدة، وإن كانت أشخاصها كثيرة فإن حكم جميع الأشخاص في هذه الصورة كحكم جميع أعضاء بدن الإنسان الواحد لصورة نفسه، وهي المتحكمة في جميع البدن، على عضو عضو ومفصل مفصل وحاسَّة حاسَّة، من يوم الولادة إلى يوم الفراق — كما بيَّنا في رسالة تركيب الجسد — فهكذا حكم هذه الصورة في جميع أشخاص البشر الأولين والآخرين من يوم خلق الله تعالى السموات والأرض. وآدم أبو البشر الترابي له الحكم في هذه الأرض والربوبية على جميع ما فيها إلى يوم القيامة الكبرى فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ، كما بيَّنا في رسالة البعث والقيامة. وإذ قد تبين مما ذكرنا طرفٌ من علل تفاوت العقلاء في درجات عقولهم، نريد أن نذكر أيضًا كيف تبين فيهم رجحان العقول والمعقول، وكيف يعرف ذلك فيهم.
(١٣) فصل في بيان رجحان العقول للعقلاء
فنقول: إن ذلك يتبين فيهم ويعرف منهم بحسب طبقاتهم في أمور الدنيا ومراتبهم في أمر الدين، وهي كثيرة لا يحصي عددها إلا الله تعالى، ولكن نجمعها كلها في هذه التسعة الأقسام للتقرب من الفهم ونحصرها للحفظ، فنقول: إن منهم أهل الدين والشرائع والنبوات وأصحاب النواميس ومَن دونهم من الموسومين بحفظ أحكامها ومراعاة سننها والمعروفين بالتعبد فيها، ومنهم أهل العلم والحكماء والأدباء وأصحاب الرياضات الموسومين بالتعاليم والتأديب والرياضات والمعارف، ومنهم الملوك والسلاطين والأمراء والرؤساء وأرباب السياسات والمتعلقين بخدمتهم من الجنود والأعوان والكتَّاب والعمال والخزَّان والوكلاء ومَن شاكلهم، ومنهم البناء والزارعون والأكرة والرعاة للشاة وساسة الدواب ورعاة الحيوان أجمع، ومنهم الصناع وأصحاب الحرف والمصلحون للأمتعة والحوائج جميعًا، ومنهم التجار والباعة والمسافرون والجلَّابون للأمتعة والحوائج من الآفاق، ومنهم المتعيشون الذين يعيشون في خدمة غيرهم وقضاء حوائجهم يومًا بيوم، ومنهم الضعفاء والسُّؤَّال والمكديون ومن شاكلهم من الفقراء والمساكين.
ثم اعلم أن كل إنسان من أهل هذه الطبقات — كائنًا من كان — لا يخلو من أن يكون فيها رئيسًا سائسًا لغيره، أو يكون مرءوسًا مَسُوسًا فيها بغيره. ورجحان عقل كل رئيس سائس يتبين فيها ويعرف منه في حسن سياسته وتدبير رياسته وحسن عشرته مع أبناء جنسه، ما لم يَخرج من سنة شريعته وحكم الناموس. ورجحان عقل كل مرءوس مسوس يتبين فيه ويعرف منه في حسن طاعته لرئيسه، وسهولة انقياده لأمر سائسه، وحسن عشرته مع أبناء جنسه، ما لم يكن ذلك قدحًا في دينه أو نقصًا لاعتقاده. ورجحان عقل كل متدين يتبين فيه ويعرف منه في حسن قيامه بواجبه عليه في أحكام شريعته وسنة دينه، وحسن عشرته مع أبناء جنسه، ما لم يكن تاركًا للأفضل، ولا غاليًا في دينه، ولا متقلبًا في مذهبه. ورجحان عقل كل عالم أو أديب أو حكيم يتبين فيه ويعرف منه في حسن كلامه وتحصيل أقاويله وجودة تأديبه وحسن عشرته مع أبناء جنسه، ما لم يدع ما لا يحسنه أو ينكر فضل غيره. ورجحان عقل كل صانع وصاحب حرفة يتبين فيه ويعرف منه في محكمات صنعته وحسن عشرته مع أبناء جنسه، ما لم يتعاطَ ما لا يحسنه أو يتكلف ما ليس في صناعته. ورجحان عقل كل تاجر بائع مشترٍ يتبين فيه ويعرف منه في صحة معاملته وحسن عشرته مع أبناء جنسه، ما لم يَكذب في بيعه وشرائه. ورجحان عقل كل فقير مسكين أو ضعيف أو مبتلًى يتبين فيه ويعرف منه في حسن عشرته وقلة جزعه وإجماله في الطلب وحسن عشرته مع أبناء جنسه، ما لم يُلِحَّ في السؤال ويتسخَّط عند الحرمان.
(١٤) فصل في بيان فضل الفقراء والمساكين وأهل البلوى
فنقول: اعلم أن هذه الطائفة هي رحمة للأغنياء وموعظة للمترفين ولمن كان معافًى ولأرباب النعم؛ ليكون كل عاقل معافًى، إذا فكَّر بهم واعتبر بأحوالهم، عَلِمَ بأن الذي أعطاه وعافاه هو الذي منعهم وابتلاهم، ويعلم إن لم يكن للغني المعافى عند الله يد وإحسان جازاه بها ولا لواحد عند الله إساءة كافأه عليها، فإذا فكروا في هذه الأحوال واعتبروا أحوال الفقراء وأهل البلوى، عرفوا حُسن موقع النعم عندهم، فيزدادون لله شكرًا يستوجبون به المزيد، كما قال الله تعالى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ، فبهذا الوجه والاعتبار صاروا هم رحمة للأغنياء وموعظة لمن كان معافًى. وخصلة أخرى أيضًا أن أهل الدين ومن يؤمن بالآخرة إذا نظروا إلى هؤلاء واعتبروا أحوالهم يزدادون يقينًا من الآخرة، ويعلم كل عاقل أن مِن بعد هذه الحياة الدنيا دارًا أخرى يجازى بها هؤلاء المبتلَون بما صبروا على مصائبهم من أمور الدنيا، كما قال تعالى: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ.
ثم اعلم أن لهذه الطائفة — أعني الفقراء وأهل البلوى — فضائل كثيرة، ولله تعالى في إيجادهم حكمة جليلة تخفى على كثير من العقلاء والمترفهين من أبناء الدنيا؛ فمنها أنهم أشد الناس يقينًا بالآخرة من غيرهم من المترفين، وأنهم أسرع الناس إجابة لدعوة الأنبياء، عليهم السلام، من غيرهم من المترفين من أرباب النعم والأغنياء، وأنهم أقل من غيرهم من الأغنياء، وأنهم أخف مؤنة وأقل حوائج وأقنع باليسير وأرضى بالقليل من غيرهم من الناس، وأنهم أكثر ذكرًا لله تعالى في السر والعلانية، وأرق قلوبًا في الفكرة والتذكر، وأخلص في الدعاء لله في السراء والضراء، وخصال أخر كثيرة لو عددناها لطال الكلام ويخرج بنا عما نحن فيه. وإنما ذكرنا طرفًا من فضائلهم لأن كثيرًا من العقلاء المترفين إذا نظروا إليهم يظنون بالله ظن السوء؛ فمنهم من يرى أن الذي نالهم من ذلك من سوء اختيارهم وشؤمهم وخذلانهم، ومنهم من يرى أن الصواب لو أنهم لم يخلقوا لكان ذلك خيرًا لهم، ومنهم من يرى أنهم معاقَبون بما سلف منهم في الأدوار الماضية من الذنوب، وهذا رأي أصحاب التناسخ، ومنهم من يرى أن الله تعالى ليس يفكر بهم ولا يهمه أمرهم، وإلا كان قادرًا على أن يغنيهم أو يميتهم ويريحهم مما هم فيه من الجهد والبلوى، ومنهم من يرى أن هذا ليس يجري بعلم عالم أو حكم حكيم، بل هو بحسب سوء اتفاق رديء، ومنهم من يرى أن هذه موجبات أحكام الفلك من غير قصد قاصد ولا صنع صانع، ومنهم من يرى أن هذا إنما يفعل بهم ليجازوا به ويثابوا عليه، ومنهم من يرى أن هذه الحال أصلح لهم وأنفع من غيرها، ومنهم من يرى أن هذا كان في سابق العلم والقدر المحتوم لم يكن بد من كونه، ومنهم من يرى أنه إظهار القدرة وتحكم في المُلك وإنفاذ المشيئة، ومنهم من يرى أن هذه موعظة ووعيد وتهديد وتخويف لغيرهم، ومنهم من يرى أن هذا هو الأحكم والأتقن، وإن كان لا يدري ما وجه الحكمة في ذلك، فليس إلا الإيمان والتسليم والصبر والرضا بما يجري به القضاء والمقادير، كما قال تعالى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، وقال: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ.
وإنما ذكرنا في شرح هذا الباب لأن هذا البحث والنظر من إحدى أمهات الخلاف بين العلماء المتفرع منها فنون الآراء والمذاهب، وهي محنة لعقول ذوي الألباب، ورجحان عقل كل صاحب مذهب يتبين فيه ويعرف منه في نصرته لدينه بحجج متقنة ومساعدة لأهل مذهبه مما يتعلق به وحسن عشرته مع أبناء جنسه، ما لم يكن معتقدًا للرأيين المتناقضين، فإنه عند ذلك يكون مخالفًا لنفسه في مذهبه ومناقضًا لمذهبه باعتقاده، وهذا من أكبر العيوب عند العقلاء ومن أشنع اعتقادهم عند العلماء.
ثم اعلم أنه ليس على العقلاء كثير عيب في مخالفة بعضهم بعضًا؛ لأن ذلك من أجل تفاوت درجاتهم كما ذكرنا قبل.
وأما مخالفة الإنسان الواحد في نفسه في رأيه ومذهبه، فإنها تدل على قلة التحصيل ورداءة التمييز وسخف الرأي، التي بأضدادها يفتخر العقلاء بعضهم على بعض، وخصلة أخرى في عذر العقلاء فيما يختلفون في الفروع؛ وذلك أنه عسر جدًّا اجتماع العقلاء على رأي واحد كلهم في شيء واحد، وإنما يتفقون في الأصول ويختلفون في الفروع، فأما إنسان واحد فليس يعسر أن يعتقد في شيء رأيًا واحدًا، وألا يعتقد رأيين متناقضين. وإذ قد تبين مما ذكرنا طرفٌ من كيفية رجحان عقول العقلاء في تصرفاتهم في أمور الدين والدنيا، وكيف يعرف ذلك منهم، فنريد أن نذكر طرفًا من أحوال العلماء الذين هم أفضل العقلاء، ونبين مراتبهم في العلوم والصنائع والمعارف، وكيفية معلوماتهم التي في أوائل العقول المتفق عليها بين أهل كل صناعة وعلم ومذهب فيما يخصهم وما يتميزون به عن غيرهم.
(١٥) فصل في الفرق بين أصول الصنائع والعلوم وفروعها
فنقول: اعلم أن لكل علم وأدب وصناعة ومذهب أهلًا، ولأهلها فيه أصولًا، فهم فيها متفقون كلها في أوائل عقولهم ولا يختلفون فيها، وإن كانت عند غيرهم بخلاف ذلك، وإن لتلك الأصول أيضًا فروعًا وهم فيها يختلفون، ولهم في كل أصل قياسات عليها يتفرعون، وموازين بها يتحاكمون فيما يختلفون، وهي كثيرة لا يحصي عددها إلا الله الواحد القهار، ولكن نذكر منها طرفًا ليكون إرشادًا لمن يريد النظر فيها والباحثين عنها، فنبدأ أولًا بصناعة العدد التي هي أول الرياضيات، فنقول:
إن الأصل المتفق عليه بين أهلها هو معرفتهم لماهية العدد وكيفية نشوئه من الواحد الذي قبل الاثنين، وعلمهم بأن العدد ليس هو شيئًا سوى كثرة الآحاد، يتصورها الإنسان في نفسه من تكرار الواحد في التزايد بلا نهاية، وعلمهم بأن تلك الكثرة كم بلغت لا تخلو من أن تكون أزواجًا وأفرادًا؛ آحادها وعشراتها ومئاتها وألوفها بالغًا ما بلغ.
وهذا هو الأصل المتفق عليه بين أهل صناعة الأرثماطيقي الذين لا يختلفون فيه.
وأما كمية أنواعها وخواص تلك الأنواع فهُم في معرفتها متفاوتو الدرجات، كل ذلك بحسب تفاوتهم في قوى نفوسهم وجودة بحثهم ودقة نظرهم وحسن تأملهم وكثرة اعتبارهم.
وهكذا أيضًا صناعة الهندسة فإن الأصل المتفق عليه بين أهلها ومعرفتهم بالمقادير الثلاثة، التي هي الخط والسطح والجسم، والأبعاد الثلاثة التي هي الطول والعرض والعمق وما يعرض فيها من الزوايا والأشكال والأوضاع وما شاكلها، فإن هذه الأشياء كلها كانت في أوائل عقولهم، وإن كانت عند غيرهم بخلاف ذلك.
فأما أنواع هذه الأصول وخواص تلك الأنواع وما يعرض فيها من المناسبات العجيبة وما ينتج عنها من المباحث الدقيقة، فهم فيها متفاوتو الدرجات بحسب تفاوت قوى نفوسهم فيها وجودة بحثهم عنها ودقة نظرهم فيها وشدة تأملهم لها.
وهكذا أيضًا حكم صناعة التنجيم، الذي يسمى علم الهيئة، فإن الأصل المتفق عليه بين أهلها هو معرفتهم بأن السماء كُرِيَّة الشكل، وأن الأرض كُرِيَّة أيضًا موضوعة في وسط السماء، وأن المركز واحد مشترك بها، وأن الأرض ثابتة، والسماء متحركة حولها على استدارةٍ كدورة الدولاب في كل يوم وليلة دورةً تامة.
وتركيب الأفلاك التسعة وتخطيط الدوائر العظام وقسمة البروج الاثني عشر، والكواكب السبعة السيارة والثابتة الباقية، وكيف تكون الأرض في مركز العالم؛ فإن هذه الأشياء كلها كأنها في أوائل عقولهم؛ إما تسليمًا أو استبصارًا أو برهانًا، وإن كان عند غيرهم بخلاف ذلك.
فإن هذه الأشياء أوائل في هذه الصنعة لتقررها واتفاق أهلها عليها، سواء كانوا في اعتقاد صحتها مقلدين لغيرهم مسلمين لهم، أو مستبصرين في ذلك يعلمونه ببراهين، وإن كان عند غيرهم بخلاف ذلك.
وأما معرفتهم بكيفية تركيب أفلاك التداوير والأفلاك الخارجة المراكز والأوج والحضيض والجيب والميل والعرض والطول، وما توصف به البروج من الأوصاف المختلفة، وما توصف به الأقاليم السبعة وأحوالها في الطول والعرض واختلاف الليل والنهار فيها، وما شاكل هذه المباحث؛ فإنهم في معرفتها متفاوتو الدرجات، كل ذلك بحسب تفاوت قوى نفوسهم وجودة بحثهم عنها ودقة معرفتهم فيها وشدة تأملهم لها.
وأيضًا حكم صناعة التأليف الذي يسمى الموسيقى، فإن الأصل المتفق عليه بين أهلها هو معرفتهم بالنسب التي هي العددية والهندسية والتأليفية؛ وذلك أن كل مصنوع مركَّب من أشياء مختلفة؛ لأنه لا يخلو تركيب أجزائه وتأليف بنيته من إحدى هذه الثلاث، فما كان منها تأليفه على النسبة الأفضل فإنه يكون أحكم إتقانًا وأجود هندامًا وأحسن نظامًا، وما كان على النسبة الأدون فهي بخلاف ذلك، وما كان بينهما فهو متوسط.
والناظرون في هذا العلم والصناعة هم في معرفته متفاوتو الدرجات بحسب تفاوت قوى نفوسهم وجودة قرائحهم، وصفاء أذهانهم وكثرة رياضاتهم، وطول دربتهم ونظرهم وبحثهم عنها وتأملهم لها.
وهكذا أيضًا حكم علم الطبيعيات؛ يعني بها الأجسام وما يعرض فيها من الأعراض المتفننة، وما يوصف بها من الصفات المختلفة، وهي كثيرة الفنون، ولكل فن منها أصول ولها فروع، ولكن الأصل الأول فيها كلها المتفق عليه بين أهلها هو معرفة خمسة أشياء؛ وهي: الهيولى والصورة والمكان والزمان والحركة؛ لأن هذه الأشياء الخمسة محتوية على كل جسم، فلكيًّا كان ذلك الجسم أو ما دونه من الأركان.
فأما الذي يتفرع من هذا الأصل فنوعان: أحدهما عالم السموات والأفلاك، والآخر عالم الكون والفساد الذي هو تحت فلك القمر. والأصل المتفق عليه بين أهل هذا العلم هو معرفتهم بأن حكم العالم بجميع أفلاكه وطبقات سمواته والقوى السارية فيها تجري مجرى جسم إنسان واحد وحيوان واحد، يتحرك عن محرك واحد بحركة واحدة.
وأما كيفية تركيبها وفنون حركاتها وما يختص كل واحد منها، فهم في معرفتها متفاوتو الدرجات بحسب قوى نفوسهم وشدة بحثهم عنها وجودة نظرهم فيها وشدة تأملهم لها.
وهكذا حكم الكون والفساد، فإن الأصل المتفق عليه بين أهلها فيها هو معرفتهم بالطبائع الأربع، التي هي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، والأركان الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض، وكيفية استحالة بعضها إلى بعض في بعض الأزمان وبعض المكان.
وأما فنون الكائنات منها في تلك الأماكن وفي تلك الأزمان وفي تلك الأجناس، فإنهم في معرفتها متفاوتو الدرجات بحسب قوى نفوسهم وجودة بحثهم ونظرهم وتأملهم.
واعلم يا أخي أن الكائنات التي هي من استحالة هذه الأركان أربعةُ أنواع: فمنها حوادث الجو وتغيرات الهواء، ومنها الكائنات التي في باطن الأرض المسماة المعادن، ومنها الكائنات على وجه الأرض التي تسمى النبات، ومنها الكائنات التي تسمى الحيوان، وكل جنس من هذه الأربعة فإن النظر فيه هو صناعة قائمة بنفسها.
فأما الأصل المتفق عليه في حوادث الجو بين أهل هذه الصناعة، فهو معرفتهم بطبيعة كرة النسيم وكرة الزمهرير وكرة الأثير والبخارين الصاعدين: الرطب واليابس من البحار والبراري.
فأما كيفية حوادث الكائنات منها والرياح والأمطار والبروق والرعود والبرود والثلوج والهالات والشهب وذوات الأذناب في هذه الأكروبين سطوحها المشتركة، فإنهم في معرفتها متفاوتو الدرجات، كل ذلك بحسب تفاوت قوى نفوسهم وجودة بحثهم ونظرهم وتأملهم.
وهكذا الأصل المتفق عليه في كون المعادن، وهو معرفتهم بالزئبق والكباريت اللذين هما عنصران ولباب جواهر المعدنية كلها.
وأما علة اختلاف بقاع الأرض والمواضع المخصوصة لها وفنون أنواعها، مثل: الذهب والفضة والنحاس والرصاص والأسرب والحديد والكحل والزرنيخ والشبوب والزاجات والأملاح والنفط والقار والإسفيذاج، وما شاكلها، وخواصها وتصاريفها؛ فهُم في معرفتها وعلمها متفاوتو الدرجات بحسب قوى نفوسهم وجودة تأملهم لها.
وهكذا أيضًا حكم النبات؛ فإن منه ما لَه حب أو بذر يزرع، ومنه ما هو أشجار تغرس، ومنه ما هو حشائش تنبت. وكذلك حكم الحيوان؛ فإن منها ما يتولد في الأرحام، ومنها ما يخرج من البيض، ومنها ما يكون من العفونات، فهذا هو الأصل المتفق عليه بين أهلها.
وأما معرفتهم بعلة اختلاف أنواعها وخواصها واختلافها وأفعالها ومتصرفاتها ومنافعها ومضارها، فإن أهلها فيها متفاوتو الدرجات، كل ذلك بحسب قوى نفوسهم فيها وجودة بحثهم عنها ودقة نظرهم وتأملهم فيها.
وأما علوم المنطق فهي نوعان: لغوي وفلسفي؛ فاللغوي مثل صناعة النحو، والأصل المتفق عليه بين أهلها هو معرفتهم بالأسماء والأفعال والحروف وإعرابها من الرفع والنصب والخفض، ومثل صناعة الخطب التي الأصل فيها هو معرفة السجع والفصاحة وضرب الأمثال والتشبيهات، ومثل صناعة الشعر التي الأصل فيها معرفة المفاعيل والأسباب والأوتاد والحروف المتحركات والسواكن.
فأما النظر في فروعها ومعرفة المنزحفات منها والعويص وعللها، فهُم فيها متفاوتو الدرجات بحسب نفوسهم وطول دربتهم ودوام رياضتهم.
وهكذا أيضًا المنطق الحكمي هو فنون شتى؛ منه صناعة البرهان، ومنه صناعة الجدل، ومنه صناعة السفسطائي، يعني المغالطين.
فأما صناعة البرهان، فإن الأصل المتفق عليه بين أهلها هو معرفتهم بمعاني الستة الألفاظ التي في إيساغوجي، والعشرة التي في كتاب قاطيغورياس والعشرين كلمة التي في باريميناس، والسبعة التي في أنولوطيقا.
فأما ما يتفرع من فنون المعاني وما يعرض فيها من غرائب المباحث، فبَحْر عميق قد تاه فيه أفهام كثير من الناظرين فيها، وتحيرت عقول كثير من المباحثين عنها، لدقة المعاني لهذه الصناعة وعجيب أصولها وكثرة فروعها وبُعد مرامي أهلها؛ لأن من هذه الصناعة تُعرف آداب الفلسفة وأدب الحكم وميزان العقل ومقاييس الحقائق التي تسمى البرهان.
فقد تبين مما ذكرنا أن لكل علم وصناعة أصولًا متفق عليها بين أهلها، وكأنها في أوائل عقولهم ظاهرة بينة، وإن كان غيرهم بخلاف ذلك، مثال ذلك قول المهندسين: إن كل ضلعين من أضلاع المثلث مجموعين هما أطول من الباقي؛ أي من الضلع الثالث، فإن هذه الحكومة عندهم كأنها في أولية عقولهم ظاهرة بينة، وأما قولهم «إن الضلع الأطول من كل مثلث يوتر الزاوية العظمى فهو أدق وأخفى قليلًا» فيحتاج فيه إلى تأمل، وأما قولهم «إن الزوايا الثلاث من كل مثلث مساوية لزاويتين قائمتين» فيحتاج فيه إلى برهان ومقدمات.
وهكذا أيضًا صناعة المنطق، فإن فيها أشياء كأنها في أوائل عقولهم ظاهرة بينة، وهو قولهم: الضدان لا يجتمعان في شيء واحد في زمان واحد، فإن هذه الحكومة بينة ظاهرة.
وأما التي هي أدق من هذا ويُحتاج فيها إلى البرهان، فهي مثل قولهم: كون كل شيء فساد لشيء آخر.
وعلى هذا المثال يكون حالهم في المقولات عند أهل كل صناعة وعلم وأدب ومذهب، يوجد أشياء كأنها في أوائل عقولهم وأشياء أخر مثل ثوانٍ وثوالث وروابع بالغًا ما بلغ، مثال ذلك أن الحكومات التي في كتاب المجسطي على هيئة الأفلاك في تركيبها هي بعد النظر في علم المناظر ومعرفة الأبعاد والأجرام، وعلم المناظر بعد علم الهندسة والنظر في كتاب إقليدس، وعلى هذا المثال أوائل كل صنعة مأخوذ من صناعة أخرى قبلها، وأن علم البرهان بعد المعقولات والمحسوسات.
واعلم أن كل صناعة مأخوذة من صناعة أخرى كما تقدم ذكره، وأن أهل كل صناعة أو علم أو مذهب هم بصناعتهم وأصولها وفروعها أعلم وأعرف من غيرهم؛ وإنما ذلك لتعلمهم لها ودربتهم فيها وطول تجاربهم إياها.
فأما سبب اختلافهم في فروعها فهو من أجل تفاضلهم فيها، وأن المتعلم المبتدي بها لا يمكنه أن يسأل الفاضل الكامل فيها ويعارضه ويطالبه بالدليل والحجة، ويناقضه من غير بصيرة ولا بيان، وهذه البلية العظمة في الصنايع والعلوم والمحنة على أهلها الفاضلين فيها، ولكن من أشد بلية على الصناعة وأعظم محنة على أهلها، هو أن يتكلم عليها مَن ليس من أهلها ويحكم في فروعها ولا يعرف أصلها؛ فيسمع منه قوله، ويقبل منه حكمه، وهذا الباب من أجلِّ أسباب الخلاف الذي وقع بين الناس في آرائهم ومذاهبهم؛ وذلك أن قومًا من القصاص وأهل الجدل يتصدرون في المجالس، ويتكلمون في الآراء والمذاهب، ويناقضون بعضها بعضًا، وهم غير عالمين بماهيتها، فضلًا عن معرفتهم بحقائقها وأحكامها وحدودها، فيَسمع قولَهم العوامُّ، ويحكمون بأحكامهم، فيَضلون ويُضلون وهم لا يشعرون.
واعلم أن الجدل هو أيضًا صناعة من الصنائع، ولكن الغرض منها ليس هو إلا غلبة الخصم والظفر به كيف كان؛ ولذلك يقال: الجدل فتل الخصم عما هو عليه؛ إما بحجة أو شبهة أو شعبة، وهو الثقافة في الحرب، والحرب — كما قيل — خدعة، وهو يشبه الحرب والمعركة؛ إذ الحرب خدعة.
فصل
ثم اعلم أن الأصل في هذه الصناعة المتفق عليها بين أهلها هو معرفة الدعاوى والسؤالات والجوابات والدليل.
فأما كيفية السؤالات وأجوبتها والاستدلالات بالشاهد على الغائب، وبالظاهر على الباطن، وبالمحسوسات على المعقولات، والحكم على الكل باستقراء الأجزاء في أي شيء يجوز، وفي أي شيء لا يجوز، وكيف اطراد العلة في معلولاتها، وكيفية قياس الفروع على الأصول ومعارضة الدعوى بالدعوى، والدليل بالدليل، وقلب المسألة على الأصل، ومناقضة أصلها لفروعها، ومقايسة الأصل بالأصل والفرع بالفرع، ولوازم الشناعات وما يعرض فيها وفي معرفتها لأهلها من الانقطاع والشكوك والحيرة؛ فهُم فيها متفاوتو الدرجات كل ذلك بحسب قوى نفوسهم وجودة ذكائهم ودقة نظرهم وبحثهم ومكابرتهم ووقاحتهم وشغبهم.
ثم اعلم أنه ليس من صناعة ولا علم ولا أدب يعرض لأهله فيها من الحيرة والدهشة والشكوك والظنون والخطأ والعدوان والبغضاء بينهم، ما يعرض لأهل صناعة الجدل فيما يعتقدون فيها ويجادلون عنها؛ والعلة في ذلك أسباب شتى: منها أن جميع الصنايع والعلوم والمذاهب والآراء موضوعة لهم، يتكلمون عليها، ويعارضون فيها، ويجادلون عنها قبل النظر والبحث عنها والعلم فيها. وعلة أخرى أنه يمكن أن يداخلهم في صناعتهم مَن ليس منهم بالسؤال لهم والمعارضة في دعاويهم والمناقضة لأجوبتهم؛ لأن السؤال أسهل من الجواب، والمعارضة دعوى تحاذي دعوى، والمناقضة أسهل من إثبات الحجة؛ لأنها إفساد، والإفساد أسهل من الإصلاح في أكثر الأشياء. وخصلة أخرى أنهم ربما يكونون مقلدين في أصول ما يجادلون فيه من المذاهب، فيبصرون الفروع، ومن يكون في الأصل على التقليد كيف يمكنه أن يبصر الفروع على تبصرة. وخصلة أخرى، أن أكثرهم ربما جادل فيصرُّ الرأي والمذاهب، لا على سبيل الورع والتدين وطلب الحق، لكن على سبيل التعصب والحمية، والتعصب والحمية يعميان عن الحق ويضلان عن الصواب.
ثم اعلم أنه ليست من طائفة تتعاطى العلم والأدب والكلام أشر على العلماء، ولا أضر على الأنبياء، ولا أشد عداوة لأهل الدين، وأفسد للعقول السليمة من كلام هذه الطائفة المجادلة الظلمة، وخصوماتهم في الآراء والخصومات والمذاهب؛ وذلك أنهم أن كانوا في أزمان الأنبياء عليهم السلام وعند مبعثهم، فهم الذين يطالبونهم بالمعجزات ويعارضونهم بالخصومات، مثل ما قالوا للنبي عليه السلام: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا، وقالوا لنوح عليه السلام: وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا وهم الذين إذا مروا بالمؤمنين يتغامزون، وقال تعالى في ذمهم: مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ، فهذه حال من كانوا يعارضون أهل الدين في أزمان الأنبياء عليهم السلام.
فأما إذا كانوا في غير أزمان الأنبياء فهم الذين يعارضون أهل الدين والورع بالشبهات، وينبذون كتب الأنبياء عليهم السلام وراء ظهورهم، يفرعون الآراء والمذاهب بعقولهم الناقصة وآرائهم الفاسدة، ويضعون لمذهبهم قياسات مناقضة واحتجاجات مموهة، ويعارضون بها العقلاء من الأحداث والعامة، فيضلونهم عن سنن دياناتهم النبوية، ويعدلون بهم عن موضوعات الشرائع الناموسية.
ثم اعلم أنه ليس من صناعة بين أهلها من التفاوت ما بين أهل هذه الصناعة؛ وذلك أنك تجد فيهم من يكون له جودة عبارة وفصاحة كلام وسحر بيان، يقدر معه على أن يصور بوصفه البليغِ الحقَّ في صورة الباطلِ والباطلَ في صورة الحقِّ، وهو مع ذلك جاهل القلب عن حقائق الأشياء، بعيد الذهن عن المعارف.
وروي عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «أخوف ما أخاف على أمتي رجل منافق، عليم اللسان غير حكيم القلب، يغيرهم بفصاحته وبيانه، ويضلهم بجهله وقلة معرفته.»
وتجد فيهم أيضًا من يجادل ويحتجُّ ويناظر، كلامه ينقض بعضه بعضًا ولا يدري بذلك، فإذا نبه عليه لم يشعر به، وتجد فيهم أيضًا الرجل العاقل الذكي المحصل في أشياء كثيرة من أمور الدنيا، فإذا فتشتَ اعتقاده في أشياء بينة ظاهرة في العقول السليمة من الآراء الفاسدة، وجدتَ رأيه واعتقاده في تلك الأشياء أسخف وأقبح مِن رأي كثير من الجهال والصبيان.
والعلة في ذلك أسباب شتى: منها شدة تعصبه فيما يعتقده بقلبه من غير بصيرة؛ وأخرى إعجابه بنفسه في اعتقاده؛ وأخرى اعتقاده الأصول، خفيٌّ فيها خطؤه، بيِّنٌ ظاهر الشناعة في فروعها، فهذا يلزم ذلك الشناعات في الفروع مخافة أن تنتقض عليه الأصول، ويطلب لها وجوه المراوغة عن إلزام الحجة عليه، تارة يشغب، وتارة يموه، وتارة يروغ في الجواب والإقرار بالحق، ويأنف أن يقول: «لا أدري، والله ورسوله أعلم!» كما كان في زمان النبي ﷺ إذا سئلوا عما لا يدرون قالوا: «الله ورسوله أعلم» اقتداءً بأمر الله كما قال: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ، وقال: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ.
ولكن كثيرًا من المجادِلة يعتقد أن لا رجوع له إلى الله على الحقيقة، ولا يرجو لقاءه، ولا يجوز رؤيته؛ لَمَّا نظر بعقله الناقص أدَّاهُ اجتهاده إلى هذا الرأي، فترك ما ذَكَرَ الله في كتابه في عدة مواضع، وذلك قوله: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ، وقوله: إلى الله مَرجِعُكم جميعًا ثم يحكم بينكم يومَ القيامة، وقوله: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ، وقال: مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ، وقال: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ، وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ، وقال المسيح عليه السلام: أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، وآيات كثيرة في هذا المعنى.
ولكن من هؤلاء من يحتجُّ ويقول معنى الرجوع إلى الله أي إلى ثوابه، ولو أنهم اعتبروا سنن الديانات النبوية والموضوعات الناموسية الإلهية؛ كيف فرض فيها واضعوها في كل سبعة أيام يومًا لِترك الأعمال والاشتغال لأمور الدنيا، والفراغ للعبادة والاجتماعات في بيوت العبادات من المساجد والبِيَع والكنائس والهيكل، بالصوم والصلاة والقرابين في الأعياد، والبروز إلى الصحراء والمنابر والخطب، والسكوت والاستماع للمواعظ والتذكار للأمر المعاد بأن هذه كلها إشارات ومرامي أحوال القيامة، التي في سبعة آلاف سنة تعرض للنفوس الجزئية المتجسدة لدى النفس الكلية، لفصل القضاء ليحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون، فلو تركوا جدالهم واشتغلوا بما ينفعهم من أعمالهم الصالحة، والتخلق بالأخلاق الجميلة، وطلبوا الآداب المحمودة؛ لكان خيرًا لهم من الجدال والخصومات والغضب والتعصب والعداوات.
ولكن لاستيلاء المريخ عليهم في مواليدهم يحثهم على ذلك، وقوة المرارة تنمي إلى أمزجتهم فيقيمهم على مثلها، فتطول صحبتهم مع أستاذيهم ورسائلهم معودون ذلك ودوامهم فيما يتدربون به، فيصير عادة لهم لا يصبرون عنها!
فلا تطمع يا أخي في صلاحهم، وإنما أكثرنا ذِكر هذه الطائفة المجادِلة لأن كثيرًا من أسباب الخلاف في الآراء والمذاهب من قِبلهم يقع، وهم السبب فيه لأنهم يتكلمون الكلام والجدال والحجاج في دقائق العلوم، ويتركون تعلم أشياء واجب عليهم تعلمها وهي بينة ظاهرة جلية وهم يجهلونها جملة.
(١٦) فصل في بيان آداب الجدال
فنقول: اعلم أن كل مسألةٍ تَنازَع فيها اثنان أو جماعة فلا يخلو من أن يكونوا من أهل تلك الصناعة التي المسألةُ منها أو يكونوا من غير أهلها؛ فإن كانوا من غير أهلها فكلامهم فيها على غير أصل مقرر منهم، وكل كلام ومنازعة في شيء على غير أصل مقرر منهم فلا تحصيل لكلامهم فيه ولا حجة لدعاويهم؛ وإن كان أحدهما من غير أهلها فإن منازعته لصاحبه تَعدٍّ منه وظلم، وكلام صاحبه معه أيضًا تخلُّف منه؛ إذ كان يجادل مع من ليس من أهل صناعته. وإن كان من أهل تلك الصناعة فلا يخلو من أن يكونا متساويَي الدرجة فيها أو متفاوتين؛ فإن كانا متفاوتين فحكمهما مثل ما تقدم ذكرهما من ذِكر حكم الأولين؛ وإن كانا متساويي الدرجة في تلك الصناعة، فسبيلهما أن يؤاخذا فيما اختلفا فيه إلى قوانين تلك الصناعة وأصولها، ويقيسا عليها تلك المسألة وإن كانت من فروعها.
وإن لم يكن في قوة نفوسهم استخراجها، فسبيلهما أن يتحاكما إلى من هو أعلى درجة منهما في تلك الصناعة ليحكم بينهما.
وإن لم يجدا مَن يحكم بينهما فيرضيان بحكمه ولا في قوة نفوسهم استخراجها من الأصول، فليس لهما إلا الترك لتلك المسألة والسكوت عنها. فإن لم يفعلا ما وصفنا في الجدال والخصومة، فسيكون ذلك سبب العداوة والبغضاء بينهما، كلما ازدادوا إلحاحًا ازدادوا خلافًا على خلاف، وعداوة على عداوة، وبغضًا إلى يوم القيامة، وتكون تلك حالهم، وهذا من أحد أسباب اختلاف العلماء في الآراء والمذاهب.
فأما بيان فنون القياسات، فاعلم حسب ما نبين ها هنا؛ وذلك أن الأمور التي يعلمها الإنسان ثلاثة أنواع: ماض ومستقبل وحاضر، فعلمه بما هو حاضر في الوقت موجود في طريقة إحدى الحواس، والحواس قد تخطئ وتصيب في إدراكاتها محسوساتها لعلل شتى، قد بيَّنا طرفًا فيما قد تقدم ذكره.
وعلمه بما كان من الأمور ومضى مع الزمان، وانقضى مع الأيام أو غاب عنه بالمكان، فهو بطريق السمع والإخبار، والمخبر قد يكون صدوقًا وقد يكون كذوبًا، وهكذا أيضًا رُب مستمع مكذب بالصدق، ورُب مستمع مصدق بالكذب. فأما علمه بما سيكون أو غائب عنه بالمكان، فقد يكون بعضًا بالقياس، والقياس قد يكون صحيحًا وقد يكون سقيمًا.
وهكذا المستعمل للقياس قد يكون جاهلًا باستعماله كما بيَّنا في قياس الصبيان والجهال والعوام وكثير من الخواص، وهذا أيضًا أحد أسباب اختلاف العلماء في الآراء والمذاهب.
ثم اعلم أنك إذا اعتبرت ودققت النظر تَبيَّن أن أكثر علم الإنسان إنما هو بطريق القياس، والقياسات مختلفة الأنواع، كثيرة الفنون، كل ذلك بحسب أصول الصنائع والعلوم وقوانينها.
مثال ذلك أن قياسات الفقهاء لا تشبه قياسات الأطباء، ولا قياس المنجمين يشبه قياس النحويين ولا المتكلمين، ولا قياسات المتفلسفين تشبه قياسات الجدليين، وهكذا قياسات المنطقيين في الرياضات لا تشبه قياسات الجدليين ولا تشبه قياساتهم في الطبيعيات ولا في القياسات والإلهيات.
وهكذا الحكم في سائر الصنائع والعلوم، وسنذكر طرفًا من ذلك في موضعه، ولكن نقول أولًا: ما القياس؟ وذلك أن القياس هو الحكم على الأمور الكليات الغائبات بصفات قد أدركت جميعها في بعض جزئياتها.
مثال ذلك: لما أدرك الإنسان أن النيران الجزئية حارة، حَكَمَ بأن كل نار حارة أيضًا الغائبة قياسًا على ما أدرك حسًّا، وهكذا حكم على رطوبة الماء من جزئياتها على كلياتها بالحسن جزئية والعقل كليًّا.
واعلم أن هذا الحكم وهذا القياس لا يطَّرد في كل شيء ولا في كل مكان؛ وذلك أن يكون في كثير من البلدان أناس عقلاء لا يجدون من الماء إلا عذبًا، فإذا حكموا بما أدركوا على أن كل ماء في الأرض عذب، فقد أخطئوا وهم لا يشعرون، وعلى هذا المثال يكون الخطأ والصواب في القياس الذي يطَّرد في كل شيء.
وإذا تأملتَ يا أخي، وجدتَ أكثر اختلاف العلماء وخطئهم إنما في استعمال القياس من هذا الفن، يكون ويخفى وهم لا يشعرون، وإن علموا أيضًا لا يحسنون كيف يميزون من الأشياء التي يطَّرد فيها.
والقدماء الحكماء قد تعبوا في استخراج هذا حتى عرفوه ووضعوه في كتبهم بخطب طويل، لا يصبر على طلب معرفته كل أحد من الناس إلا المحبون للحكمة الطالبون للحقائق، وقد ذكرنا طرفًا من ذلك في رسائلنا المنطقية، ولكن نذكر منها طرفًا في هذا الفصل مثالًا واحدًا.
اعلم يا أخي أن القياس الذي يطَّرد الحكم فيه بالجزء على الكل، إنما هو في الصفات الذاتية للشيء لا في الصفات العرضية، والصفات الذاتية هي التي إذا بطلت بطل الموصوف، وإذا ثبتت ثبت الموصوف؛ وهي الصورة المقومة، والصفة العرضية هي التي إذا بطلت لم يبطل الموصوف.
والمثال في ذلك رطوبة الماء وعذوبته، فإن الرطوبة إذا بطلت لا يكون الماء موجودًا.
فأما العذوبة فليس من الضروري إذا بطلت بطل الماء، فالرطوبة هي الصورة المقومة للماء، والعذوبة هي الصورة المتممة له.
فعلى هذا المثال ينبغي أن يعتبر الحكم في القياس لا يصيب ولا يخطئ.
واعلم أن الحكماء الأولين لما أثبتوا الذي ذكرنا، وعلموا أن أكثر علمهم إنما هو بطريق القياس، وقد يدخل الخطأ والزلل في القياس — كما بيَّنا — طلبوا لذلك حيلة يأمنون بها الخطأ والزلل في القياس، وسموها البرهان وميزان العقل من أجل طلب الحقائق وإصابة الصواب وتجنُّب الزور والغرور بما لا حقيقة له، لكنَّ منهم مصيبًا ومنهم مخطئًا وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.
ثم اعلم أن كثيرًا من أهل الجدل يظنون ويحكمون بحكمهم، وظنونهم أن الله سبحانه وتعالى كلف عباده طلب الحقائق وإصابتها جميعًا، وجعل لهم وعيدًا إن أخطئوا أو لم يصيبوا، وليس الأمر كما ظنوا؛ لأنه قال: لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا والوسع دون الجهد والطاقة، وإصابة الحق ليس في وسع الطاقة، فكيف؟! ولا في وسعها، وإنما كلف الله العباد طلب الحقائق والجهد في الطلب.
فأما إصابتها فالله يهدي من يشاء إليها، كما وعد جل جلاله: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا، وإنما شرط بقوله فينا لأن من الناس من لا يكون جهده في الطلب لوجه الله، ولكن لأسباب أخر يطول شرحها، فمن أجل ذلك لا يستحق الهداية ولا يستأهل الإصابة.
ثم اعلم أن هذه المسألة من إحدى مسائل أمهات الخلاف؛ وذلك أن كثيرًا من الناس من يقول أو يظن أنه مستغنٍ عن العلوم في طلب الحقائق بما رزقه الله تعالى من الفهم والتمييز والذكاء والاستطاعة، فيتَّكل على حوله وقوته وينسى ربه والاستعانة به والسؤال له والتوفيق، فيخذل ويحرم التوفيق كما قال الله تعالى: نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ.
(١٧) فصل في بيان أنواع القياسات
فنقول: اعلم أن الموازين التي وضعها الحكماء ليعرف بها الخطأ والزلل في القياس مختلفة الفنون، وذلك بحسب الصنائع والعلوم والقوانين كما هو موجود في اختلاف موازين أهل البلدان النائية، ومكاييلهم معروفة بينهم بحسب موازين أهل البلدان في موضوعاتهم، ولكن مع اختلافها كلها فالغرض المطلوب منها هو إصابة الحق والعدل والإنصاف فيما يتعاملون بينهم في الأخذ والإعطاء، فهكذا أيضًا غرض الحكماء في استخراج البرهان الذي يسمى ميزان العقل، وهو طلب الحقائق وإصابة الصواب وتجنب الزور والخطأ باستعمال القياسات، ولكن منهم من يصيب ومنهم من يخطئ أيضًا في استعمال هذه الموازين، وذلك من إحدى ثلاث خصال: إما بجهله بحقيقة هذه الموازين وكيفية استعمال هذا الميزان، أو لغرض من الأغراض في موازين الناس ومكاييلهم المعروفة بينهم والمستعملين لها كيف يدخل الخطأ والزلل عليهم، وإما بجهلهم بصحة الميزان وبكيفية استعمالهم له أو لغرض من الأغراض، فأما واضعوها فما قصدوا في وضعها إلا لطلب الحق والصواب والعدل والإنصاف.
واعلم أن الموازين التي وضعها الحكماء في طلب حقائق الأشياء في العلوم والصنائع كثيرة لا يحصي عددها إلا الله الواحد القهار، ولكن كلها لا تخرج عن ثلاثة أنواع: إما أن يستعمل بالأيدي أو باللسان أو بالضمير، والتي تستعمل بالأيدي كالقبان والشاهين والمكاييل والموازين والأذرع وما شاكلها، وبالجملة كل مقياس يستعمله الناس في معاملاتهم في الأخذ والإعطاء في طلب العدل والإنصاف بينهم.
ومنها ما يستعمله المنجمون وأصحاب الرصد وقسام المياه، كالبركار والإصطرلاب وآلات الرصد، كل ذلك في طلب معرفة أجزاء الزمان ومقادير الأوقات.
ومنها ما يستعمله المساح والقسام والمهندسون في طلب معرفة الأجرام والأبعاد كالذراع والباب والأشل وذوات الشفتين وما شاكلها.
ومنها ما يستعمله الصناع في صنائعهم كالبركار والمسطرة والكونيا والشاقول والزاوية وما شاكلها، كل ذلك لمعرفة الاستواء والاعوجاج.
ومنها ما يستعمله أهل كل صناعة على حدتها، فأما الذي يستعمله باللسان فمثل العروض التي يستعملها الشعراء والخطباء والنحويون والموسيقيون، فأما التي تستعمل بالضمير فهي مثل ما يستعمله الفقهاء الحكماء عند تفكرهم في المعلومات المحسوسات والمشاهدات، واستخراجهم بها الخفيات المعقولات وصحة القياسات في إدراك المبرهنات.
ثم اعلم أن هذه المقاييس كلها طرقات إلى المعلومات، وهذه الموازين حكام وعدول، نصبها الباري تعالى بين خلقه ليتحاكموا إليها في طلب العدل والإنصاف والحقائق والاستواء، ويجتنبون الزور والخطأ والظلم والجور، ويرفعون بها الخلاف والمنازعة من بينهم بحرز الظنون وتخمين الرأي.
ثم اعلم أنه قد يقع الخلاف والمنازعة بين المستعملين للقياس والموازين أيضًا من جهات أربعة: إما بقصد من المستعملين لها دغلًا وغشًّا لأغراض لهم، وإما بسهوٍ منهم، وإما بجهلهم بكيفية استعمال الميزان، وإما أن يكون القياس والميزان معوجًّا غير مستوٍ. أجل هذه الوجوه يقع الخلاف والمنازعة بين أهلها، فهذه أيضًا أحد أسباب الخلاف بين العلماء في آرائهم ومذاهبهم.
ثم اعلم أن هذه الموازين والمقاييس التي تَقدَّم ذكرها كلها دلالات ومثالات وإشارات إلى الموازين التي ذكرها الله تعالى بقوله: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا.
ثم اعلم أن هذا الميزان هو آخر الموازين كلها، فمن رجحت حسناته في هذا الميزان فقد أفلح وربح سعادة أبدية وفاز فوزًا عظيمًا، ومن خفت موازينه فقد خاب وخسر خسرانًا مبينًا.
فانظر لنفسك يا أخي وبادِرْ واعمل عملًا صالحًا، وتزود فإن خير زادك التقوى، وحاسِب اليوم نفسك قبل أن تُحاسَب، فهو أيسر لحسابك، وكُن وَصِيَّها تَأمَنْ تفريط وصيِّك بعدك، وَزِنْ أعمالك اليوم ولا تغفل قبل أن تُحاسَب بموازين الغد، فهو أثقل لوزن حسناتك، إن كنت تحسن هذا الوزن وهذا الحساب كيف يكون، وإن كنت لا تدري ولا تحسن فهلمَّ إلى مجلس إخوان لك نصحاء أصدقاء كرام فضلاء ليعرفوك كيفية محاسبة نفسك ووزن حسناتك، فإنهم أهل هذه الصناعة وقد قيل: «استعينوا في كل صنعة بأهلها.»
وقد وضعنا هذا الحساب وهذا الميزان في رسالة البعث والقيامة، فاعرفها من هناك، إذا وقفت على جبل الأعراف مع أهل المعارف الذين ذكرهم الله تعالى ووصفهم بقوله: وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، ثم وصفهم بقوله: رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ.
فلا تغتر يا أخي بقول من يقول ويظن بأن هذا يعرف بعد الموت هيهات هيهات أولئك ينادون من مكان بعيد كيف يعرف بعد الموت والله تعالى يقول: وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا.
نبهك الله أيها الأخ من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، وأحيا قلبك بنور المعارف وجعلك من الذين ذكرهم بقوله: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا، وظلمات الجهالات المتراكمات بعضها فوق بعض على قلوب الغافلين، كما ذكر في كتب النبوات من المعارف الشريفة والأسرار المكنونة التي لا يمسها إلا المطهرون من أدناس الشهوات الطبيعية والغرور باللذات الجرمانية الذين ذمهم الله بقوله: أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ، وقال: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا، وقال: وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا، وقال: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا، وآيات كثيرة في القرآن في ذم المريدين للدنيا ومدح المريدين للآخرة، وفقك الله لإفادة الدار الآخرة وجعلك من أهلها وجميع إخواننا.
وإذ قد تبين بما ذكرنا طرفًا من مقاييس أهل الصنائع والعلوم وموازين الحكماء فيها، نريد أن نذكر طرفًا من مذاهبهم وآرائهم، وبخاصة ما كان في أمر الدين؛ إذ كان هذا الفن من المباحث والمطالب ومن أشرف الصنائع البشرية، وألطف العلوم الإنسانية، وأعجب المعارف وأعرف الإدراكات، وأهلها أعقل الناس، ومدركاتهم أكثر من المعلومات؛ وذلك أن هذه الدرجة أحق درجة يبلغ إليها العقلاء في طلبهم العلوم والمعارف، وهذا البحر من العلم أوسع أقطارًا، وقعره ولجُّه أعمق إغمارًا، وجواهره أنفس أقدارًا، وسالكوه أبعد مرامًا، وربحهم أكثر تزايدًا وأحزانهم أعظم مصيبة من سائر ما تقدم ذكره؛ لأن من أرشد في هذا الطريق فسيرته سيرة الملائكة، ومن ضل عنه سلك به مسلك الشياطين، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
وسنبين صحة ما قلنا وحقيقة ما وصفنا عند ذكرنا الآراء الحكمية والمذاهب البدعية الفرقية والديانات النبوية والمنهاجات السنية والسير الملكية والمقاصد الربانية.
(١٨) فصل في أجناس الآراء والمذاهب
فنقول: اعلم أن الآراء الفاسدة واختلاف العلماء فيها منها ما هو من أمر الدين والشريعة وسننها وما يتعلق بها من العلوم والأحكام، ومنها ما هو في الآداب والرياضيات والعلوم والصنايع مما ليس له تعلق بأمر الدين، مثل الحساب والهندسة والنجوم والنحو والطب وما شاكلها.
فأما التي لها تعلق بأمر الدين فهي كثيرة لا يحصي عددها إلا الله، ولكن يجمعها كلها نوعان: حكمية ونبوية. ونريد أن نذكر أصول هذه الآراء والمذاهب وبعض فروعها مختصرًا أوجز مما يمكن، وإذ كان الشرح والاستقصاء يطول فنبدأ أولًا في بيان الآراء الحكمية ومذاهبها، إذ كنا قد بيَّنا طرفًا من الآراء النبوية في رسالة النواميس الإلهية والمذاهب الربانية، ولكن نريد أن نذكر من ذلك ما لا بُدَّ في هذا الفصل جملا قبل ذكرنا الآراء الحكمية والمذاهب البدعية؛ ليكون الناظر فيها يحفظها ويعتقدها، ويتعلق بقلبه قبل نظره في الآراء الحكمية والمذاهب البدعية والبحث عنها والاحتجاجات عن أهلها المفسدة للعقول السليمة الغير المرتاضة.
فأما بيان ماهية الخصال المانعة للإنسان عن الشرور حسبما نبين ها هنا، وذلك أن الناس مختلفون في طباعهم وأخلاقهم وأعمالهم وعاداتهم وعلومهم وصنائعهم، ذوو فنون شتى لا يحصي عددهم إلا الله تعالى، ولكنْ منهم خير وشرير، فنقول: أشر الناس من لا دين له ولا يؤمن بيوم الحساب.
والعلة في ذلك أن الإنسان لما خلق مستطيعًا لعمل الخير ممكنًا به، وهو بتلك الاستطاعة بعينها يقدر أن يعمل الشر لأسباب شتى ويمنعه عنه علل عدة، وقد بيناها في رسالة الأخلاق، ولكنَّ أمنعَ الخصال للإنسان عن الشر وأقمعها عنه الدينُ وتوابعه من الورع والتقى والحياة والمروءة والرحمة والخوف، وما شاكلها من خصال الدين والإيمان؛ فمَن لا يؤمن بيوم الحساب ولا يرجو الثواب ولا يخاف العقاب، فهو لا يمتنع عن الشر جهده وطاقته، سيما إذا دعته إليه الأسباب وأمكنه تجنبها في الظاهر مخافة للناس، فهو لا يتجنبها في السر.
واعلم أن الدين هو شيئان اثنان: أحدهما هو الأصل وملاك الأمر، وهو الاعتقاد في الضمير والسر؛ والآخر هو الفرع المبني عليه القول والعمل في الجهر والإعلان، ونحتاج أن نشرحهما جميعًا حسب ما جرت عادة إخواننا الكرام الفضلاء، فنبدأ أولًا بذكر الاعتقادات؛ إذ كانت هي الأصول والقوانين فيما هو غرضنا ومقصودنا في هذا المقام، كما قيل: «إنما الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى.»
(١٩) فصل في بيان ماهية أجود الآراء وخير الاعتقادات
فنقول: اعلم أن اعتقادات الناس كثيرة لا يحصي عددها إلا الله تعالى، ولكن لا تخرج كلها من ثلاثة أنواع: فمنها ما يصلح للخاص دون العام، ومنها ما للعام دون الخاص، ومنها ما بين الخاص والعام.
ونريد أن نذكر في هذا الفصل ما يصلح للخاص والعام جميعًا أن يعتقدوه؛ إذ كان القسمان الآخران كثيرَي الأنواع والفروع التي يطول شرحها، فنقول:
اعلم أن من أجود الآراء وأنفع الاعتقادات وما يصلح لجميع الناس من الخاص والعام أن يعتقدوه ويقروا به؛ القول بحدوث العالم، وأنه مصنوع، وأنه له بارئ حكيم، وصانع قديم، وخالق رءوف رحيم، وأنه قد أحكم أمر عالمه وأتقن أمر خلقه على أحسن النظام والترتيب، ولم يترك فيه خللًا واعوجاجًا البتة، فإنه لا يجري في عالمه أمر، ولا يحدث حدث صغير ولا كبير، دقيق ولا جليل؛ إلا هو يعلمه قبل كونه، لا تخفى عليه خافية، ولا يعزب عنه مثقال ذرة، وأن له ملائكة هم خالص عباده وصفوة بريته، نصبهم لحفظ عالمه، ووكلهم بتدبير خلائقه، لا يعصونه طرفة عين مما نهاهم عنه ويفعلون ما يؤمرون، وأن له خواصَّ من بني آدم اصطفاهم وقربهم، وجعلهم وسائط بين الملائكة وبين خلقه من الجن والإنس وسفراء له، وأنه أمر عباده بأشياء إذا فعلوها فهو خير لهم وأنفع للجميع، ونهاهم عن أشياء إن لم ينتهوا عنها صرفهم عن الأنفع وفاتهم الأفضل، وأنه لم يأمرهم شيئًا لا يطيقونه ولا يفعلون شيئًا مما هو لا يعلمه، وأنهم قاصدون نحوه متوجهون إليه، منذ يوم خلقهم ينقلهم حالًا بعد حال من الأنقص إلى الأتم، والأدون إلى الأكمل، ومن الأدنى إلى الأفضل، إلى يوم يلقونه ويشاهدونه فيوفيهم حسابهم.
ثم اعلم أنه ليس إلى معرفة هذا الرأي سبيل، وإلى هذا الذي ذكرنا وحقيقة ما وصفنا طريق إلا شيئان اثنان؛ أحدهما الاستبصار والمشاهدة بعين البصيرة، واليقين بالقلب الصافي من الشوائب للنفس الزكية النقية من الذنب، بعد تأمل شديد للمحسوسات، ودقة نظر في المعقولات، ودراية بالرياضيات، وبحث عن القياسات، كما فعلت القدماء الحكماء الموحدون الربانيون، وإقرار باللسان وإيمان بالقلب وتسليم بالقول، كإقرار الملائكة بها إلهامًا وتأييدًا، وكإقرار الأنبياء للملائكة وحيًا وأنباءً، أو كإقرار المؤمنين للأنبياء إيمانًا وتسليمًا، وكإقرار العامة والأتباع للخواص والعلماء تقليدًا وقولًا، أو كإقرار الصبيان للآباء والمعلمين تعليمًا وتلقينًا.
فهذا الذي ذكرناه هو أحد أركان الدين، وهو الاعتقاد الصحيح، وأما الركن الآخر الذي هو الطاعة، فهو الانقياد من المأمورين والمرءوسين للآمرين الناهين.
ثم اعلم أن الأوامر والنواهي تختلف بحسب مراتب الآمرين والمأمورين في أحوالهم، فمن ذلك طاعة الأولاد للآباء والأمهات فيما يأمرونهم به مما فيه صلاحهم، وينهونهم عنه مما فيه فسادهم وهلاكهم وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا، وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا، ومنه طاعة الصبيان للمعلمين في قبول التأديب فيما هو صلاح لهم، ومنها طاعة التلامذة للأستاذين في قبولهم تعليم الصنائع لهم، ومنها طاعة الأزواج لبعولتهن فيما يأمرونهن من لزوم المنزل والتصون الذي فيه صلاحهن.
ومنها طاعة المرضى للأطباء في الحمية وشرب الأدوية مما فيه صلاحهم وبُرءهم، ومنها طاعة الجهال للعلماء فيما يأمرونهم بالتمسك بأمر الدين واجتناب المحارم بما هو صلاح لهم، ومنها طاعة الرعية للسلطان العادل فيما يأمرهم به من المعروف وينهاهم عن المنكر ومنعهم من ظلم بعضهم بعضًا مما فيه صلاحهم، ومنها طاعة السلاطين والأمراء والملوك لخلفاء الأنبياء عليهم السلام فيما يولونهم من البلدان وجباية الخراج ومحاربة الخوارج والأعداء، وحفظ الثغور وتحصين البيضة فيما فيه صلاح لهم وصلاح الرعية منهم.
ومنها طاعة الخلفاء للأنبياء عليهم السلام فيما رسموا لهم من حفظ الشريعة على الأمة وإقامة السنة على أهل الملة.
ومنها طاعة الأنبياء عليهم السلام للملائكة فيما تلقي إليهم من الوحي والأنباء في تدوين الكتب المنزلة، ووضع الشريعة، وإيضاح السنة، وجمع شمل الأمة، وتأليف قلوب الجماعة بإبلاغ الوصية وبإظهار الدعوة فيما فيه صلاح الكل ونفع الجميع؛ ومنها طاعة الملائكة لرب العالمين فيما قضت من عبادته، ووكلت به من تدبير بريته وحفظ خليقته، مما فيه صلاح للجميع ونفع للعموم وبقاء للعالم ودوام الخليقة والبلوغ بها إلى أقصى مدى غاياتها التي هي السعادة العظمى.
فهذا هو الدين النبوي الحنيفي والمنهاج السني والسيرة الملكية، وهو أن يكون كل مرءوس ينقاد لطاعة رئيسه، ولا يعصيه فيما يأمره به وينهاه عنه فيما فيه صلاح للجميع.
وإذ قد تبين مما ذكرنا ما الدين الحنيفي والمذهب الرباني، والاعتقاد الجيد والرأي الصواب، والطريقة المختارة التي تصلح أن يتدين بها كل الناس ويعتقدها كل أحد من الخاص والعام جميعًا، نريد أن نذكر طرفًا من المذاهب المختلفة والآراء الذائعة، وما الأسباب الداعية لأهلها إليها، ومن أين انحرفوا عن الطريقة المستقيمة وضلوا عن الصواب ووقعوا في الأباطيل، ونبدأ أولًا بذكر الآراء الحكمية والمذاهب البدعية، ثم نذكر علل اختلاف أهل الديانات والنواميس الإلهية في فروعها من السنن والأحكام.
(٢٠) فصل في بيان الآراء الحكمية؛ وهي نوعان: دهرية أزلية ومحدثة معللة
فنقول: اعلم أن من هذين تفرعت سائر الآراء الحكمية ومذاهبها، فلنبدأ أولًا بذكر الدهرية، ثم نقول هؤلاء كانوا أقوامًا قد كان لهم من الفهم والتمييز قدرًا ما، فنظروا إلى الموجودات الجزئية المدركة بالحواس، وتأملوا واعتبروا لها أحوالها، فوجدوا لكل مصنوع أربع علل: علة هيولانية، وعلة صورية، وعلة فاعلية، وعلة تمامية.
فلما فكروا في حدوث العالم وصنعته طلبوا لها هذه الأربع العلل وبحثوا عنها، وهي هذه، ترى مَن عمله؟ ومن أي شيء عمله؟ وكيف عمله؟ ولِمَ عمله؟ وأيضًا متى عمله؟ فلَم يبلغ فهمهم إلى ذلك، ولم يتصوروه لقصور نفوسهم عن فهم دقة معانيها؛ لأن الباحث عنها يحتاج إلى نفس زكية فاضلة في العلم والعمل، ويحتاج إلى ذهن صافٍ خَلْوٍ عن الغش أو الدغل، ونظر دقيق وبحث شديد ليدرك هذه العلل ومعانيها وحقائقها، كما بيَّنا في رسالة المعارف.
ولما نظروا في هذه المباحث ولم يعرفوها، دعاهم جهلهم وإعجابهم بآرائهم إلى القول بقدم العالم وأزليته، وأنكروا العلة الفاعلية لما جهلوا الثلاث الباقية ولم يعرفوها.
ثم اعلم أن كل ناظر في مصنوع متأمل له يَطلب بتأمله وفكره أربع علل: مَن عمل؟ ومتى عمل؟ وكيف عمل؟ ولم عمل؟ فإنما يطلب هذه المباحث لأنه يرى ويعاين بأول نظرة في ذلك المصنوع أشياء ثلاثة ظاهرة جلية من أثر الصنعة لا تخفى على كل عاقل سليم العقل من الآفات العارضة للعقول؛ وهي الثلاثة المخصوصة، والشكل والنقش، والتصاوير والأصباغ وما شاكلها. فلولا أن هؤلاء الذين زعموا وقالوا بقدم العالم قد رأوا هذه الأشياء بنظرهم إلى هذا العالم، وبتأملهم بنيته وشكله وما فيه من أنواع التصاوير والنقوش والأصباغ، لَمَا طلبوا الفاعل له، ولا بحثوا عنه كيف عمل، ومتى عمل، ومِن أي شيء عمل، ولِمَ عمل. وأيضًا لو أنهم حين لم يعرفوا هذه العلل ولم يفهموا، رجعوا إلى قولِ مَن هو أعلم منهم وأعرف بماهياتها وحقائقها، وأقروا على أنفسهم بالعجز؛ لَمَا قالوا هذا القول ولا اعتقدوا هذا الاعتقاد، ولكنهم لإعجابهم بأنفسهم واتكالهم على بحثهم ودقة نظرهم دعاهم إلى القول بقدم العالم.
وذلك أنهم تكلفوا ما لم يطيقوا، وتعاطوا ما لم يكن من صناعتهم، فوقعوا فيها وتحيروا فيه، وأصابوا ما أصاب القرد من النجار.
فهذا الباب من اختلاف الناس، وأعظمها بلية أن يتعاطى الصناعة مَن ليس من أهلها.
(٢١) فصل في بيان مناقب العقلاء والآفات العارضة للعقول
فنقول: اعلم أن هؤلاء القوم لم يرتابوا ولم يضلوا من قلة العقل ولا رداءة التمييز ولا من ترك النظر، ولكن من الآفات العارضة للعقول؛ وذلك أن العقل وإن كانت له مناقب كثيرة فإن له أيضًا آفات كثيرة تعرض لها، وقد ذكرنا طرفًا منها في رسالة الأخلاق، ولكن لا بُدَّ أن نذكر في هذا الفصل طرفًا منها، فنقول: أولًا ما العقل الإنساني؟ وذلك أن العقل الإنساني ليس هو شيئًا سوى النفس الناطقة إذا هو كبر وشاخ بعد أيام الصبا؛ وذلك أن النفس يوم ربطت بالجسد، أعني الجنين في الرحم، كانت ساذجة لا علم لها من العلوم، ولا خلق من الأخلاق، ولا رأي ولا مذهب ولا تدبير ولا سياسة ولا رياضة في أدب، كما ذكر الله تعالى: وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا، وإنما كانت جوهرة روحانية حية بالذات، علامة بالقوة، فعالة بالطبع؛ فإذا حصلت فيها رسوم المحسوسات التي تسمى أنواعًا وأجناسًا مصورة بعد غيبة المحسوسات عن مشاهدة الحواس لها، فميزتها وتأملتها ونظرت فيها، وعرفت أعيانها ومنافعها ومضارها وجربتها واعتبرتها، سميت عند ذلك عاقلة علامة بالفعل، كما بيَّنا في رسالة الحاس والمحسوس.
فأما مناقب العقل وأفعاله فكثيرة لا يحصي عددها إلا الله الواحد القهار، وقد ذكرنا طرفًا في رسالة العقليات وشرحًا، ولكن نريد أن نشير إليها في هذا الفصل إشارة، فنقول: إن جميع الأفعال البشرية المحكمة وجميع الآراء والمذاهب المختلفة العقلية والوضعية؛ من أفعال العقل الإنساني، لكن له مع هذه الفضائل والمناقب كلها آفات عارضة كثيرة؛ فمن تلك الآفات الهوى الغالب نحو شيءٍ ما، والعُجْب المفرط من المرء برأي نفسه، والكبر المانع عن قبول الحق، والحسد الدائم للأقران وأبناء الجنس، والحرص الشديد على طلب الشهوات، والعجلة وقلة التثبت في الأمور، والبغض والعداوة عند الحكومة والخصومات، والميل والتعصب لمن يهوى، والحمية الجاهلية عند الافتخار، والأنفة من الانقياد للطاعة، وحب الرياسة من غير استحقاق، وما شاكل هذه الآفات العارضة للعقلاء، المضلة لهم عن سنن الهدى، المانعة عن الانتفاع بفضائل العقل ومنافعه.
ثم اعلم أنه ليس من مرتبة في الدنيا أرفع ولا فضيلة أحسن من الرياسة في العقلاء لذوي السياسات والتدبير، ولا نعمة ألذ ولا رتبة أحسن من انقياد العقلاء للرئيس وطاعتهم له، ولا محنة أعظم ولا بلية أشد من عصيان العقلاء للرئيس الفاضل وعدواتهم له، وهذه الخصال من إحدى أمهات الخلاف والمعاصي؛ وهي كبرُ إبليسَ، وحرصُ آدمَ عليه السلام وعجلته حين بادر، وحسدُ قابيلَ.
فأما الكبر فهي الخصلة التي سنها إبليس، فرعون آدم كفراعنة الأنبياء الذين هم جنوده، يوم أُمر بالسجود لآدم والطاعة والانقياد لأمره.
والخصلة الأخرى التي هي أيضًا إحدى أمهات المعاصي حرص آدم وعجلته حين بادر وطلب ما ليس له تناوله قبل حينه واستحقاقه، فلما ذاقها بدت له عورته وسقطت مرتبته، وانحطت درجته وانكشفت عورته وشمتت به أعداؤه!
فلولا أنه كانت سبقت كلمة من ربه تفضلًا منه عليه ورحمة منه، لَكان لزامًا له العقوبة وكل من عصى من ذريته كأن يتعاجل بالعقوبة من ساعته، ولكن أمهل إلى وقتٍ ما، فلما تاب وندم استحق الغفران والعفو رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ.
فأما إبليس فإنه لما أنكر السجود والانقياد للطاعة واستكبر وتمرد ولم يندم ولم يرجع، أيس من الرحمة، ولكن أُنْظِرَ أيضًا وأُمْهِلَ وأُخِّرَتِ العقوبة والعذاب إلى يوم الوقت المعلوم قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ * قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ.
وهذه سنة الفراعنة وحالهم في الدنيا والدين، الذين هم جنود إبليس أجمعون، الذين يأنفون من الدخول تحت أمر الأنبياء والطاعة لهم ويؤخرون ويمهلون إلى يوم يموتون، فإذا ماتوا قامت قيامتهم وأخسئوا بالعذاب فلا يزال ذلك دأبهم إلى يوم يبعثون، كما قال تعالى: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ.
فقد تبين بما ذكرنا أن القائلين بقدم العالم لم يرتابوا ولم يضلوا عن الصراط من قلة العقل والبلاهة أو ترك النظر والبحث، ولكن من الآفات العارضة والأخلاق الرديئة للنفوس والأسباب المختلفة والأمور المشكلة والقصور عن التمام، وتركهم ما كان أخذه عليهم أوجب، وفعله بهم أولى، وتعاطيهم ما لم يكن من صناعتهم وتكلفهم ما لم يكن من قوة نفوسهم.
فصل
وذلك أنهم أرادوا أن يعرفوا العلة الفاعلة قبل معرفتهم المعلول، وإنما يعرف الصانع المحتجب الغائب عن إدراك الحواس إذا عرف المصنوع المكشوف الظاهر، وإنما يعرف المصنوع بالنظر إلى الهيولى واعتبار أحوالها؛ لأن في معرفة حقيقة الهيولى ومعرفة أحوالها معرفة المصنوع، وفي معرفة المصنوع معرفة الصانع.
وقد بيَّنا في رسالة سمع الكيان ماهية الهيولى وحقيقتها وأحوالها، ولكن تذكر ها هنا من أمرها ما لا بُدَّ منه.
ثم اعلم أن الهيولى وحقيقتها هو جوهر ساذج لا كيفية له ولا النقش ولا الصورة ولا الأشكال ولا الأصباغ ولا الأعراض، بل هو متهيئ لقبولها ولا يقبلها إلا بقصد قاصد وجعل جاعل.
مثال ذلك الخشب، فإنه متهيئ لقبول صورة الألواح والسرير والكرسي والباب وغيرها، ولكن بقصد من النجار وعناية منه.
وهكذا قطعة من حديد، فإنها لا تقبل الصورة إلا بعد قصد قاصد من الحداد، وكذلك سائر الهيوليات الموضوعة في سائر الصنائع البشرية.
وهكذا أيضًا الهيولى الطبيعية التي هي الأركان الأربعة التي لا تجمع ولا يكون منها المعدن والنبات والحيوان إلا بقسر قاسر أو صنع صانع.
والعلة الفاعلة لها هي قوة من قوى النفس الكلية الفلكية بإذن الله تعالى.
وهكذا الجسم المطلق الذي هو جوهر طويل عريض عميق حسب، لا يصبر على الأشكال كريات مدورات بعضها ببعض، وبعضها كواكب صغار وكبار، وبعضها أركان مختلفة الطبائع من الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، وخفيف وثقيل ولطيف وغليظ، وبعضها متحرك وبعضها ساكن، وبعضها أسرع حركة وبعضها أبطأ حركة، وما شاكل هذه الحالات التي هي موجودة عليها إلا بقصد قاصد وجعل جاعل، وهو الله العزيز الغفار الواحد القهار تعالى وتقدس.
وكفى بهذا دليلًا وبيانًا وحجة للعقول الغريزية على أن العالم مصنوع، والمصنوع يقتضي الصانع، وهذه قضية موجبة في أوائل العقول، بينة ظاهرة جلية لا تخفى على كل عاقل متأمل سليم القلب والعقل من الآفات العارضة، وإن لم يعلم مَن عمله، ومتى عمله، وكيف عمله، ولِمَ عمله.
فأما النظر في أمر الهيولى والدليل والحجة على حدوثه، فيحتاج إلى نظر أدق من هذا، وبحث أشد، وتأمل أجود، وتمييز ألطف، كما بيَّنا في رسالة المبادئ العقلية.
وإذ قد تبين بما ذكرنا بطلانُ قول القائلين بقدم العالم، نريد أن نذكر طرفًا من أقاويل القائلين بحدوثه، وفنون مذاهبهم، واختلاف طبقاتهم، والأسباب المؤدية لهم إليها، وفي ماذا أصابوا وفي ماذا أخطئوا.
(٢٢) فصل في بيان العلة الداعية إلى القول بحدوث العالم عن علة واحدة
فنقول: اعلم أن القائلين بحدوث العالم طائفتان: إحداهما تعتقد أن العالم محدث مصنوع وله علة واحدة مبدعة مخترعة وهو حي قادر حكيم، وهذا رأي الأنبياء عليهم السلام وأتباعهم وبعض القدماء الموحدين والحكماء منهم؛ والأخرى ترى وتعتقد أن العالم محدث مصنوع، ولكن ترى وتعتقد أن له علتين اثنتين قديمتين أزليتين، وهذا الخلاف من إحدى أمهات الآراء والمذاهب المتفرعة بها، ونحتاج أن نذكر الاعتبار والقياس الذي أداهم إلى هذا الرأي والاعتقاد كيف كان، فنقول:
اعلم أن السبب في ذلك هو نظرهم إلى الشرور التي تجري في عالم الكون والفساد الذي هو دون فلك القمر؛ وذلك أنهم رأوا من القبيح الشنيع أن يكون صانع العالم واحدًا ثم يترك عالمه مملوءًا من الشرور والفساد ولا يمنع من ذلك ولا بغيره، وإن كان لا يقدر عليه فقد وجب علة أخرى لأن الشرور أفعال، والفعل لا يكون إلا من فاعل ومنفعل.
هذا كان نظرهم، وإلى ها هنا كان مبلغهم من العلم، وإلى هذا أداهم اجتهادهم في البحث والتمييز والقياس.
وهذه المسألة، أعني طلب علة كون الشرور في العالم، هي من إحدى أمهات أسباب الخلاف من العلماء في الآراء والمذاهب؛ وذلك أنه منذ كان الناس في الدنيا والعلماء مختلفون في علة كون الشرور في هذا العالم، لمن هو؟ ومَن الفاعل لها بالحقيقة؟ ومِن أين كان أصلها؟ وسنذكر بعد هذا الفصل ما قالوه وتكلموا فيه.
(٢٣) فصل في بيان أسباب العلة الداعية للقائلين بالأصلين
فنقول: اعلم — وفقك الله — أن القائلين بالأصلين طائفتان: إحداهما ترى وتعتقد أن لهما فاعلَين من إحداهما نور خير، والآخر ظلمة شرير، وهذا رأي زرادشت وماني وأتباعهما وبعض الفلاسفة؛ والطائفة الأخرى ترى وتعتقد أن إحدى العلتين فاعل والأخرى منفعل، يعنون به الهيولى، وهذا رأي بعض الحكماء اليونانية، والذي دعاهم إلى هذا الرأي هو نظرهم إلى الشرور التي تجري بين كل اثنين متنازعين من الناس والحيوان من القتل والحروب والخصومات والعداوات، وما يحدث بينهما من الأسباب والأحوال، فبهذا الاعتبار قالوا، وبهذا القياس حكموا بأن حدوث العالم كان سببه من فاعلين اثنين متنازعين، لكن أحدهما خير والآخر شرير، فهذا كان قياسهم، وإلى هذا الموضع كان مبلغهم من العلم، وإلى ها هنا أداهم اجتهادهم، ولهم أيضًا في كيفية حدوث العالم كلام وأقاويل يطول شرحها، إلا أنها مذكورة في كتبهم؛ فلذلك تركناها إذ لا فائدة في بيان ذلك.
فأما القائلون بأن أحد الأصلين فاعل والآخر منفعل، فإنما دعاهم إلى هذا الرأي ما رأوا أنه يلزم القائلين بالفاعلَين من الشنعة والقبح، وما يوجب لهما من العجز والنقص من فعالهما وتناقضهما، وما يقتضي دون ذلك من قلة النظام في تركيب العالم وخلق السموات، وما يعرض من الفساد العام والبوار الكلي.
وقد يوجد الأمر بخلاف ما يلزم من هذه الحكومة؛ وذلك أنهم قد تبينوا نظام العالم وعرفوا إتقان خلق السموات مع سعتها وكبر أجزائها وكثرة خلائقها التي هناك، وليس فيها شيء من الفساد والشرور البتة، وأنها كلها على أحسن النظام وأجود الترتيب والهندام، وأن الشرور لا توجد إلا في عالم الكون والفساد التي تحت فلك القمر، ولا توجد الشرور أيضًا في عالم الكون والفساد إلا في النبات والحيوان دون سائر الموجودات، ولا في كل وقت أيضًا، ولكن في وقت دون وقت وأسباب عارضة لا بالقصد الأول من الفاعل، بل من جهة نقص الهيولى وعجز فيه عن قبول الخير في كل وقت أو على كل حال.
وقياسهم في ذلك أعني كون الشرور من قبل الهيولى واعتبارهم الموجودات في الشاهد؛ وذلك أنهم قالوا إنا نجد في ود كل صانع أن تكون مصنوعاته على أتقن ما يمكن، ولكن ربما لا يتأتى في ذلك المادة والهيولى الموضوع في صناعته إلا على قدرٍ ما، فهو يفعل فيها بحسب ما يتأتى فيها، ويعمل عليها ما يجيء عنها، وليس العجز منه بل هو من الهيولى الناقص العسر القبول.
ومثال ذلك أن الحكيم منا في الشاهد في وده أن يعلم كل علم وكل حكمة يحسنها لأولاده وتلامذته، وأن يجعلهم حكماء فضلاء مثله في أسرع ما يكون، ولكنهم لا يقبلون ذلك إلا على التدريج وفي ممر الأيام والأوقات شيئًا بعد شيء، لنقص فيهم لا لعجز في الحكيم، والنقص في الكمال يسمى شرًّا، وليس الشر سوى عدم الخير والتمام والكمال، فهذا كان مبلغ علمهم وإلى ها هنا أدى اجتهادهم.
فأما القائلون بالعلة الواحدة وأنها واحدة قديمة، فإنهم نظروا أدق من نظر أولئك، وبحثوا أجود من بحثهم، وتأملوا غير تأملهم، فرأوا من القبيح الشنيع أن يكون محدث العالم قديمين، واعتبارهم وقياسهم كان في ذلك هكذا:
قالوا لا يخلوا الأصلان القديمان من أن يكونا متفقين في كل شيء من المعاني، أو مختلفين في جميع المعاني، أو متفقين في شيء ومختلفين في شيء؛ فإن كانا متفقين في جميع المعاني فواحد لا اثنين، وإن كانا مختلفين في المعاني فأحدهما عدم، وإن كانا متفقين في شيء ومختلفين في شيء فالشيء الثالث، وقد بطلت المثنوية فيجب أن يكون أصل العالم ثلاثة، والقائلون بالثلاثة أو أكثر لازمة لهم هذه الحكومة والشنيعة أيضًا، فأما العلة الواحدة فمتفق عليها بأن من يقول بالاثنين وأكثر فقد قال بالواحد، ثم ادَّعى إلى مادة الزيادة.
(٢٤) فصل في بيان البحث عن حدوث الهيولى
فنقول: أما المُقِرُّون بحدوث الهيولى من الحكماء القدماء، فإنهم لما أرادوا البحث عن ذلك ابتدءوا أولًا بالنظر في العلوم الرياضية فأحْكَموها، ثم بحثوا عن الأمور الطبيعية فعرفوها معرفةً صحيحةً، ثم تفكَّروا عند ذلك في الأمور الإلهية وبحثوا عنها بحثًا شديدًا، بنفوس صافية وأفهام زكية وعقول وافية، فأدركوا ما طلبوا وتصوَّروا ما بحثوا عنها عن قوة معرفة صحيحة، وسكنت صدورهم إلى ذلك.
وقد بيَّنَّا في رسائلنا الإلهية طرفًا من ذلك، ولكن نذكر أيضًا في هذا الفصل مثلًا واحدًا؛ ليكون دليلًا على صحة ما قلنا، وذلك أنهم لما أرادوا النظر في حدوث العالم كيف كان بعد أن لم يكن، وما ذلك الصانع الذي صنعه، نظروا أولًا إلى المصنوعات فتأمَّلوها فوجدوها أربعة أنواع: فمنها مصنوعات بشرية نحو ما يعمله الصُّنَّاع في أسواق المدن، ومنها مصنوعات طبيعية مكونة من الأركان الأربعة مثل أشخاص الحيوانات والنباتات والمعادن، ومنها مصنوعات نفسانية كالأفلاك والكواكب والأركان، ومنها مصنوعات إلهية كالعقل الفعَّال والنفس الكلية والهيولى الأولى والصورة المجردة.
ثم نظروا إلى المصنوعات البشرية فوجدوا كل صانع من البشر محتاجًا في صناعته إلى ستة أشياء ليُتِمَّ بها صنعته وهي: الهيولى والمكان والزمان والحركة والأدوات والآلة. وكلُّ صانعٍ طبيعيٍّ محتاج إلى أربعة منها وهي: الهيولى والمكان والزمان والحركة. ووجدوا كلَّ صانع نفساني محتاجًا إلى اثنين منها، وهي الهيولى والحركة، فعند ذلك تبيَّن لهم أن الباري تعالى غير محتاج إلى شيء منها؛ لأن فعله وصنعته إنما هي اختراع وإبداع بلا حركة ولا زمان ولا مكان ولا أدوات؛ وذلك أن الله تعالى أول شخص اخترعه وأوجده — جوهرًا شريفًا بسيطًا روحانيًّا — يُسمَّى العقل الفعَّال، ثم أبدع بتوسُّط هذا الجوهر جوهرًا آخر دونه في الشرف يقال له النفس الكلية.
ثم ابتدأ النفس الكلية بتوسط العقل الفعال فحرَّكت الهيولى الأولى طولًا وعرضًا وعمقًا، وكان منها الجسم المُطْلَق، ثم رُكِّب من الجسم عالم الأفلاك والكواكب والأركان الأربعة جميعًا، ثم أدار الأفلاك حول الأركان واختلطت بعضها ببعض، وكان منها المولدات الكائنات من المعادن والنبات والحيوانات، فتبارك الله رب العالمين، فقد تبين بهذا الاعتبار وبهذا القياس العلة الفاعلة والعلة الهيولانية والعلة الصورية.
فأما الدليل على صحة ما قلنا وحقيقة ما وصفنا فلا يُتَبيَّن إلا بعد معرفة النفس ذاته؛ فإنه أشرف جوهرًا من الجسم، وقد بيَّنَّا طرفًا من ذلك في رسائلنا: الرياضيات والطبيعيات والإلهيات بما فيه كفاية، ولكن نذكر في هذا الفصل طرفًا منها بعون الله.
(٢٥) فصل في أوصاف الجسم
فنقول أولًا: إن الجسم جوهر طويل عريض عميق إيجاب غير حي ولا متحرِّك ولا حساس، سُلِّمَ هذا بإجماع من العلماء.
فأما النفس فإنها جوهر ليست بجسم، وهي حية بذاتها علامة بالقوة فعَّالة بالطبع، والدليل على ذلك ما قد بان من تأثيراتها في الأجسام؛ وذلك أنها هي المحرِّكة للجسم المدبِّرة المكسبة له الحياة والقدرة، وهي المصوِّرة فيه الأشكال والنقوش المتحكِّمة عليه المتصرفة بحسب ما يتأتَّى في شخص واحد من الأجسام الكليات والجزئيات أجمع، وكفى بهذا دليلًا على وجود النفس وشرف جوهرها.
وأما الدليل على أن العقل أشرف من جوهر النفس فهو بيِّنٌ ظاهرٌ لكل عاقل؛ وذلك أن الإنسان لما كان أفضل من سائر الحيوانات التي تحت فلك القمر وكان فضله إنما هو من قِبَل عقله لا من جهة النفس؛ لأن سائر الحيوانات لها نفوس أيضًا فكفى بهذا دليلًا على أن العقل أشرف من النفس.
ولما تبيَّن أن العقل أشرف الموجودات وأفضلها — بعد الباري تعالى — وكان العقل هو المُقِرُّ على نفسه وعلى ما دونه من الموجودات بأن كلها مبدَعَات محدَثات مكوَّنات، وأنه عبد لربه، وأن ربَّه علة لها، وهو الذي أبدع الهيولى واخترعها بعد أن لم تكن، فوجب الرجوع إلى حكم العقل وقضيته، فإنْ قال قائل: إن الذين قالوا بقِدَم الهيولى وأزليته فبقضية العقل حكموا، فلِمَ لا يجب النزول على قضيتهم والرضى بحكمهم؟ فنقول: إن عقل الإنسان نوعان: غريزي ومكتَسَب، فأما الغريزي فيحصل للإنسان بعد تأمُّله للمحسوسات، وأما الغرض المكتسب فكل مَنْ كان أكثر تأمُّلًا للمحسوسات وأصفى نفسًا كان أعقل.
وبهذا العقل يُعْلَم أن العالم مصنوع مركَّب من هيولى وصورة إذا تأمَّل جزئياته من الأفلاك والأركان والمولدات والمصنوعات؛ وذلك أن في كل مصنوع آثار الصنعة باقية فيه يضطر العقل الغريزي إلى الإقرار به، وإن لم يعلم متى عمل؟ وكيف عمل؟ ولِمَ عمل؟ ومَنْ عمل؟
وأما حدوث الهيولى فليس يُعْلَم بهذا العقل الغريزي ولكن بالعقل المكتسب، والعقلاء متفاوتو الدرجات في هذا العقل كتفاوتهم في العقل الغريزي. وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ.
وذلك أن كلَّ مَنْ كان أكثر تأملًا وأكثر رياضات للمعقولات الغريزية المأخوذة أوائلها من المحسوسات وأصفى نفسًا؛ كان أعقل وأعلى درجةً في المعارف.
وإذا تأملت يا أخي وجدت أكثر اختلاف العلماء في أحكام هذا العقل المكتسب: إما من أجل تفاوتهم في درجات عقولهم، وإما من أجل اختلافات قياساتهم وفنون استعمالهم لها.
وذلك أن منهم مَنْ يستعمل في البحث عن دقائق العلوم القياس الجدلي، ومنهم مَنْ يستعمل القياس الخطابي أو البرهان الهندسي أو المنطقي أو العددي، فتختلف نتائجها بحسب اختلافها، وتختلف أحكام العقول بتفاوتها اختلافًا كثيرًا لا يُحْصِي عددها إلا الله الواحد القهار، وقد ذُكِر في كتب المنطق طرَف من ذلك بشرحٍ طويلٍ، ولكن نذكر لذلك مثالًا واحدًا ليكون دليلًا على ما وصفنا فنقول:
اعلم أن العقلاء إنما وضعوا القياسات العقلية ليستخرجوا بها المجهولات بالمعلومات فيما اختلفوا فيه بتحرُّز العقول، كما وضعوا الموازين والمكاييل والأزرع؛ ليستخرجوا بها مقادير الأشياء المجهولة بالأشياء المعلومة؛ لما اختلفوا فيه بالحذر والتخمين فيما يتعاملون، كما أن هذه الموازين مختلفة بحسب بلدانهم وسنن شرائعهم، كذلك قياسهم العقلي يختلف بحسب مراتبهم في درجات العقول المكتسبة.
والذين قالوا بقِدَم الهيولى أدَّاهم إلى هذا الحكم طريق القياس الذي استعملوه؛ وذلك أنهم نظروا في هذه الهيولى كنظرهم في هيولى الصناعة وهيولى الطبيعة وهيولى الكل فقاسوا بها، ومن ها هنا انحرفوا عن الصواب وأخطئوا القياس، وما مثلهم في ذلك إلا كمثل أولئك الصبيان الأغبياء الذين ذكرناهم في رسالة المعارف؛ وذلك أن هيولى الصناعة مصنوع الطبيعة فهي شيء موجود، وهيولى النفس هو مصنوع الباري تعالى مبدَع مخترَع لا من شيء آخر، فلو أنهم سلكوا في البحث عن حدوث العالم مسلك الفلاسفة الربانيين لما اختلفوا؛ وذلك أن هؤلاء الحكماء الربانيين لما أرادوا البحث عن حدوث العالم والهيولى الأولى ابتدءوا أولًا بالفكر في الأمور الرياضية فأحكموها، ثم بحثوا عن الأمور الطبيعية فعرفوها معرفةً صحيحةً، ثم تفكروا في الأمور الإلهية وبحثوا عن حدوث العالم وحدوث الهيولى كيف كان فأدركوا ما طلبوا، وفهموا ما أدركوا، وتصوَّروا ما بحثوا عنه، وبحثوا عما تصور لهم وسكنت نفوسهم إلى ذلك، ونحن قد بيَّنَّا طرفًا من ذلك في رسالة المبادئ العقلية.
(٢٦) فصل في بيان أقاويل العلماء في ماهية الهيولى
فنقول: اعلم أن القائلين في ماهية الهيولى وحدوثها مختلفون في ماهيتها وكيفية حدوث الأجسام منها، وهذا الخلاف هو من إحدى أمهات الآراء والمذاهب المفرَّعة عنها.
وذلك أن منهم مَنْ يرى ويعتقد أنها أجزاء صغار لا تتجزَّأ، فإن أُلِّفت ضربًا من التأليف كانت منها الأجسام المختلفة الأشكال، كما ذكرنا في رسالة الهندسية الحسية؛ فإنها مختلفة الكيفيات؛ يعنون أن منها أجزاء نارية وأجزاء ترابية وأجزاء هوائية، فإذا اختلطت ضروبًا من الاختلاط كانت منها المولدات الكائنات من المعادن والنبات والحيوان وسائر الأفلاك والكواكب، والذي أدَّاهم إلى هذا الرأي اعتقادهم للأمور وقياسهم هيولى الصناعة، وذلك أن منهم لما رأوا هيولى الصنائع مختلفة الكيفيات، فإذا أُلِّفت كانت منها جزئيات من المصنوعات المختلفة كالسرير والباب المؤلَّف من الخشب، وهكذا حروف الكتابة ونغمات الألحان وأصوات الموسيقار وعقاقير الأطباء وأصباغ المصورين وحوائج الطبَّاخين والحلاويين وما شاكلها؛ فإنها كلها مختلفة الكيفيات، إذا اجتمعت وأُلِّفت ورُكِّبت كانت منها ضروب المصنوعات كما بيَّنَّا في رسالة نسب الموسيقى؛ فبهذا الاعتبار والقياس حكموا على تلك الأجزاء التي زعموا أنها لا تتجزأ بكيفيات مختلفة الصور، وإلى هذا الموضع كان علمهم وإليه أدَّاهم اجتهادهم.
ومنهم مَنْ كان أدق نظرًا من هؤلاء وأشد تمييزًا وبحثًا، فزعموا أن تلك الأجزاء كلها متماثلة فيسد بعضها مسدَّ بعض وينوب منابه.
فإذا أُلِّفت ضروبًا من التأليف وشُكِّلت ضروبًا من الأشكال واختلطت ضروبًا من الاختلاط حدثت منها أعراض ثم كيفيات وهيئات وصفات وألوان وطعوم وروائح وما شاكلها. والذي أدَّاهم إلى هذا الرأي والاعتقاد اعتبارهم هيولات الصنائع؛ فإنها متماثلة الأجزاء، فإذا صُوِّرت ضروبًا من الأشكال اختلفت أسماؤها وأفعالها كما بيَّنَّا طرفًا في رسالة الهيولى والصورة.
مثال ذلك: قطعتان من حديد صُوِّرت إحداهما بشكل تسمَّى سكينًا والأخرى منشارًا، وفعل السكين خلاف فعل المنشار والحديد واحد؛ لأن الذي عُمل من هذه كان جائزًا أن يُعْمَل من تلك الأجزاء متماثلة، والمؤلَّف المركَّب مختلف، وإلى هذا الموضع كان مبلغ علمهم ودقة نظرهم.
ومنهم مَنْ كان أدق نظرًا وأشد بحثًا وألطف، وقالوا: إن الهيولى إنما هي جوهر بسيط روحاني معرًّى من جميع الكيفيات قابل لها على النظام والترتيب الأول فالأول، كما بيَّنَّا في رسالة المبادئ العقلية.
فقد تبيَّن بما ذكرنا وشرحنا أن العالم مصنوع يُعْلَم ذلك بالعقل الغريزي إذا اعتُبر هذا الاعتبار، ويُعْلَم أن الهيولى مبدع مخترع بالعقل المكتسب إذا اعتُبر هذا الاعتبار، ويُعْلَم أن الهيولى على ما ذكرنا.
ولما تبيَّن لهؤلاء الحكماء ما العلة الفاعلة وما العلة الهيولانية وما العلة الصورية؛ بحثوا عن العلة التمامية التي هي الغرض الأقصى الذي من أجله يفعل الفاعل فعله، وهذه المسألة أيضًا من إحدى أمهات المباحث التي منها تتفرَّع سائر الآراء والمذاهب.
والذي أدَّاهم إلى هذا البحث هو نظرهم إلى الصنائع البشرية؛ وذلك أنهم وجدوا لكل صانع بشري في فعله غرضًا، والغرض هو الغاية التي يسبق إليها فهْم الفاعل أولًا، وهو من أجله يفعل الفاعل فعله، فإذا فعله وبلغ إليه قطع ذلك الفعل. وهما طائفتان: فمنهم مَنْ يرى ويعتقد أن الباري تعالى خلق العالم لعلة ما، والأخرى تعتقد وترى أنه لا لعلة.
والذي أدَّاهم إلى الرأي هو نظرهم وبحثهم واعتبارهم على هذا الوجه الذي نقرِّره نحن: وهو أنهم قالوا: لا تخلو تلك العلة من أن تكون هي الله تعالى أو غيره، فإن كانت غيره وجب القول بالمثنوية، وقد قام البرهان على فساد هذا الرأي، وإن كانت ليس غيره فهذا الذي قلنا، وإلى هذا كان علمهم وإلى ها هنا كان اجتهادهم.
والذين قالوا بالعلة التمامية طائفتان: إحداهما ترى وتعتقد أن تلك العلة هي إرادة الباري تعالى ومشيئته، ومنهم مَنْ يرى ويعتقد أنها علمه السابق؛ والقائلون بالإرادة طائفتان: فمنهم مَنْ يرى ويعتقد أنها علمه السابق، وأن إرادة الله صفة من صفاته، ومنهم مَنْ يرى ويعتقد أنه فعل من أفعاله؛ والذين قالوا إنه صفة من صفاته طائفتان: فمنهم مَنْ يرى ويعتقد أنها صفة ذاتية، ومنهم مَنْ يرى أنها صفة عَرَضية؛ والذين يرون أنها صفة عرضية: فمنهم مَنْ يرى أنها قائمة به، ومنهم مَنْ يرى أنها قائمة بغيره، ومنهم مَنْ يرى أنها قائمة بنفسها.
وبين هؤلاء منازعات ومناقضات يطول شرحها مذكورة في كتب جدالهم وخصوماتهم.
والذين قالوا إن تلك العلة هي علمه السابق طائفتان: فمنهم مَنْ يرى ويحتج بأنه خلق العالم؛ لأنه كان عالمًا بأنه سيُخْلَق، فلو لم يُخْلَق لكان مخالفًا للعلم والمخالف للعلم جاهل، وهو تعالى منزَّه عن أمثال الخلق.
ومنهم مَنْ يرى أنه سيخلق لأن خلقه للعالم حكمة، وفعل الحكمة عند الحكيم واجب، فإذا لم يفعل الحكيم الحكمة يكون سفيهًا، فلو لم يخلق إذن العالم لكان تاركًا للحكمة، وتارك الحكمة سفيه، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.
وهذا أرجح الأقاويل وأحق الصواب.
(٢٧) فصل في بيان قول القائلين: إن أسباب الشرور في العالم بالعرض لا بالقصد
وأما القائلون بأن الشرور هي عارض في العالم من قِبَل الهيولى الذي هو جوهر منفعل ناقص القبول للفضائل فطائفتان: إحداهما ترى وتعتقد قدمها فيما مضى دهرًا طويلًا وهي عادمة للصورة والأشكال والكيفيات أجمع.
ثم إن الباري تعالى قصد وصوَّر في تلك الهيولى عالم الأجسام ذا الثلاثة الأبعاد وجعلها على أشكال كريَّات مستديرات محيطات بعضها ببعض كما ذُكِر في كتاب المجسطي وكتاب بانياس الحكيم في تركيب الأفلاك وأطباق السموات، وجعلها مسكنًا لعبيده ومأوى لجنوده، وهي النفوس السارية في العالم من أعلى الفلك المحيط إلى منتهى مركز الأرض، وهي أجناس الملائكة وقبائل الجن وأحزاب الشياطين وأرواح بني آدم والحيوانات أجمع، وهم سكان سمواته وقاطنو أرضه العامرون عالمه، المديرون أفلاكه المسيِّرون كواكبه المُعيِّشون حيوانات أرضه المربُّون نباتها والمكوِّنون معادنها، كل ذلك بإذن الله تعالى وتقدَّس، ولله جنودُ السموات والأرض ولكنَّ أكثرَهم لا يَعْلَمون.
ومن أجلهم خلق السموات ومن أجلهم بسط الأرض، وبهم تدبير العالم، كل ذلك ليبلغهم أقصى درجات غاياتهم التي هي البعث والخلود في النعيم أبد الآبدين، وقالوا: هذا كله حكمة وجود وفضل ونِعَم وإحسان وخيرات، والله تعالى خالقها وجاعلها وعلتها ومبقيها ومتممها.
فأما الشرور فهي عدم هذه الخيرات عن الهيولى ونقصانها عنه؛ وذلك أنها لو خُلِّيت بطبيعتها لرجعت إلى حالتها الأولى وخلعت الصورة عن ذاتها، وبطل نظام العالم واضمحلَّ وجود الخلائق، وكان من ذلك بوار الكل والفساد وهو الشر المحض، ولكن من حكمة الله لا يُقتضى تركها؛ لأن تصويره الهيولى إيجاد وتركيب العالم منه حكمة، والنشوء وجود منه وتفضُّل عليهم ورحمة لهم، والعدم بعد الوجود شر، ونقض الحكمة سفه، واسترجاع الفضل لؤم، وترك الرحمة قساوة. تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.
ثم اعلم يا أخي أن ليس مما حكى هؤلاء من أحوال الهيولى، ووصفوا من أسباب الشرور ونسبوها إلى الهيولى بمنكَر عند خصمائهم غير قولهم بقِدمها، وإن كانوا أرادوا بقولهم: قدم الهيولى الأولى، أنها أقدم من الشيء الموضوع المصنوع منها؛ فهذا قول صحيح، وإن أرادوا أنها ليست مبدعة ولا مخترعة فالمنازعة في هذه الحكومة وقعت، فقد بيَّنَّا في رسالة المبادئ حقيقتها وكيف هي مبدَعَة ومخترعة.
ثم اعلم أن كثيرًا من أهل العلم ومَنْ تكلَّم في حقائق الأشياء لا يعرفون الفرق بين الشيء المخلوق والمصنوع، وبين المخترَع والمُبْدَع، وهذا أحد أسباب الخلاف بين العلماء في آرائهم ومذاهبهم في قِدَم العالم وحدوثه.
ثم اعلم أن الخلق هو تقدير كل شيء من شيء آخر، والمصنوع ليس هو بشيء غير كون الصورة في الهيولى.
وأما الإبداع والاختراع فهو إيجاد شيء من لا شيء، وهذه المعرفة. وتصوُّر هذه الحكومة يبعد عن كثير من المرتاضين بالرياضات الحكمية فكيف على غيرهم؟!
ثم اعلم أن الذين قالوا بقِدَم الهيولى إنما دعاهم إلى هذا النظر والرأي، نظرهم إلى الموجودات الجزئيات التي دون فلك القمر، واعتبارهم هذه الكائنات الفاسدات من المعادن والنبات والحيوان؛ وذلك أنهم وجدوا كل مصنوع بشري وطبيعي مركَّبًا من هيولى ساذج لا شكل فيه قبل تصوير الصانع له بذلك الشكل، وإذا خلا ذلك المصنوع زمانًا طويلًا اندرس واضمحلَّ وانخلعت الصورة عنها ورجعت إلى حالتها الأولى ترابًا.
مثال ذلك: البنايات المتخَذة في المدن والقرى؛ وذلك أنهم رأوا صُنَّاعها جمعوا التراب والخشب وبنوها، ثم يحفظونها بالمرمَّات لتدوم زمانًا، فإذا خلَت زمانًا طويلًا تهدَّمت واندرست واضمحلَّت وصارت ترابًا وحجارة كما كانت بَدِيًّا، وهكذا حكم النبات والحيوان والمعادن التي هي مصنوعات طبيعية فإنها تصير كلها يومًا ترابًا وإن طال الزمان.
فعلى هذا القياس والاعتبار حكموا على الهيولى الأولى، وصنعة الباري فيها العالم، وحفظه على ما هو عليه الآن من النقش والتصاوير والأشكال والهيئات المختصة بفلك فلك، وكوكب كوكب، وركن ركن، وأجناس الحيوانات أجمع، والنبات والمعادن واحدًا واحدًا.
وأما الهيولى التي لا كيفية فيها فليست هي محتاجة في وجودها إلى صانع وفاعل، بزعمهم، فهذا كان اعتبارهم، وإلى هذا الموضع كان مبلغ اجتهادهم، فأما الذين قالوا بحدوث الهيولى فإنهم نظروا أدق نظر من أولئك، وتأمَّلوا أجود من تأمُّلهم، وبحثوا أشد بحثًا منهم، كما بيَّنَّا فيما تقدَّم ذكر ذلك فاطلبه من هناك.
(٢٨) فصل في بيان كمية أنواع الخيرات والشرور في هذا العالم
فنقول: اعلم أن الخير والشر على أربعة أنواع: فمنها ما يُنْسَب إلى سعود الفلك ونحوسه، ومنها ما يُنْسَب إلى الأمور الطبيعية من الكون والفساد وما يلحق الحيوانات من الآلام والأوجاع، ومنها ما يُنْسَب إلى ما في جبلَّة الحيوانات من التآلف والتنافر والمودة والتباغض وما في طباعها من التنازع والتغالب، ومنها ما يُنْسَب إلى ما يلحق النفوس التي تحت الأمر والنهي في أحكام النفوس من السعادة والمنحسة في الدنيا والآخرة جميعًا.
ثم اعلم أن لهذه الأنواع من الخيرات والشرور التي ذكرناها أسبابًا وعللًا يطول شرحها، وقد ذكرنا طرفًا في رسالة العلل والمعلولات، ولكن نذكر في هذا الفصل منها ما لا بد منه فنقول: إن الخيرات التي تُنْسَب إلى سعود الفلك هي بعناية من الله تعالى وقصد منه لا شك فيه، وأما الشرور التي تُنْسَب إلى نحوس الفلك فهو عارض لا بالقصد.
مثال ذلك: إشراق الشمس وطلوعها على بعض البقاع تارةً وتسخينها الماء مدة، ومغيبها عنها تارةً أخرى كيما تبرد تلك البقاع مدة ما؛ فهو بعناية من الله تعالى وواجب حكمته لما فيه من الصلاح والنفع للعموم كما قال تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ وقال: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وإنما ذكر الله تعالى إنعامه على عباده وإحسانه إليهم وأفضاله عليهم.
فأما التي تعرض لبعض الحيوانات ولبعض النبات من الحر المفرط والبرد المتلف في بعض الأوقات وفي بعض الأحايين وفي بعض البقاع فليس ذلك بالقصد الأول.
وهكذا أيضًا حكم الأمطار؛ فإنما يرسلها لكيما يُحيي بها البلاد ويُصلح بها شأن العباد، فإن عرض من ذلك أذية لبعض الحيوانات أو تلف النبات أو تحزَّنت به العجائز فليس ذلك بالقصد الأول.
وعلى هذا القياس حكم جميع ما يُنْسَب إلى نحوس الفلك من الأمور العارضة للحيوان والنبات والمعادن ومواليد الناس، وما يحكم في تحاويل من السنين وأحكام القرانات وما شاكَل ذلك، وما يُنْسَب إلى نحوس الفلك من الشرور والفساد جميعًا عارضًا بالقصد الأول.
وأما الخيرات التي تُنْسَب إلى الأمور الطبيعية فهي كون الحيوان والنبات والمعادن والأسباب المعينة لها على النشوء المبلغة إلى أتمِّ حالاتها وأكمل نهاياتها؛ فهي كلها بقصد من الله تعالى وعناية من تفضُّله وإنعامه.
وأما الشرور التي هي الفساد والبلى الذي يلحقها بعد الكون والفساد والأسباب التي تعوقها عن البلوغ إلى التمام والكمال فهي عارض لا بالقصد الأول ولكن بالقصد الثاني؛ وذلك أن هذه الكائنات التي هي دون فلك القمر لما لم يكن أن تبقى أشخاصها في الهيولى دائمًا في هذا العالم تلطَّفت الحكمة الإلهية والعناية الربانية أن يكون بقاؤها بصورها وإن كانت الأشخاص في الذوبان والسيلان دائمًا.
والمثال في ذلك صورة الإنسانية التي هي خليفة الله في أرضه؛ فإنها باقية منذ خلق الله تعالى آدم أبا البشر إلى يوم القيامة، وإن كانت الأشخاص في الذهاب والمجيء فهكذا حكم سائر الحيوانات والنبات والمعادن وأنواعها باقية بصورها وإن كانت الأشخاص في السيلان والذوبان.
وإنما كان ذلك بواجب الحكمة؛ لأن في القوة فضائل وخيرات بلا نهاية لا يمكن خروجها من القوة إلى الفعل والظهور دفعة واحدة في وقت واحد؛ لأن الهيولى لا تتسع لقبولها الأشياء شيئًا بعد شيء على التدرُّج وممر الأوقات والزمان دائمًا أبدًا.
والمثال في ذلك: أنه لو خلق الله بني آدم كلهم — مَنْ مضى منهم ومَنْ هو موجود الآن ومَنْ يحيا من بعد إلى يوم القيامة — في وقت واحد لم تكن تسعهم الأرض برحبها، فكيف حيوانهم ونبات غذائهم وأمتعتهم وما يحتاجون إليه في أيام حياتهم، فمن أجل هذا خلقهم قرنًا بعد قرن وأمة بعد أمة؛ لأن الأرض لا تسعهم، والهيولى لا تحملهم دفعة واحدة، فقد تبيَّن مما ذكرنا أن النقصان ليس من قِبَل الله تعالى، وعلة أخرى أيضًا لأسباب الشرور.
وذلك أنه لما كانت هذه الكائنات يبتدئ كونها من أنقص الوجود وأضعف القوى مترقِّية إلى أتمِّ الحالات وأكمل الغايات بأسباب معينة لها على النشوء والنمو ومبلِّغة إلى أكمل غاياتها بعناية من الله تعالى سُمِّيت تلك الأمهات خيرات، وكذلك كل سبب عارض بلوغها عن ذلك يُسمَّى شرًّا وهي عارضة لا بالقصد الأول، والمثال في ذلك ما تقدَّم ذكره من أمر الشمس والمطر.
(٢٩) فصل في بيان الفرق بين القصد الأول والقصد الثاني على قول الحكماء
فنقول: أما الخيرات التي تُنْسَب إلى جبلَّة الحيوانات وما في طباعها وأخلاقها وأفعالها بقصد منها وإرادة فهي بالقصد الثاني لا بالقصد الأول.
ثم اعلم أن معنى قول الحكماء: القصد الأول والقصد الثاني أن الفرق بينهما هو أن ما كان من قِبَل الباري تعالى من الإبداع والإيجاد والاختراع والبقاء والتمام والكمال والبلوغ وما شاكَل ذلك من الأوصاف يُسمَّى القصد الأول، والقصد الثاني هو كل ما كان من قِبَل نقص الهيولى، إنه لم يجئ منها إلا هذا ولم يقبل إلا هذا وما شاكل ذلك من الأوصاف.
وأما بيان أنواع الشرور والمنسوب إلى بعض الحيوانات وإلى الجبلَّة المركوزة فيها فنقول: إن الشرور التي تُنْسَب إلى جبلَّة الحيوانات وما في طباعها هي ثلاثة أنواع: فمنها الآلام التي تعرض لها دون سائر الموجودات، ومنها العداوة التي في جبلَّتها، ومنها أفعالها التي بقصد منها وإرادة.
فأما آلامها فتكون من ثلاثة أوجه: أحدها ألم الجوع والعطش عند حاجة أجسادها إلى المادة والغذاء، والثاني ألم الضرب والصدم والكسر المضرُّ بأجسادها المتلف لهياكلها، والثالث ألم الأمراض والأسقام المفسدة لمزاج أجسادها وأخلاط أبدانها.
فأما الآلام التي تعرض لنفوسنا عند الجوع والعطش فإن ذلك بالقصد الثاني؛ وذلك أنه لما كانت هذه الأشخاص كل واحد منها مركَّب من جسد جسماني ونفس روحاني، وكانت الأجسام مركَّبة من الأخلاط المركَّبة المتضادة وهي دائمة في الذوبان والسيلان ومحتاجة في بقائها إلى المادة والغذاء جُعلت لنفوسها آلام عند حاجتها إلى الغذاء والمادة؛ لتكون تلك الآلام باعثة لنفوسها لتنهض بأجسادها في طلب الغذاء، فلو لم تكن تعرض لها تلك الآلام لتهاونت بها وتركتها بلا غذاء، وكانت تذوب وتضمحل كلها وتبطل لأقرب مدة وأهون سعي، وكانت تبقى تلك النفوس إما بأجساد أو بلا أجساد ناقصة غير تامة ولا كاملة، وكانت تعوقها المآرب التي هي مقصودة بها كما بيَّنَّا في رسالة البعث والقيامة، وجعل لها أيضًا عند تناول الغذاء لذة وشهوة.
أما الشهوة فلأن لا تتناول من الغذاء ما لا يصلح لها، وأما اللذة فلأن تأكل وتشرب ما دامت الطبيعة محتاجة لها، وإذا اكتنفت زالت اللذة؛ فهذه كلها بقصد من الله الواحد القهار، ومن أجل النقص الذي في الهيولى كيما تتم النفوس وتكمل، وأما الضرب والكسر والصدم والجرح والحر والبرد والأمراض والأسقام، وبالجملة كل أمر مُضِر بالجسد مُفْسِد فإنما جعل للنفوس ألمًا لكيما تحثها تلك الآلام على حفظ أجسادها وصيانة هياكلها؛ إذ كانت الأجساد لا حيلة لها في جرِّ منفعة ولا دفع مضرة عنها.
ومن الدليل على صحة ما قالوه ما تبيَّن منها أنها كيف تنتبه من حال النوم؟ وكيف تتيقَّظ من حالة الغفلة؟ وكيف تحس وتشعر بالأشياء المؤذية المفسدة من الجسد؟ وكيف تدفع تلك الأشياء عن جسدها إما بالفرار والانقباض عنها وإما بالقوة والجلادة والمجاهدة وإما بالحيلة والمداراة؟ ولو لم تفعل ذلك لهلكت الأجساد في أقرب مدة وأهون سعي قبل التمام والكمال، فإذا جاءتها المقادير والوقت المعلوم والأسباب الغالبة القاهرة فانظر كيف تسلِّمها إليها؟ وكيف تفارقها على غير اختيار منها؟
فأما ما دام له طمع في دفع تلك الآلام المواردة المؤذيات فهي في العلاج والجهاد رجاء للصلاح وحرصًا على البقاء ومحبة على الوجود على أتمِّ ما يمكن؛ إذ كان هذا هو الخير وكراهية منها للفناء على هذا النقص؛ إذ كان هو الشر لأن العدم المطلق ليس للأجسام ولا للنفوس ما دام العالم موجودًا، فقد تبيَّن من ذلك أن الآلام أيضًا بقصد وعناية واقتضاء الحكمة.
(٣٠) فصل في بيان أن الشرور التي في جبلَّة الحيوانات المختلفة الصور والأشكال هي بالقصد الثاني
فنقول: أما الخيرات التي في جبلَّة الحيوانات وأخلاقها التي هي الإلف والمحبة والشرور التي هي العداوة والغلبة والقهر فهي أيضًا بالقصد الثاني؛ وذلك أنه لما كانت الحيوانات مختلفة الصور والأشكال والطباع والعادات والأخلاق والأفعال لأسباب يطول شرحها — وقد بيَّنَّا طرفًا في رسالة العلل والمعلولات — جعل بين بعضها وبعضٍ أُلفةً ومحبة ومودة؛ لكيما يكون ذلك سببًا لاجتماعها واتفاقها؛ لما في ذلك من صلاح الكل والنفع على العموم، وجعل أيضًا بين بعضها وبين بعض نفورًا وعداوة؛ ليكون سببًا لتباعدها وتفرُّقها؛ لما في ذلك أيضًا صلاح الكل والنفع على العموم.
مثال ذلك: إلْف بعض الحيوانات للإنسان وانقيادها للطاعة كالبقر والغنم والخيل والبغال والحمير والجمل والفَرَس؛ لما في ذلك صلاح ونفع للناس المعروف المشهور، ولا حاجة إلى تفصيل كيفية ذلك، ولما لها أيضًا من النفع في مراعاة الناس بالعلف والسقي والسكن من الحر والبرد ومنع السباع عنها، ومداواتها من الآفات العارضة وما شاكَل ذلك، ومثال نفور بعض الحيوانات من الإنسان وتباعدها عن طاعته مثل السباع والحيات وجملة الحيوانات القليلة النفع الكثيرة الضر؛ لما فيه من صلاح الكل والنفع للعموم.
وعلى هذا القياس حال سائر الحيوانات بعضها مع بعض فيما بينها من الإلْف والمحبة والبغض والعداوة؛ لما فيها من النفع والصلاح.
وأما الشرور التي تُنْسَب إلى بعض أفعال الحيوانات بالقصد منها والإرادة فمنها أيضًا عارضة من أجل الهيولى التي هي مادة لأجسادها وقوام لهياكلها؛ وذلك أن المنافع لما كانت مشتركة بين الجميع وكان في جبلَّتها طلب المنافع ودفع المضار بالقصد الأول من الله تعالى، كما تقدَّم ذكرها، وقعت بينها هذه المنازعة في طلب تلك المنافع ودفع تلك المضار بالعرض لا بالقصد.
وأما علة كون الحيوانات بعضًا آكلة وبعضها مأكولة فقد بيَّنَّا طرفًا منها في رسالة الحيوانات.
(٣١) فصل في بيان أنواع الشرور التي تُنْسَب إلى الأنفس الإنسانية من جهة أحكام الناموس
فنقول: اعلم أن الخيرات والشرور التي تُنْسَب إلى الأنفس الإنسانية الجزئية من جهة أحكام الناموس هي نوعان: فمنها ما هي أعمال لها واكتساب منها، ومنها ما هي جزاء لأعمالها ومكافأة لها.
فأما التي هي الاكتساب فهي خمسة أنواع: منها ما هي علوم ومعارف، ومنها ما هي أخلاق وسجايا، ومنها ما هي آراء واعتقادات، ومنها ما هي كلام وأقاويل، ومنها ما هي أعمال وحركات، وهذه الخصال الخمس تسمى خيرات وشرور من وجهين: إما عقلية وإما وضعية. والوضعية منها هو كل شيء أمر به الناموس أو حثَّ عليه أو مدحه، فيُسمَّى ذلك خيرًا، وكل شيء نهى عنه أو زجر عنه، يُسمَّى ذلك شرًّا.
أما العقلية من هذه الخصال فهي كل شيء إذا فعل منه ما ينبغي على الشرائط التي تنبغي في المكان الذي ينبغي في الوقت الذي ينبغي من أجل ما ينبغي، يُسمَّى ذلك خيرًا، ومتى نقص من هذه الشرائط واحد يُسمَّى ذلك الأمر شرًّا. ومعرفة هذه الشرائط ليس في وُسْعِ كل إنسان في أول مرتبته إلا بعدما تتهذَّب نفسه وتترقَّى في العلوم والآداب.
ومن أجل هذا يحتاج كل إنسان إلى معلِّم ومؤدِّب أو أستاذ في تعلُّمه وتخلُّقه وأقاويله واعتقاده وأعماله وصنائعه.
ثم اعلم أن أصحاب الناموس هم المعلمون والمؤدِّبون والأستاذون للبشر كلهم ومعلِّمو أصحاب النواميس هم الملائكة، ومعلم الملائكة هو النفس الكلية ومعلمها العقل الفعَّال، والله تعالى معلم الكل.
وإنما طولنا الخطاب في الكشف عن الخيرات والشرور؛ لأن هذه المسألة من إحدى مسائل أمهات الخلاف بين العلماء المتشعبة منهم الآراء والمذاهب الكثيرة، كل ذلك لقلة معرفة مَنْ يتكلَّم منها وهو لا يدري ما الخير، على الحقيقة؟ وما الشر؟ وما السبب العارض؟
وإذ قد تبين مما ذكرنا علل اختلاف العلماء في الآراء والحكمة وحدوث العالم وقِدَمه نريد أن نذكر أيضًا طرفًا من عبادة الأصنام التي هي أقدم الديانات وأغلبها من الكل.
(٣٢) فصل في بيان طباع الناس في الرغبة في الدنيا والآخرة
فنقول: اعلم يا أخي أن الناس — وإن كان أكثرهم مطبوعين على الرغبة في الحياة الدنيا والحرص على طلب شهواتها والميل إلى التمتع بلذاتها — غافلون عن أمر الآخرة ونعيمها وسرور أهلها ودوام لذاتها، وإن كثيرًا من الناس أيضًا كلهم مجبولون على التدين والورع والخير والزهد في الدنيا وترك شهواتها، والرغبة في الآخرة وطلب نعيمها، وكثرة التفكر في أمر المعاد بعد الموت، والرغبة في معرفته وحقيقة الحال في المنقلب، وهم في دائم الأوقات يسألون الله الرحمة والمغفرة، ويطلبون منه حُسْنَ التوفيق وخير الآخرة، ويتقربون إليه بالصلاة والصوم والتسبيح والقرآن والدعاء وفنون العبادات، كل ذلك بحسب ما يمكنهم ويؤدي إليه اجتهادهم ويحسن في عقولهم ويتحقق في نفوسهم.
ثم اعلم أن الله تعالى ما بعث الرسل والأنبياء عليهم السلام إلى الناس إلا بالتأكيد لما في نفوسهم من أمر الدين بطلب الآخرة؛ إرشادًا لهم إلى ما هو أصلح مما اختاروه بعقولهم، وأقرب مسلكًا وأفضل سيرةً وأحسن طريقةً فيما أداهم إليه اجتهادهم وتحقق في نفوسهم بآرائهم، والدليل على صحة ما قلنا قوله تعالى لنبيه عليه السلام: قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ؛ وذلك أن القوم الذين بُعِثَ إليهم النبي، عليه الصلاة والسلام والتحية والرضوان، كانوا يتديَّنون بعبادة الأصنام، وكانوا يتقرَّبون إلى الله تعالى بالتعظيم لها والسجود والاستسلام والبخورات، وكانوا يعتقدون أن ذلك يكون قربةً لهم إلى الله وزلفى. والأصنام هي أجسام خرس لا نطق لها ولا تمييز ولا حس ولا صورة ولا حركة، فأرسلهم الله ودلَّهم على ما هو أهدى وأقْوَم وأولى مما كانوا فيه؛ وذلك أن الأنبياء عليهم السلام وإن كانوا بشرًا فهم أحياء ناطقون مميزون علماء مشاكلون للملائكة بنفوسهم الزكية، يعرفون الله حق معرفته، والتقرب إلى الله تعالى بهم أولى وأهدى وأحق من التوسل بالأصنام الخرس التي لا تسمع ولا تبصر ولا تُغْنِي عنك شيئًا.
ثم اعلم أنَّا نبيِّن ها هنا بدء عبادة الأصنام فنقول بأن بدء عبادة الأمم للأصنام أولًا كان عبادة الكواكب، وبدء عبادة الكواكب كان عبادة الملائكة، وسبب عبادة الملائكة كان التوسل بهم إلى الله تعالى وطلب القربة إليه؛ وذلك أن الحكماء الأولين لما عرفوا بذكاء نفوسهم وصفاء أذهانهم أن للعالم صانعًا حكيمًا؛ وذلك لتأملهم عجائب مصنوعاته وتفكُّرهم في غرائب مخلوقاته واعتبارهم تصاريف أحوال مخترعاته، ولمَّا تحققت في نفوسهم هويته، أقرُّوا له عند ذلك بالوحدانية ووصفوه بالربوبية، وعلموا أن له ملائكة هم صفوته من خلقه وخالص عباده من بريَّته، طلبوا عند ذلك إلى الله القربة، وتوسلوا إليه بهم وطلبوا الزلفى لديه بالتعظيم لهم كما يفعل أبناء الدنيا ويطلبون القربة إلى ملوكهم بالتوسل إليهم بأقرب المختصين بهم، وكان من الناس مَنْ يتوسل إلى الملك بأقاربه ونُدَمائه ووزرائه وكُتَّابه وخواصه وقواده وبمَنْ يمكنه بحسب ما يتأتَّى له — الأقرب فالأقرب والأدنى فالأدنى — كل ذلك طلبًا للقربة إليه والزلفى لديه.
فهكذا وعلى هذا المثال فعلت الحكماء وأهل الديانات ومَنْ عرف الله وآمن به وأقر به، فإنهم طلبوا القربة إليه والزلفى عنده، كل واحد بحسب ما أمكنه وتأتَّى له وأدى إليه اجتهاده وتحقق في نفسه.
فلما مضى أولئك الحكماء والربانيون العارفون بالله حق معرفته وانقرضوا خَلَفَهُم قوم آخرون لم يكونوا مثلهم في المعرفة والعلم، ولم يعرفوا مغزاهم في دياناتهم، فأرادوا الاقتداء بهم في سيرتهم، واتخذوا أصنامًا على مثل صورتهم، وصوَّروا تماثيل على مثل ما فعلت النصارى في بيعهم من التماثيل والصور مثل أشباه المسيح عليه السلام، ومثل روح القدس وجبرائيل ومريم، عليها السلام، وكذلك أحوال المسيح في متصرفاته؛ ليكون ذلك تذكارًا لهم بأحواله كيف ما يمحو تلك التصاوير والتماثيل.
(٣٣) فصل في بيان من يتقرب إلى الله بأنبيائه ورسله
ثم اعلم يا أخي أن من الناس مَنْ يتقرَّب إلى الله بأنبيائه ورسله وبأئمتهم وأوصيائهم أو بأولياء الله وعباده الصالحين، أو بملائكة الله المقرَّبين والتعظيم لهم ومساجدهم ومشاهدهم والاقتداء بهم وبأفعالهم، والعمل بوصاياهم وسننهم؛ على ذلك بحسب ما يمكنهم ويتأتَّى لهم ويتحقق في نفوسهم ويؤدي إليه اجتهادهم.
فأما مَنْ يعرف الله حق معرفته فهو لا يتوسل إليه بأحد غيره، وهذه مرتبة أهل المعارف الذين هم أولياء الله.
وأما مَنْ قصر فهمه ومعرفته وحقيقته فليس له طريق إلى الله تعالى إلا بأنبيائه، ومَنْ قصر فهمه ومعرفته بهم فليس له طريق إلى الله تعالى إلا بالأئمة من خلفائهم وأوصيائهم وعباده الصالحين، فإن قصر فهمه ومعرفته بهم فليس له طريق إلا اتباع آثارهم والعمل بوصاياهم والتعلق بسننهم والذهاب إلى مساجدهم ومشاهدهم، والدعاء والصلاة والصيام والاستغفار وطلب الغفران والرحمة عند قبورهم وعند التماثيل المصوَّرة على أشكالهم؛ لتذكار آياتهم وتعرُّف أحوالهم من الأصنام والأوثان وما يشاكل ذلك طلبًا للقربة إلى الله والزلفى لديه.
ثم اعلم أنه على كل حال مَنْ يعبد شيئًا من الأشياء ويتقرب إلى الله تعالى بأحد فهو أصلح حالًا ممن لا يدين شيئًا ولا يتقرب إلى الله البتة؛ وذلك أن قومًا قد رُزِقوا من الفهم والتمييز قدرًا فخرجوا بذلك من جملة العامة، ولم يحصلوا في جملة الخاصة، فهم لا يعرفون الله حق معرفته ولا يتحققونه بصفات وحدانيته، ولا يعرفون الآخرة علمًا واستبصارًا، ولا يرضون الدين تقليدًا وإيمانًا، فهم مذبذبون بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، فاحذر أنت يا أخي أن تكون من جملتهم فإنهم جنود إبليس وإخوان الشياطين يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا يعيبون الديانات ويُزرون على أهلها ويُهْلِكون أنفسهم ولا يشعرون.
ثم اعلم أنهم أسوأ حالًا من عابدي الأصنام على كل حال؛ لأن عابدي الأصنام يدينون بشيء ويتقرَّبون إلى الله ويخافونه ويرجونه، فأما هؤلاء فلا دين لهم ولا يعتقدون شيئًا ولا يعبدون ولا يخافون ولا يرجون شيئًا.
ثم اعلم أن علة تركهم الدين أصلًا من أجل أنهم لما تأملوا بعقولهم اختلاف أهل الديانات وجدوا دين كل قوم معيوبًا عند قوم آخرين، فلم يجدوا مذهبًا ولا دينًا بلا عيب، تركوا الدين جملةً من أجل هذا، ولم يتأملوا ولا فكَّروا بأن كون العاقل بلا دين أعيب وأقبح من كل عيب.
ثم اعلم أن في ذكر أهل الديانات عيوب بعضهم بعضًا حكمة جليلة قد بيَّنَّاها في رسالة العلل والمعلولات، وليس ذلك بأن الدين معيوب، ولكن كانت مفروضات واضعي الشريعة وسننهم مختلفة لأغراض شتى، والأغراض يطول شرحها، وتكون تلك السنن عند قوم محمودة صالحة؛ لسبب نشوئهم عليها ودُرْبَتهم في طول الزمان وجريان عاداتهم عليها، ويكون الدين معيوبًا ومنكرًا عند قوم آخرين؛ لأنهم نشئوا على غيره واعتادوا سواه وألِفوا خلافه، لا بأن الدين معيوب وسنن الديانات قبيحة.
ثم اعلم أنه لما كانت طباع الناس مختلفة وأخلاقها متغايرة وإراداتها مفننة، والنفوس يعرض لها أمراض مختلفة بحسب الزمان والأمكنة والطباع والأمزجة والعادات، وكان واضعو النواميس هم أطباء النفوس ومنجِّموها كقول النبي ﷺ: «إنَّ مثل أصحابي كالنجوم بأيِّهم اقتديتم اهتديتم.» وغرض كلهم اكتساب الصحة وحفظ السلامة عليها من الآفات العارضة.
فمن أجل هذا اختلفت مفروضاتهم وتغايرت سننهم حسب ما يليق بأمة أمة، وطائفة طائفة من الناس والأمم، من المداواة لنفوسهم، والحمية لها من المحرمات عليهم كما يفعل أطباء الأجسام في العلاجات المختلفة بالبلدان المختلفة لأجل الأمراض المختلفة في الأزمان المختلفة، من تغيير الأشربة وتبديل الأدوية وتقليل الأوزان وتكثيرها بحسب اختلاف الأزمنة والأمكنة، ولا سيما بحسب اختلاف أمزجة الإنسان ومراعاة العادات؛ وذلك أن غرضهم حفظ الصحة الحاصلة واسترداد الصحة المفقودة.
فهكذا أفعال الأطباء من النواميس واختلاف سننهم وترتيب أوضاعهم وأمرهم وإجازتهم في شيء ونهيهم وتحريمهم عن شيء تشبه بعينها أفعال أطباء الأجسام ومداواتهم قطعًا.
ولا يخفى عليك أيها الأخ مداواة المسيح لأقوام شتَّى وإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص حتى نَجَت نفوس قوم ضالين من أمراض الجهالة المزمنة العسرة الزوال بشربات الأسرار والحكم ومعاجين التوحيد والتمجيد ومسهلات الحلم والاستغفار، وحسن تحمية ترك الشهوات وبرحلة الشتاء والصيف من غليان نار الغضب وبرد البلادة.
وكذلك إبراء الأكمه بالمداواة اللائقة بالعين؛ إذ العمى عمى القلب لا عمى العين، كما أن الغنى غنى القلب لا غنى المال.
وكيف داوى الأكمه، فيا عجبًا كل العجب إنه أبرأ الأكمه باكتحال الجواهر الروحانية وبتأليف الأسرار الربانية وبذر البذورات المفردات الهيولانية، وبسائط الأركان الناموسية، والمائعات التي أُنْزِلت من السماء فسالت أودية بقدرها، فلا جَرَم أنه يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص بهذه المداواة بإذن الله وتوفيق الله!
فانتبه يا أخي من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، ولا تظن بالله ظن السوء، واطلب أولياء الله الكرام ومجالسة واضعي النواميس لتنجو بشفاعتهم وتنال ببركاتهم سرورًا ونعيمًا في دار القرار.
(٣٤) فصل في بيان علة الاختلافات التي بين أهل الديانات النبوية بعضها في الأصول وبعضها في الفروع
وذلك لأسباب شتَّى نحتاج إلى أن نذكرها، ولكن من أجل أن كثيرًا ممن ينظر في الآراء ويتكلم في المذاهب لا يعرف الفرق بين ذلك، لكنا نذكر ها هنا طرفًا فنقول:
إن معنى الدين في لغة العرب هو الطاعة من جماعة لرئيس واحد، ولما كانت الطاعة لا تُتَبَّين إلا بالأوامر والنواهي، والأمر والنهي لا يُعْرَفان إلا بالأحكام والحدود والشرائط في المعلومات سُمِّيت هذه كلها شريعة الدين وسنن أحكامه.
ثم اعلم أن الأنبياء عليهم السلام لا يختلفون فيما يعتقدون من الدين سرًّا وعلانيةً ولا في شيء منه البتة كما قال تعالى: أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ، وقد بيَّنَّا أنها اثنتا عشرة خصلة يعتقدها الأنبياء وأصحاب النواميس الإلهية أجمعين لا يختلفون فيها، كما بيَّنَّا في رسالة النواميس.
وأما الشرائع التي هي أوامر ونواهي وأحكام وحدود وسنن، فهم فيها مختلفون كما قال تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وقال: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ.
ثم اعلم أن اختلاف الشرائع ليس بضار؛ إذ كان الدين واحدًا؛ لأن الدين هو طاعة وانقياد للرئيس الآمر فيما يأمر وينهى المرءوسين بحسب ما يليق بواحد واحد، وما يرى أنه يصلح له ويصلح فيه؛ لأن أوامر أصحاب النواميس ونواهيهم مماثِلة لأمر الطبيب الرفيق الشفيق فيما أمر العليل من الحِمْيَة في الصيف من تناول الأشياء الحارة بالطبع، وإجازته شرب المبردات في البلدان الحارة وفيما يرى ويأمر له.
فمن أجل هذا اختلفت شرائع الأنبياء عليهم السلام. وكذلك إن اختلفت سنن الدين وقواعد النواميس؛ لأنهم أطباء النفوس ومنجموها؛ وذلك أن في الأدوار والقرانات والألوف قد تعرض للنفوس من أهل كل زمان أمراض وأعلال مختلفة من الأخلاق الرديئة والعادات الجائرة والآراء الفاسدة من الجهالات المتراكمة، كما يعرض للأجساد من الأمراض والأعلال من تغييرات الزمان والأهوية والأغذية، فبحسب ذلك يجب أن يكون اختلاف علاجات الأطباء ومداواتهم.
فهكذا شرائع الأنبياء واختلاف سننهم بحسب أهل كل زمان وما يليق بهم أمة أمة وقرنًا قرنًا مثل شريعة نوح عليه السلام، في زمانه، وشريعة إبراهيم عليه السلام، بعده في زمان آخر وقوم آخرين، وشريعة موسى عليه السلام، في زمان آخر وقوم آخرين، وشريعة المسيح بعده في زمان آخر وقوم آخرين، وشريعة سيد الأنبياء محمد، عليه الصلاة والسلام والتحية والرضوان، في زمان آخر وقوم آخرين، كما قال تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ، فهؤلاء كلهم دينهم واحد وإن كانت شرائعهم مختلفة، وإنما ذكرنا في هذا الفصل من هذه الأشياء؛ لأن الذين أنكروا نسخ الشرائع من هذا الباب لم يعرفوا الفرق بين الدين والشريعة.
وأما الاختلافات التي وقعت بين شريعة واحدة بعضهم مع بعض كالذي بين طوائف اليهود فيما بينهم وبين طوائف النصارى، وكما بين طوائف المسلمين كذلك فهي خمسة أنواع: منها اختلاف في ألفاظ التنزيل كالذي بين القراء، ومنها اختلاف المعاني كالذي بين المفسرين، ومنها اختلاف في أسرار الدين وحقائق معانيه الخفيَّة كالذي بين المقلِّدين والمستبصرين، ومنها اختلاف في الأئمة الذين هم خلفاء الأنبياء كالذي بين الشيعة، ومنها اختلاف في أحكام الشريعة وسنن الدين كالذي بين الفقهاء.
أما سبب اختلاف المفسرين المقرئين في معاني ألفاظ التنزيل فهو من جهتين: إحداهما احتمال الألفاظ لتلك المعاني، والأخرى من جهة مراتبهم في المعارف وصفاء جوهر نفوسهم وذكاء أفهامهم فيسنح لكل واحد شيء خلاف ما يسنح للآخر إذا نظر في معاني كتب الأنبياء عليهم السلام، بحسب اجتهاده وفهمه ودقة نظره ومبلغ علمه، كما قال تعالى: يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وقال: وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ.
وهكذا حكم اختلاف العلماء والفقهاء الذين أصَّلوا الآراء والمذاهب في فقه الدين والأحكام والحدود، فمنها معانٍ أخذوها من ظاهر ألفاظ التنزيل، ومنها معانٍ أخذوها من أقاويل المفسرين، ومنها قياسات واجتهادات، ومنها أخبار وروايات أخذوها من طريق السمع، واجتهاد كل واحد منهم بحسب قوة نفسه وصفاء جوهره واجتهاده وبحثه، سنح له شيء خلاف ما سنح لصاحبه، فتعلَّقوا واجتهدوا واحتجُّوا على صحتها.
وهذا الذي كلَّف عباده معنى الاجتهاد في الطلب كما قيل: لكل مجتهد نصيب؛ يعني في اجتهاده، وكما قال: لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا.
وأما سبب اختلافهم في الأئمة الذين هم خلفاء الأنبياء عليهم السلام في أممهم بعدهم، فمن أجل أن صاحب الناموس يحتاج في وضعه للناموس وتتميمه وتكميله إلى نيِّف وأربعين خصلة من الفضائل البشرية والملكية جميعًا، كما بيَّنَّا في رسالة لنا، فإذا أحكم صاحب الناموس أمر الشريعة وسنن الدين ومنهاجه وبيَّن المنهاج وأوضح الطريق ومضى لسبيله بقيت الخصال وراثة في أصحابه وأنصاره الفضلاء من أمته، ولكن لا تكاد تجتمع كلها أجمع وراثة في واحد منهم، ولا يخلو أحد من شيء منها.
فإذا اجتمعت تلك الأمة بعد وفاة نبيها وتعاونت وتعاضدت وتناصرت مع ائتلاف القلوب كما أمرها صاحبها وأوصى بها بقوا هادين راشدين منصورين على أعدائهم سعداء في الدنيا والآخرة جميعًا.
ثم إذا مضى أولئك على منهاج الذين تقدَّموهم خَلَفهم من بعدهم قوم آخرون من ذرياتهم وتلامذتهم متمسِّكين بسننهم في أي بلد كانوا وأي منازل نزلوا هادين راشدين، كما قال، عليه السلام: «إن مثَل أصحابي كالنجوم بأيِّهم اقتديتم اهتديتم.» فإذا ما تنازعوا وتخاصموا وتقاطعوا وتركوا وصية نبيهم وتفرَّد كلُّ واحد برأيه معجبًا بنفسه، شتت شمل أُلفتهم وتفرَّقت جماعتهم وضعفت قوتهم، فأفسد عليهم أمر دينهم، وشمَّت بهم حُسَّادهم، وظفر بهم عدوهم إذا تفرَّقوا في البلدان النائية، وشرع كل واحد لنفسه مذهبًا واعتقد رأيًا وتفرَّد به، وربما دعا الناس إليه، فبهذا السبب تصير الأمة بعد نبيها فرقًا وأعداء وخوارج. ولكن من أجل أن هذه المذاهب إنما هي فروع على الدين تفرَّعها أصحاب الناموس على أصله تكون تلك الملة واحدة بذلك السبب والمذاهب مختلفة، وإلى هذا أشار تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ.
ثم اعلم أن في اختلاف العلماء في الآراء والمذاهب فوائد كثيرة تخفى على كثير من العقلاء، فمن أجل ذلك تجد إلى العقول بتفاوتها اختلافات كثيرة لا يُحْصِي عددها إلا الله الواحد القهار. وقد ذكرنا — في كتب المنطق طرفًا من ذلك بشرح طويل — ولكن نذكر لذلك مثالًا واحدًا ليكون دليلًا على ما وصفنا.
فنقول: اعلم أن العقلاء كما وضعوا القياسات إلى كلِّ من أحدث مذهبًا واعتقد رأيًا من الآراء فإن ذلك يصير داعيًا إلى طلب الحجة عند خصمائه وعذرًا عند العقلاء، ويكون سببًا لغوص النفوس في طلب المعاني الدقيقة والنظر إلى الأسرار الخفيَّة، ووضع القياسات واستخراج النتائج واتساعًا في المعارف، وتكون سببًا ليقظة النفوس من نوم الجهالة، وانتباهًا لها من السهو والغفلة وخصلة أخرى من الفوائد في اختلاف العلماء.
وذلك أنه لما كان الإنسان لا يخلو من محاسن وفضائل ولا ينفك عن مساوئ ورذائل أيضًا في أخلاقه وسيرته ومذهبه وأفعاله، وكان أكثر الناس تجدهم يتزيَّنون بمحاسنهم ويفتخرون بفضائلهم ويغفلون عن رذائلهم، وينسون عيوبهم ومساوئهم، صار يدعوهم اختلافهم في الآراء والمذاهب إلى كشف عيوب بعضهم وذكر مساوئ بعضهم لبعض، ويكون ذلك تنبيهًا للجميع على ترك الرذائل وحثًّا لهم على اكتساب الفضائل، ويكون في ذلك صلاح الكل إذا فعلوا ما يؤمرون به وتركوا ما يعابون عليه.
ومن أجل هذا قيل: اختلاف العلماء رحمة، وخصلة أخرى من فوائد العلماء في الاختلاف في أحكام الدين وشرائعها وفنون المذاهب، وهو ألَّا يكون أمر الدين ضيقًا حرجًا لا رخصة فيه ولا تأويل كما قال تعالى: مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ وقال عليه السلام: «ادرءوا الحدود بالشبهات.» فبهذا الوجه أيضًا اختلاف العلماء رحمة واختلاف أهل الديانات في أمر الدين وسنن أحكامه حكمة جليَّة لا يعرفها إلا المحقِّقون المستبصرون.
(٣٥) فصل في بيان أنه لا يمكن وصول الأنفس الجزئية إلى الآخرة إلا بعد الورود إلى الدنيا
فنقول: اعلم، أيَّدك الله، أن الله تعالى لما خلق الإنسان وجعل أقصى غرضه بلوغه إلى دار الآخرة، وكان لا يمكن أن يصل إلى هناك إلا بعد أن يمكث في الدنيا زمانًا كما لا يمكن أن يمكث في الدنيا على أتمِّ الحالات إلا بعد أن يمكث في الرحم زمانًا.
ولما كان الغرض من المُكْث في الرحم هو تتميم بِنْيَة الجسد وتكميل الصورة حتى إذا خرج إلى الدنيا من الرحِم كاملًا تامًّا انتفع في الحياة الدنيا والتمتع بلذاتها ونعيمها؛ فلهذا كان الغرض من الكون في الدنيا والمكث فيها زمانًا ما هو إلا لتتميم صورة النفس وتكميل فضائلها، ولم تكن تتم فضائلها إلا بهذا الجسد المملوء من آثار حكمة الله كما بيَّنا في رسالة تركيب الجسد ورسالة الإنسان عالم صغير.
ثم اعلم أن النفس إن لم تتم صورتها ما دامت مع الجسد ولم تكمل فضائلها مع الجسد ما دامت في الدنيا لم تنتفع في الدار الآخرة بعد الموت على التمام والكمال، كما أنه إن لم تتم بِنْيَة الجسد في الرحم ولم تكمل هناك صورته؛ لم ينتفع الإنسان في الحياة الدنيا.
واعلم أن الله تعالى جعل الدين طريقًا من الدنيا إلى الآخرة، وجعل في قوام الدين صلاحًا للدنيا والآخرة جميعًا؛ وذلك أن الدين له ظاهر وباطن، وقوامه بهما جميعًا، فمن الناس مَنْ لا يريد بتمسكه بالدين إلا صلاح الدنيا ومنافعها، فيحرص في أحكام الدين وشريعته من الصلاة والصوم وما شاكلها ويرائي الناس، وبذلك يطلب منافع الدنيا فيكون في حفظه ظاهر أحكام الدين قوام له، كما قيل: «إن الله ينصر هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم.» ومن الناس مَنْ يريد الدنيا لطلب الآخرة وصلاح المعاد، فهم يزهدون في الدنيا ويتركون الشرور ويؤدون الأمانات سرًّا وإعلانًا، ويعاملون الناس بالصدق والورع من غير غش ولا دغل، وفي ذلك صلاح أمر الدنيا والآخرة جميعًا.
ثم اعلم أن كل مَنْ أحدث في شريعة أصحاب النواميس حدثًا من تغيير في أحكامها وتبديل في حدودها، وطلب بذلك عَرَضَ الدنيا فإن صاحب الناموس هو خصمه يوم القيامة، ومَنْ فعل شيئًا من ذلك وأراد به صلاح ذات البين — ولكن دخلت عليه شبهة من غير عناد ونفي أو طلب في سبب عرض الدنيا — فإن ذلك يُغْفَر له ولا يؤاخَذ به.
(٣٦) فصل في بيان سبب اختلاف العلماء في الإمامة
فنقول: اعلم أن مسألة الإمامة هي أيضًا من إحدى أمهات مسائل الخلاف بين العلماء، قد تاه فيها الخائضون إلى حجاج شتَّى وأكثروا فيها القيل والقال، وبَدَتْ بين الخائضين فيها العداوة والبغضاء، وجَرَتْ بين طالبيها الحروب والقتال، وأُبِيحت بسببها الأموال والدماء وهي باقية إلى يومنا هذا لم تنفصل، بل كل يوم يزداد الخائضون المختلفون فيها خلافًا على خلاف، وتتشعَّب فيها ومنها آراء ومذاهب حتى لا يكاد يحصي عددها إلا الله، فنحتاج أن نذكر أولًا ما الأصل المتفق عليه بين أهلها، ثم نذكر أسباب الخلاف في فروعها فنقول:
اعلم أن الأمة كلها تقول: إنه لا بد من إمام يكون خليفة لنبيها في أمته بعد وفاته، وذلك لأسباب شتَّى وخصال عدة: أحدها هو أن يحفظ الإمام الشريعة على الأمة ويحيي السنة في الملة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتكون الأمة تصدر عن رأيه.
وقوم آخرون يكونون خلفاءه في سائر البلدان للمسلمين بالنيابة عنه في جباية الخراج وأخْذِ الأعشار والجزية وتفريقها على الجند والحاشية؛ ليحفظ بهم ثغور المسلمين ويحصِّن بهم البيضة، ويقهر الأعداء ويحفظ الطرقات من اللصوص والقُطَّاع، فيمنع الظالم ويردع القوي عن الضعيف المظلوم، وينصف ويعدل بين الناس فيما يتعاملون به، وما شاكَل هذه الخصال التي لا بد للمسلمين من قيِّم بها في ظاهر أمور دنياهم، وخصلة أخرى هي أن يرجع فقهاء المسلمين وعلماؤهم عند مشكلاتهم في أمر الدين إله، وعند مسائل الخلاف فيحكم هو بينهم فيما هم فيه يختلفون من الحكومة في الفقه والأحكام والحدود والقصاص والصلوات والجمعات والأعياد والحج والغزو وتولية القضاة والعدول وفتوى الفقهاء، ويصدرون كلهم عن رأيه وتدبيره وأمره ونهيه؛ فهذا هو الأصل المتفق بينهم في حاجاتهم إلى الإمام.
وأما ما ينبغي أن يكون الإمام ومَنْ هو؟ فهم فيه مختلفون على رأيين ومذهبين: فمنهم مَنْ يرى ويعتقد أنه لا ينبغي إلا أن يكون أفضلهم كلهم بعد نبيها وأقربهم إليه نسبةً ويكون قد نص عليه، ومنهم مَنْ يرى بخلاف ذلك.
ولهم في هذين الرأيين منازعات وخصومات يطول شرحها مذكورة في كتبهم، ولكن نحتاج إلى أن نذكر علة اختلافاتهم من أين كان بدؤها؟ ومن أين أشكل الأمر عليهم فيه؟
واعلم أن الإمامة إنما هي خلافة، والخلافة نوعان: خلافة النبوة، وخلافة المُلْك. والكلام في خصال الإمامة وتعديد شرائطها قبل معرفة خصال النبوة وتحصيل شرائطها، وقبل معرفة خصال الملك وشرائطه والفرق بينهما، كلام على غير أصله، وكل كلام على غير أصل هذيان لا تحقيق له، ونحتاج إلى أن نذكر أولًا خصال النبوة قبل خصال الملك فنقول:
إن أول خصال النبوة الوحي، والأنبياء من الملائكة، ثم إظهار الدعوة في الأمة، ثم تدوين الكتاب المنزَّل بالألفاظ الوجيزة وتبيين قراءته في الفصاحة، ثم إيضاح تفسير معانيه وبلوغ تأويله، ثم وضْع السنن المركَّبة ومداواة النفوس المريضة من المذاهب الفاسدة والآراء السخيفة والعادات الرديئة والأعمال السيئة والأفعال القبيحة.
ثم نقلها من تلك العادات وتلك الآراء ومحوها عن ضمائرها بذكر عيوبها ومداواتها من أسقام تلك العادات بالحمية لها من العود إليها وإشفائها بالرأي الرصين والعادات الجميلة والأعمال الزكية والأخلاق الحميدة بالمدح والترغيب في جزيل الثواب ليوم المآب.
وأيضًا من خصال النبوة معرفة كيفية سياسة النفوس الشريرة عن قصد سبيل الرشاد، وردها عن سلوكها في وعور طريقة البغي بالتمادي ومعرفة كيفية سياسة النفوس الساهية والأرواح اللاهية من طول الرقاد ونسيانها ذكر المعاد بالتذكار لها يوم المعاد؛ لئلَّا يقولوا: ما جاءنا من بشير ولا نذير ولا كتاب.
ومن خصال النبوة أيضًا إجراء السنة في الشريعة، وإيضاح المنهاج في الملة، وتبيين الحلال والحرام، وتفصيل الحدود والأحكام في أمور الدنيا جميعًا، ثم التزهيد في الدنيا وذم الراغبين فيها وتفصيل أحكام الخاص والعام وما بينهما من سائر طبقات الناس، وما شاكَل هذه الخصال المعروفة بين أهل العلم الموجود وضعها في الكتب المنزَّلة من التوراة والإنجيل والقرآن وصحف الأنبياء عليهم السلام.
فأما خصال الملك فأولها أخذ البيعة على الأتباع المستجيبين، وترتيب الخاص والعام مراتبهم، وجباية الخراج والعُشْر والجزية من الملة، وتفريق الأرزاق على الجند والحاشية، وحفظ الثغور وتحصين البيضة وقبول الصلح والمهادنة من الملوك والرؤساء من الأمور المستحبة، والهدايا لتأليف القلوب وشمل الألفة وما شاكَل هذه الخصال المعروفة بين الرؤساء والملوك.
ثم اعلم أنه ربما تجتمع هذه الخصال في شخص واحد منه البشر في وقت من الزمان، فيكون هو النبي المبعوث وهو الملك، وربما تكون في شخصين اثنين: أحدهما النبي المبعوث إلى تلك الأمة والآخر المسلَّط عليهم.
واعلم أنه لا قوام لأحدهم إلا بالآخر، كما قال ملك الفُرْس أزدشير في وصيته: إن الملك والدين أخَوان توأمان لا قوام لأحدهما إلا بالآخر؛ وذلك أن الدين أسُّ الملك والملك حارسه، فما لا أسَّ له مهدوم، وما لا حافظ له ضائع، ولا بد للملك من أسٍّ ولا بد للدين من حارس.
ثم اعلم أن الله تعالى قد جمع لنبيه محمد، عليه الصلاة والسلام والتحية، خصال المُلْك والنبوة جميعًا، كما جمعها لداود وسليمان، عليهما السلام، وكذلك جمع ليوسف الصدِّيق عليه السلام؛ وذلك أن النبي ﷺ أقام بمكة في أول مبعثه نحوًا من اثنتي عشرة سنة يدعو الناس ويعلِّمهم معالم الدين حتى استوفى خصال النبوة وأحكمها، ثم هاجَر بعد ذلك إلى المدينة وأقام بها نحوًا من عشر سنين في ترتيب أمر الأمة وتحذير الأعداء وجباية الخراج والعُشْر ومصالحة الأعداء والمهادنة وقبول الهدايا وحملها والتزويج منهم وإليهم حتى أحكم أمر المُلْك.
ثم اعلم أن الله تعالى لما أضاف إلى نبوته الملك لم يُضِفْها لرغبته في الدنيا وحرصه عليها، ولكن أراد الله تعالى أن يجمع لأمَّته الدين والدنيا جميعًا، وكان القصد الأول هو الدين، والمُلْك عارض لأسباب شتَّى: أحدها أنه لو كان المُلْك في غير أمته لم يكن يؤمن أن يردَّهم عن دينهم أو يسومهم سوء العذاب مَنْ كان مسلَّطًا عليهم مثل ما كان يفعل فرعون ببني إسرائيل.
والخصلة الأخرى ما قال أزدشير: إن «المُلْك والدين أخَوان توأمان». وخصلة أخرى هي أن الناس في طباعهم وجبلَّتهم لا يرغبون إلا في دين الملوك ولا يرهبون إلا منهم، وبهذه الخصال — وخصال أخرى يطول شرحها — جمع الله المُلْك والنبوة لنبيه محمد، عليه الصلاة والسلام والتحية والرضوان، ولما أشكلت هذه المسألة على اليهود والنصارى ارتدُّوا وشكُّوا في نبوته لما رأوا أن المُلْك والنبوة لمحمد عليه السلام. فلما أنزل الله عز وجل قصة داود وسليمان ليحاجَّ بها اليهود والنصارى؛ إذ كانوا مقرِّين بنبوتهما، وقد جمع الله لهما من المُلْك والنبوة ولم يكن المُلْك قادحًا في نبوتهما، فهكذا كان حكم محمد عليه السلام، فإن المُلْك لم يكن قادحًا في نبوته.
واعلم يا أخي أن الله تعالى قد جمع لمحمد عليه السلام، المُلْك والنبوة وأيَّده بروح منه، حتى إنه قام بواجب حقهما لما خصَّه الله به من الجبلَّة القوية والقوة المتينة، كما قال تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ وقلَّ مَنْ يكون كذلك؛ لأن النبوة تتمُّ بنيف وأربعين خصلة من فضائل البشرية، والمُلْك يحتاج إلى شرائط أُخَر غيرها.
(٣٧) فصل في أن بعض أخلاق الملوك مضادة لخصال النبوة
فاعلم أن في بعض أخلاق الملوك مضادة لخصال النبوة؛ وذلك أن المُلْك أمر دنيوي والنبوة أمر أخروي والدنيا والآخرة كأنهما ضدَّان، وأكثر الملوك يكونون راغبين في الدنيا حريصين عليها تاركين لذكر الآخرة ناسين لها. والأنبياء عليهم السلام من خصالهم التزهيد في الدنيا والترغيب في الآخرة، يأمرون بها ويحثُّون عليها. فعلى هذه الدرجة يكون بعض حال الملوك مضادًّا لحال النبوة، ولكن الأنبياء عليهم السلام الذين جمع الله لهم المُلْك والنبوة لم يكونوا شديدي الرغبة في الدنيا ولا حريصين على شهواتها، كما حكى الله تعالى عن يوسف الصديق عليه السلام، حين قال: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ … الآية؛ فهذا يدل على أنه كان من الزاهدين في الدنيا، فهكذا كان داود عليه السلام، وسليمان عليه السلام.
ولقد ذكر الله تعالى في قصة داود عليه السلام، أنه كان أوَّابًا حليمًا، وفي قصة سليمان هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وهكذا كان النبي عليه السلام، زاهدًا في الدنيا راغبًا في الآخرة، وقد رُوِيَ في الخبر أن جبريل عليه السلام، عرض عليه مفاتيح خزائن الأرض فقال: خذها ولا ينقصك ما عند الله شيئًا، فقال عليه السلام: «لا حاجة لي في شيء من ذلك؛ حلالها حساب وحرامها عذاب.» وإنما جعل ذلك إشفاقًا على أمته؛ لئلَّا يرغبوا فيها ويحتجوا إليها بقول الله تعالى: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وقوله: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى وقال: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى.
(٣٨) فصل في مسألة الجبْر
فنقول: اعلم أن مسألة الجبر هي أيضًا من إحدى مسائل الخلاف بين الناس المنبثَّة منها الآراء والمذاهب؛ وذلك أنه منذ كان العلماء وأهل الجدل هم فيها مختلفون فيما مضى من الأزمان والدهور، وهم طائفتان: الجبرية والقدرية، فأما الجبرية فإن الذي أدَّاهم إلى ما يعتقدون في هذه المسألة هو نظرهم واعتبارهم إلى عواقب الأمور وخواتيمها؛ وذلك أنهم لما تبيَّن لهم أن الأمور كلها التي تخرج إلى الكون والفساد والوجود والعدم فعلى ما في مقدور الله وسابق علمه لا يكون خلاف ذلك شيء، وزعموا عند ذلك وظنوا أنهم لا يقدرون على شيء من الأفعال التي تظهر على أيديهم، ولا يستطيعون الامتناع عن شيء من ذلك ولا الترك لها بالحقيقة، ونسبوها كلها إلى القضاء والقدر.
وأما خصماؤهم ومخالفوهم فكان نظرهم واعتبارهم في هذه المسألة الأوامر والنواهي والمدح والذم والوعد والوعيد المتوجِّهة على الإنسان العاقل المستطيع، ورأوا أنه محجوج بها مزاح العلة فيها، وليس له أن يحتج على أحد لا عند الله ولا عند الناس بالقضاء والقدر! وعلم الله السابق في الكائنات؛ لأنه لا يدري أحد في مبدأ أمره وأول أفعاله قضاء الله وقدره وعلمه السابق، وإنما تبيَّن له ذلك بعد فراغه مما قد فعل أو ترك ما أمر الله به، وهذا النظر نظر أولئك واعتبارهم، فلا جَرَم أن المسألة قائمة بحالها والخلاف باقٍ والحكومة لم تنفصل إلى يومنا هذا، بل كلما ازدادوا فيها نظرًا واعتبارًا وبحثًا وجدالًا ازدادوا خلافًا على خلاف إلى يوم القيامة، إِنَّ رَبَّك هو يَفصِلُ بَيْنهم يومَ القيامةِ فيما كانوا فيه يَختلِفون.
ثم اعلم أن ليس أحد من المخلوقين بقادر على شيء من الأشياء ولا عمل من الأعمال إلا ما أقدره الله تعالى عليه وقوَّاه ويسَّره له.
واعلم أن إقدار الله القادرين وتقويته الأقوياء وتيسير الأمور ليس بمجبِر لأحد منهم على فعل من الأفعال ولا عمل من الأعمال ولا تركه.
واعلم أن كل قدرة في أحد من القادرين أو قوة في أحد من الأقوياء على فعل من الأفعال وعمل من الأعمال فهو بتلك القدرة وتلك القوة بعينها التي يقدر بها على الفعل ويقدر أيضًا على ترك الفعل بعينه.
مثال ذلك القوة التي جُعلت في لسان المتكلم على الكلام؛ فهو بتلك القوة بعينها يقدر على السكوت، وبالقوة التي في الرِّجْلين كذلك، وفي العينين على فتحهما كذلك؛ فإنه بتركه ذلك الفعل أيضًا قادر.
وعلى هذا القياس حكم سائر القوى التي يقدر على الأفعال بها، ولكن رُبَّ فعل تركه أسهل من أخذه، ورُبَّ فعل أخذه أسهل من تركه، ويوجد ذلك بحسب الأسباب الداعية إلى الأمور المسيرة بها.
مثال ذلك اللص وسرقته بالليل، فإن النوم على الفرش الوطيئة على كل حال أسهل من الذهاب في ظُلَم الليالي إلى المواضع البعيدة الشاقة ونقْب الدور وتسلُّق الحيطان العالية مع الخوف والوجل، ولكن الحرص والرغبة وشدة الحاجة وطول الأمل وشهوات النفوس وترك النظر في العواقب والغرور بالأمانيِّ ووساوس الشيطان وما شاكَل هذه من الأسباب، تدعوهم إلى فعل ما هو أصعب وعمل ما هو أشق وترك ما هو أيسر وأسهل.
وعلى هذا المثال حكم سائر الأعمال الصعبة والأفعال الشاقة التي يفعلها الفاعلون، فإن تركها أسهل من أخذها، ولكن قيل: «كلٌّ ميسَّر لما خُلِق له.» فمن الناس مَنْ تيسَّر له أخذ الفعل ومنهم مَنْ تيسَّر له تركه.
فلا تظن يا أخي أنه قد يقع من أحد فعل ولا ييسر له عمل ولا ترك شيء مما هو مندوب إليه إلا ما قد سبق له في علم الله الذي يُسمَّى القضاء المبرَم والقدر المحتوم، اللذان هما موجبات أحكام النجوم وتأثيرات الإشكال الفلكي، كما بيَّنا في رسالة الإيمان فليُعْرَف من هناك.
(٣٩) فصل في أن أحكام النجوم هي من إحدى أمهات الخلاف
ثم اعلم أن أحكام النجوم هي أيضًا من إحدى أمهات الخلاف بين الناس مذ كانوا، والعلماء في حكمها على ثلاثة أقاويل: فمنهم مَنْ يرى ويعتقد أن للأشخاص الفلكية دلالة على الكائنات قبل كونها في هذه الأشخاص السُّفْلية، ولها أيضًا فيها أفعال وتأثيرات، ومنهم مَنْ يرى ويعتقد أن لها دلالات ولكن ليس لها فعل ولا تأثيرات، ومنهم مَنْ يرى ويعتقد أنه لا تأثير لها ولا دلالة البتَّة، ولكن حكمها حكم الجمادات والأحجار المطروحة في البراري والقفار، وإنما قالوا هذا وأنكروا دلالتها وأفعالها؛ لتركهم النظر في علم أحكام النجوم وإغفالهم عن تعليمها وإعراضهم عن البحث عنها.
وأما الذين قالوا بأن لها دلالات فإنما عرفوا ذلك وتبيَّن لهم صحته لطول التجارب وكثرة الاعتبار في مرور الأيام والشهور والسنين الكثيرة أمة بعد أمة وقرنًا بعد قرن، كما تبيَّن ذلك في كتب الأحكام.
وأما الذين قالوا: إن لها دلالات وأفعال وتأثيرات، وإنهم أحياء ناطقون، وهم ملائكة الله وملوك أفلاكه وسكان سمواته، فإن ذلك عرفوه بعد النظر في العلوم الإلهية وأحكامها، والعلوم الإلهية عرفوها بعد النظر في العلوم الطبيعية وأحكامها، والعلوم الطبيعية عرفوها بعد النظر في علوم الرياضة وأحكامها، وعلوم الرياضة عرفوها بعد التعلُّم لها والتدرُّب بطول الزمان من الدهور والأيام، فسمَّوا المؤثرات روحانيات الكواكب في الكائنات.
ثم اعلم أن العلماء لا يشكُّون في علم وأدب قد تعلَّموه وفكَّروه بقول المنكرين له والجاهلين به، وهكذا العقلاء مجبولون على ألَّا يترك أحدهم دينًا ومذهبًا قد نشأ عليه وأنس به، وقد اعتاد التعبُّد بطول الزمان على سنته وأخذه عن آبائه وشيوخه وأستاذيه من غير أن يتبيَّن له بطلانه وينكشف له عواره، وهكذا لا يرغب أحد منهم في الدخول في دين أو مذهب لم تتبيَّن له صحته ولم تصح له حقيقته ولا قامت عنده حجته، فلا تلُم الناس على تمسُّكهم بدين آبائهم ومذاهب أسلافهم.
فاعلم أن الحق في كل دين موجود وعلى كل لسان جارٍ، وأن الشبهة دخولها على كل إنسان جائز ممكن، فاجتهد يا أخي أن تبيِّن الحق لكل صاحب دين ومذهب مما هو في يده أو مما هو متمسك به، وتكشف عنه الشبهة التي دخلت عليه إن كنت تُحْسِن هذه الصناعة، وإلا فلا تتعاطاها ولا تدعها إن كنت لا تُحْسِنها ولا تمسك بما أنت عليه من دينك ومذهبك واطلب خيرًا منه، فإن وجدت فلا يسعك الوقوف على الأدون، ولكن واجب عليك الأخذ بالأخير الأفضل والانتقال إليه، ولا تشتغلنَّ بذكر عيوب مذاهب الناس ولكن انظر هل لك مذهب بلا عيب؟
واعلم أن الإنسان العاقل قد تخفى عليه عيوب مذهبه كما تخفى عليه مساوئ أخلاقه وقبائح أفعاله وسيئات أعماله، وتسنح له عيوب غيره ومساوئ أخلاقه وقبيح أفعاله، كما قيل في المثل: «يا ابن آدم لك محلَّان: أحدهما فيه عيوب نفسك، وفي الآخر عيوب غيرك، وأنت قد جعلت التي فيها عيوب غيرك قُدَّام وجهك ولا تزال تطَّلع عليها، والتي فيها عيوب نفسك تجعلها خلف ظهرك فلا تلتفت إليها.» قال حكيم اليونانيين: «الإنسان يعمى ويصم عن عيوب نفسه؛ لأن نفسه أحب الأشياء، وحب الشيء يُعْمِي ويصم.»
ثم اعلم أن العلوم أجناس كثيرة، ولكل جنس أنواع متفننة، وكل نوع منها يحرز آخر، وأهل كل علم متفاوتو الدرجات، فيها مبتدئ متعلم وعالم راسخ وما بينهما من الطبقات، ولأهل كل علم ومذهب أدلة قد نَصَبَها لهم الباري تعالى، فهم يصيبون ويخطئون في أحكامهم والاستدلال بها فمقلٌّ ومُكْثِر.
كل ذلك بحسب قوى نفوسهم وطول دُرْبَتهم ودقة نظرهم فيها، ولا يظن أن الصناعة تبطل أو تكون الأدلة غير صحيحة من أجل خطاياهم وزلَّتهم في الاستدلالات! فعلم النجوم وأدلتها صحيحة وحق، وهي الأشخاص الفلكية التي نَصَبَها الباري تعالى وأجراها مجاريها، وإن كان المنجِّمون يخطئون في بعض استدلالاتهم أو في أكثرها فلا تبطل صناعة علم النجوم من أجل ذلك، وهو علم جعله الله تعالى معجزة لإدريس النبي، آمن به ملك زمانه، وله قصة يطول شرحها، كذلك الطب صناعة، فإن دلالته صحيحة، وقد يصيب الأطباء ويخطئون في قضاياهم باستدلالاتهم التي نصبوها في أكثرها، فلا تبطل صناعة الطب من أجل ذلك، والأدلة التي نصبها الباري سبحانه وتعالى هي اختلاف حركات النبض وأصباغ البول وتغير أحوال المريض للعلل، وهكذا أيضًا الفقهاء والحكام والمُفتون في أحكام الدين من الحلال والحرام قد يصيبون ويخطئون في قضاياهم واستدلالاتهم التي نصبها لهم الباري من آيات كتبه المنزَّلة وسنن أحكام الشريعة ومفروضات النواميس الإلهية، فخطؤهم وزللهم لا يبطل العلم والصناعة والأدلة المنصوبة، ولكن التقصير والعجز موكولان بالإنسان لنقصه عن التمام.
ثم اعلم أن مسألة الوعيد هي أيضًا إحدى أمهات مسائل الخلاف بين العلماء؛ وذلك أن منهم مَنْ يرى ويعتقد أنه واجب في حكم الله وعدله أن يفي بوعيده كما وفى بوعده؛ لأنه إن لم يفعل كان كاذبًا، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا، ومنهم مَنْ يرى ويعتقد أنه لا يكون كاذبًا؛ لأن الكذب هو الخبر بأنه قد فعل ولم يكن فعل، أو يقول: ما فعلت وقد كان فعل، فأما إذا قال: سأفعل، ثم لم يفعل فيكون مخالفًا، والمخالف في الوعد يكون مذمومًا غير وفي، فأما في الوعيد فربما كان الخلاف عفوًا وصفحًا ورحمةً وتحنُّنًا وإشفاقًا وكرمًا وسماحةً وإنعامًا، وكذلك هذه الخصال ممدوحة محمودة تليق بفضل الله ورحمته وكرمه وإحسانه، ومنه قول بعض العرب:
فإن إخلاف الوعيد مكرمة افتخر بها؛ وذلك أن وعيد الله تعالى لعبيده مماثل لوعيد الأب الشفيق الطيب العالم للولد الجاهل العليل يقول: لا تأكل ولا تشرب كيت وكيت وافعل كيت وكيت؛ فإنك إن لم تفعل ولم تقبل نصيحتي ضربتك وحبستك وعاقبتك. فإن لم يفعل الولد ولم يقبل نصيحة والده ولم يأتمر له ولم ينتهِ عما نهاه عنه، وأكل شرب ما نهاه عنه وترك ما كان مأمورًا به؛ بقي عليلًا سقيمًا وفاتته الصحة والأنفع والأصلح، وبقي متألمًا وجيعًا، فإن الأب الشفيق يشفق عليه أن يفي بوعيده فيضربه ويزيده ألمًا وعذابًا، فهكذا يكون حكم عذاب الله ووعيده لعباده، وهذا أليق به وبرحمته وجوده وكرمه وإحسانه.
وأما وقت وفاء الوعد لثواب المحسنين متى يكون وكيف يكون؟ فإن هذه المسائل هي من غوامض العلوم ودقائق الأسرار، وقد أكثر العلماء فيها القال والقيل، وتحيَّرت فيها عقول كثير من الناس أولي الألباب.
فمنهم مَنْ يرى ويعتقد أنها في الدنيا قبل الممات، ومنهم مَنْ يرى أنها تكون في الآخرة بعد الممات، وأما كثير من الناس فينكرون أمر الآخرة فلا يعرفونها ولا يقرُّون بها، وأما المُقِرُّون بها فمختلفون أيضًا فيها وفي ماهيتها وكيفيتها وأبنيتها على مذاهب شتَّى: فمنهم مَنْ يرى ويعتقد أن الآخرة ودار الجزاء إنما تكون بعد خراب السماء وفناء الخلق أجمعين، ثم إن الله تعالى يعيدهم مرة ثانيةً خلقًا جديدًا فيثيبهم ويجازيهم ما كانوا يعملون في الدنيا من خير أو شر أو عرف أو نُكْر، وهذا جيد للعامة ولمن لا يعرف من الأمور شيئًا ويرضى الدين تقليدًا وإيمانًا، وأما الخاص ومَنْ قد نظر في بعض العلوم الرياضية والطبيعية، فإن هذا الرأي لا يصلح لهم؛ وذلك أن كثيرًا من العقلاء الحكماء ينكرون خراب السموات ويأبون ذلك إباءً شديدًا، والجيد لهم إذن أن يعتقدوا أمر الآخرة أن لها وجودًا متأخرًا عن الكون في الدنيا، كما كان في الدنيا موجودًا متأخرًا عن الكون في الرحِم، وكما كانت أيام الشيخوخة متأخرة عن أيام الشباب، وأيام العقل والتمييز والحكمة والكمال كانت متأخرة عن أحوال الجهل، وهي أحوال تطرأ على النفس بعد مفارقتها الجسد إذا هي انتبهت من نوم غفلتها في الدنيا واستيقظت من رقدة جهالتها قبل الممات، ونظرت إلى الدنيا واعتبرت أحوالها وتصاريف أمورها؛ ليكون ذلك دلالة على معرفة الآخرة، فإذا لم تفعل وماتت ميتة جاهلية بعمائها فتكون بعدُ بأمر الآخرة أعمى وأضل سبيلًا، وقد بيَّنَّا في رسالة الآلام واللذات طرفًا في كيفية ثواب المحسنين وجزاء المسيئين بعد الممات، وطرفًا آخر منها بيَّنَّاها في رسالة البعث والقيامة، ونريد أن نذكر ها هنا طرفًا آخر.
(٤٠) فصل في جزاء المحسنين
فنقول: اعلم يا أخي أن جزاء المحسنين يتفاضل في الآخرة بحسب درجاتهم في المعارف واجتهادهم في الأعمال الصالحة، والناس متفاوتو الدرجات في أعمالهم كلٌّ على شاكلته، وأجود أحوال العامة والجُهَّال كثرة الصوم والصدقة والصلاة والقراءة والتسبيح، وما شاكَل ذلك من العبادات المفروضة والمسنونة في الشرائع، المشغلة لهم عن فضول وبطالة وما لا ينبغي لهم كيلا يقعوا في الآفات.
وأفضل أعمال الخواص التفكُّر والاعتبار بتصاريف أمور المحسوسات والمعقولات وبخاصة ما يتعلق بالدين، وقد قيل: أفضل أعمال الخير خصلة واحدة وهي التفكر، قال الله تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا.
ثم اعلم أن الإنسان إذا عقل الأمور المحسوسة وعرفها وتفكَّر في الأمور العقلية وبحث عنها وعن عللها استقبلته عند ذلك طريقتان: إحداهما ذات اليمين تؤديه إلى الهداية والرشاد، والأخرى ذات الشمال تؤدي إلى الغي والضلال؛ وذلك أن أمور العالم نوعان: كليات وجزئيات لا غير، فإذا أخذ الإنسان يفكر في كلياتها ويعتبر أحوالها وتصاريفها ويبحث عن الحكمة فيها بانت له، وأمكنه أن يعرفها بحقائقها وأرشد إليها، فكلما تقدَّم فيه زاد هداية ويقينًا ونورًا واستبصارًا وتحققًا، وازداد من الله قربًا وكرامةً.
وإذا أخذ يتفكر في جزئياتها والبحث عنها وعن عللها خفيت وانغقلت مناحيها، وكلما ازداد تفكرًا ازداد تحيُّرًا وشكوكًا ومن الله بُعْدًا، وكان قلبه من أجل ذلك في عذاب أليم.
مثال ذلك أنه إذا ابتدأ الإنسان أولًا وتفكَّر في نفسه ونظر إلى بِنْيَة هيكله ونفسه وكيفية تركيب جسده وكيف كان أولًا في صلب أبيه ماءً مهينًا؟ ثم كيف صار نطفة في قرار مكين؟ ثم كيف صار مضغة؟ ثم كيف كسا العظام لحمًا؟ ثم كيف صار جنينًا بعد أطوار متعاقبة؟ ثم كيف قبلت فتيلة جسده نور شعاع فيض روح القدس الإلهي؟ ثم كيف أُخْرِج من الرحِم الذي هو عالم كونه إلى الدنيا التي هي عالم آخرته؟ ثم كيف صار طفلًا حساسًا؟ ثم كيف تربَّى وهو طفل صبي جاهل؟ ثم كيف نشأ وصار شابًّا عالمًا أو جاهلًا؟ ثم كيف صار رجلًا عالمًا فيلسوفًا حكيمًا مدبِّرًا متملِّكًا على ما ملك؟ ثم كيف صار زاهدًا عابدًا؟ ثم إنْ طال عمره كيف يرجع كما كان بديًّا ضعيفًا ذاهب القوة؟ ثم كيف ظهر بعد الشبابة والقوة والضعف والشيبة؟ اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ.
فإذا فكر الإنسان في هذه الحالات التي ينقل فيها من أدونها إلى أتمِّها ومن أفضلها إلى أكملها؛ فيعلم بالضرورة ويشهد له عقله أن له صانعًا حكيمًا هو الذي اخترعه وأنشأه وأنماه، فإذا تحقق عنده ما وصفنا من هذه الحالات جعل نفسه عند ذلك مقياسًا على سائر أبناء جنسه، فعلم علمًا يقينًا أنه قد فعل بهم مثل ما فعل به، وهكذا سائر الحيوانات، وكلما ازداد تفكرًا في هذا الباب ازداد بربه يقينًا وبأوصافه معرفة.
واعلم أن الله تعالى حي عالم قادر عليم حكيم محسن جواد كريم مشفق رحيم، ولو نظر في التشريح أو في كتاب منافع الأعضاء أو كتاب الحيوان أو كتاب النبات أو كتاب المعادن أو كتاب الآثار العلوية أو كتاب تركيب الأفلاك وما شاكَلها من الكتب والعلوم والمعارف من وصف مصنوعاته وعجائب مخترعاته؛ فإنه كلما ازداد فيها نظرًا ازداد بالله علمًا وبأوصافه اللائقة به معرفةً واستبصارًا وإليه قربة وإلى لقاء الله اشتياقًا؛ فهذا هو الطريق ذات اليمين المؤدي سالكه إلى الله تعالى وإلى نعيم جنانه.
وأما الطريق الآخر ذات الشمال المؤدي إلى الشكوك والحيرة والضلالة والعمى؛ فهو أن يبتدئ الإنسان قبل النظر في العلوم والآداب والرياضيات، وقبل أن يُحسِّن أخلاقه ويهذِّب نفسه بالكشف عن الأمور الجزئية الخفيَّة المشكلة على الحُذَّاق من العلماء والفلاسفة فضلًا عن غيرهم نحو معرفة ألم الأطفال، وطلب معرفة مصائب الأخيار، والبحث عن الأنباء وتيسير أمور الأشرار، ولِمَ زيدٌ الحازم فقير؟ وعمَرُ العاجز غني؟ ولِمَ جعفر الغبي أمير؟ وعبد الله الحكيم حقير؟ ولِمَ هذا الرجل ضعيف والآخر قوي صحيح؟ ولِمَ هذه الدودة صغيرة وهذا الجمل كبير؟ ولِمَ الفيل مع كِبَر جثته له أربع قوائم والبق مع صِغَر جثته له ست أرجل وجناحان؟ ولماذا يصلح البق والذباب والقردان والبراغيث؟ وأي فائدة في خلق الخنازير والوزغ؟ وأي حكمة في خلق العقارب والحيات وما شاكَل ذلك من المسائل التي لا يُحْصِي عددها إلا الله ولا يعلم سواه عللها، فأما الإنسان فإنه لا يعرف الحكمة في عللها إلا بعد النظر في العلوم الإلهية، وهو لا يعرف إلا بعد النظر والتفكُّر في الأمور الطبيعية، وهو لا يعرف إلا بعد النظر في الأمور المعقولة، وهو لا يعرف إلا بعد النظر والتفكر في الأمور المحسوسة، فمَنْ لم يكن مرتاضًا بهذه العلوم والمعارف ولا متأدِّبًا بها ولا صافي النفس ولا صالح الأخلاق فيبتدئ أولًا بطلب الأمور المشكلة التي تقدَّم ذكرها، فلا يدركها ولا يعقلها، فيرجع عند ذلك خاسرًا متفكرًا متحيرًا غافلًا بنفسه وسواسًا في قلبه، فينظر عند ذلك إلى أمر العالم مهملًا والكائنات باتفاق لا بعناية حكيم ولا صنع صانع عليم، أو نظر إلى أن رب العالمين غافل عن أمر عالمه حتى يجري فيه ما لا يليق بالحكمة، أو يظن أنه لا يعلم ما يجري فيه، أو أنه لا يفكِّر في هذه الأمور الجزئية ولا يهمه، أو يظن أنه قاسٍ قليل الرحمة والنظر لضعفاء الخلق، أو أنه جائر في قضائه وأحكامه مُتعِب لخلقه مفرط في تقديره غير عدل ولا حكيم في كثير من أفعاله، لا يرحم الضعيف، وما شاكَل هذه من الظنون والشكوك والحيرة والضلال الذي قد تاهت في طلب معرفته عقول كثير من العقلاء المتقدمين المرتاضين بالعلوم الحكمية، فكيف غيرهم ممن ليست له رياضة ولا معرفة بحقائق الأسرار المعروفة! وقيل: إن حكيم الفُرْس بزرجمهر لما تفكَّر في هذه الأمور المشكلة ولم يعرف عللها قال عند ذلك احتجاجًا لنفسه؛ إذ قد تبيَّن له بأن الله حكيم عدل «إن مصائب العباد إذن لعلل لا يعرفها» إقرارًا على نفسه بالعجز عن معرفة هذه الأمور المشكلة.
ويقال: إن نبيًّا اجتاز مرة عينًا من الماء في سفح جبل فتوضَّأ منها ثم ارتقى إلى جبل ليصلي، فبينما هو كذلك إذ نظر إلى فارس قد أقبل على تلك العين فشرب منها الماء وسقى فرسه، ثم ركب فمضى ونسي عند العين صُرَّة فيها دراهم، ثم جاء من بعده راعي الغنم ورأى الكيس فأخذه ومضى، ثم جاء بعده شيخ حطَّاب عليه أثر البؤس والمسكنة على ظهره حزمة من الحطب ثقيلة حملها، فحطَّ هناك حزمته واستلقى يستريح مما به من شدة الضعف والتعب والريق والانهيار، ففكَّر النبي وقال في نفسه: لو أن هذا الكيس مكانه لكان هذا الشيخ الضعيف أولى بأخذه من ذلك الراعي الشاب الغني القوي! فما كان إلا قليلًا حتى إن الفارس قد رجع إلى مكانه الذي شرب الماء منه وطلب الكيس فلم يجده، فطالب الشيخ فأبى الشيخ وقال: ما عندي خبر هذا فضربه وعذَّبه حتى قتله ومضى الفارس.
فقال عند ذلك: يا رب، ما وجه الحكمة في هذه القضية؟ وأين هذا من العدل؟ فأوحى الله تعالى إليه أن أبا الشيخ قتل في الزمان الماضي أبا الفارس، وكان على أبي الفارس دَيْنٌ لأبي الراعي بمقدار ما في الكيس فأخذت القود ورددت الدَّيْن وأنا حكيم عادل.
وكذلك يُحْكَى أن نبيًّا من أنبياء الله تعالى اجتاز نهرًا فيه صبيان يلعبون وبينهم صبي مكفوف وهم يغوصونه في الماء ويولعون به وهو يطالبهم ولا يظفر بهم، ففكَّر النبي في أمره ودعا ربه أن يردَّ بصره ويساوي بينه وبين الصبيان، فلما ردَّ الله بصره فتح عينيه فقرب إلى واحد من أولئك الصبيان فتعلق به وغوَّصه في الماء ولم يفارقه حتى قتله، وطلب آخر كذلك وهرب الباقون، فدعا النبي حين ذلك ربه أن يكفيهم شره فأوحى الله تعالى إليه وقال: إني قد فعلت، ولكن لم ترضَ بحكمي وتعرضت في تدبيري لخلقي، فتبيَّن للنبي أن كل ما يجري في العالم من أمثال هذه الأمور فلله تعالى فيه سر وتدبير وحكمة لا يعلمها إلا هو.
وقد أخبر الله تعالى في القرآن من حديث نبيَّين وما جرى بينهما من الخطاب في هذا المعنى: أحدهما موسى عليه السلام، وهو صاحب شريعةٍ وأمرٍ ونهيٍ وحدودٍ ورسومٍ وأحكامٍ، والآخر الخضر عليه السلام، وهو صاحب سرٍّ وغيبٍ وكتمانٍ، وكيف تعرَّض له موسى، عليه السلام، فيما يفعله بواجب حكمة؟ وكيف اعتذاره إليه لما لم يستطع معه صبرًا؟ وإنما ذكرنا هذه الحكايات في هذا الفصل؛ لأن أكثر الآراء والمذاهب تتشعَّب في هذه الأمور المشكلة التي فكَّر فيها العلماء وطلبوا عللها، فلما لم تبلغ أفهامهم كيفية معرفتها تفرَّقت بهم الآراء والمذاهب عند ذلك إلا مَنْ عصمه الله وهدى قلبه وعرَّفه، كما قال: وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وقالت الملائكة: لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا وقوله: رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا.
(٤١) فصل في أن الأمور المشكلة كثيرة
ثم اعلم أن الأمور المشكلة كثيرة لا يُحْصِي عددها إلا الله تعالى، ولكن يجمعها كلها ثلاثة أنواع: فمنها ما هي أمور جسمانية طبيعية محسوسة، ومنها ما هي أمور روحانية معقولة، ومنها ما هي أمور رياضية متوسطة بين الجسمانية والروحانية. فأما الأمور الجسمانية فثلاثة أنواع: منها ما هي ظاهرة جليَّة، ومنها ما هي لطيفة دقيقة، ومنها ما هي بين ذلك. وقد ذكرنا طرفًا من هذه الأمور في رسائلنا الطبيعية وتكلَّمنا عليها في كل رسالة حسب ما يليق به ويقتصر غرضها.
وأما الأمور الروحانية فهي تنقسم ثلاثة أنواع: فمنها ما هي قريبة من الأوهام، ومنها ما هي بعيدة لا يمكن الأفكار تصوُّرها والأوهام تخيُّلها، ومنها ما بين ذلك، وقد ذكرنا طرفًا من الأمور الرياضية والإلهية في رسائلنا العقليات.
وهكذا حكم الأمور الرياضية فإنها ثلاثة أنواع: فمنها ما هي قريبة من الأوهام يكفي أدنى تأمُّل فيها، ومنها ما هي بعيدة جدًّا تحتاج إلى تأمُّل شديد وبحث دقيق في تصورها، ومنها ما هي بين ذلك، وقد ذكرنا طرفًا منها في رسائلنا الرياضيات.
فهذه تسعة أنواع لا يخرج عنها شيء من الأمور المشكلة المختلفة فيما بين العلماء، فأما فروعها فكثيرة لا يُحْصِي عددها إلا الله تعالى.
ثم اعلم أن الله تعالى خلق لكل نوع من هذه العلوم والآداب أمَّةً من الناس، وجعل في جبلَّة نفوسهم محبةَ معرفتها ومكَّنهم من طلبها وتعلُّمها والبحث عنها والنظر فيها؛ لتكون العلوم والآداب محفوظة عليهم لا تنقرض، كما خلق لكل صناعة وتجارة أمة من الناس وجعلها سبب معاشهم طول حياتهم في دنياهم؛ لتكون كلها محفوظة باقية لحاجة الإنسان إليها في الدين والدنيا جميعًا.
ثم اعلم أن العلوم والآداب تتفاضل، كما أن الصنائع والتجارات والأعمال تتفاضل، وأن أهلها يتفاضلون فيها، وأفضل كل أهل علم هم الراسخون في العلم العارفون بأصوله وفروعه، كما أن أفضل أهل الصناعة والتجارة هم الحُذَّاق بها الأستاذون فيها.
ثم اعلم أنه ليس كل علم وأدب يليق بكل إنسان أن يتعلمه ويتعاطاه، ولكن أولى العلوم بكل إنسان أن يتعلمه ما لا يسعه جهله وواجب عليه طلبه.
فانظر يا أخي أولًا بعقلك وميِّز ببصرك، واختر من العلوم والآداب ما لا بد لك منه، كما تختار من الأعمال والصنائع والتجارات ما لا بد لك منها.
ثم اعلم أن الناس على طبقات كثيرة في أحوالهم من الصنائع والأعمال والأخلاق والآراء والمذاهب والعلوم والمعارف لا يُحْصَى عددها، ولكن يحصرهم كلهم ثلاث طبقات: فمنهم العامة من النساء والصبيان والجهال، ومنهم الخاصة من العلماء والحكماء البالغين فيها الراسخين، ومنهم متوسطون بين ذلك.
ولكل طائفة من هؤلاء علم هو أولى بهم وأليق، فالتي تصلح للخاصة لا تصلح للعامة، والتي تصلح للعامة لا تصلح للخاصة، ولكن الذي يصلح للخاص والعام وما بينهما من سائر الطبقات جميعًا من العلوم والمعارف والآداب هو علم الدين وآدابه وما يتعلق به من الأعمال.
(٤٢) فصل في أن علم الدين وآدابه وما يتعلق به نوعان
ثم اعلم، أيَّدك الله، أن علم الدين وآدابه وما يتعلق به نوعان: فمنها ظاهر جليٌّ ومنها ما هو خفيٌّ، ومنها ما هو بيْن ذلك.
وأولى ما يصلح للعامة من حكم الدين وآدابه ما كان ظاهرًا جليًّا مكشوفًا مثل علم الصلاة والصوم والزكاة والصدقات والقراءة والتسبيح والتهليل وعلم العبادات، ومثل علم الأخبار والروايات والقصص وما شاكلها تعليمًا وتسليمًا وإيمانًا، وأولى علوم الدين بالمتوسطين بين الخاصة والعامة هو التفقُّه في أحكامها والبحث عن السيرة العادلة، والنظر في معاني الألفاظ مثل التفسير والتنزيل والتأويل والنظر في المُحْكَمات والمتشابهات، وطلب الحجة والبرهان، وأن لا يرضى من الدين تقليدًا إذا كان يمكنه الاجتهاد ودقة النظر.
والذي يصلح للخواص البالغين في الحكمة الراسخين في العلوم من علم الدين أن يطلبوه ويليق بهم أن ينظروا فيه ويبحثوا عنه، هو النظر في أسرار الدين وبواطن الأمور الخفية وأسرارها المكنونة التي لا يمسها إلا المطهَّرون من أدناس الشهوات وأرجاس الكبر والرياء، وهي البحث عن مرامي أصحاب النواميس في رموزهم وإشاراتهم اللطيفة المأخوذة معانيها عن الملائكة وما تأويلها وحقيقة معانيها الموجودة في التوراة والإنجيل والزبور والفرقان وصحف الأنبياء عليهم السلام من الأخبار عن بدء كون العالم وخلق السموات والأرض في ستة أيام، ثم استوى على العرش، وخلق آدم الأول الترابي، وأخذ الميثاق عليه وعلى ذريته، وعتاب الملائكة لربها ومراجعتها إياه في الخطاب، وسجودهم لآدم، عليه السلام، وعصيان إبليس واستكباره عن السجود، وما شجرة الخلد والمُلْك الذي لا يبلى، وما شاكَل هذه الإشارات والمرامي عن أمور قد مضت مع الزمان وانقضت مع الأيام، وما يُنْتَظر في المستقبل كالمُكْث في البرزخ والبعث والقيامة والحشر والنشر والميزان والوقوف على الأعراف والجواز على الصراط، ودخول الجنة وما نعيمها وكيفية لذاتها، وماهية دركات النيران وعذاب أهلها، وما شاكَل هذه الأمور المذكورة في كتب الأنبياء عليهم السلام.
وأما حقائق معانيها فقد بيَّنَّا طرفًا من هذه العلوم والمعارف في رسائلنا الناموسية الإلهية.
ثم اعلم أن رجال هذه الطبقات الثلاث المقدَّم ذكرها متفاوتو الدرجات في علومهم ومعارفهم، فإن استوى أن تكون في أعلى المراتب وأعلى الدرجات فلا ترضَ لنفسك بالدون، واجتهد في الطلب؛ فإن الذين هم فوقك قد كانوا وليست هذه مراتبهم، ثم اجتهدوا في الطلب وبلَّغهم الله كما وعد فقال: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا.
(٤٣) فصل في أن أشرف العلوم وأجلَّ المعارف هي معرفة الله
ثم اعلم أن أشرف العلوم وأجلَّ المعارف هي معرفة الله وصفاته اللائقة به، وأن العلماء قد تكلَّموا في ماهية ذاته وأكثروا القيل والقال في حقيقته وصفاته، وتاهَ أكثرهم في العجاج عن المنهاج والفلح، والعلة في ذلك هو من أجل أن هذا المطلب من أبعد المرامي إشارةً، وهو أقرب المذاهب وجدانًا كما قال تعالى وضرب لهذه المعاني مثلًا فقال: كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً الآية.
ثم اعلم أنه لم يفُت مَنْ فاته وجدانه من أجل خفاء ذاته ودقَّة صفاته وكتمانها، ولكن من شدة ظهوره وجلالة نوره، وإنما ذهب على مَنْ ذهب معرفة ذاته وحقيقة صفاته من أجل أنهم طلبوه كطلبهم سائر الأشياء الجزئية المحسوسة، وبحثوا كبحثهم عن سائر الموجودات الكليات المبدَعات المخترَعات المصنوعات الكائنات من الجواهر والأعراض والصفات الموصوفات، المحتوية عليها الأماكن والأزمان والأكوان من الأشخاص والأنواع والأجناس.
وذلك أن كل واحد من هذه الموجودات يطلب فيه ويبحث عنه بتسعة مباحث وهي: هل هو؟ وما هو؟ وكم هو؟ وكيف هو؟ وأي هو؟ وأين هو؟ ومتى هو؟ ولِمَ هو؟ ومَنْ هو؟
ثم اعلم أن مبدع الهويات وممهي الماهيات وموجد الكميات ومكيِّف الكيفيات ومميِّز الأينيات ومرتب الأنينات وعلة اللميات لا يقال له ما هو؟ ولا يُسْأل عنه كيف هو؟ وكم هو؟ وأي هو؟ وأين هو؟ ومتى هو؟ ولِمَ كان؟ وإنما يجوز ويسوغ فيه وعنه من هذه المباحث وسؤالان اثنان حسبُ وهما: هل هو؟ ومَنْ هو؟ كما يقال: هو الذي فعل كيت وكيت، هو الذي وضع كيت وكيت، ومن أجل هذا أجاب موسى عليه السلام، فرعون إذ سأله: ما رب العالمين؟ فلم يُجِبْه موسى عن جواب «ما»، بل أجاب عن جواب «مَنْ» الذي يليق به وبربوبيته، فقال: رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا، فلم يُرْضِ فرعون الجواب، فقال لمن حوله من الناس المتكلمين: أَلَا تَسْتَمِعُونَ أسأله «ما هو؟» ويُجيبني «مَنْ هو؟» وكذا سأل مشركو قريش ومجادلوهم النبي عليه السلام، فقالوا: نعبد أصنامنا وآلهتنا ونحن نراها ونشاهدها ونعرفها، فأخبِرْنا عن إلهك الذي تعبده ما هو؟ فأنزل الله تعالى قوله: قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ فقالوا: لا يُفهم ولا يُعرف، يريدون ماهية ذاته، أجوهرٌ هو أم عَرَض؟ أنور هو أم ظلمة؟ أجسمٌ هو أم روح؟ أداخلٌ هو أم خارج؟ أقائمٌ هو أم قاعد؟ أفارغٌ هو أم مشغول؟ وما شاكَل هذه المباحث والمطالب التي لا تليق بربوبيته، تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا.
(٤٤) فصل في أن مسألة الخلاف في الذات والصفات هي أيضًا من إحدى المسائل الخلافية
ثم اعلم أن مسألة الخلاف للذات والصفات هي أيضًا من إحدى المسائل الخلافية بين العلماء في الآراء والمذاهب؛ وذلك أن كثرة الظنون والتخيلات العارضة للأفهام إذا تفكرت النفوس في ماهية الله وكيفية صفاته اللائقة فلا تهتدي الظنون ولا تقر الأفهام عن الجولان، ولا تسكن النفوس إليه ولا تطمئن القلوب له حتى يعتقد الإنسان رأيًا من الآراء وتسكن نفسه إليه ويطمئن قلبه به.
فمن الناس مَنْ يرى ويعتقد أن الله تعالى شخص من الأشخاص الفاضلة ذو صفات كثيرة ممدوحة وأفعال كثيرة متغايرة لا يشبه أحدًا من خلقه ولا يماثله سواه من بريَّته، وهو منفرد من جميع خلقه في مكان دون مكان، وهذا رأي الجمهور من العامة وكثير من الخواص.
ومنهم مَنْ يرى ويعتقد أنه في السماء فوق رءوس الخلائق جميعًا.
ومنهم مَنْ يرى أنه فوق العرش في السموات وهو مطَّلع على أهل السموات والأرض وينظر إليهم ويسمع كلامهم ويعلم ما في ضمائرهم، لا يخفى عليه خافية من أمرهم.
واعلم أن هذا الرأي والاعتقاد جيد للعامة من النساء والصبيان والجُهَّال ومَنْ لا يعلم شيئًا من العلوم الرياضية والطبيعية والعقلية والإلهية؛ لأنهم إذا اعتقدوا فيه هذا الرأي تيقَّنوا عند ذلك وجوده وتحققوا وعلموا وصاياه التي جاءت بها الأنبياء، عليهم السلام، من الأوامر والنواهي، وعلموا علمها وعملوا بها خوفًا ورجاءً من الوعد والوعيد، وتجنَّبوا الزور والشرور وعملوا الخير والمعروف، وكان في ذلك صلاح لهم ولمن يعاملهم ويعاشرهم من الخاص والعام، وليس يضر الله شيئًا مما اعتقدوه.
ومن الناس طائفة أخرى فوق هؤلاء في العلوم والمعارف ترى بأن هذا الرأي باطل ولا ينبغي أن يعتقدوا في الله تعالى أنه شخص يحويه مكان، بل هو صورة روحانية سارية في جميع الموجودات حيث ما كان لا يحويه مكان ولا زمان، ولا يناله حس ولا تغيير ولا حدثان، وهو لا يخفى عليه من أمر خلقه ذرة في الأرضين والسموات، يعلمها ويراها ويشاهدها في حال وجودها، وكان يعلمها قبل كونها وبعد فنائها.
ومن الناس طائفة أخرى فوق هؤلاء في العلوم والمعارف والعقل ترى وتعتقد أنه ليس بذي صورة؛ لأن الصورة لا تقوم إلا في الهيولى، بل ترى أنه نور بسيط من الأنوار الروحانية لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ.
ومن الناس ممن فوق هؤلاء في العلوم والمعارف والنظر والمَشَاهِد يرى ويعتقد أنه ليس بشخص ولا صورة بل هوية وحدانية، ذو قوة واحدة وأفعال كثيرة وصنائع عجيبة، لا يعلم أحد من خلقه ما هو؟ وأين هو، وكيف هو، وهو الفائض منه وجود الموجودات، وهو المُظْهِر صور الكائنات في الهيولى، المُبْدِع جميع الكيفيات بلا زمان ولا مكان، بل قال كن فكان، وهو موجود في كل شيء من غير المخالطة، ومع كل شيء من غير الممازجة كوجود الواحد في كل عدد كما وصفنا في رسالة المبادئ.
ثم اعلم أن الله تعالى جعل بواجب حكمته في جبلَّة النفوس معرفة هويته طبعًا من غير تعلُّم ولا اكتساب؛ لتكون تلك المعرفة داعية لها ومؤدية إلى طلب ماهيته ومعرفة آنيته؛ وليكون طلبتها في هذه المعارف داعية لها ومؤدية إلى أحكام جميع العلوم والمعارف الإلهية والطبيعية والرياضية والعقلية والحسية، حتى إذا أُحْكِمَت هذه العلوم والمعارف عرفه عند ذلك حق معرفته، وسكنت إليه واطمأنت وثبتت معه ونالت السعادة القصوى التي هي سعادة الآخرة.
ثم اعلم أن السعادة نوعان: دنيوية وأخروية، والسعادة الدنيوية هي أن يبقى كل شخص في هذا العالم أطول ما يمكن على أحسن حالاته وأكمل غاياته، والسعادة الأخروية أن تبقى كل نفس بعد مفارقتها الجسد إلى أبد الآبدين على أتمِّ حالاتها وأكمل غاياتها.
ثم اعلم أن أحسن حالات النفوس أن تكون عالمة بالأمور الإلهية عارفة بالمعارف الربانية ملتذَّة بها مسرورة فرحانة منعمة أبد الآبدين خالدة سرمدية، كما قال الله تعالى: وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وقال عليه السلام: «فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.»
(٤٥) فصل في أن مسألة الصفات هي أيضًا من إحدى مسائل الخلاف
ثم اعلم أن مسألة الصفات هي أيضًا من إحدى مسائل الخلاف بين العلماء، ولكن من المسائل ما هي فروع مبنية على أصل، فمن ذلك قول القائلين بخلق القرآن، فإن هذا الحكم مبني على أن الكلام إنما هو حروف وأصوات يُحْدِثها المتكلم في الهواء، فعلى هذا الأصل يجب أن يكون القرآن مخلوقًا، وأما على أصل مَنْ يرى أن الحروف والأصوات إنما هي سمات وآلات والكلام إنما هو تلك المعاني التي في أفكار النفوس، فعلى هذا الأصل يجب ألَّا يكون القرآن مخلوقًا؛ لأن الله تعالى لم يزل عالمًا بتلك المعاني التي هي في علمه، وتلك المعاني لم تزل معلومة له، ومنهم مَنْ يرى أن كلام كل متكلم هو إفهامه غيره معنًى من المعاني بأي لغة وأي عبارة وأي إشارة كانت، فكلام الله لجبريل عليه السلام، هو إفهامه تلك المعاني، وكذلك جبريل عليه السلام، لمحمد، وكذلك محمد لأمته، وأمته بعضهم لبعض وكلها مخلوقة.
فأما إفهام الله لجبريل عليه السلام، فليس مخلوقًا؛ لأن إفهام الله إبداع منه، والإبداع غير المبدع، كما أن العلم غير العالم وغير المعلم، وكثير من هؤلاء المجادلة لا يعرفون الفرق بين المخلوق وبين المبدع ولا بين الخالق والإبداع.
ثم اعلم أن الخلق هو إيجاد الشيء من شيء آخر كما قال الله تعالى: خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ.
وأما الإبداع فهو إيجاد الشيء من لا شيء، وكلام الله هو إبداع أبدع به المُبْدَعات كما قال: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أيْ أبدعناه أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.
والمكونات إنما تتكون بقوله: كن، فكن بأي شيء يتكون إن كان مخلوقًا على زعم هؤلاء المخالفين.
ثم اعلم أن اختلاف العلماء في معلومات الله لم تزل أيضًا من إحدى أمهات المسائل للخلاف.
وذلك أن منهم مَنْ يرى ويعتقد أن معلومات الله لم تزل هي أشياء في القِدَم جواهر أو أعراض؛ لأن الشيء عندهم هو الذي يُخبر عنه ويُعلَم، فقد علم الله الأشياء قبل أن أخرجها من العدم إلى الوجود واخترعها، وهذا رأي بعض القدماء وبعض متكلمي أهل هذا الزمان.
ومن العلماء مَنْ يرى أن الله لم يزل عالمًا بأنه لا شيء سواه، وكان عالمًا بأنه سيخلق الأشياء ويجعلها جواهر أو أعراضًا، ويؤلِّفها على ما هي عليه الآن، ثم فعل كما علم.
وأما مسألة المشيئة والإرادة فهي أيضًا من إحدى مسائل الخلاف وأمهاتها بين العلماء؛ وذلك أن منهم مَنْ يرى أن في علم الله تعالى أشياء لا يريدها هو ولا يشاؤها البتة وهي الشرور والعصيان والمنكر.
ومنهم مَنْ يرى ويعتقد بأنه لا يجوز أن يكون في علم الباري أشياء لا يريدها هو مع قدرته على تغييرها وعلمه بكونها شرًّا كان أو خيرًا.
ومنهم مَنْ يرى أن الله تعالى لا يوصف بالإرادة والمشيئة إلا على سبيل المجاز، وإنما يوصف الباري تعالى بالعلم، وما علمه بأنه سيكون فلا بد من كونه، كونه هو أو كونه غيره.
وما علم بأنه لا يكون فلا يكونه هو وعباده، فالإرادة لا يحتاج إليها ولا معنى لها؛ لأن الإرادة يوصف بها مَنْ لا يدري هل يكون الشيء أم لا، فإن اختار أراد أن يكون، وإن لم يخْتَر فلا يريد أن يكون.
فعلى هذا الأصل كلتا الطائفتين الخائضتين في إرادة الله ومشيئته على غير تحقيق، بل على سبيل المجاز.
وأما احتجاج مَنْ يزعم ويقول: إذا كان لا يقع من العباد ما أُمِروا به ونُهُوا عنه إلا بما قد سبق العلم به أن يكون أو لا يكون، فالأمر والنهي والوعد والوعيد والمدح والذم لماذا؟ وما وجه الحكمة فيها؟ فليعلم قائل هذا القول بأن اللوم والذم ليس يلزم العبد من أجل وقوع المعلوم منه، بل من أجل تركه الاجتهاد بما أُمر به أو نُهي عنه.
فإذا اجتهد العبد ووقع المعلوم منه فهو ممدوح مستوجِب للوعد والثناء عليه، وإذا اجتهد العبد ولم يقع المأمور به أو وقع المنهي عنه فهو معذور يستحق العفو والغفران من أجل اجتهاده.
ثم اعلم أن الله تعالى أمر أيضًا بالتوبة والندامة والاستغفار، وهي أيضًا طاعة الله والدين، ويستحق العبد الثواب والجزاء، والتوبة والندم والاستغفار لا يكون إلا بعد الذنب.
وقد رُوِي عنه عليه السلام، أنه قال: «لولا أن بني آدم إذا أذنبوا تابوا فيغفر لهم الله لَخَلَقَ الله تعالى خلقًا جديدًا أذنبوا وتابوا فيغفر لهم.»
ثم اعلم أن من أفقه الفقهاء وأحكم الحكماء مَنْ كان يحسن أن يعظ الناس ويدعوهم إلى الله ويهديهم إليه ويزهدهم في الدنيا ويرغِّبهم في الآخرة ويخوِّفهم سخط الله، فلا يؤيسهم من روحه ويحذِّرهم الله، ولا يقنطنَّهم من رحمة الله، ويحسن أن يصف لهم فضل الله وإحسانه ورحمته، ولا يرخص لهم معصيته ولا ترك طاعته؛ لأن ذلك يكون استجراءً على الله لا اتكالًا على رحمته، بل يقيمهم بين الرجاء والخوف وبين الرغبة والرهبة إلى يوم يلقونه، فيفعل بهم ما يشاء ويحكم فيهم ما يريد لا رادَّ لحكمه ولا معقِّب لقضائه فعَّال لما يريد.
واعلم يا أخي، أيَّدك الله وإيانا بروح منه، أن من الآراء والمذاهب والاعتقادات ما هي مؤلمة لنفوس معتقديها معذِّبة لقلوبهم، وهي الآراء الفاسدة والاعتقادات الرديئة، ومنها ما هي ملذَّة لنفوس معتقديها مفرِحة لقلوبهم وهي الآراء الصالحة والاعتقادات الجيدة.
ثم اعلم أن الآراء الفاسدة كثيرة لا يُحْصَى عددها، ولكن نذكر منها طرفًا ليُعرف القياس ويُحذر منها ومن أمثالها.
فمن ذلك رأي مَنْ رأى واعتقد أن العالم قديم لا صانع ولا مدبِّر له، وأن هذا الرأي مؤلم لنفوس معتقديه معذِّب لقلوبهم؛ وذلك أنه لا يخلو من أن يكون صاحب هذا الرأي سعيد أهل الدنيا أو من أشقيائهم، فإن كان من سعدائهم فإنه لا يدري من أين له هذا وما هو فيه؟ ولا يدري مَنْ أعطاه ذلك ليشكر له ويطلب منه المزيد ويرجو منه خيرًا مما أُعْطِي إما من الدنيا وإما في الآخرة؟
وقد عَلِم يقينًا أن الذي هو فيه من النعمة ورغد العيش لا يدوم له، وأنه مفارقه على رغمه مع شدة محبته للبقاء فيما هو فيه من النعمة ورغد العيش، ومع شدة شهواته لدوام تلك النعمة عليه، كلما ذكر الموت والفناء نغص عليه شهواته، ويُمِرُّ الموت عليه لذاته فيعيش طول عمره خائفًا من الموت وجِلًا من الفناء مشفقًا من الهلاك، ثم يموت على رغمٍ وحسرة وندامة لا يرجو بعد الموت خيرًا، ولا يؤمِّل بعد الفراق معادًا، ولا ثواب عمل ولا جزاء إحسان.
فهذه حاله في الدنيا، فأما في الآخرة فالحسرة والندامة والويل الطويل والخسران المبين، وتمني الرجعة وقد حيل بينه وبين ما يشتهي.
وإن كان من أشقيائها فهو أسوأ حالًا وأمرُّ عيشًا وأشرُّ سيرةً من غيره؛ وذلك أنه يُفْنِي عمره كله بجهل وعناء وتعب وشقاء في طلب ما لم يُقدَّر له، وهو لا يدري أن طلبه لا يزيد في رزقه شيئًا، أو لا يدري أن الذي أعطاه ما أعطاه ومنعه ما منعه مَنْ هو؟ فيطلب منه فيسأله ويرجوه ويؤمل منه خيرًا عوضًا عما فاته في وقت آخر؛ فهو بجهله بربه يعيش طول عمره مغتمًّا حزينًا ضجرًا لما رأى أنه فاته ما وجد غيره، ثم يموت بحسرة وغُصَّة وندامة لا يرجو بعد الموت خيرًا ولا بعد الفراق ثواب عمل ولا جزاء إحسان خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ.
ومن الآراء الفاسدة والاعتقادات الرديئة المؤلمة لنفوس معتقديها المعذِّبة لهم رأي مَنْ رأى واعتقد أن للعالم صانعين: أحدهما خيِّر فاضل، والآخر شرير رذل، وهما متجاوران مختلطان أو متباينان متنازعان كل واحد مخالف للآخر في شيء أو أشياء، طول الدهر كل واحد في جهد وعناء وبلاء من صاحبه يريد غلبته والخلاص منه، فمَنْ يعتقد مثل هذا الرأي فهو لا يدري أين ذلك الخيِّر الفاضل فيطلبه ويأوي إليه ويصيره في خيره؟ وأين ذلك الشرير فيعرفه ويهرب من عذابه ويتخلص من شره وينجو من جوره؟ فهو يعيش طول عمره حيران متبلبلًا مؤتلمة نفسه معذبًا قلبه وجِلًا خائفًا لا يدري كيف وجه الخلاص مما هو فيه؟ ولا كيف وجه النجاة من المُنْقَلَب؟
ومن الآراء الفاسدة الرديئة المؤلمة لنفوس معتقديها رأي مَنْ يرى ويعتقد أن العالم مُحْدَث مصنوع وله صانع واحد حكيم، ولكن لا يرى البعث والنشور والقيامة ولا الحشر والحساب ولا لقاء ربه! فمَنْ يعتقد هذا الشأن فهو يرجو الوصول إلى الآخرة، ولا يؤمل ثواب العمل ولا جزاء الإحسان، فيكون حال مَنْ يعتقد هذا الرأي وحكَّم نفسه في آلامها وعذابها وعذاب قلبه كحكم مَنْ يعتقد بأن العالم قديم ولا صانع له، كما تقدَّم ذكره، وإليه أشار بقوله تعالى: إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا ردًّا عليهم قولهم.
ثم اعلم أن أسوأ الناس حالًا ورأيًا وأشرهم اعتقادًا مَنْ لا يؤمن بيوم الحساب ولا يرجو الآخرة ولا يخاف العاقبة؛ وذلك أنه يُفْنِي عمره كله في طلب الدنيا وإصلاح أمر المعاش؛ لجرِّ منفعة إلى جسده أو دفع مضرَّة عنه أو نيل شهوته أو الوصول إلى لذة متمنِّيًا للخلود في الدنيا مع علمه ويقينه أنه لا يُدرَك فيها ولا يبقى هو له، وأنه لا بد من الموت ثم لا يرجع، ولا يرجو بعد الموت ثواب عمل ولا جزاء إحسان، بل يموت بحسرة وندامة آيسًا مما يرجوه المؤمنون قَنُوطًا مما يؤمله العارفون من الخيرات والنعيم واللذات.
ثم اعلم أن الله تعالى — بواجب حكمته — جعل في طبع النفوس محبة الوجود والبقاء أبدًا سرمدًا، وجعل في جبلَّتها كراهية العدم وبغض الفناء، ثم منعها ذلك في الدنيا لكي تركن إليها وتسكن فيها وتطمئن بها، لا لكون النفوس في هذه الدنيا حال نقص دون التمام، وكونها في الآخرة حال تمام وكمال، والبقاء على حال التمام والكمال أفضل وألذ وأشرف، كما أن حال الأجساد في الأرحام حال نقص من التمام، وحالها بعد الولادة حال تمام وكمال، لا يخفى هذا على العقلاء.
ثم اعلم أنه لا يمكن الوصول إلى حال التمام والكمال في الدنيا إلا بعد تقدُّم حال النقص في الرحِم والجواز عليه، فهكذا حال النفوس في الدنيا يشبه حال الأجساد في الأرحام، وحال النفوس بعد مفارقتها الأجساد يشبه حال الأجساد بعد مفارقتها الأرحام؛ لأن الموت ليس شيئًا سوى مفارقة النفس الجسد، كما أن الولادة ليست شيئًا سوى مفارقة الجسد الرحِم، كما بيَّنَّا في رسالة حكمة الموت.
(٤٦) فصل في أن العلماء إذا قالت قولًا على حكومة …
ثم اعلم أن العلماء إذا قالت قولًا على حكومة ما فهي مقدمة لها نتيجة، فقولهم: إن الطبيعة لم تفعل شيئًا باطلًا، يعنون بهذا القول أنه ليس شيء من الأشياء الموجودة في العالم إلا بحكمةٍ ما، عُرِفَتْ أو لم تُعْرَف؛ فشهوة النفوس البقاء أبدًا، وكراهيتها الفناء ليست إلا بحكمة ما، فلو لم يكن للنفوس بقاء بعد مفارقة الأجساد لكان وجود هذه الشهوة في جبلَّتها وكراهية الفناء في طباعها باطلًا؛ لأن البقاء في الدنيا أبدًا ليس بموجود لشخص من الأشخاص الحيوانية البتَّة، فإذن البقاء بعد الفناء.
ثم اعلم أن ذكرنا هذه الحكومة في هذا الفصل هو من أجل أنه ليس من علم بعد معرفة الباري تعالى أشرف وأجلُّ وأنفع للنفوس من معرفة حقيقة أمر المعاد والنشأة الآخرة، فليس للنفوس طريق أفضل وأجود إلى معرفة أمر المعاد من معرفتها ذاتها وعلمها بجوهرها وصفاتها اللائقة بها، وهو أن تعلم كل نفس بأنها جوهرة روحانية حية بذاتها علَّامة بالقوة فعَّالة بالطبع، وأنها باقية بعد مفارقة الجسد، إما ملتذَّة مسرورة فرحانة، وإما مغتمَّة خاسرة كما بيَّنَّا في رسائلنا، وكما ذكر الله تعالى في نحو من تسعمائة آية في القرآن.
(٤٧) فصل في الآراء الفاسدة
وأيضًا من الآراء الفاسدة والاعتقادات المؤلمة لنفوس معتقديها رأي مَنْ يرى أن بارئه وإلهه روح القدس الذي قتلته اليهود وصلبت ناسوته وذهب لاهوته لما رأى ما نزل بناسوته من العذاب فتركه مخذولًا.
ثم اعلم أن هذا الرأي والاعتقاد يُكْسِبُ صاحبه غيظًا على القاتل وحَنَقًا وعلى المقتول حزنًا وغمًّا، ثم يبقى طول عمره متألمة نفسه معذبًا قلبه مشتهيًا للانتقام من عدوه، ثم لا يظفر بشهوته ويموت بحسرته وغصته، وهكذا أيضًا حكم مَنْ يرى ويعتقد أن الإمام الفاضل المنتظر الهادي مختفٍ لا يظهر من خوف المخالفين.
واعلم أن صاحب هذا الرأي يبقى طول عمره منتظرًا لخروج إمامه متمنِّيًا لمجيئه مستعجلًا لظهوره، ثم يفنى عمره ويموت بحسرة وغصة لا يرى إمامه ولا يعرف شخصه مَنْ هو كما ذكر الشاعر:
ثم اعلم أن أمثال هذه الآراء الفاسدة والمذاهب والاعتقادات كثيرة لا يُحْصِي عددها إلا الله، وإنما ذكرنا منها طرفًا ليعلم أنها كلها مؤلمة لنفوس معتقديها وهو جزاء لها وعقوبة لاشتغالهم بغير الله وتركهم لذكر الله، كما قال تعالى: نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ يعني تركوا ذكر الله وتركوا طاعته، واشتغلوا بذكر غيره وطاعة مَنْ سواه فتركهم معهم معذَّبة قلوبهم ومؤتلمة نفوسهم كما ذكر الله تعالى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ.
ثم اعلم أن هذه الآراء الفاسدة والاعتقادات الرديئة في الله تعالى وصفاته وأحكامه وآدابه نيران ملتهبة في نفوس معتقديها وحرقات مشتعلة في قلوبهم مؤلمة لها إلى وقت معلوم، ومعذِّبة لها إلى أجل معدود، كما قال: نَارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ.
ثم اعلم أنه لا يصل إلى معرفة الله تعالى أحد من الناس إلا بعد جوازه على الآراء الفاسدة: إما في أيام صباه أو بعد ذلك، ثم الله يهدي مَنْ يشاء إلى صراط مستقيم من نفي الشرك، وينجيه منها كما وعد فقال: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا.
واعلم أن أهل الآراء الفاسدة والاعتقادات الرديئة طائفتان: إحداهما شياطين الإنس، فشياطين الإنس هم أهل الآراء الفاسدة الظاهرة التي ألِفُوها وأنِسوا بها، وشياطين الجن هم أهل الآراء الفاسدة الباطنة التي أسرُّوها واستجنُّوا بها وإخوانهم وأتباعهم وتلامذتهم وشيعتهم الذين يقتفون آراءهم ويسلكون مناهجهم.
واعلم أنه كلما مضت طائفة منها وانقرضت وبليَت أجسادهم ألحقت نفوسها بنفوس مَنْ مضى قبلها من رؤسائها ومعلِّميها وأستاذيهم من القرون الماضية، ثم خلفتها أخرى على سننها ومنهاجها، وهكذا دأبهم إلى يوم القيامة كما قال تعالى: حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ يسألهم ملك الموت وأعوانه: قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ * قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ واخسئوا بالعذاب، وعلموا أنهم كانوا ظالمين.
فعند ذلك قالت أُخْراهم لأولاهم؛ يعني أتباعهم وتلامذتهم المتأخرين، لأولاهم؛ يعني لرؤسائهم المتقدمين: ربنا هؤلاء أضلُّونا فآتهم عذابًا ضعفًا من النار وآيات كثيرة في حق هؤلاء وخطاب بعضهم بعضًا كيف يكون في جهنم وهي طبقات النيران ودركاتهم.
ثم اعلم أن في النفوس لمعتقدي الآراء الفاسدة وعذاب قلوبهم حكمة جليلة وخصال عدَّة، فمنها أن تكون تلك الآلام والعذاب كفَّارة لذنوبهم وتمحيصًا لسيئاتهم، وأخرى أن تكون رياضة لنفوسهم وترقية لها من الحالات الأدون إلى الأتمِّ والأكمل؛ لأن الدنيا دار رياضة وبلوى ومحنة وتجربة واعتبار، والأخرى أن يتبين لهم فضل الله ونعمته ورحمته وإحسانه إذ نجَّاهم منها وهداهم إلى صراط مستقيم، كما فرض على أهل الدين — دين الإسلام — في كل يوم وليلة سبع عشرة مرة أن يقولوا: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ إلى آخره، وكما حُكِي عنهم قولهم لما اهتدوا: الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللهُ.
ثم انظر وتأمَّل كيف نسبوا هم الهداية إليه، ونسب هو الخير والثواب والجزاء إلى أعمالهم.
(٤٨) فصل في أن الله جعل في جبلَّة الإنسان وطبيعته …
واعلم أن الله جعل في جبلَّة الإنسان وطبيعته ألا يأتمر أحد من العقلاء لغيره ولا يطيعه إلا رغبةً أو رهبة.
واعلم أن المرغوب والمرهوب نوعان: عاجل حاضر وآجل غائب، والعاجل الحاضر هو ما تشاهده الحواس، والآجل الغائب هو الذي لا تشاهده الحواس، ولكن قد تُصوِّره الأوهام بالوصف والنعت.
واعلم أن الغائب الآجل لا تقع الرغبة والرهبة إليه ومنه إلا بالوعد والوعيد الصادق من العالم القادر، وكلما كان المرغوب أشد عند الراغب وأقرب تحقيقًا كانت الرغبة إليه أوكد وأشد، وهكذا حكم المرهوب منه، وقد رغَّب الله تعالى خلقه من الجن والإنس في نعيم الجنان، وجعل الوعد للمؤمنين، ورهَّبهم أيضًا من عذاب النيران، وجعل الوعيد أيضًا للكافرين والأشرار، وجعل ميعادهم يوم يلقونه: إما في الدنيا قبل الممات، وإما في الآخرة بعد الممات والفراق، وبعث إليهم الرسل والشهداء والأنبياء الصادقين، وأنزل معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، وذكر فيه الوعد والوعيد، وضمن وأقسم وحلف كما قال الله تعالى: فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وقال: وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ، ثم أقسم تعالى وحلف على تحقيق وعده فقال: فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ ثم قرب فقال: وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ.
ولكن من أجل أن موعده غائب عن إدراك الحواس صار أكثر الناس له منكرين وفيه شاكِّين، وفي ماهيته وآنيَّته ومتى وقته متحيرين، كما أخبر عنهم بقوله: هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ، لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ.
وأما المؤمنون فهم مقرُّون بمواعيده منتظرون لها، ولكن من الآراء الفاسدة والاعتقادات الرديئة ربما ترد على قلوب المُقِرِّين شكوك وحيرة وإنكار، من ذلك مَنْ يرى ويعتقد أنه لا يجازى ولا يكافأ على إحسانه وسيئاته إلا في الآخرة بعد الموت، أو يرى ويعتقد أنه لا تكون الآخرة إلا بعد خراب الأرضين والسموات.
وهذا الرأي والاعتقاد يُبْعِد عن صاحبه طريق الآخرة، ويقلِّل رغبته في ثواب أعماله وجزاء إحسانه، ويقلِّل رهبته وخوفه من عقوبات سيئاته، وإليه أشار بقوله: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا وبقوله: أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ. وهكذا رأي مَنْ يعتقد أن الجنة التي وُعِدَ المتقون ليست بموجودة، وكذلك النار التي حذَّر الله عباده منها ليست بموجودة، ومثل هذه الآراء والاعتقادات وأمثالها تشكِّك معتقديها في الوعد وتقلِّل رغبتهم فيه، وهكذا حكمهم في الوعيد والرهبة منه، وهكذا أيضًا رأي مَنْ يرى ويعتقد أن أولياءه وأُمناءه ورسله وأهل جنته لا يرونه ولا يدرون رتبته، وما هو أن هذا الرأي يؤيس من روح الله، وهكذا رأي مَنْ يعتقد أن الله لا يغفر الذنوب ولا يعفو عن السيئات والخطأ، وهذا يقنط من رحمة الله تعالى، وهذا أيضًا وما شاكَل هذه الآراء المقللة للرغبة والرهبة في نعم الجنان وعذاب النيران.
ومن الآراء الفاسدة أيضًا رأي مَنْ يعتقد الترخيص في الشبهات والإباحة في المحظورات والمحرَّمات، فإن صاحب هذا الرأي يُكسبه اعتقاده جرأةً على الله وتعدِّيًا لحدوده وارتكابًا لمحارمه، ويكون صاحبه في السر مخالفًا لأبناء جنسه ومنافقًا مرائيًا لا يصدق في معاملته ولا يفي بعهده ولا ينصح في أمانته، وفي مثل هذه الخصال فساد الدين والدنيا جميعًا.
ومن الآراء الفاسدة أيضًا: رأي مَنْ يرى ويعتقد أن الله الرحيم الرءوف الحنَّان يعذِّب الكفار والعصاة في خندق في النار غيظًا عليهم وحنقًا، وكلما احترقت أجسادهم وصارت فحمًا ورمادًا عادت فيها الرطوبة والدم لتُحْرَق مرةً ثانية.
واعلم يا أخي أن هذا الرأي يسيء ظن صاحبه بربه، ويعتقد فيه قلة الرحمة وشدة القساوة، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.
ومن الآراء الفاسدة أيضًا أنه يرى بأن أهل الجنة أجسادهم لحمية وأجسامهم طبيعية مثل أجساد أبناء الدنيا قابلة للتغيير والاستحالة متعرضة للآفات، فإذا تأمل ما وصف الله تعالى في صفات أهل الجنة لا يمسهم فيها نَصَب ولا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى، وأنهم خالدون، وما شاكل هذه الأوصاف المذكورة في القرآن التي لا تليق بالأجساد اللحمية والأجسام الطبيعية.
واعلم أنه لا يليق بالعقلاء أن يعتقدوها فضلًا عن عقول الحكماء، بل النساء والجهال والصبيان جيد لهم، فإن هذا الرأي يليق بأفهامهم ويصلح لهم ويقرب من عقولهم ما وُعِدوا به ويوعدون من نعيم الجنان، ورهبتهم من عذاب النيران، ويزيدهم خوفًا من سوء أفعالهم فيتركونها ويقوى رجاؤهم لثواب أعمالهم، و«عليكم بدين العجائز» لائق في هذا المقام لا في مقام آخر.
وأما مَنْ رزقه الله قليلًا من التمييز والعقل والفهم ونظر في علوم الحكمة فإن هذا الرأي لا يصلح له ولا يليق به؛ لأنه إذا عرضه على عقله أنكره عليه فيقع عند ذلك في شك وحيرة وسوء ظن وتخيلات فاسدة.
ثم اعلم أن أسوأ الناس مذهبًا وأشنعهم رأيًا مَنْ يعتقد أمرًا ويكون عقله منكرًا عليه ونفسه مرتابة وظنه سيئًا بربه كما قال: وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ الآية.
ومن الآراء الفاسدة مَنْ يعتقد أن الله خلق خلقًا وربَّاه وأنماه وأنشأه وسلَّطه وقوَّاه على عباده متمكِّنًا في بلاده، ثم ناصبه بالعداوة والبغضاء، وهو إبليس وجنوده من الشياطين وهم يفعلون ما يريدون على رغم منه، وهو الجاعل لهم المشيئة والإرادة والعداوة والاستطاعة وطول العمر والمهلة وسعة الرزق والنعمة.
فإن صاحب هذا الرأي إذا فكَّر في أمر إبليس وجنوده وما نُسِبَ إليه من السرور وما يعتقده من مخالفتهم لله وعداوتهم؛ فإنه امتلأ منهم غيظًا وحقدًا عليهم وناصبهم العداوة والبغضاء حتى إنه لو أمكنه قتلهم كلهم أو قدر على قطع أرزاقهم فعل من شدة غيظه عليهم، وإذا لم يقدر على ذلك بقي طول عمره مغتاظًا مغتمًّا متألِّمًا نفسه معذبًا قلبه، حتى إنه ربما فكَّر في خلق الله لهم وتربيته إياهم وسعة رزقه عليهم وتمكينه لهم فيما يفعلون وإمهاله لهم، عاتب ربه في الضمير وخاصمه في السر ويقول: لِمَ خلقهم؟ ولِمَ ربَّاهم ورزقهم؟ ولِمَ مكَّنهم وسلَّطهم؟ ولماذا؟ ولِمَ؟ وكيف؟ وما شاكل هذه الوساوس والظنون الموبقة المؤلمة لنفوس المعترضين على الله في تدبير خلقه وإنفاذ مشيئته وإجرائه المعلوم على ما كان في سابق علمه.
(٤٩) فصل في سبب ذكرنا لهذه الآراء الفاسدة
واعلم أن ذكرنا لهذه الآراء الفاسدة والاعتقادات الرديئة المؤلمة لنفوس معتقديها؛ لتُعْرَفَ وتكون دليلًا على أن ها هنا رأيًا ملذًّا لنفوس معتقديه مفرحًا لقلوبهم مبشِّرًا لأرواحهم وهو رأي أولياء الله، واعتقاد الخواص من عباد الله الصالحين ومذهب الربانيين الذين أسلموا لربهم ولم يشركوا معه غيره لا سرًّا ولا علانية، وهم الذين صَفَتْ قلوبهم عن دَرَنِ الشهوات الجسمانية، وطهرت أخلاقهم من العادات الرديئة، واضمحلَّت عن ضمائرهم الآراء الفاسدة، وصانوا جوارحهم عن الأعمال السيئة، وألسنتهم عن الفحشاء والمنكر، وأخلصوا سرائرهم مع الله ولم يعترضوا عليه في شيء من تدبير خلقه سرًّا وعلانية، فأصلح الله قلوبهم وزكَّى نفوسهم وطهَّر أخلاقهم، فهم لا يضمرون لأحد من خلق الله سوءًا ولا يرون لهم على أحد فضلًا، صالحوا الخلق سرًّا وجهرًا كما وصفهم الله تعالى بقوله: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا الآية. فهم يمشون على الأرض بأجسادهم ونفوسهم متعلقة بالمحل الأعلى.
ذلك أنهم لما عرفوه تركوا كل شيء سواه واشتغلوا به وبذكره، وأحسنوا إن الله لمع المحسنين مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ، وسُئل النبي عليه السلام: ما هذا الإحسان؟ فقال: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.» كيف لا يراه أولياء الله ولا يشاهده أصفياؤه وهم معتقدون متحققون بقوله: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ الآية، وبقوله: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ وقوله: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وقوله: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى وقوله: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ.
(٥٠) فصل في أنه ليس من لذة النفوس ولا سرور الأرواح …
ثم اعلم أنه ليس من لذة النفوس ولا سرور الأرواح ولا فرح القلوب ألذ وأروح من روح نور ترد اليقين في قلوب أولياء الله بما وعدهم من يوم يلقونه من نعيم الجنان، وما يرجونه من نيل الثواب وجزيل العطاء من الآخرة، وما يجدونه في نفوسهم من شدة الشوق إلى رؤيته لشدة محبتهم إياه وكثرة ذكرهم إحسانه، كما قيل: جُبِلَت القلوب على حب مَنْ أحسن إليها وبُغْض مَنْ أساء إليها. وقال: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلهِ، وقد وبَّخ الله مَنْ يحب غيره وذمَّهم بقوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلهِ.
ثم اعلم أن هذه اللذة التي وصفنا أن قلوب أولياء الله تجدها في دار الدنيا إنما هي ثمرة بعض سعيهم، ومقدمة بعض ثواب أعمالهم عُجِّلت لهم في الدنيا؛ لأنهم لما عرفوه حق معرفته تركوا كل شيء سواه، واشتغلوا به وبذكره سرًّا وإعلانًا لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ فعند ذلك اضمحلَّت الآراء الفاسدة عن ضمائرهم، وانحلَّت الاعتقادات الرديئة عن أفكار نفوسهم، فوجدوا روحًا وراحةً وريحانًا ولذةً يقصر الوصف عنه.
وإذ قد تبيَّن في المباحث الحكمية أن بعض اللذات إنما هو خروج من الآلام، فاعلم أن الله تعالى جعل هذه اللذة والسرور بشرى لأوليائه في الحياة الدنيا، فأما التي في الآخرة فهي عند الله خير وأبقى، كما قال تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ الآية لا يشاركهم فيها غيرهم.
واعلم أن علة انحلال الآراء الفاسدة واضمحلالها عن قلوب أولياء الله عند معرفتهم بربهم هو من أجل أنهم اعتقدوها في طلب معرفته، فلما تبيَّن لهم الحق وعرفوا الله حق معرفته انحلَّت واضمحلَّ ما كان منها فاسدًا أو زورًا أو بهتانًا، كما حُكِي عن إبراهيم، عليه السلام، في أول مبدئه في طلب معرفة الله تعالى: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ إلى قوله: وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ وهكذا كان بدء معرفة الأنبياء عليهم السلام بربهم في أول نظرهم وعلومهم بصفاته اللائقة من الأولين والآخرين من ذرية آدم ونوح وإبراهيم وممن هداه الله واجتباه كما قال تعالى: وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وقال: وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا وقال لنبيه عليه السلام: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وقال له: قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا وقال: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي الآية وقال: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ الآية وقال: يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ الآية وقال: هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يعني العلماء، وقال: إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ وآيات كثيرة في مدح العلماء وحسن الثناء عليهم وذم الجهال.
ثم اعلم أن نفوس الجهال كلها موتى بالقياس إلى نفوس العلماء؛ وذلك أن قلوب العلماء مفتوحة وصدورهم منشرحة متسعة ممتلئة من نور الهدى وروح المعارف وزهرة العلوم، وقلوب الجُهَّال حرجة منغلقة وصدورهم من الوسواس والخيالات ضيقة مظلمة، وأوهامهم هائمة وأفكارهم تائهة في ظلمات الجهالات المتراكمة ونفوسهم ممتلئة من الوساوس والخيالات كما قال الله تعالى في عدة آيات من القرآن مثل قوله: فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ إلى قوله: الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ومثل قوله: مثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ إلى آخر الآية أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ.
واعلم أن حياة النفوس ويقظتها هي المعارف والعلوم، كما أن حياة الأجساد ويقظتها بالحس والحركة، وأن لكل جنس من الحيوانات ضروبًا من المأكولات هي غذاء لأجسادها من نبات الأرض وثمار الشجر وأوراقها تشتهيها بطباعها وتلتذ بها بنفوسها، كل ذلك بحسب امتزاجها وتركيب أجسادها وعاداتها في تناولها.
وهكذا أيضًا حكم شهوات النفوس ولذاتها في مأكولاتها ومشروباتها واختلاف ألوانها وفنون طعومها تشتهي هذا وتلتذ هذا بما لا يلتذ به هذا، وتشتهي وتلتذ في وقت ولا تشتهي في وقت آخر بل تكرهه وينفر طبعها منه ويتأذى.
وهكذا حُكْم لذاتها وشهواتها في المعارف والعلوم والصنائع والتجارات والأعمال والحِرَف وتصاريفهم في الأمور؛ وذلك أن من الناس مَنْ تكون نفسه مطبوعة على محبة الصنائع والحِرَف في تعليمها مشتهيًا لها مستلذًّا بها.
ومنهم مَنْ يكون مطبوعًا على محبة التجارات والبيع والشراء مشتهيًا لذلك ملتذة به نفسه، ومنهم مَنْ تكون شهواته وعشقه في جمع المال والأثاث والأمتعة والادخار لها، ومنهم مَنْ تكون شهوته ولذته في إنفاق المال واتخاذ المنازل وإنشاء العقار وبنائه وعمارته الأرض والحرث والنسل وربط الدواب وتربيتها والاستكثار منها.
ومنهم مَنْ تكون شهوته ولذته في الأكل والشرب وعشق النساء والغلمان واللهو واللعب والغناء ولعب النرد والقمار والافتخار بها والمباهاة والعصبية والخصومات وما شاكَل ذلك من المبارزة في الحرب والقتال والغارات والنهب والفتن والشرور والعداوة.
ومنهم مَنْ تكون محبته للصوم والصلاة والصدقات والقراءة والتسبيح والخشوع والبر والتقوى والعبادة وما شاكَل هذه من أعمال الخيرات، وتكون نفسه مشتهية لها ملتذَّة بها.
ومنهم مَنْ تكون محبته في لقاء أهل العلم واستماع كلام العلماء وطلب العلوم والأدب ومعرفة الأخبار والروايات والآثار.
ومنهم مَنْ تشتهي نفسه علم النحو والشعر والخُطَب والفصاحة والأقاويل والكلام وما شاكَل هذه ويلتذ بها.
ومنهم مَنْ يشتهي علم الحساب والهندسة والنجوم والطب والمنطق والرياضيات الحكمية وما شاكلها ويكذِّبها، ومنهم مَنْ تشتهي نفسه علم العزائم والرُّقَى والسحر والكيمياء والحيل وما شاكلها وتلتذ بها.
ومنهم مَنْ يشتهي النظر في علوم الطبيعيات والإلهيات والبحث عنها وعن حقائق الموجودات الكائنات الفاسدات والباقيات المخلَّدات، كل ذلك على ما توجبه أحكام النجوم في أصول مواليدهم وعاداتهم عند نشوئهم على سنن آبائهم وأستاذيهم ومعلميهم ومَنْ يصحبونه في الطلب طول أعمارهم من إخوانهم وأصدقائهم.
فانظر يا أخي بعقلك وميِّز ببصيرتك واختر لنفسك من هذه المشتهيات ما يليق بها وترضى لها به.
واعلم أن من الأمور ما هي جبلَّة مركوزة في النفس ومنها ما هو عادة جارية وألفة معتادة إذا دام عليها الإنسان صارت جبلَّة وطبيعة ثانية.
(٥١) فصل في أن حسن الخلق والسيرة العادلة …
واعلم يا أخي أن حسن الخلق والسيرة العادلة هما من أخلاق الملائكة، ولكن بعضها في جبلَّة النفوس مركوزة فيها وبعضها عادة جارية معتادة، وهكذا أيضًا حكم الخلق السوء والسيرة الجائرة هما من أخلاق الشياطين: بعضها جبلَّة مركوزة في النفس، وبعضها عادة جارية، وهي التي نشأ عليها الصبيان من الصغر يتربون من الصبي عليها أو يأخذها الناس ممن يصحبه ويتربى معه من الآباء والأمهات والإخوة والأخوات والجيران والمعلمين والأستاذين.
واعلم أنه ربما لا يتفق للإنسان هذه الأمور المحمودة من الصِّغَر على حسب ما ينبغي، ولكن يجب على العاقل أن يتفقَّد أحواله وأخلاقه وسيرته وعاداته واعتقاداته، ويستبصر فيترك ما كان فاسدًا رديئًا ولا يتكلم على العادات الجارية، ولا يحتج بالطبع المركوز، بل يجتهد وينظر ويميز ويبحث، فإن الله تعالى ما بعث الحكماء والرسل والأنبياء إلا لإصلاح الأمور الفاسدة النابتة مع الطبائع الرديئة والعادة الجارية.
وقد ذكر العلماء والحكماء في كتب السياسات أنه ينبغي لكل إنسان أولًا أن يبتدئ بإصلاح أخلاق نفسه وعاداته، فإذا عدَّلها واستوت فعند ذلك رام أن يصلح غيره. وقال عليه السلام: «كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته.» وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ.
ثم اعلم أن أكثر الناس قد تركوا وصية ربهم ونصيحة نبيهم فيما أمرهم به من إصلاح ذات بينِهم وما فيه نجاة نفوسهم من العذاب الأليم بما رسمه لهم من التعاون والتعاضُد والتناصُر والتحاب والتودُّد والأُلْفة فيما بينهم، واشتغلوا بما نُهُوا عنه من ذكر عيوب بعضهم بعضًا وشنعة بعضهم على بعض، وصاروا فرقًا ومذاهب وشيعًا، وتوقَّدت بينهم نيران العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة؛ وذلك أنهم يعيب بعضهم بعضًا بحرقة قلوبهم وألم نفوسهم وهم في العذاب مشتركون، أولهم مع آخرهم كما ذكر الله تعالى: كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا التي خالفتها، وقالوا: لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ، وقالوا: رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا يعني مَنْ كان موافقًا لهم، وقيل لهم: ذوقوا عذاب النار بما كنتم تكسبون لما تركتم وصية ربكم ونصيحة نبيكم، وقال: وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ فكانوا هم الظالمين بتركهم الوصية.
(٥٢) فصل في أن الآراء الفاسدة كثيرة
واعلم أن الآراء الفاسدة كثيرة، وفيما حكينا كفاية للمعتبر المتفكِّر، وإن أهلها جمٌّ غفير لا يُعرفون ولا يطاقون ولا يؤمَن من غوائلهم، وهم جنود إبليس أجمعون، وهم الأشرار والكفار والفساق والمنافقون وأهل البدع والضلالات، ولكن أشرَّهم على أهل الدين والورع وأضرَّهم على العلماء وأشدَّهم على عداوة الحكماء هذه الطائفة الظَّلَمة المجادِلة المخاصِمة الكفرة الفجرة الذين يخوضون في المعقولات وهم لا يعلمون في المحسوسات، ويتعاطون البراهين والقياسات وهم لا يحسنون الرياضيات، ويتكلمون في الإلهيات وهم يجهلون في الطبيعيات، ويتصدَّرون في المجالس ويتجادلون في أشياء لا تفيد في الدين علمًا ولا تُنتج في الحكمة فائدة مثل كلامهم في التعديل والتجويز والجزء الذي لا يتجزَّأ وما شاكلها من المسائل المموهة المزخرفة التي لا حقيقة لها ولا وجود إلا في الأوهام الكاذبة، ولا يصح للمدَّعي فيها حجة ولا السائل عنها برهان، وهم خائضون فيها في مجالسهم مضيعون فيها أوقاتهم بالخصومات والجدالات والمعارضات والمناقضات، وإذا سُئلوا عن أشياء هي موجودة مقدَّرة بين الناس ومعروفة مشهورة عند الحكماء لا يحسنون أن يجيبوا عليها.
فإذا استعصى عليهم بالسؤال والبحث أنكروها وجحدوها، ويأنفون أن يقولوا: لا ندري، أو يقولوا: الله ورسوله أعلم، بل يخوضون في طغيانهم وجهالاتهم ويدَّعون فيها المحالات، وربما يضعون في إبطالها المقالات المزخرفة، ويعارضون بها الحكماء والعلماء، ويشنِّعون بها عليهم مثل قولهم: إن علم الطب والنجوم باطل، وإن الكواكب جمادات وإن الأفلاك لا وجود لها، وإن علم الطب لا منفعة فيه، وإن علم الهندسة لا حقيقة له، وإن علم المنطق والطبيعيات كفر وزندقة، وإن أهلها ملحدون، ويدَّعون عليهم المحالات ويحكون عنهم الخرافات، ويقولون هذا كلامهم ومذهبهم ورأيهم واعتقادهم، ولعل القوم لا يقولون قليلًا ولا كثيرًا ولا يعتقدونها، وإن كان الاعتقاد لهم ورأيهم فلا يسمع منهم أحد ذلك، ويموتون مع اعتقاداتهم واندراس مذاهبهم فلا يعلم ولا يحس به أحد، أولئك كالأنعام بل هم أضل سبيلًا.
وأما هؤلاء المجادِلة فيظهرون بها في أهل المجادل، ويوردون تلك الاعتقادات الفاسدة والمذاهب الرديئة بفصيح العبارات ويبينون عنها بأوضح الاحتجاجات، ويكتبونها بأصح الخطوط وأجود ورق، ينسبونها إلى أقوام قد عُرِفوا بالعلم والحكمة وجودة الرأي وصحة التمييز على سبيل الشنعة عليهم والوقيعة بهم بسخيف الرأي ويسمونها الأحداث ويصورونها في قلوبهم ويمكِّنون في نفوسهم تلك الآراء الفاسدة والمذاهب الرديئة، ويحيِّرونهم ويشتتونهم في الحقائق.
فلو أن أهل تلك الآراء والمذاهب اجتهدوا بجهدهم وأنفقوا الأموال في إظهار مذاهبهم والاحتجاج على آرائهم والإيضاح عن اعتقاداتهم لما بلغوا عُشْر العُشْر مما قد بلغ هؤلاء المجادلة في تملُّكها في أكثر النفوس.
ثم اعلم أنك إذا تأملت طبقات الناس وجماعاتهم في أحوالهم من الدين والمذاهب والعلوم والصنائع والتجارات والحِرَف لم تجد بينهم من العداوة والبغضاء والطعن واللعن عُشْر العُشْر مما تجد بين أهل هذه الطبقة المجادلة.
وذلك أنك تراهم يُكفِّر بعضهم بعضًا ويتبرَّأ بعضهم من بعض، ويرى كل واحد منهم حِلَّ أخْذ مال مخالفيه، ويشهد عليهم بالكفر والزندقة والخلود في النار أبد الآبدين، فلا جَرَم قد بغَّضوا العلماء إلى الناس وزهَّدوهم عن تعلُّم العلم والأدب وطلب المعارف.
وذلك أن الناس إذا نظروا إليهم وهم بهذه الأوصاف فلا هم يتعلمون ولا يتركون غيرهم يتعلَّم، وما مثالهم في ذلك إلا مثل الكلب ينام في المعلف وهو لا يأكل ولا يدع الخيل تأكل حتى يموت هو وهي ضرًّا وهزالًا.
يُحْكَى عن الحسين بن علي عليه السلام، أنه كان يقول: «يا علماء السوء جلستم على باب الجنة، فلا أنتم تعملون فتستوجبون الجنة، ولا تركتم غيركم يجوزكم فيدخل الجنة!» وذلك أنهم إذا نظروا إليهم وما هم فيه من هذه الأوصاف التي ذكرنا، فاحذرهم فإنهم أعداء أهل العلم، ومخالفون لأهل الورع، مضادون لإخوان الصفا؛ لأنهم أحوالهم وأخلاقهم أخلاق الشياطين، وقوتهم قوة الدجَّالين، ذلقو اللسان عميان القلوب فُصَحَاء الألفاظ جاهلون بالمعاني، قد نصبوا أنفسهم للمجادلة مع العلماء ومناقضة الحكماء ومماراة السفهاء، لا الحكمة يعرفون ولا أحكام الشريعة يتحققون، ويحاجُّون بآيات كتب إلهية وهم فيها شاكُّون! يتبعون المتشابهات ويتركون العلم بالمُحْكَمات كما وصفهم الله تعالى بقوله: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ الآية.
ثم اعلم أن الله تعالى يتلطَّف ويتكرَّم مع أوليائه، وانظر إلى حكم الله لخاصته من أوليائه وتلقينه لهم وحكايتهم وأقاويلهم ودعائهم واقتدائهم، فإن أردت أن تكون هاديًا مَهْديًّا مؤيَّدًا رشيدًا بالدين الحنيفي والمنهاج السلفي فاعمل بأحكام الشريعة والوصايا النبوية وإشارات الحكماء، واترك الخصومات والأخلاق الرديئة والأعمال السيئة والأفعال القبيحة، واجتنب الآراء الفاسدة، وتعلَّم العلم: أي علمٍ كان حكميًّا أو شرعيًّا رياضيًّا أو طبيعيًّا أو إلهيًّا؛ فإنها كلها غذاء للنفس وحياة لها في الدنيا والآخرة جميعًا، ولا تتبع سبيل الذين لا يعلمون، وهم الذين وصفهم الله بقوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ إلى آخر الآية.
وقد عملنا في هذه العلوم والآداب إحدى وخمسين رسالة، كل واحدة منها في فنٍّ من العلوم ونوع من الآداب، فاطلبها واقرأها تجدها سهلة من غير تعب وكدٍّ، وفَّقك الله وإيانا وجميع إخواننا إلى طريق السداد، وهداك وإيانا وجميع إخواننا سبيل الرشاد، إنه رءوف رحيم بالعباد، والصلاة والسلام على النبي محمد وآله أجمعين.