الرسالة الخامسة
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
اعلم أيها الأخ البارُّ الرحيم، أيَّدك الله وإيانا بروح منه، أن الله جل ثناؤه قد أكثر ذكر المؤمنين في القرآن والمدح والثناء الجميل عليهم، ووعدهم الثواب الجزيل في الدنيا والآخرة جميعًا، وهكذا أيضًا قد أكثر ذكر الكافرين وسوء الثناء عليهم والزجر والتهديد والوعيد في الدنيا والآخرة جميعًا، فنريد أن نُبيِّن مَن المؤمن حقًّا ومَنِ الكافر حقًّا؛ إذ كان هذا أمرًا قد التبس على كثير من أهل العلم حتى صار يكفِّر بعضهم بعضًا ويلعن بعضهم بعضًا بغير علم ولا بيان، ولكن من أجل أن كثيرًا من أهل العلم لا يعرفون الفرق بين العلم والإيمان احتجنا أن نبيِّن أولًا ما الفرق بينهما؛ وذلك أن كثيرًا من المتكلمين يسمون الإيمان علمًا، ويقولون: هو علم من طريق السمع، وما يُعْلَم بالقياس هو علم من طريق العقل، فنريد أن نُبيِّن أيما هو علم بالحقيقة؟ فنقول:
إن الحكماء قالوا: إن العلم هو تصور النفس رسوم المعلومات في ذاتها، فإذا كان العلم هو هذا فليس كلما يرد الخبر به من طريق السمع تتصوره النفس بحقيقته، فإذن لا يكون ذلك علمًا بل إيمانًا وإقرارًا وتصديقًا، ومن أجل هذا دعت الأنبياء أممها إلى الإقرار أولًا، ثم طالبوهم بالتصديق بعد البيان، ثم حثُّوهم على طلب المعارف الحقيقية، والدليل على صحة ما قلنا قول الله عز وجل: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ، ولم يقل يعلمون بالغيب، ثم حثَّهم على طلب العلم بقوله: فاعتَبِروا يا أُولِي الألباب، ويا أُولِي الأبصار، ثم مدح فقال: يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ، وقال: الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ فكفى بهذا فرقًا بين العلم والإيمان، فنريد أن نبيِّن شرائط الإيمان وصفات المؤمن؛ ليعلم كل إنسان هل هو مؤمن حقًّا أو شاك مرتاب؟ لأن المؤمنين هم ورثة الأنبياء وتلامذتهم، وأن الأنبياء لم يورثوا دراهم ودنانير، بل إنما ورَّثوا علمًا وعبادة، فمَنْ أخذ بهما فقد وفر حظًّا جزيلًا كما ذكر الله جل ثناؤه: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ وقال الله تعالى: ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
(١) فصل في أن نِعَم الله كثيرة على الخلق
واعلم يا أخي، أيَّدك الله، أن نعم الله كثيرة على الخلق لا يُحْصَى عددها، ولكن نذكر طرفًا مما يخص الإنسان، وهو نوعان: أحدهما من خارج الجسد؛ كالمال والقرين والولد ومتاع الدنيا أجمع. والآخر داخل؛ فهو نوعان: أحدهما في الجسد؛ كالصحة وحسن الصورة وكمال البنية والقوة والجَلَد وما شاكلها. والآخر في النفس، وهو نوعان: أحدهما حسن الخلق والآخر ذكاء النفس وصفاء جوهرها، وهي الأصل في جميع المعارف. واعلم يا أخي أن الناس كلهم في المعارف على أربع منازل: فمنهم مَنْ قد رُزِق العلم ولم يُرْزَق الإيمان، ومنهم مَنْ رُزِق الإيمان ولم يُرْزَق العلم، ومنهم قد وفر حظه منهما جميعًا، ومنهم مَنْ قد حُرِمهما جميعًا، وإليهم أشار بقوله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ فخبَّر بهذا عن أشرفهم في المعارف؛ إذ كان علم البعث والقيامة من أشرف العلوم.
وأما الذين أوتوا الإيمان ولم يُرْزَقوا العلم فهم طائفة من الناس المُقِرِّين بما في كتب الأنبياء عليهم السلام من أخبار البعث وأمر المبدأ والمعاد، وأحوال الملائكة ومقاماتهم، وحديث البعث والقيامة والحشر والنشر والحساب والميزان والصراط وجزاء الأعمال في النشأة الآخرة ونعيم الجنان، وما شاكلها من الأمور الغائبة عن الحواس البعيدة عن تصور الأوهام، وهم مع قلة علمهم ساكنة نفوسهم بما أخبرت به الأنبياء وما أشارت إليه الحكماء من الثواب في المعاد ونعيم الجنان، ومصدقون لهم في السر والإعلان، راغبون فيها، طالبون لها، عاملون من أجلها، ولكنهم تاركون البحث عنها والكشف لها والنظر في حقائقها: كيف؟ وأين؟ ومتى؟ ولِمَ؟ وإليهم أشار بقوله: فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ لهم الأمن واليُمْن والأمان والإيمان.
وأما الذين رُزِقوا حظًّا من العلم ولم يُرْزَقوا الإيمان فهم طائفة من الناس نظروا في كتب الفلاسفة والحكماء وبحثوا عنها، وارتاضوا بما فيها من الآداب مثل الهندسة والتنجيم والطب والمنطق والجدل والطبيعيات وما شاكلها، فأُعجبوا بها وتركوا النظر في كتب النواميس والتنزيلات النبوية والبحث عن أسرار الموضوعات الشرعية، والكشف عن خفيات الرموزات الناموسية، فعميت عليهم الأنباء فهم شاكُّون في حقائقها متحيِّرون في معرفة معانيها، جاهلون بلطيف أسرارها، غافلون عن عظيم شأنها، وإليهم أشار بقوله: فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ.
وأما الذين حُرِموا العلم والإيمان جميعًا فهم طائفة من الذين أُتْرِفوا في هذه الحياة الدنيا، فهم مشغولون الليل والنهار في طلب شهواتها، مغرورون بعاجل حلاوات لذات نعيمها، تاركون لطلب الآداب معرِضون عن العلم وأهله، غافلون عن أمر الديانات وأحكام الشرائع ومفروضات السنن التي الغرض منها نجاة النفس وطلب الآخرة، وإليهم أشار بقوله: وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وقال: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ وقال: يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ.
فأما الذين أوتوا من العلم والإيمان حظًّا جزيلًا فهم إخواننا الفضلاء الكرام الأخيار الذين أشار إليهم بقوله: يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ، وقد أخبرنا عن مذهبهم وعرَّفناكم أخلاقهم، وبيَّنَّا آراءهم وأوضحنا أسرارهم في إحدى وخمسين رسالة عملناها في فنون الآداب وغرائب العلوم وطرائف الحِكَم.
فانظروا فيها أيها الإخوان الأبرار الرحماء فلعلكم توفَّقون لفهم معانيها بتأييد الله لكم وبروح منه، فتحيون حياة العلماء، وتعيشون عيش السعداء، وتهتدون إلى طريق ملكوت السماء، وتنظرون إلى الملأ الأعلى وتساقون إلى الجنة زُمرًا.
واعلم يا أخي أن المؤمنين درجاتهم متفاوتة الإيمان، كما أن العلماء متفاوتون في درجات العلوم؛ وذلك أن الإنسان لا يبلغ درجة في العلم إلا ويلوح له فوقها درجات لم يبلغها بعدُ، كما ذكر الله بقوله: وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ فهو من أجل هذا يحتاج إلى الإقرار به والتصديق بقول مَنْ هو أعرف وأعلم منه.
وإذ قد بان من فضيلة العالم والمؤمن، وما العلم وما الإيمان بما تقدَّم؛ فنريد أن نذكر ماهية كل واحد منهما ونبيِّن كمِّيتهما وكيفيتهما فنقول:
إن العلم هو صورة المعلوم في نفس العالم، والإيمان هو التصديق لمن هو أعلم منك بما لا يخبرك عما لا تعلمه.
واعلم أنه رُبَّ صورة في نفس العالم ليس لها وجود في الهيولى فنحتاج أن تنظر في هذا الباب نظرًا شافيًا؛ فإن أكثر ما يُدْخِل الشبهة على العلماء من هذا الباب.
وأما الإيمان فهو التصديق للمخبِر فيما قال وأخبر عنه، ولكن رُبَّ مخبر بخلاف ما في نفسه فيكون كذَّابًا إن كان قاصدًا لذلك، ورُبَّ مصدق أيضًا لكذاب، وهذا أيضًا يحتاج إلى نظر شافٍ؛ لأن الشبهة تدخل على القائلين والمستمعين من هذا الباب، وقد بيَّنَّا طرفًا من هذه المعاني في رسائلنا المنطقيات.
(٢) فصل في أن الإيمان يورث العلم
واعلم يا أخي أن الإيمان يورث العلم؛ لأنه متقدِّم الوجود على العلم، ومن أجل هذا دعت الأنبياء عليهم السلام الأمم إلى الإقرار أولًا بما خبَّرتهم والتصديق بما كان غائبًا عنهم عن إدراك حواسهم وتصور أوهامهم، فإذا أقرُّوا بألسنتهم سمَّوهم عند ذلك المؤمنين، ثم طالبوهم بتصديق القلب كما ذكر الله: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ فإذا وقع التصديق بالقلب سمَّوهم الصدِّيقين، كما قال تعالى: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ.
واعلم أن أول ما يبدأ بالإيمان — الذي هو التصديق من الأنبياء للملائكة بما يخبرونهم عما ليس في طاقة البشر — تصورها قبل إخبار الملائكة لهم كما قال الله تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ إلى آخر الآية.
واعلم يا أخي أن الملائكة هم محتاجون إلى الإيمان؛ فهم متفاوتون في درجات العلوم كما أخبر عنهم فقال: وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ، وإن من أشرف الملائكة حملة العرش الذين هم في أعلى المقامات في العلوم، وهم أيضًا محتاجون إلى الإيمان كما أخبر عنهم فقال جل ثناؤه: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ.
واعلم أنك أيضًا محتاج إلى الإيمان والتصديق لقول المخبر لك الذي هو فوقك في العلم وأعلى منك في المعارف؛ لأنك إن لم تؤمن بما يخبرك به حُرِمْتَ أشرف العلوم وأجلَّ المعارف، وتعلم أنه ليس لك طريق إلى تصديق المخبر لك في أول الأمر إلا حسن الظن بصدقه، ثم على ممر الأوقات تتبين لك حقيقة ذلك فلا تطلبه بالبرهان في أول الأمر، ولكن اجتهد في أن تتصور في فكرك ما تسمع بأذنك، ثم اطلب السبيل والبرهان بعد ذلك، ولا ترضَ بالتقليد إذا توسطت في العلم، ولا تطلب البرهان في أوله، ولكن هلمَّ بنا يا أخي إلى مجلس إخوان لك فضلاء وأصدقاء لك علماء وأودَّاء لك نصحاء؛ لتسمع أقاويلهم وترى شمائلهم وتقف على أسرارهم، وتتصور بصفاء جوهر نفسك ما تصوروا بصفاء جوهر نفوسهم، وتنظر بعين قلبك كما نظروا بعيون قلوبهم، وترى بنور عقلك ما رأوا بنور عقولهم، فلعلك أن تنتبه نفسك من نوم الغفلة ورقدة الجهالة وتحيا بروح العلوم، وتعيش عيش السعداء وتوفَّق للصعود إلى ملكوت السماء؛ لتنظر إلى الملأ الأعلى، وتكون هناك بنفسك الزكية الطاهرة النقية الشفافة مسرورًا فرِحًا منعَّمًا ملتذًّا أبدًا، لا بجسدك الثقيل المظلم المستحيل الفاسد، وفقك الله أيها الأخ للصواب وهداك إلى الرشاد وجميع إخواننا حيث كانوا في البلاد.
(٣) فصل في ماهية الإيمان
اعلم يا أخي أن الله جل ثناؤه، إنما أكثر مدح المؤمنين في القرآن وجعل وعدهم في الآخرة وثوابهم الجنة؛ لأن الإيمان خصلة تجمع الخيرات البشرية كلها وفضائل الملائكة، وأيضًا أكثر ذمَّ الكافرين وجعل وعيدهم جهنم؛ لأن الكفر خصلة تجمع الشرور البشرية كلها ورذائل الشيطانية جميعًا، وقد بيَّنَّا ماهية الكفر ومَنِ الكافر بالحقيقة في رسالة الناموس، ونريد أن نذكر من شرائط الإيمان وخصال المؤمنين طرفًا؛ ليُعلَم ما الإيمان ويُعْرَف مَن المؤمن بالحقيقة.
اعلم يا أخي أن الإيمان يقال على نوعين: ظاهر وباطن، فالإيمان الظاهر هو الإقرار باللسان بخمسة أشياء: أحدها هو الإقرار بأن للعالم صانعًا واحدًا حيًّا قادرًا حكيمًا وهو خالق الخلق كلهم ومدبرهم لا شريك له في ذلك أحد، والثاني هو الإقرار بأن له ملائكة «هم» صفوة الله من خلقه، نصبهم لعبادته وخدمته، وجعلهم حَفَظَةً لعالمه، ووكل كل طائفة منها بضرب من تدبير خلائقه بما في السموات والأرض لا يعصون ما نهاهم عنه ويفعلون ما يؤمرون، والثالث الإقرار بأنه قد اصطفى طائفة من بني آدم وجعلهم واسطة بينهم وبينه الملائكة؛ ليتلقى الملائكة عن ربهم، ويلقون إلى بني آدم ما يتلقونه من الملائكة من الوحي والأنباء، والرابع الإقرار بأن هذه الأشياء التي جاءت بها الأنبياء عليهم السلام من الوحي والأنباء باللغات المختلفة مأخوذة معانيها من الملائكة إلهامًا ووحيًا، والخامس الإقرار بأن القيامة لا محالة كائنة، وهي النشأة الأخرى، وأن الخلق كلهم يُبْعَثون ويُحْشَرون ويحاسَبون ويثابون بما علموا من خير ومعروف ويجازون بما عملوا من شر ومنكَر، وذلك قول الله تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وقال: وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.
فهذا هو الإيمان الظاهر الذي دعت الأنبياء عليهم السلام الأمم المنكرة لهذه الأشياء إلى الإقرار به، وهو يؤخذ تلقينًا كما يتلقَّن الصغار من الكبار، والجهال من العلماء، الإقرار به.
وأما الإيمان الذي هو باطن فهو إضمار القلوب باليقين على تحقيق هذه الأشياء المُقِرِّ بها باللسان؛ فهذا هو حقيقة الإيمان.
وأما المؤمن في ظاهر هذا الأمر فهو المُقِرُّ بهذه الأشياء بلسانه المتميز من اليهود ومن النصارى والصابئين والمجوس والذين أشركوا، وبهذا الإقرار تجري عليه أحكام المسلمين من الصلاة والزكاة والحج والصوم وما شاكلها من مفروضات شريعة الإسلام وسنة المؤمنين.
وأما الذين مدحهم في كتبه ووعدهم الجنة فهم الذين يتيقَّنون بضمائر قلوبهم حقائق هذه الأشياء المُقَرِّ بها.
وأما الطريق إليه فهو بالتفكير والاعتبار والقيام بشرائطها وواجب حقها، كما قال تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ الآية.
(٤) فصل في ماهية التوكل
فاعلم أن إحدى شرائط هذا الإيمان وخصال المؤمنين هو التوكل على الله كما قال: وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
وقال لنبيه عليه السلام: تَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ ونريد أن نبيِّن ما التوكل؟ ومَنِ المتوكل على الله بالحقيقة؟
اعلم يا أخي أن التوكل هو الاعتماد على الغير عند الحاجة بأن ينوب عنك فيها.
واعلم أنه إذا كان المتوكَّل عليه ثقة يكون قلب المتوكِّل عليه ساكنًا ونفسه مطمئنة، وإذا كان غير ثقة يكون قلب المتوكل غير ساكن ونفسه غير مطمئنة.
واعلم يا أخي أن الناس كلهم متوكلون، ولكن أكثر توكلهم على غير الله تعالى، من ذلك توكُّل الصبيان على آبائهم فيما يحتاجون إليه من الطعام والشراب واللباس وغيرهما من الحاجات، فهم طول النهار مشغولون باللعب لا يفكرون في أمر المعاش، ولا يهمهم طلبه لاتكالهم على آبائهم، وقلوبهم ساكنة ونفوسهم هادئة ليقينهم بآبائهم.
وهكذا العبيد مشغولون بخدمة مواليهم، لا يفكرون في طلب المعاش اتكالًا على مواليهم فيما يحتاجون إليه.
وهكذا جنود السلطان وخدمه لا يفكرون في طلب المعاش اتكالًا على السلطان في أرزاقهم المفروضة لهم فهم مشغولون في خدمة سلطانهم.
وأما غير هؤلاء من الناس فهم طائفتان: الأغنياء والفقراء، فأما الأغنياء فاتكالهم على ذخائرهم وأموالهم وقلوبهم ساكنة ونفوسهم هادئة، ولكن الحرص والرغبة في الزيادة يحثانهم على الطلب، وهم في الطلب متوكلون على رأس أموالهم وصرفهم وحذقهم بالبيع والشراء في طلب الربح.
وأما الفقراء فهم الصناع والذين يعملون بأبدانهم واتكالهم على صناعتهم وقوة أبدانهم.
وهكذا المؤمنون المحققون الذين هم ورثة الأنبياء يقتدون بهم ويسلكون مسلكهم فيما دلَّهم الله عليهم فقال: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فالتوكل إذن أحد هذه الخصال التي يبين بها من المؤمن المحق.
(٥) فصل في ماهية الإخلاص
ومن شرائط الإيمان أيضًا وخصال المؤمنين الإخلاص في العمل والدعاء كما أمر الله تعالى: فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وقال: لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ فالإخلاص في العمل هو ألَّا يطلب بما يعمل جزاءً ولا شكورًا من أحد من خلق الله مثل إخلاص الوالدين في تربيتهما الأولاد؛ فإنهما لا يطلبان جزاءً ولا شكورًا؛ لأنهما قد علما بأنها واجبة في الجِبلَّة، ومثل إخلاص العبيد الصالحين الذي يخدمون مواليهم من غير خوف من الضرب ولا طلبًا للعوض؛ لأنهم قد علموا بأن خدمتهم هي شيء تقتضيه الحكمة والسياسة كما بيَّنَّا في رسالة السياسيات.
واعلم يا أخي أن العبد الذي يخدم مولاه خوفًا من الضرب أو طلبًا للعوض عبد سوء، وهكذا مَنْ لا يطيع ربه إلا خوفًا من النار أو رغبةً في الأكل والشرب والجماع في الجنة؛ فهو أيضًا عبد سوء، والعبد السوء لا يكون مخلصًا في الدعاء ولا في العمل.
وأما الإخلاص في الدعاء فلا يكون إلا عند انقطاع الحيلة والتبري من الحول والقوة، والمثال في ذلك رُكَّاب البحر؛ وذلك أنهم يدعون الله ويسألونه السلامة عند دخولهم السفينة، ولكن غير مخلصين لاتكالهم على الربَّان والملاحين في حفظها ومراعاتها، ونفوسهم ساكنة هادئة بحضور الربان والملاحين حتى إذا توسطوا البحر وهاجت الأمواج واضطربت المراكب ودهش الربان وفزع الملاحون وأشرفوا على الهلاك فعند ذلك يدعون الله مخلصين له الدين؛ لأنهم قد علموا أنه لا يقدر أحد من خلق الله على معاونتهم، ولا قوة لأحد على دفع ما ورد عليهم إلا الله عز وجل، ولا تتعلق قلوبهم بسبب من الأسباب إلا أن يكون فيها إنسان يعرف أحكام النجوم.
وقد عرف ما العلة الموجبة لما هم فيه من مناحس الفلك، ويعلم أن النحس دافع تدبيره إلى سعد من السعود، ويكون قلبه متعلقًا به؛ فإنه وإن كان يدعو ربه لا يكون دعاؤه مخلصًا حتى يتبين أن النحس مستمر، أو دافع التدبير إلى نحس أشر منه، فعند ذلك يقطع رجاءه من النجوم فيكون دعاؤه بالإخلاص.
واعلم يا أخي أن مثل هذه الأحوال التي تَرِد على بني آدم وفزع العقلاء إلى الله تعالى ودعاء العارف لهم بالكشف عنهم ما ورد عليهم، يكون فيها تلقين للجاهلين بالله وهداية للنفوس إلى معرفته فيعلمون عند ذلك — بنظرهم إلى العقلاء في دعائهم وتضرعهم إلى الله بالكشف عنهم ما هم فيه — أن لهم إلهًا جبارًا عالمًا قادرًا يسمع دعاءهم ويعلم ما هم فيه وهو قادر على نجاتهم يراهم وإن كانوا لا يرونه ولا يدرون أين هو؟
وعلى هذا القياس كل ما يصيب الناس من الجهد والبلاء فيضطرهم ذلك إلى الدعاء والتضرع إلى الله عز وجل مثل الغلاء والوباء وآلام الأطفال ومصائب الأخيار وما شاكلها من الأمور السماوية التي لا سبيل لأحد في دفعها عنه إلا الله تعالى، فيكون ذلك دلالةً لهم على الله عز وجل وهداية إليه، كما قال: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ.
(٦) فصل في ماهية الصبر
ومن إحدى شرائط الإيمان وخصال المؤمنين الصبر كما قيل: الصبر رأس الإيمان، وقال الله تعالى: وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ وقال للمؤمنين: اصْبِرُوا وَصَابِرُوا الآية.
واعلم يا أخي أن الصبر هو الثبات في حال الشدائد بلا جزع لما يرجى من محمود العاقبة، والصبر مشتق من مرارة الصبر.
واعلم يا أخي أن الناس أكثرهم يصبرون في الشدائد ولكن لا يكون صبرهم بالله ولا لله؛ لأنهم يجزعون ويضطربون ويشكون ويظنون بالله ظن السوء كما قال الله جل ثناؤه في قصة المنافقين: وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا؛ وذلك أن منهم مَنْ ظن أن تلك الشدائد التي أصابتهم جور منه إذا قضاها عليهم، ومنهم مَنْ ظن أنه ليس من قضائه وحكمه، ومنهم مَنْ ظن أنه ليس يعلم ما هم عليه من الجهد والبلوى، ومنهم مَنْ يعلم أنه يعلمه ولكنه يظن أنه لا يكفر فيهم ولا يُهِمه أمرهم، ومنهم مَنْ يظن أنه قاسي القلب قليل الرحمة وما شاكلها من ظنون السوء.
فأما الأنبياء المؤمنون فإنهم يصبرون في الشدائد والبلوى، ويكون صبرهم بالله ولله؛ وذلك أنهم يرون ويعتقدون أن الشدائد التي تصيب الخلق فيها ضروب من المصلحة لهم وإن كان يخفى على كثير من العقلاء ما لتلك المصلحة والحكمة، كما بيَّنَّا في باب الدعاء والإخلاص عند الشدائد، وكما بيَّنَّا في رسالة اللذات ما الحكمة في ألم نفوس الحيوان دون سائر النفوس التي في العالم، وأن الحكمة فيها هي حث نفوسها على حفظ أجسادها من التلف والفساد.
واعلم يا أخي أن اعتقاد الأنبياء والمؤمنين في الشدائد التي تصيبهم مصلحة لهم نتجت من المقدمة التي أقروا بها هي قولهم: إن للعالم صانعًا واحدًا حيًّا قادرًا حكيمًا، وإنه قد رتَّب أمر العالم على أحسن النظام والترتيب في إتقان الحكمة حتى لا يجري أمر من الأمور صغارها وكبارها إلا وفيها ضروب من الحكمة وصنوف من الصلاح لا يعلمه إلا هو.
(٧) فصل في ماهية القضاء والقدر والرضاء بالقضاء
ومن شرائط الإيمان وخصال المؤمنين الرضا بالقضاء والقدر، وهو طيب النفس بما يجري عليها من المقادير، وجريان المقادير هو موجبات أحكام النجوم، والقضاء هو علم الله السابق بما توجبه أحكام النجوم، ويقال: إن الرضا بالقضاء هو أقل أعمال بني آدم التي تصعد إلى السماء، وهو أشرف شرائط الإيمان وأفضل خصال المؤمنين.
وقد قال الله تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ وقال: رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ.
ثم اعلم يا أخي أنه لا يوجد أحد طيِّب النفس بما يجري عليه من المقادير المرة الصابرة إلا العارفون بحرمة الناموس، ولا يعرف أحد حرمة الناموس كما يجب إلا الأنبياء والمؤمنون، وقد بيَّنَّا حق الناموس وكيفية حرمته في رسالة النواميس، فمن علامة الرضاء بالقضاء وبما تجري به المقادير أن ينقاد لحكم الناموس طيِّب النفس مثل انقياد سقراط حكيم اليونانيين؛ وذلك أن هذا الحكيم أوجب عليه القاضي القتل بشهادة العدول، وأنه واجب عليه القتل بشبهة دخلت على القوم فانقاد سقراط للقتل طيبة به نفسه، فقيل له: إنك تُقْتَل مظلومًا، فهل لك أن نفديك بفدية أو نهرب بك؟ قال سقراط: أخاف أن يقول الناموس غدًا لي: لِمَ فررتَ من حكمي؟ فقالوا: تقول له: لأني كنت مظلومًا، قال لهم: إن قال لي الناموس: إن ظلمك الشهود الذين شهدوا عليك بالزور والبهتان فكان من الواجب ألَّا تظلمني أنت وتفر من حكمي، فماذا أقول؟ فخصمهم بهذه الحجة وانقاد للقتل طيبة به نفسه راضيًا بحكم الناموس.
ثم قال: مَنْ تهاون بالناموس قتله الناموس، وكان قد انقاد قبل سقراط للمقادير أحد بني آدم إذ قال له أخوه قابيل: لَأَقْتُلَنَّكَ قال له هابيل: لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ إلى قوله: أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ، فرضي بقضاء الله الذي هو علمه السابق بالكائنات قبل كونها، فانقاد للمقادير التي هي موجبات أحكام النجوم طيبة بها نفسه، ومثل ذلك أن رضي المسيح بقضاء الله وانقاد للمقادير وسلَّم ناسوته إلى اليهود طيبة به نفسه راضيًا بحكم الله الذي هو علمه السابق بالكائنات قبل كونها؛ إذ لا يكون شيء بخلاف ما علم.
ومثل ما رضيت به السحرة بقضاء الله لما هدَّدهم فرعون بالصلب فقالوا له: اقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا؛ وذلك أن القوم قد علموا بأنه ليس له سلطان على نفوسهم إنما سلطانه على أجسادهم فقالوا: إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا فانقاد القوم للمقادير وسلَّموا أجسادهم إلى حكم فرعون طيبة بها أنفسهم.
ومثلما رضي رسول الله ﷺ يوم أُحُد لما قُتِل خيار أنصاره وفضلاء المهاجرين وكُسِرت رايته وجرى عليه من المقادير الفلكية ما جرى، قيل: يا رسول الله: لو دعوت الله على المشركين بالهلاك لما فعلوا بك؟ فقال: «رحم الله أخي نوحًا فإن غوغاء قومه ضربوه وكان يقول: اللهم لا تؤاخذ قومي فإنهم لا يعلمون، وأنا أقول: اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون.» ولما بلغ الخبر إلى المدينة ذلك اليوم بما جرى عليه وعلى أصحابه خرج أهل المدينة يتعرفون أخبار إخوانهم فخرجت امرأة من الأنصار تسأل عن زوجها فقيل لها: إنه استشهد، فسألت عن أبيها فقيل لها مثل ذلك، فسألت عن أخيها فقيل لها مثل ذلك، فقالت: أليس قد سلِم رسول الله؟ قالوا: نعم. فقالت: في بقائه عوض عن الكل، ومثل رضاء عثمان بن عفان لما دخلوا عليه ليقتلوه فقام عبيده وسلُّوا سيوفهم وقالوا: نُقْتَل دونك؟ فرجع وكره وذكر قول أنس لما قال رسول الله ﷺ: «افتح له الباب وبشِّره بأنه وليُّ هذه الأمة بعد عمر.» ووعده ببلوى تصيبه بهراقة دمه، فقال لعبيده: مَنْ ردَّ سيفه إلى غمده فهو حر لوجه الله تعالى، وقعد في مجلسه وأخذ المصحف في حجره فقرأ: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ، ورضي بقضاء الله، وعلم أنه مقتول، وانقاد للمقادير طيبة بها نفسه. ومثل رضاء الحسين رضي الله عنه يوم كربلاء لما اشتدَّ به العطش وطلب الماء فقالوا له: تنزل على حكم ابن زياد حتى نخلي سبيلك؟ فقال: لا، ولكن على حكم الله. وعلم أنه مقتول، فقاتَلَ حتى قُتِلَ راضيًا بقضاء الله وبما جرت به المقادير طيبة بها نفسه.
واعلم يا أخي أن هذه النفوس التي تقدَّم وصفها إنما صارت راضية بقضاء الله الذي هو علمه السابق في خلقه، وصبرت بما جرت عليها المقادير المرة التي هي موجبات النجوم لما ترجو من الخيرات في المنقلب وما تنال من السعادة والروح والراحة بعد المفارقة، وما يقصر الوصف عنه، وإليها أشار بقوله: فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لَا يَرْجُونَ وقال تعالى: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ الآية وقال: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ.
(٨) فصل في أنَّ من علامة المؤمنين المحققين ألَّا يخافوا ولا يرجوا إلا الله تعالى
ومن علامة المؤمنين المحققين ألَّا يخافوا ولا يرجوا إلا الله تعالى، كما أن الأولاد لا يخافون ولا يرجون إلا الآباء والأمهات، وهكذا الصبيان لا يخافون إلا من المؤدب، والتلامذة لا يخافون إلا من الأستاذين، وهكذا الجند لا يخافون إلا من صاحب الجيش، والناس كلهم لا يخافون إلا من سلطانهم القادر على نفعهم وضرهم. وكما حكى عن الملائكة فقال: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ فالملائكة لا يخافون إلا من ربهم، وهكذا العلماء، قال الله تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ الذين يشاهدونه ويرونه كما قال: وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ، وكما قال رسول الله، ﷺ حين سأله الأعرابي: ما الإحسان؟ فقال: الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك؛ فهذه الرؤية والمشاهدة بعين الحقيقة، وهي ألَّا ترى في الدارين أحدًا غيره، كما قال المحقق شعرًا:
(٩) فصل في أن أول عمُد الإيمان وأقوى أركانها هو الاتباع لأصحاب النواميس الإلهية
اعلم يا أخي أن أول عمُد الإيمان وأقوى أركانها هو الاتباع لأصحاب النواميس الإلهية فيما يأمرون به من الطاعات وينهون عنه من المعاصي، وهو السمع منهم والطاعة لهم؛ وذلك أن أشرف أعمال البشرية وألذ أفعال الإنسانية وأعلى رتبة ينالها العقلاء مما يلي رتبة الملائكة هي وضع النواميس الإلهية. واعلم يا أخي أن لواضعي النواميس وأتباعهم خصالًا كثيرة وشرائط عدة، قد ذكرنا طرفًا منها في رسالة النواميس وطرفًا في رسالة اعتقاد إخوان الصفا، وطرفًا في رسالة عِشْرة الإخوان بعضهم لبعض.
واعلم أن مثل واضعي الناموس مع أتباعهم وما يسمعون منهم من العلوم وما يأتمرون به من سنن النواميس كمثل السماء وأمطارها والأرض ونباتها؛ وذلك أن كلام أصحاب النواميس وأقاويلهم كالأمطار، واستماع أتباعهم كالأرض، وما ينتج بينهما من فوائد العلوم من الآراء والأعمال كالنبات والحيوان والمعادن. وإلى هذه المعاني أشار بقوله: أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً يعني القرآن فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا يعني حفظتها القلوب بمقاديرها من القلة والكثرة فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا يعني ما تحمل ألفاظه وظاهره معاني متشابهات حفظتها قلوب المنافقين الزائغة الشاكين المتحيرين وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ مثَل آخر يعني الجواهر المعدنية لها زبد عند السبك كزبد السيل، ثم قال: كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ يعني أمثال الحقائق والأباطيل فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً؛ يعني الأباطيل والشبهات تذهب فلا يُنْتَفع بها وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ؛ يعني ألفاظ التنزيل تثبُت في قلوب المؤمنين المصدقين وتثمر الحكمة كما ذكر فقال عز وجل: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ.
واعلم يا أخي أن الناموس لا يتم إلا بالأوامر والنواهي، والأمر والنهي لا ينفذان إلا بالوعد والوعيد، والوعد والوعيد لا يتمكنان إلا بالترغيب والترهيب، والترغيب والترهيب لا ينجعان إلا فمين يخاف ويرجو، والخوف والرجاء لا يظهران ولا يُعْرَفان إلا عند اتباع الأمر والنهي، فمَنْ لا يخاف شيئًا ولا يرجو أملًا فهو لا يرغب ولا يرهب، ومَنْ لا يرغب ولا يرهب فلا ينجع فيه الوعد والوعيد، ولا ينجع فيه الأمر والنهي، ومَنْ لا يأتمر لواضعي النواميس ولا ينتهي عن نواهيهم فلا يكون له نصيب في الناموس الإلهي البتة.
واعلم يا أخي أن الأمور التي يخاف منها في العاقبة ويُرْجَى إليها الوصول في استعمال النواميس نوعان اثنان: أحدهما دنيوي والآخر أخروي، فأما الدنيوي مثل الرياسة وحسن الثناء والعز والمال ومتاع الدنيا ما دامت النفس مقرونة مع الجسد وما يبقى منها من الذرية والأعقاب بعد الممات، والأخروي هي نجاة النفس من بحر الهيولى وأَسْر الطبيعة والخروج من هاوية الأجسام — عالم الكون والفساد التي تحت فلك القمر — والفوز بالصعود إلى ملكوت السماء والدخول في زُمَر الملائكة والسيحان في فضاء الأفلاك وسعة السموات، والتنسُّم من ذلك الروح والريحان المذكور في القرآن الذي يقصر الوصف عنه إلا مختصرًا، كما قال الله تعالى: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ إلى آخر الآية.
(١٠) فصل في أن بغية كل طالب في استعمال أحكام الناموس هي البلوغ إلى الحق
اعلم أن بغية كل طالب في استعمال أحكام الناموس هي البلوغ إلى الحق وحكم الصواب وعمل الخير وتجنُّب الزور والبهتان.
واعلم أن الحق هو غاية ليست وراءها نهاية، ولكن دونها أمور متشابهة مشكلة. واعلم أن الألفاظ محتملة للمعاني والأوهام تذهب في طلبها كل مذهب، فينبغي لك إذا سمعت لفظة محتملة للمعاني ألا تحكم عليها حكمًا دون أن تبين بعقلك كل المعاني التي تحتملها تلك اللفظة لعلك تفهم الغرض الأقصى الذي هو الصواب، وتبلغ الغاية القصوى التي هي الحق.
واعلم أن غرض واضعي النواميس الإلهية بعيد الغور جدًّا في أحكام النواميس لا يتصور لك في أول وهلة، ولكن بعد النظر الشافي والبحث الشديد، ونريد أن نضرب لذلك مثلًا ليكون قياسًا على ما قلنا ووصفنا:
ذُكِر في المثال أنه كان رجلان اصطحبا في طريق على سفر، فلما انتهيا إلى شاطئ نهر قعدا للغداء فأخرج كل واحد زاده، فكان مع أحدهما رغيفان ومع الآخر ثلاثة أرغفة، فكسراها في موضع واحد ليأكلاها؛ إذ مرَّ بهما مجتاز فدعَوه إلى طعامهما فأجاب وجلس وأكل معهما، فلما فرغوا قام ورمى بين يديهما خمسة دراهم وقال: اقسموها بينكما بالسوية، ومضى هو لسبيله، فقال صاحب الرغيفين لصاحبه: لك النصف ولي النصف الباقي؛ لأنه قال بالسوية، وقال صاحب الثلاثة الأرغفة: بل العدل أن يكون لي ثلاثة دراهم ولك درهمان؛ لأنه قال بالسوية بحسب الرغيفين، فتنازعا وتحاكما إلى قاضٍ من حكام الناموس، فحكم بينهما أن لصاحب الرغيفين درهمًا واحدًا ولصاحب الثلاثة أربعة، وكان هذا الحكم هو الحق وغاية الصواب.
فتفكَّر يا أخي فيه، فإنْ فهمتَ معناه وتوجَّه لك الصواب فأنت فقيه بأحكام الناموس، وإن ذهب عليك فيه وجه الصواب وغاية الحقيقة فاذهب إلى حاكم الناموس؛ ليعرِّفك وجه الصواب وحقيقة المعنى.
واعلم يا أخي أن كثيرًا من العقلاء الذين يتعاطون الفلسفة والنظر في المعقولات إذا فكَّروا بعقولهم في أحكام الناموس وقاسوها بآرائهم وتمييزهم وفهمهم يؤديهم اجتهادهم وقياساتهم إلى أن يروا ويعتقدوا في كثير من أحكام الناموس أن العدل والحق والصواب في خلافه، كل ذلك لقصور فهمهم وقلة تمييزهم وعجز معرفتهم عن كنه أسرار أحكام الناموس.
مثال ذلك أنهم إذا فكَّروا في حكم المواريث: أن للذكر مثل حظ الأنثيين فيرون أن الصواب كان أن يكون للأنثى حظ الذكرين؛ لأن النساء ضعفاء قلائل الحيلة في اكتساب المال. ولا يدرون ولا يبصرون أن هذا الحكم الذي حَكَمَ به الناموس سيئول الأمر به إلى ما أشاروا إليه وأرادوه؛ وذلك أن الناموس لما ذكر حكم للذكر مثل حظ الأنثيين حكَم أيضًا أن المهر في التزويج على الرجال للنساء؛ فهذا الحكم يئول الأمر به إلى أن يحصل للأنثى من المال مثل حظ الذكرين.
مثال ذلك: لو أنك ورثت من والدك ألف درهم وورثت أختك خمسمائة درهم فإذا تزوَّجت أخذت مهرها خمسمائة درهم أخرى فيصير معها ألف درهم، وأنت إذا تزوَّجت وأمهرت خمسمائة درهم بقي معك من المال نصف ما مع أختك، فعلى هذا القياس قد آل الأمر في حكم الناموس إلى ما أرادوا وأشاروا إليه، فهكذا ينبغي أن يكون نظرك في أحكام الناموس حتى يتبين لك وجه الصواب فيها وغاية الحق.
واعلم أن نظر واضعي الناموس في موجبات أحكامه ليس بنظر جزئي يريد صلاح بعض دون بعض ولا عاجل دون آجل، بل نظره كلِّيٌّ يريد الصلاح للكل والخير للعاجل والآجل جميعًا بالنظر في العواقب وما يئول الأمر إليه في المنقلب كما بيَّنَّا في رسالة الناموس.
(١١) فصل في أن الإنسان لا يخلو من حالتَي الشدة والرخاء
اعلم يا أخي أن الإنسان لا يخلو من حالتَي الشدة والرخاء، والمؤمن في كلتا حالتيه لا يُعْرِض عن طاعة الله؛ وذلك أنه إذا كان صحيح الجسم قوي البدن غني المال عريض الجاه متفضل الآداب قادرًا على ما يشاء ممكنًا لما يريد؛ فهو مع هذه الحالات كلها يكون متكلًا على الله مستندًا إليه مستعينًا به متبرئًا من حوله وقوته إلا بالله، كما قال سليمان، عليه السلام: هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ، وأما الكافر فهو في هذه الحالات كلها يكون راجعًا إلى نفسه وحوله وقوته ومشيئته وإرادته واجتهاده وحيلته متكلًا على أسبابه معرِضًا عن ربه ناسيًا ذكره كما قال قارون: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي.
وأما حال الشدة والبلوى فالمؤمن يكون فيها صابرًا بقضاء الله راضيًا مقبلًا إليه بحكم الله حامدًا له حسن الظن به، راجيًا لرحمته سائلًا عفوه مستسلمًا لأحكامه، كما ذكر الله تعالى بقوله: الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وأما الكافر فإنه يكون سيئ الظن بالله ضجور النفس جزعًا من الشدائد، ساخطًا على المقادير ذامًّا لأسبابه آيسًا من روح الله قنوطًا من رحمته، كما ذكر الله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ إلى آخر الآية.
(١٢) فصل في الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة
ومن شرائط الإيمان وخصال المؤمنين الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة، كما رغَّب الله تعالى نبيه ﷺ فقال: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى وقال: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى وآيات كثيرة في القرآن في التزهيد في الدنيا والترغيب في الآخرة.
واعلم يا أخي أن الإنسان مطبوع على ألَّا يترك النفع الحاضر العاجل ويزهد فيه ويطلب الغائب الآجل ويرغب فيه إلا بعدما يتبين له فضل الآجل على العاجل.
واعلم أن المؤمنين والحكماء والأنبياء إنما زهدوا في الدنيا وتركوا عاجل شهواتها، ورغبوا في الآخرة وطلبوا آجل نعيمها؛ لما تبين لهم حقيقة الآخرة وعرفوا فضل نعيمها على نعيم الدنيا، وشاهدوها بعيون قلوبهم ونور عقولهم كما شاهد أبناء الدنيا أمورها بحواسهم.
واعلم يا أخي أن الطريق إلى معرفة حقيقة الآخرة ومشاهدة أحوالها بالاعتبار والتفكر في أمور الدنيا، والمقايسة بينها وبين أمور الآخرة بالعقول السليمة من الآراء الفاسدة والنفوس الصافية من الأخلاق الرديئة ونتائج المقدمات الصحيحة الضرورية.
بيان ذلك أن العاقل اللبيب إذا فكَّر في قول الجمهور من الناس وتسميتهم هذه الدار التي نشئوا فيها باسم الدنيا وذمهم نعيمها يدل على الدار الآخرة وشرفها؛ لأن لفظة الدنيا تدل على الأخرى، كما أن لفظة الأخرى تدل على الأولى؛ لأنهما من جنس المضاف.
ومن وجه آخر إذا اعتبرت أحوال الناس في الدنيا وجدتهم كلهم طائفتين: أخيارًا أو أشرارًا، فأما الأخيار فهم الذين يعملون من أعمال ما رُسِمَ لهم من النواميس الإلهية، ويفعلون ما أوجبته العقول السليمة، ولا يطلبون على ذلك عوضًا من جرِّ منفعة إلى أجسادهم أو دفع مضرة عنها، فعند ذلك يقال لهم أخيار على الإطلاق، وأنهم من أبناء الآخرة، وأما الذين يطلبون العوض فيما يعملون من الخير والشر من جر المنفعة إلى أنفسهم أو دفع المضرة عنها ولا يفكرون في المعاد، ولا يرجون في الآخرة الخير ولا يخافون العقاب ولا يهمهم أمر النفس ولا النظر في حالها بعد الموت، فيقال عند ذلك: إنهم أشرار، وإنهم من أبناء الدنيا.
ووجه آخر إذا اعتبرت أحوال هؤلاء الأخيار الذين تقدَّم ذكرهم وأنهم قد أفنوا أعمارهم كلها فيما وصفنا من أعمال الخير، ثم ماتوا ولم يحصل لهم عوض على ما عملوه قبل الموت، تتعلم العقول وتقضي بالحق أن ذلك لا يضيع عند الله شيء فيصبح بهذا الاعتبار أن بعد الممات — الذي هو مفارقة النفس الجسد — حالة أخرى يجازى فيها الأخيار وهي التي تسمى الدار الآخرة، وهكذا إذا اعتبر حال الأشرار الذين سعوا في الأرض بالفساد طول أعمارهم ثم ماتوا ولم يعاقبوا على ما فعلوا، فتعلم العقول وتقضي أن هؤلاء لم يفوزوا وأن حالهم بعد الممات ليس كحال أولئك الأخيار، وذلك قوله تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ.
هذا وإذ قد ذكرنا طرفًا من خصال المؤمنين وشرائط الإيمان وخصال الكافرين وماهية الكفر، فنريد أن نذكر طرفًا من علم المؤمنين الراسخين وخصال العارفين المستبصرين الذين هم ورثة النبيين وأنصار المرسلين وإخوان الصدِّيقين المتألهين الربانيين الذين هم في أعلى رتبة الإنسانية مما يلي رتبة الملائكة أعلى عليين، ونذكر أيضًا طرفًا من صفة إخوان الشياطين الضالين المضلين الذين هم في أدون رتبة الإنسانية مما يلي رتبة البهيمية أسفل السافلين.
(١٣) فصل في أن العلوم كلها شريفة
اعلم يا أخي أن العلوم كلها شريفة فيها عز، ولكن أشرفها وأجلَّها هي معرفة الإنسان حقيقة جوهره وما تتصرف به الأمور حالًا بعد حال إلى أن يبلغ إلى أقصى مدى غايته الذي هو قاصد نحوه وهو أن يلقى ربه إما في الدنيا قبل فراقها، وإما في الآخرة بعد الفراق.
واعلم يا أخي أن هذا الباب من العلم هو لُبُّ ذوي الألباب وجذر العلوم وعنصر الحكمة، فاجتهد في طلبه فإنك به تنال شرف الدنيا وسعادة الآخرة، وقد بيَّنَّا طرفًا من هذا العلم في رسائلنا الطبيعية ووصفنا فيها كيفية ما يتصرف به الإنسان من الأمور حالًا بعد حال من يوم مسقط النطفة إلى يوم يموت وتفارق روحه جسده، وقد بيَّنَّا أيضًا طرفًا في رسائلنا العقلية مما تصير إليه الأنفس الجزئية بعد مفارقة أجسادها، ووصفنا كيفية ما تتصرف بها الأحوال إلى يوم يُبْعَثون، ونريد أن نذكر في هذه الرسالة أشرف الأمور التي تنال الإنسان في الدنيا وأعلى رتبة يبلغ إليها قبل الموت ما هي؟ ولكن قبل ذلك نحتاج أن نُبيِّن أولًا ما الإنسان؟ إذ كان هو من أعجب الموجودات التي تحت فَلَكِ القمر وأشرفها تركيبًا وأحسنها صورةً، ثم نخبر بعد ذلك عن الأمور التي ينالها ويبلغ إليها فنقول:
إن الإنسان إنما هو جملة مجموعة من جسد جسماني في أحسن الصور، ومن نفس روحانية من أفضل النفوس. واعلم يا أخي أن لكل واحد من جزأيه غاية إليها ينتهي، ونهاية إليها يرتقي. فأعلى رتبة ينالها الإنسان بجسده وأشرف رتبة يبلغها ببدنه هي سرير الملك والعز والسلطان على أجساد أبناء جنسه، والقهر والغلبة بالقوة الغضبية، وأما أعلى رتبة ينالها الإنسان من جهة نفسه وأشرف درجة يبلغها بصفاء جوهرها فهي قبول الوحي الذي به يعلو الإنسان على سائر أبناء جنسه، وبه يغلبهم بما يدرك من المعارف الحقيقية بالقوة الناطقة. ولما تبين أن النفس أشرف جوهرًا من الجسد صارت الرتبة التي ينالها الإنسان بنفسه أشرف وأعلى من التي ينالها بجسده؛ لأن هذه جسمانية دنيوية وتلك روحانية أخروية. ولما قد تبين أن الوحي هو أشرف موهبة قد يجدها الإنسان في الدنيا أردنا أن نُبيِّن ما الوحي؟ وكيف قبول النفس له؟ فنقول:
إن الوحي هو إنباء عن أمور غائبة عن الحواس يُقْدَح في نفس الإنسان من غير قصد منه ولا تكلُّف.
وأما قبول النفس الوحي فعلى ثلاثة أوجه: منها ما يكون في المنام عند ترك النفس استعمال الحواس، ومنها ما يكون في اليقظة عند سكون الجوارح وهدوء الحواس، وهما نوعان: إما استماع صوت من غير رؤية شخص بإشارات دائمًا، وإما استماع كلام من غير رؤية شخص كما قال الله تعالى: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ.
- أولًا: ما النوم؟ وما الرؤيا؟ أما النوم فهو ترك النفس استعمال الحواس، والرؤيا هي تصور النفس رسوم المحسوسات في ذاتها وتخيلها الأمور الكائنة قبل كونها بقوتها الفكرية في حال النوم وسكون الحواس. وسنوضح هذا في فصل آخر، ولكن من أجل أن قومًا من أهل الجدل ينكرون أمر النفس أنها جوهرة ويجحدون وجودها احتجنا أن نبيِّن ما النفس؟ وما حقيقة جوهرها؟ وما الدليل على صحة وجودها؟ فنقول: أولًا: إن النفس هي جوهرة روحانية حية علامة فعَّالة، فأما الدليل على صحة ما ذكرنا فهو أكثر من أن يُحصى.
وقد ذكرنا طرفًا من ذلك في رسالة تركيب الجسد وطرفًا في رسالة الحاس والمحسوس، وطرفًا في رسالة أن الإنسان عالم صغير، ولكن نريد أن نذكر من ذلك طرفًا في هذا الفصل فنقول:
إن من الدليل الواضح على أن مع جثث الحيوانات جوهرًا آخر غير جسماني هو ما يظهر من أجسادها من الحس والحركة والأصوات والأفعال في حال الحياة ما لا خفاء به، وفقدانها كلها في حال الموت دليل على مفارقة تلك الجواهر من أجسادها.
ومن الدليل أيضًا على وجود النفس مع الجسد وفراقها بعد الموت بكاء الناس على موتاهم وحزنهم على فراق تلك النفوس، ولو كان هذا الحزن والبكاء على الأجساد فما لهم والبكاء والأجساد عندهم برمَّتها؟ ولو أرادوا أن يحفظوها من التغيير والفساد لكان يمكن بأدوية تُطْلَى عليها مثل الصبر والكافور والعسل وما شاكلها، ولكن لا ينفعهم ذلك من البكاء والحزن إذا فارقتها تلك الجواهر الشريفة. ومن الدليل البيِّن على أن النفس جوهر هو أفعالها الصادرة عنها من غير استعمالها آلات الحواس وحركات الجوارح؛ وذلك أن الإنسان إذا أراد أن ينظر في علم غامض ويبحث عن معنًى دقيق حتى يفهمه يحتاج إلى أن يسكن حركات جوارحه ويترك تأمُّل محسوساته، ويغوص في فكرته حتى يمكنه أن يتصور ذلك الشيء ويفهم ذلك المعنى، فإذا فعل ما وصفنا فربما يجتاز به مَنْ يسلم عليه أو يكون بحضرته مَنْ يكلِّمه فلا يسمع ولا يحس إذا كان غائصًا في فكره؛ يعرف حقيقة ما قلنا كل عاقل قد ارتاض في علم من العلوم.
فإن قال قائل: إن النفس وإن كانت قد تركت استعمال الحواس وتحريك الجوارح في مثل هذه الحال فإنها لم تترك استعمال البدن كله؛ لأن الفكر لا يكون إلا بوسط الدماغ، كما أن النظر لا يكون إلا بالعين، والسمع لا يكون إلا بالأُذُن وكذلك سائر الحواس.
ولَعَمْري إن القول كما قال، ولكن إنما نحن أردنا أن نبيِّن بهذا المثل أن النفس جوهرة عاقلة، وهي المستعملة للدماغ والقلب وسائر الحواس والجوارح، وهي آلات لها وأدوات يظهر بها بعض أفعالها، ولكن لها أفعال أُخَر لا تحتاج فيها إلى أدوات جسدانية ولا آلات جسمانية وهي رؤيتها المنامات وعجائب تصاريفها فيما يرى أكثر الناس من الرجال والنساء والصبيان والجهال والعلماء والأخيار والأشرار جميعًا ما لا يرون في حال اليقظة مثلها.
(١٤) فصل فيما وقع لابن مَلِك
من ذلك ما ذُكِر أن ابن ملك وقع في أيدي عدو له فاستعبده وكلَّفه الخدمة الشديدة والأعمال الشاقة مع قلة المطعم والمشرب والعري والضرب والشتم والاستخدام، حتى ذهبت قوته وهرم شبابه ونحل جسمه وضعف سمعه وكَلَّ بصره، واسترخت مفاصله وعُقل لسانه، ثم حبسه في مطمورة ضيقة، وطال حبسه واشتدَّ جوعه وعطشه وغمه وحزنه حتى غُشِي عليه من الجهد والبلوى والضر الذي هو فيه.
فبينما هو ذات ليلة مفكر فيما هو فيه من العناء والشقاء والجهد والبلوى فنام ورأى فيما يرى النائم كأنه في دار مملكته على سرير عزه وقد رجعت إليه أيام شبابه وقوة بدنه وطراوة جسمه وصحة حواسه ونشوة شهواته، وإذا هو في بستان من البساتين التي كانت له كثيرة الأشجار تحتها الأنهار تجري وعلى حافاتها رياحين وزهر ونور يفوح منها مثل نسيم الجنان، وإذ هو بفتيان شبان أتراب إخوان كانوا له من أولاد الملوك، عليهم لباس الجمال، وهم قعود على كراسي موضوعة على تلك الأنهار، وبأيديهم التُّحَف، يحيِّي بعضهم بعضًا بالسلام، فلما رآهم ورأوه، وعرفهم وعرفوه، واستبشروا به لطول غيبته عنهم، وفرح بهم لبُعْدِ غربته منهم، فرُفِعَ في صدر المجلس وأقبلوا عليه بالتحية والسلام، وداخَلَه من الفرح والسرور واللذة ما لا يوصف ولا يقال.
فماذا ترى يا أخي؟ أيهما خير لذلك الرجل وأحب إليه أن يبقى طول الدهر نائمًا ملتذًّا مسرورًا فرِحًا بما تراه نفسه من ذلك المنام، أو ينتبه فيحس بما فيه جسده من تلك الآلام؟ وماذا ترى وتقول لمن يزعم أن الإنسان إنما هو الجسد، وأن النفس لا حقيقة لها، وأن تلك الآلام واللذات والفرح والغم والسرور والحزن كلها ينالها الجسد؟ فلِمَ لا ينال الجسد في حال النوم تلك الآلام والغم والحزن والذي به من الجهد والبلوى وهو موجود برمته، وتلك الأحوال باقية عليه عند رؤية نفسه مثل هذا المنام ونيلها ذلك الفرح السرور؟
(١٥) فصل فيما وقع للعراقي
وذكروا أيضًا أن رجلًا بالعراق أصلح مجلسًا للشرب ودعا إخوانًا له، فلما فرغوا من الأكل وقعدوا للشرب، وارتفعت أصوات العيدان والمزامير ودار الشراب فيهم وطرب القوم؛ نام رجل منهم عند ذلك مما هم فيه من اللذة والسرور فرأى دارًا حسنة وستورًا وفُرُشًا وأواني ورياحين وفواكه وشموعًا تزهر ومجامر تبخر، وقد امتلأ حول الإيوان من الضياء والروائح والنعيم، ورأى فتيانًا عليهم زين الجمال ومحاسن الكمال، فبقي متفكرًا متعجبًا بما يرى ويسمع ويشم من محاسن المحسوسات وما تلتذ منه الحواس وتفرح الأرواح وتُسَر النفوس، ونعس وغاص في نومه حتى لم يحس بشيء مما كان في المجلس من تلك المحسوسات.
ويُرْوَى عن رسول الله ﷺ أنه قال: «الرؤيا الصادقة جزء من أجزاء النبوة.» وقال: «قد ارتفع الوحي وبقيت الرؤيا الصادقة.» فلو علم مَنْ يزعم أن المنامات لا حقيقة لها أن أكثر الأنبياء عليهم السلام كانوا يقبلون الوحي في المنام عند ترك النفس استعمال الحواس لَمَا قال هذا القول، ولَمَا أنكر وجود النفس.
هيهات قد جهل أشرف العلوم وخفيَ عليه أصل المعارف وبعُدَ من الصواب وحُرِم أفضل المواهب مَنْ يزعم أن المنامات لا حقيقة لها، وأن النفس لا وجود لها، ولكن نسأل الله أن يهديهم ويفتح قلوبهم ويشرح صدورهم؛ ليفهموا دقائق العلوم ولطائف الأسرار؛ فإنه مَنْ لم يهده الله فلا هادي له وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ.
(١٦) فصل في حكاية الرجل المترف
وذكر أيضًا أن رجلًا من المترفين وأرباب النعم ممن قد بُسِط له في دنياه ومُكِّن له فيها جعل أكثر جهده وكدِّه طول عمره ليلًا ونهارًا في تنعُّم بدنه ورفاهة جسمه ولذة عيشه وإصلاح شهواته، حتى لم يكن له طول نهاره شغل إلا دخول الحمام وحلق رأسه وتمريخ بدنه أو تغيير لباسه أو تبخير ثيابه وبدنه واستنشاق طيبه، أو تنقلًا من مجلس إلى مجلس في تجديد لذَّاته وإصلاح شهواته، حتى لم يكن يأكل ولا يشرب إلا أطيب الطعام وألذ الشراب، ولا يلبس إلا أنعم اللباس، ولا يقعد إلا على أوطأ المراكب وألين الفُرُش، وكان لم يكن ينام إلا على سرير معلَّق في الهواء في وسط قبة له؛ مخافة دبيب يعرض له أو غبار يصيبه، فعاش بذلك زمانًا طويلًا حتى شُهر في الناس بطيب عيشه ولذيذ شهواته، وجعل الراغبون في شهوات الدنيا يتمنون حاله ويغبطونه على ما هو فيه، ويتشبَّه به المترفون من أهل زمانه وأرباب النعم، كل واحد بحسب إمكانه واتساع حاله، حتى صار قدوةً لطالبي اللذات في اتباع الشهوات.
وكان مع هذه الحال كلها لم يكن يعرف شيئًا من إصلاح نفسه ولا تحسين أخلاقه، ولا تفقُّهًا في الدين ولا تزوُّدًا لآخرته، ولا تفكُّرًا في أمر معاده، ولا رغبةً في علم ولا طلبًا لأدب، ولا فكرة في زوال الدنيا ولا ذكرًا للموت، بل كان مقبلًا على طلب شهواته محتقرًا لأمور الناس مزريًا من دونه معرضًا عن الفقراء، هاجرًا لأهل العلم متهاونًا بأمر الدين.
ثم أراد الله تعالى أن ينبِّهه من نوم غفلته ورقدة جهالته، ويُرِي للعباد قدرته ويجعله عبرةً لغيره وعظة لمن سواه، فبينما هو ليلة نائم على فراشه فوق سريره معانقًا لحبيبته وأبواب داره مغلقة وستوره مسبلة، وحول سريره شموع تزهر، وعلى أبواب داره خدمه وغلمانه مستيقظين؛ إذ رأى فيما يرى النائم كأنه في برِّيَّة قفرة وحده وهو عريان جائع عطشان وبدنه مسود وشعره طويل وجسده ملوث برجيع ما في جوفه، وعلى ظهره ثقل ثقيل، وإذا هو بأسودين منكرَين خِلقتهما طويل قامتهما وعيونهما تبرق، ومن مناخرهما يخرج الدخان، ومن شدقيهما تلتهب النيران، وبأيديهما حراب حداد، وهما يقربان نحوه ليأخذاه، فلما رآهما ولَّى هاربًا من بين أيديهما وهما يتبعانه حتى إذا أمعن في هربه إذا هو بجبل شاهق فيه طريق ضيق وعر مسلكه، فسلكه بمشقة شديدة وعناء طويل، حتى إذا انتهى إلى قمته هَوَى من الجانب الآخر في وادٍ منكسًا على رأسه حتى وقع في بئر يخرج منها دخان معتكر يأخذ بالأنفاس ولهب يشوي الوجوه، والأسودان في أثره لا يفارقانه، فمن هول ما رأى وعظم ما عايَنَ وشدة ما لقي صرخ في منامه صرخةً واضطرب اضطرابًا شديدًا، ووقع من سريره إلى الأرض، وانتبه كل مَنْ كان في داره ومَنْ حوله من جيرانه من شدة زعقته، وطاش عقله وشخصت عيناه وارتعدت مفاصله وعقل لسانه، واجتمع حوله كل مَنْ كان في داره من خَدَمه وغلمانه وأقربائه يسألون: ما الذي أصابه؟ فلم يُطِق جوابًا بقية ليلته حتى أصبحوا وجُمِع له المعزِّمون والرَّاقُون، وظنوا أنه أصابه لممٌ من الجن أو سحر من الأعداء ووسواس من الشيطان.
فقال لهم: ليس بي ما تظنون، ولكن رأيت رؤيا هالتني وأفزعتني وأدهشتني فجُمِع له المعبِّرون وقُصَّت عليهم رؤياه، فقال بعضهم: أضغاث أحلام، وقال بعضهم: هذا من خلط سوداوي ومزاج غليظ، وقال آخر: لا، بل فكر رديء وتخيل فاسد، وقال آخر: لا، بل هو من الجن.
وجعلوا يرجمون الظنون حتى جنَّهم الليل فجمع خدمه وغلمانه وأقرباءه في مجلس واحد حول سريره، ونام هو بينهم فوق فراشه، وجعلوا يقرءون الرقى والعزائم والعوذ ويبخرون الدخن، حتى كان ذلك الوقت من الليل، فإذا هو برؤياه تلك بعينها بل ما هو أعظم وأهوَل وأصرخ، ففزع من فراشه وأفزع كل مَنْ كان حوله، ثم أدركوه وجعلوا يسألون عنه وهو مرتعد مرعوب لا ينام ولا ينامون توجُّعًا له إلى الصباح.
وتسامَعَ الناس بخبره، وجُمِعت له الأطباء فوصفت له الحِمْيَة والاستفراغ والشَّرْبة، وظنوا أنه نافع من هذا العارض، ففُعل وما نفع شيء.
فلما كان من الأسبوع الداخل في مثل ذلك الوقت من الليل فإذا هو برؤياه بعينها، بل ما هو أعظم وأهوَل فانتبه مرعوبًا مرتعدًا إلى الصباح ما نام.
فلما كان من الغد جُمِع له المنجِّمون والمعزِّمون والعرَّافون وسُئلوا عن موجبات أحكام النجوم؟ فذكروا أن مثل هذا العَرَض إنما يعرض للإنسان من أجل أنه يكون في أصل مولده من استيلاء النحوس على درجة طالعه أو أحد الأوتاد في تحويل السنين والشهور، فقيل لهم: فما الدواء النافع فيه والمُنجي له؟ فقالوا: نختار له يومًا يكون القمر متصلًا بالسعود، وطالعًا جيدًا يكون السعد في الأوتاد والنحوس سواقط عنها، ويتحوَّل من ذلك الوقت من بلد إلى بلد، أو من محلَّة إلى محلة أو من دار إلى دار.
ففُعل ذلك وما نفع الدواء له، وشاع حديثه في الناس، وتسامعت به الأخبار في البلاد، وصار موضع رحمة بعد أن كان بحال غبطة، وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس خائفين أن يصيبهم مثل ما أصابه من البلوى والمحن، وجعل أهل المدينة ليس لهم حديث في مجالسهم ومحالفهم إلا حديثه، ولا عظة إلا ما أصابه.
فبينما يومًا جماعة من جيرانه قعود على الطريق في حديثه إذ مرَّ بهم رجل يُعْرَف بالناسك — وكان من أهل العلم والدين والسر قد رُزِق العلم والإيمان — فقيل له: كيف غمك على فلان جارك؟ قال: كغم أبٍ مشفق طبيب على ولدٍ عليل.
فقيل له: وكيف ذلك؟ قال: لأن عندي تأويل رؤياه ودواء دائه.
فقيل له: لِمَ لا تقصده وتعرِّفه ما عندك؟ قال: لأنه لا يسمع قولي ولا يقبل نصيحتي.
فقالوا له: ولِمَ ذاك؟ قال: لأن أزهد الناس في علم الرجل جيرانه، ولكن أخبركم أنا وعرفوه أنتم ولا تذكروني عنده؛ فإني خائف ألا يقبل استصغارًا لما أقول، أو يعمل من غير يقين فلا ينفعه، قالوا له: عرِّفنا نسمع ما تقول؟ فقال: أما رؤياه البرِّيَّة القفرة فهو براءته من الدنيا وبراءتها منه يوم يموت.
وأما فقره فهو فقره بعد الموت وشدة الحاجة في الآخرة إلى الزاد.
وأما عريه فهو عري من الأعمال الصالحة التي لها ثواب الآخرة، وأما جوعه وعطشه فهو رغبته وحرصه في طلب شهوات الدنيا.
وأما سواد بدنه فهو سواد وجهه عند الله لسوء أعماله، وأما طول شعره فهو شعور حزن طويل في الآخرة.
وأما تلويث بدنه برجيع ما في جوفه فهو خوف واكتئاب يناله في الآخرة، ويتمنى الرجعة إلى الدنيا ولا سبيل له إلى ذلك.
وأما الثقل الذي رأى على ظهره فهو ثقل أوزاره وسوء أعماله.
وأما الشخصان المنكران فهو منكر أفعاله ونكير أخلاقه وسوء عاداته لا يفارقان نفسه وحيثما ذهبت يتبعانها.
وأما الجبل الشاهق فهو جبلَّته وعادته التي هو عليها مشقة، والشاهق شقاء يناله بعد الموت إلا أن يتوب ويرجع إلى الله عن إثمه.
وأما المسلك الوعر فهو طريق الآخرة التي لا بد من سلوكها بنصب وعناء.
وأما الوادي فهو وادي جهنم، والبئر المُهوي هي الهاوية التي إليها تصير نفوس الأشرار وأرواح الفُجَّار.
فقولوا له: إنْ هو بادر وتدارك وتلافى قبل الموت وإلا فسيكون مصير نفسه إلى هناك بعد الموت، فإن الله تعالى أراد بهذه الرؤيا أن يعظه ويذكِّره وليتوب ويرجع عما هو فيه من الغفلة في أمر الآخرة والحرص على الدنيا.
فقالوا له: فما دواؤه؟ قال: ينوي نية صادقة ويعزم عزمًا صحيحًا ويرجع إلى الله ويتوب مما قد سلف ويتصدَّق بشطر من فضول ماله على الفقراء والمساكين، ويلبس من خشن الثياب ما يواري العورة، ويصوم في كل أسبوع يومين، ويمشي إلى المساجد خاضعًا ويتفقَّه في الدين، ويستعمل القرابين، ويصلِّي في ظلمة الليل، ويستغفر في الأسحار، ويسأل الله تعالى أن يكشف ما به وأنه تعالى يفعل ذلك إن شاء.
فقام القوم من ساعتهم ودخلوا عليه وعرَّفوه بما أصابه ومما هو خائف مترقب له، ثم أخبروه بما قال الناسك، فقال لهم: من أين لكم هذا التأويل؟ ومَنْ وصف لكم هذه الرؤيا؟ فقالوا: أخبرنا العالم في الدين الناصح الذي لا نشك فيما قاله، فقبِلَ قولهم وجمع جماعة من العلماء والفقهاء وأهل المدينة فأخبرهم بما قيل له، فقالوا: حقًّا ما قيل وصوابًا ما وصف.
فسألهم عند ذلك عن التوبة النصوح كيف تكون؟ وعن فقه الدين وطريق الآخرة وأمر المعاد وصفة الجنان وثواب الأخيار؟ وأين يكون منقلب الأشرار؟ فوصفوا له ما هو مذكور في كتب الأنبياء عليهم السلام فقبِلَ ما قالوه وفعل ما أمروه بين شك ويقين وخوف ورجاء. فلما كان في الأسبوع الآخر مثل ذلك اليوم صام نهاره وتصدَّق عند إفطاره وأكل يسيرًا من الطعام وقام يصلِّي ليلته، فلما كان من ذلك الوقت وهو ساجد إذ غلبه النوم، فرأى في منامه كأنه في تلك البرِّية بعينها، وقد أخضرت من العش والكلأ، وقد تفتَّحت أزهار الرياحين وفاح نسيمها، فإذا هو على رأس قمة عليها عين من الماء الزلال، وكأنه قد اغتسل من مائها فتناثر عن بدنه ذلك الشعر والدَّرَن، وقد ألبس ثيابًا جددًا تفوح منها رائحة الطِّيب، وإذا هو بشخصين قائمين أمامه كأنهما صورتان من النور تشفُّ أبدانهما، عليهما زي الجمال ومحاسن الكمال ورونق الشباب وهيبة الوقار، وهما مبتسمان في وجهه كالمستبشرين له يشيران إليه بالنظر إلى قُدَّام، فلمَّا تأمَّل فإذا هو بفضاء فسيح يقصر دونه الطرف، وإذا هو بأنوار قد ملأت الآفاق من الضياء، وإذا في ذلك الفضاء رياض خضر كأن بينها نسج الديباج من الزهر والنور والزعفران، وإذا في وسطها أنهار تجري على أرض بيضاء كأن حصاها الدر والياقوت والمرجان، وعلى حافات تلك الأنهار أشجار كأن أوراقها الحرير والسندس والأرجوان، وإذا هبَّ نسيم تخشخشت أوراقها كأنها أصوات نغمات أوتار العيدان، وبين تلك الأوراق ألوان الثمار متفننة الأشكال والطعوم والألوان، وإذا بين ذلك قصور شاهقة كأنها جبال من رخام، أبوابها مفتَّحة، وصحون واسعة، وإيوانات متقابلة، فيها سرر موضوعة عليها فُرُش مرفوعة ونمارق مصفوفة، وبينها سادة كرام متكئون متقابلون عليهم زين الجمال ومحاسن الكمال وهيبة الوقار، بأيديهم التُّحَف يسعى بينهم ولدان وغلمان وجواري حِسَان أتراب مبرقات بالمحاسن والجمال، فلما رأى تلك المحاسن قال لصاحبيه: ما هذه؟ قالا: هي الجنة، دار السلام ومعدن الأرواح ومسكن نفوس الأخيار ومستقر الأبرار، فإن أنت دمت على ما أنت عليه إلى الموت فسيكون مصيرك إلى هناك بعد مفارقتها جسدها، فتجد لذة العيش وسرور النعيم صافيًا بلا تنغيص ما بقي الدهر، فمِنْ فَرَحِ ما سمع وسرور ما بُشِّر استفزَّه ذلك فانتبه داهشًا متفكرًا يتمنى عسى أن ينام فيرى تلك الرؤيا ثانيًا بعد أن كان كارهًا للنوم مخافة أن يرى رؤياه الأولى، فلما أصبح تصدَّق بجميع ماله، وأعتق كل عبد له، ولبس المسوح، وكان طول نهاره صائمًا، وسهر ليله قائمًا مجانبًا للناس لا يكلِّم أحدًا، بل يصلِّي نهاره باكيًا حزينًا زاهدًا في الدنيا راغبًا في الآخرة، حتى فشا خبره في الناس وتسامعت به المدينة والبلاد، فقصده الناس من الآفاق يسألونه رؤياه ويسمعون تأويله ويتعظون به، ثم صار بعد ذلك يتكلم على الناس في المجالس بالحكمة والموعظة ويضرب لهم الأمثال، ويدلهم على طريق الآخرة، ويرغِّبهم في ثواب الجنة، ويزهدهم في غرورها وأمانيها ويحذرهم الاغترار بها، فقيل له: من أين لك هذه الحكمة والموعظة وأنت لم تكتب الحديث ولم تسمع الأخبار ولم تقرأ الكتب؟ قال: أجد قلبي كالمرآة تتراءى فيه حقائق الأشياء، وأجد لساني يجري على الصواب من غير تكلُّف مني، وأجد نفسي كالترجمان تسمع من وراء الحجاب وتعبِّر، وتؤدي إلى أبناء جنسي ما تسمع بلا تصنُّع مني، فعلم عند ذلك أنه مؤيَّد بملكٍ من الملائكة يلهمه بإذن الله جل ثناؤه، ثم صار ذلك الرجل قدوة في الدين لأهل زمانه، فبينما هو يومًا في محفل، والناس حوله يسألونه عن أمر الدين وهو يفتيهم والناس، ما بين مستمع مصدِّق وشاكٍّ ومتعجب منه؛ كيف كان بالأمس أرغب الناس في الدنيا قدوة لطالبي الشهوات؟ وكيف هو اليوم في أمر الدين إمام لطالبي الآخرة؟ إذ وقف في المجلس رجل من أولئك الجيران الذين دخلوا عليه يعوذونه، فرأى ذلك الناسك في مجلسه يسائله عن مسائل من أمر الدين، ويستوصف منه طريق الآخرة، فدنا منه وقال له — شبه المتعجب: هذا صاحبك الذي فسَّرت منامه ووصفتَ دواءه وأنت اليوم تسائله عن أمر الدين وطريق الآخرة؟ قال: نعم. ولكن قد جاءه من العلم ما لم يأتِني، وقد قبِل نصيحتي أمس فنفعته اليوم، وأنا أقبل منه اليوم ما عسى أن ينفعني غدًا، وكانت وصفتي له أمس تعليمًا بشريًّا ووصفته اليوم تعليم ملكي. ثم إن ذلك الرجل التائب بقي مدة من الزمان مجتهدًا في عبادة الله على عادته حتى قرب أجله ووقت مفارقته، فرأى في منامه كأن روحه قد خرجت من جسده، وإذا هي على صورة مثل شكل الجسد وهيئته سواء، غير أن هذا الشكل جسماني وتلك صورة روحانية شفافة لا ينالها لمس ولا حس، وإذا هي قد ثبتت في الهواء حيث شاءت وكيف شاءت بلا كلفة ولا عناء، وهي تجد من ذاتها خفة وراحة وسرورًا وروحًا ولذة وفرحًا لا توصف بمثلها حال الأجسام، ولما نظرت إلى جسدها فإذا هو مطروح لا حراك به فحنَّت إليه لطول الصحبة وإلف العادة، فلما دنت منه وتأملته فإذا هو كأنه قد أتى ثلاثة أيام بعد الموت وهو منتفخ منتن الرائحة يسيل منه الدم والقيح والصديد، وتجري بين لحمه ودمه الديدان، ويخرج من فيه ومنخريه وأذنيه الديدان والقُمَّل، فلما رأت ذلك المنظر الهائل اشمأزَّت منه وتأخرت عنه، وأنِفَت من الدنو إليه، وجعلت تغبط حالها حين فارقته وخرجت منه ونجت من وسخه ودرنه ووحشته وعاره ووباله، ثم التفتت فإذا هي أبواب السماء قد فُتِحَت والمعراج قد امتدَّ من السماء إلى الأرض، والملائكة نزلت وامتلأت الآفاق من النور والضياء، وسمع مناديًا ينادي: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي فانتبه من نومه ذلك ثم أخبر بما رأى، وأوصى وصيته، وما مكث إلا أيامًا حتى تُوُفِّي ومضى لسبيله.
(١٧) فصل في مغزى هذه الحكايات
تفكَّر يا أخي في هذه الحكايات التي تقدَّم ذكرها، واعتبرْ حال المنامات وتصاريفها وعجائبها؛ إذ قد كان يبلغ من أمرها وقوته أن تتقلَّب بالأعيان وتتغير بها العادات وتصاريف أمر الناس من الغم والحزن في طلبها إلى الزهد فيها والترك لها والرغبة في الآخرة والاجتهاد في طلبها بعد الإعراض عنها، وتصديق جمهور الناس بأحكام المنامات وصحة الرؤيا هو مشهور بين العقلاء، ومَنْ ينكر هذا البيان وحقيقة الرؤيا ويجحد صحة المنامات فما هو إلا معاند عدو لما يجهل منكر لما لا يفهم، وقد جعل فكرة المعارضة للحكماء والمجادلة للعلماء، ويفتخر بقوة لسانه وحسن بيانه بغير علم ولا إيمان.
وقد يُرْوَى في الخبر عن النبي ﷺ أنه قال: «إن أخوف ما أخاف على أمتي رجل عليم اللسان جاهل القلب.» نعوذ بالله من ذلك.
(١٨) فصل في أنه ليست من طائفة أضر على الأنبياء …
اعلم أنه ليست من طائفة أضر على الأنبياء وأشق على المؤمنين من هذه الطائفة سواء يكونون في أزمان مبعث الأنبياء من جملة أعدائهم المنافقين، أو يكونون من بعد مبعثهم في أمتهم؛ وذلك أنهم إن كانوا في أزمان مبعث الأنبياء عليهم السلام فهم الذين يطالبون الأنبياء بالمعجزات، ويعارضونهم بالخصومات ويجادلون المؤمنين بالشبهات مثل ما قالوا لنوح عليه السلام: مَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ واستصغارًا للمؤمنين واستنقاصًا لقولهم.
وهكذا قالوا لموسى النبي عليه السلام: أتعلمون أنَّه مُرسَل مِن ربه. وأرادوا جدالهم فترك المؤمنون جدالهم وقالوا: إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ وقالوا لمحمد ﷺ: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ إلى قوله: حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ وهم الذين كانوا من الذين آمنوا يضحكون، وإذا مروا بالمؤمنين كانوا يتغامزون، وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ. وآيات كثيرة في القرآن في ذم هذه الطائفة المجادِلة، فهذه حالهم، وحكمهم إذا كانوا في مبعث أزمان الأنبياء عليهم السلام وأما إذا كانوا من بعد ذلك فهم الذين يقرءون شرائع الأنبياء وأحكام سننهم سواء يكونون من أعدائهم المخالفين أو من أتباعهم المنافقين؛ وذلك أنهم إذا كانوا من أعدائهم فهم الذين يأتون بالشبهات ويجادلون بها المؤمنين، وإن كانوا من أتباعهم فهم الذين ينكرون من أحكام شرائعهم وآيات كتبهم ما لا يفهمون، ويجحدون ما يقصر علمهم عن تصور مرموزاتهم ودقائق أسرارهم، ثم يعتقدون فيها آراء فاسدة ومذاهب مختلفة، ويضعون لها قياسات متفاوتة بعقولهم الناقصة، ويجادلون بها المؤمنين ويناقضونهم ويحتجُّون بآيات من كتب الأنبياء، عليهم السلام، بغير علم، ويفسرون معانيها على ما يوافق مذاهبهم وآراءهم وقياساتهم، حتى ربما يقولون: إن في حجج العقول كفاية عما جاءت به الأنبياء من الوصايا، ثم يستمر بهم ذلك حتى إنهم ربما ينبذون أحكام كتب الأنبياء وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ في أوهامهم من الوساوس والخيالات، وهم مع ذلك يتعاطون المعقولات وهم لا يعرفون حقائق المحسوسات، ويتكلَّمون في العلوم الإلهيات وهم لا يدرون ما الرياضيات، ولا علم الفلسفة يعرفونها ولا أحكام الشريعة يحققونها مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ لا بالفلسفة يتهذَّبون ولا بالشريعة يهتدون.
فلو أنهم علموا بأن الله عز وجل إنما جعل العقل مقدمة أمام الرسالة والوحي، وجعل الوحي والرسالة أيضًا مقدمة أمام البعث والقيامة، وجعل البعث والقيامة أيضًا مقدمة للغاية؛ لَمَا قالوا بأن في موجبات العقل كفاية للإنسان عن الوصايا التي جاءت في الرسالة على ألسنة الأنبياء من الأمر والنهي والأحكام والحدود، أترى بأي عقل كان يمكن أن يُعلم بأن الإنسان يُبْعَث بعد الموت ويلقى ربه فيحاسبه ويجازيه لو لم يُخبر في الرسالة؟ أو بأي عقل يمكن أن يعلم حديث آدم وقصة إبليس وخطاب الملائكة وما هو مذكور في القرآن في نحو من سبع وخمسين آية في عدة سور؟
(١٩) فصل في أن الله جل ثناؤه، لما خلق الإنسان في أحسن تقويم …
اعلم أن الله جل ثناؤه، لما خلق الإنسان في أحسن تقويم، وفضَّله على سائر الحيوان وملَّكه عليها وسخَّرها له، وجعله خليفة في أرضه يتحكم على جميع ما فيها من المعادن والنبات والحيوان، يتصرف فيها كيف يشاء ويحكم عليها بما يريد، كل ذلك بتمييز عقله وتمكُّنه بكمال هيئته، لم يجُزْ في حكمة الباري تعالى أن يتركه بلا وصية يبيِّن له فيها ما ينبغي له أن يفعل وما لا ينبغي أن يفعل.
ولما أوصاه وأمره ونهاه لم يجز في حكمته أن يتركه دائمًا ولا يدعوه إلى حضرته ويسأله عما فعل، كما ذكر، جل ثناؤه، فقال: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ الآية وقال: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا الآية وقال: مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ، وقال: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ وَلِقَائِهِ، وآيات كثيرة في القرآن في هذا المعنى. ولكن هذه الطائفة المجادِلة زعموا بأن معنى لقاء الله والرجعة إليه هو لقاء ثوابه، وإنما أنكروا رؤية الله؛ لأنهم يظنون ويزعمون ألا يُرى إلا الأجسام وأعراضها حسبُ، والله تعالى ليس بجسم بالإجماع، فمن هذا الوجه والقياس أنكروا لقاء الله ورؤيته، وليس الأمر كما ظنوا ألَّا يُرى إلا الأجسام وأعراضها حسبُ، بل الأجسام غير مرئية بالحقيقة لولا الألوان، والألوان أيضًا غير مرئية لولا النور، والنور ليس بجسم ولا عَرَض؛ لأنه لو كان النور جسمًا لَمَا كان يسري في الأجسام الصلبة الشفافة مثل الزجاج والبلور وغيرهما؛ لأن الجسم لا يدخل في جسم آخر بالإجماع؛ لأنه لو كان جسم يدخل في جسم آخر لدخلت الأجسام كلها في جسم واحد، وأيضًا فإن النور ليس بعَرَضٍ من الأعراض الحالَّة في الأجسام، فإنَّا قد بيَّنَّا أن النفس أيضًا ليست بجسم وإن كان لا يرى أن يظهر أفعالها إلا من الأجسام، وكذلك الملائكة والشياطين والجن والأرواح والأنفس والعقل الفعَّال؛ فهذه كلها ليست بجسم ولا أعراض وإن كان لا يظهر أفعالها إلا من الأجسام، وكذلك النور ليس بجسم وإن كنا لا نرى أن يظهر لأبصارنا إلا من جسم.
ولو لم يجُزْ أن يوصف الباري، جل ثناؤه، بالرؤية لَمَا قال: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ وأنه تجلى للجبل، فإن التجلِّي والحجاب لا يقال ولا يوصف بهما الأشياء التي لا يجوز عليها الرؤية، والله تعالى أعلم بصفات نفسه وما يجوز أن يوصف به من عقول هؤلاء المجادِلة.
(٢٠) فصل في الرؤيا وبطلانها
ومن احتجاجات هؤلاء الطائفة المجادِلة على بطلان الرؤيا وصحة المنامات يقولون: إنه إذا رأى الإنسان في منامه كأن رأسه مباين لبدنه أفترى بأي عين يبصر رأسه؟ ولا يدرون بأن النفس جوهر لا ينالها الحديد لو قُطِّع الجسد إربًا إربًا.
ومثل هذه الرؤيا من أدل الدليل على وجود النفس وشرف جوهرها إذا كانت تتأتَّى لها رؤية الجسد بسوء الحال مقطوع الأعضاء ناقص البنية معوج الصورة وهي سليمة صحيحة من الآفات، مثل أنفس المقطوعي الأيدي والأرجل والزمنى المفلوجين نصف أبدانهم.
وذلك أنك ترى كثيرًا منهم يكون أعقل وأذكى وأعلم وأفهم ممن هو صحيح الجسم سمين البدن عظيم الجثة.
فلو كان الإنسان هو هذا الجسد حسبُ بلا نفس معه لكان يجب أن يكون كل مَنْ كان أصح جسمًا وأكبر جثةً وأسمن بدنًا يكون أكثر إنسانية وأعقل وأفهم وأذكى وأعلم ممن كان أصغر جثةً أو كان ناقصًا بعض الأعضاء أو كان مهزولًا.
وقد يوجد الأمر بخلاف ذلك في كثير من الناس وفي كثير من الحيوانات أيضًا: فإنك تجد القرد أذكى من الخنزير، والثعلب أخبث من الذئب، والببغاء أفصح من الكُرْكِيِّ، والقطا أهدى من النعامة، وما هو موصوف في كتاب الحيوان من هذا المعنى.
وقد تبيَّن بأن الحيوانات لها نفوس أيضًا، وتلك النفوس تتفاضل لا بِكِبَر الجثة وعِظَم الخِلْقة وحسن الصورة حسبُ، بل من قِبَل أفعالها وجواهر نفوسها وأخلاقها وخواصها ومتصرفاتها مما هو مذكور في كتاب الحيوان وكتاب الخواص.
كل ذلك دليل على أن مع هذه الحيوانات جواهر أخرى هي الفاعلة المحركة لأجسامها؛ إذ كان الجسم لا فعل له بمجرده ولا للعرَض أيضًا له بالإجماع.
(٢١) فصل في الرد على من يزعم أن الإنسان ليس هو بشئ …
ويقال لمن يزعم أن الإنسان ليس هو بشيء سوى هذه الجملة المشار إليها — يعني هذا الجسم وما يحلُّه من الأعراض مثل الحياة والحس والحركة — وأن النفس لا وجود لها: لِمَ لا يسمي هذه الحيوانات إنسانًا؟ فإن كل واحد منها هو أيضًا جسد فيه الحياة والحس والحركة؟ فإن قال: أعني بالإنسان بِنْيَة مخصوصة، أو قال: مزاجًا معلومًا أو قال: تأليفًا ما، فيقال له أخبِرْنا أي بِنْيَة تعني وأي مزاج، بيِّن لنا؟ وإنَّا قد نرى بِنْيَة بدن الزنجي مخالفة لبنية بدن التركي، ومزاج الطفل مخالفًا لمزاج الشيخ، وتأليف بِنْيَة المفلوج الزَّمِن مخالفًا لبنية السليم الصحيح، وطبع العليل مخالفًا لطبع الصحيح، وكلهم إنسان لا يختلفون في الإنسانية مع اختلاف هذه الأحوال.
فبيِّن لنا: ما ذلك المعنى الذي كلهم فيه بالسوية إن لم يكن للنفس حقيقة ولا وجود؟ فإن قال: الروح فهو الذي نسميه نفسًا، وإنما الاختلاف هو في العبارة ولا ضير إذ قد اتفقنا في المعنى.
فإن قال: إن الجسم يفعل هذه الأفعال بكون الروح فيه ولكن الروح عَرَض من الأعراض، فقد ناقَضَ وادعى بأن ما لا فعل له يجتمع مع ما له فعل فيكون فاعلًا؛ فهو المطالب بالدليل على دعواه! ولم يصح للقائلين بهذه الدعوى دليل برهاني يقيني إلى يومنا هذا إلا شبهات ودعاوى، والمنازعة قائمة بذاتها، فإن قال بأنه إذا دخل في الجسم عَرَضٌ من الأعراض فإن الله تعالى يُحْدِث عند ذلك فعلًا فقد ناقَضَ مذهبه وأقر بخلق الأفعال بعد ما كان منكرًا لها إن كان من أهل الاجتهاد، وإن كان ممن يقول بطريق السمع فالأمر سهل؛ لأنه قد وردت أخبار كثيرة في تصحيح وجود النفس والروح وآيات كثيرة في القرآن تنطق بها، وإن كان كلامنا مع من يرد دلائل العقل وحجج الجدل.
(٢٢) فصل في وجود النفس وحقيقة المنامات
وإذ قد ثبت بما ذكرنا وجود النفس وحقيقة المنامات وصحة الرؤيا بما فيه كفاية لكلِّ منصف عقله، فنريد أن نذكر كمية أنواع المنامات وفنون تصاريفها. واعلم يا أخي أن رؤية المنامات على ستة أنواع: فمنها ما هو أضغاث أحلام وأحاديث النفس، ومنها ما يكون من جهة غلبة أخلاط الجسد، ومنها ما يكون من جهة موجبات أحكام النجوم، ومنها ما هو وساوس من الشيطان، ومنها ما هو إلهام من الملائكة، ومنها ما هو وحي من الله وتأييده. تفسيرها: أما أضغاث الأحلام فمثل ما يرى كل إنسان ما يكون منصرفًا فيه نهاره ومفكرًا فيه ليله من الأعمال والصنائع والتجارات والأقاويل والفكر والهموم وما شاكلها من أحاديث النفس، كالذي يرى الحراث من الزرع والحصاد والشجر والنبات والعوامل من الحيوان وما هو منصرف فيه نهاره ومفكر فيه ليله، وعلى هذا القياس سائر طبقات الناس مما يرون من أحوالهم ومتصرفاتهم يُسمَّى أضغاث أحلام وأحاديث النفس. وأما الذي يكون من غلبة أخلاط الجسد فهو مثل الذي يرى مَنْ غلبت عليه مرة السوداء من السواد والدخان والقاذورات والأحزان وما شاكلها، وكالذي يرى البلغمي المرطوب من الأنداء والأمطار والآجام والأنهار والوحل وما شاكلها، وكالذي يرى الدموي من الفرح والضحك واللعب والسرور وما شاكلها، وكالذي يرى الصفراوي من الحريق والبروق والنيران والألوان الحمر وما شاكلها.
وأما الذي يكون من أحكام موجبات النجوم فهو الأصل وسائرها فروع: وذلك أن بني الإنسان يختلفون في رؤيتهم المنامات على فنون شتَّى: فمنهم مَنْ يكون كثير المنامات صحيح تأويلها، ومنهم مَنْ هو بالضد، ومن الناس مَنْ تكون عجيبةً رؤياه غريبًا تأويلها كما ذُكِر ذلك في كتب تأويل المنامات بشرح طويل.
(٢٣) فصل في تأويل المنامات وإن كانت مختلفة
ثم اعلم يا أخي أن تأويل المنامات وإن كانت مختلفة كثيرة الفنون فليست تخرج كلها من ثلاثة أنواع: منها ما يكون مثلًا بمثل سواء، كالذي يرى كأنه سافر إلى بلد فيتفق له السفر إلى ذلك البلد، أو كالذي يرى أنه وَلِيَ ولاية فيلي ذلك العمل، أو يرى إنسانًا في منامه فيراه في اليقظة، وعلى هذا القياس تكون رؤيا كثير من الناس.
ومنها ما يكون تأويلها بالضد مما رأى كالذي يرى كأنه يبكي فيناله فرح، أو يرى كأنه يضحك فيغتم وأشباه ذلك.
ومنها ما له تفسير كالذي يرى أنه طار فسافر، أو كأنه أكل لحم إنسان فاغتابه، أو أكل طعامًا حارًّا فوقع في خصومة، وما شاكَل هذا مما هو مذكور في كتاب تأويل الرؤيا. وكل ذلك إنما هو بحسب موجبات أحكام النجوم في أصل مولد الإنسان في تحاويل سنِّه وشهورها، كما ذُكِر ذلك في كتاب أحكام النجوم بشرح طويل، ولكن نذكر منها مثالًا في هذا الفصل؛ ليكون دليلًا وقياسًا على سائر ما ذكرنا لمن يعرف من أحكام النجوم شيئًا.
مثال ذلك: متى كان في أصل مولد الإنسان بين رب الطالع والمستولي على الطالع، وبين رب التاسع والثالث والمستولي عليهما، اتصال أو نظر جميعًا، أو دفع التدابير أو حال من الأحوال الخمسة والعشرين المذكورة في كتاب المدخل إلى أحكام النجوم، فإن ذلك الإنسان كثير المنامات.
فأما تصاريف قوتها واختلاف تأويلاتها فبحسب البروج وطبائعها والبيوت وأوتادها واستيلاء السعود عليها أو النحوس وشرحها طويل، ولكن نذكر مثالًا واحدًا ليكون قياسًا على الباقية؛ وذلك أنه متى كان الاتصال برب الطالع ورب التاسع من السابع وللزُّهَرَة هناك حظ من الحظوظ المعروفة المذكورة في المدخل، فإن أكثر رؤيا ذلك الإنسان وتأويلها يكون في أمر التزويج والنكاح والمواصلات وما شاكلها، وإن كان الحظ للمشتري يكون ذلك في تأويل المعاملات والتجارات والأخذ والإعطاء وما شاكلها، وإن كان الحظ للمريخ فإن ذلك يكون في باب الحروب والخصومات والمنازعات وما شاكلها، وإن كان الحظ لعطارد فإن ذلك يكون في باب المحاسبات والمحاورات والخصومات وما شاكلها، وإن كان الحظ للشمس فإن ذلك يكون بحضرة الملوك والسلاطين، وإن كان الحظ لزُحَل فبحضرة المشايخ والأكابر من الناس، وإن كان الحظ للقمر فإن ذلك بحضرة من العوام وجمهور الناس.
مثال آخر: فإن كان الاتصال من البرج التاسع والمستولي عليه زحل فإن أكثر رؤياه أسفار بعيدة وأمور قديمة وما شاكلها، وإن كانت الشمس فالهياكل وبيوت العبادات والأعياد والجماعات وما شاكلها، وإن كان عطارد فعن البحث عن العلوم الدقيقة والأسرار الخفية، وإن كان القمر فعن الأحاديث والأخبار والروايات، وإن كان المشتري فعن العبادات والصوم والصلاة وما شاكلها، وإن يكن الزُّهَرة فعن الوحي والزجر والكهانة، وإن يكن المريخ فعن الذهاب في المطالب وطلب البشارات وما شاكلها.
وعلى هذه القياسات وسائر الاتصالات في سائر البروج والبيوت تمتزج دلائل طباع الكواكب بدلائل طبائع البروج، كما ذُكر ذلك في كتب الأحكام بشرح طويل، وهذه الفنون والتصاريف أيضًا تكون رؤيتها وتأويلها بشارات وإنذارات.
(٢٤) فصل في أن رؤية المنامات تكون إلهامًا من الملائكة أو وسواسًا من الشيطان
وأما المنامات التي تكون رؤيتها إلهامًا من الملائكة أو وسواسًا من الشيطان فإن الباب فيهما واحد، وإن كان الطريقان مختلفين فنحتاج أن نُبين أولًا ما الملائكة، وما الإلهام، وما الوسوسة، إذ كان هذا الباب علمًا غامضًا وسرًّا خفيًّا، وإن كان أكثر المجادلة ينكرونها بقلوبهم، وإن كانوا لا يُظهرون إنكارها بألسنتهم مخافة السيف والشنعة.
ونبدأ أولًا بوصف نفوس شياطين الإنس، ثم نذكر نفوس شياطين الجن، ثم نصِف نفوس المؤمنين الذين هم ملائكة بالقوة.
واعلم يا أخي أن الإنسان هو الذي يجب عليه الأمر والنهي إما بموجب العقل أو بطريق السمع، فمتى قام بواجب حكمة أحدهما فابتدأ أولًا يتعلم فقه الدين ليخرج به من ظلمة الجهالة، ثم ابتدأ بتهذيب الأخلاق التي تخلَّق بها من الصبا فأصلح منها ما كان فاسدًا، وكذلك نظر في عاداته التي اعتادها من الصبا في أيام الشباب فغيَّر منها ما كان مذمومًا من اتباع الشهوات المذمومة وطلب اللذات المكروهة، وكذلك نظر في اعتقاداته المذمومة وآرائه الفاسدة التي اعتقدها من غير علم ولا بصيرة ولا بحث عن حقائقها فحلَّها عن ضميره وأبدلها بما هو خير منها، ثم عمل بما رُسِمَ له في الشريعة العقلية أو السمعية من الأعمال الصالحة، وسار في أمور معيشته بسيرة عادلة، ثم فكر في أمور الدنيا واعتبار أحوالها وما تتصرف به الأمور حالًا بعد حال حتى تنتبه نفسه من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، فيُبصر عيوب الدنيا ويعرف غرورها ويزهد فيها، ثم يبحث عن أمور الآخرة ويفكر في المعاد حتى يعرفها حق معرفتها، ثم يرغب فيها ويطلبها حق الطلب ويدوم على ذلك إلى الممات، فإذا فعل فإن نفسه إذا فارقت جسدها عند الموت استقلَّت بذاتها واستغنت عن التعلق بالأجسام بعد ذلك، وتخلصت من وسخ الأبدان، ونجت من بحر الهيولى، وأُعْتِقت من أَسْر الطبيعة، وفازت بالخروج من عالم الكون والفساد، وارتقت إلى عالم الأفلاك، وسعت في سعة فضاء السموات فرحانة مسرورة ملتذَّة مطلقة حيث شاءت ذهبت، فعند ذلك تكون ملكًا من الملائكة.
ومن الدليل على ذلك ما ذكر الله جل اسمه، من كرامات أهل الجنة وقال: وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ.
واعلم يا أخي أن الملائكة لا تسلِّم إلا على أبناء جنسها ولا تخاطب إلا مَنْ شاكلها، كما أن الإنسان لا يسلِّم على الجماد والحيوانات، بل على أبناء جنسه من الناس، ولا يخاطب إلا أمثالهم منهم، وإنما ذكر الله تعالى سلام الملائكة على أهل الجنة على سبيل الكرامة لأهل الجنة؛ لأنهم هم القادمون عليهم والملائكة هم المقيمون هناك.
ومثال ذلك ما جرت به سنة الشريعة أن الحاج إذا رجعوا إلى منازلهم فإن المقيمين هم الذين يقصدونهم ويدخلون عليهم فيهنئونهم بالسلام.
فعلى هذا المثال يكون حكم نفوس المؤمنين العارفين الأخيار الفضلاء الأتقياء الأبرار، الذين هم في الدنيا زاهدون، وإلى دار الآخرة راغبون، وإلى نعيمها مشتاقون، وفي أقوالهم وأخلاقهم وآرائهم ومذاهبهم وعلومهم بالملائكة متشبهون، فنفوسهم ملائكة بالقوة، فإذا فارقت أجسادها كانت ملائكة بالفعل؛ ومن الدليل على ذلك قول الله تعالى: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ إلى آخر الآية.
واعلم يا أخي أنه ليس كل إنسان يمكنه أن يتصور هذا الأمر على حقيقة ما قلنا ووصفنا إلا بعد رياضة كثيرة في العلوم والمعارف، وبعد بحث دقيق عن علم النفوس والمعرفة بحقيقة جوهرها، وبعدما يكون قد هذَّب أخلاقه وصحَّح اعتقاده وحسَّن مذهبه وزكَّى عمله، ثم نظر في هذا العلم وبحث عن هذا السر الجليل الدقيق وطلب هذا الأمر الشريف الجليل، فإن وقع له التصور لهذا الأمر الذي قلنا ووصفنا، وإلا فليس له طريق إلا الإيمان بما هو مذكور في كتب الأنبياء من هذه المعاني التي وصفناها والتصديق بما يخبره به مَنْ هو أعلم منه بهذا الأمر وأعرف منه بهذه الأسرار.
(٢٥) فصل في أمر الملائكة ونفوس الأخيار
وكما قلنا في أمر الملائكة ونفوس الأخيار، فهكذا نقول في أمر الشياطين ونفوس الأشرار مثل ما قلناه في أمر الملائكة ونفوس الأخيار.
واعلم يا أخي أن الإنسان إذا بلغ أشُدَّه وعقل الخطاب وجاءته الوصية من الله، وسمع الأمر والنهي، وفهم الوعد والوعيد والترهيب والترغيب والزجر والتهديد، ثم لم يأتمر ولم ينتهِ ولم يتعظ ولم ينزجر، وأهمل أمر الدين وأعرض عن طلب الآخرة، ونسي ذكر المعاد واشتغل بطلب الدنيا وحرص على جمع حطامها، واشتدت رغبته فيها، وأهمل أمر نفسه والنظر في مصالحها، وجعل فكره اتباع الشهوات وطلب الملذات من الأكل والشرب واللباس والمركب والمسكن المزخرف والتفاخر والتكاثر، ومع هذه كلها تكون أعماله سيئة وأخلاقه رديئة وأفعاله فاسدة وسيرته جائرة وجهالته متراكمة، فإن نفسه تكون شيطانة بالقوة، وإذا فارقت جسدها عند الموت على هذه الحالة كانت شيطانة بالفعل، وذلك أنها إذا فارقت جسدها بقيت مسلوبة آلات الحواس الخمس التي كانت تتناول بها الملاذَّ الجسمانية وكانت تتمكَّن بها من الشهوات الجرمانية، وصارت بعد ذلك ممنوعة عنها بعدما اعتادتها بطول التدرب فيها في سالف الأيام وماضي عمرها، وانطبعت في همتها تلك الشهوات وصارت جبلَّة لها ثم حِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ، فعند ذلك يكون مثَلُها كمثَل مَنْ سُمِلت عيناه وصُمَّت أذناه وسُدَّ منخراه وأُخْرِس لسانه وشُلَّت يداه وقُطِّعت رِجْلاه وعمي قلبه وهجره أحباؤه واشتد شوقه وشهوته إلى لذته، فهكذا يكون حكم نفوس الكفار والأشرار والفساق والفجار إذا فارقت أجسادها، وسُلِبَت عنها آلات الحواس وحيل بينها وبين شهواتها ومحبوباتها، فعند ذلك تتمنى العَوْد كما قال تعالى: يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ ولا سبيل لها إلى ذلك ولا هي أيضًا تهتدي للطريق إلى ملكوت السماء فتعرج إلى هناك كما قال الله تعالى: لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ الآية، فعند ذلك تبقى هذه النفوس مجردة بذواتها بلا جسد، وتكون هائمة في الجو دون فلك القمر، وتطرح بها أمواج الطبيعة في بحر الهيولى إلى كل فج عميق وهي مشتعلة فيها بنيران شهواتها، وتكون معذبة بذاتها من وزر سيئاتها وسوء عاداتها إلى يوم القيامة كما ذكر الله تعالى: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا إلى آخر الآية.
(٢٦) فصل في حنين النفوس إلى أجسادها
ثم اعلم يا أخي أن هذه النفوس التي تفارق أجسادها على هذه الأوصاف فإنها تحنُّ إلى أبناء جنسها من النفوس المتجسدة الشريرة التي على سننها وسيرتها في شهواتها كما يحنُّ الأعمى البصير إلى أبناء جنسه إذا سمع أصواتهم، وتستروح هذه النفوس أيضًا إلى وسوسة أبناء جنسها وحثالتهم على فعل تلك العادات التي كانت فيها، مما تقدَّم من الشرور وطلب الشهوات، لما تجد من ألم شهواتها المركوزة في ذاتها من سوء عاداتها القديمة فيما يستروح كمن قد عدمت شهوته للطعام والشراب، وضعفت حرارة معدته فهو يشتهي ما لا يستمرئ وبه شبق وآلته لا تُواتيها؛ فهو عند ذلك يستروح بالنظر إلى الآكلين والشاربين والفاعلين من ألم ما يجد في نفسه من الشهوات المركوزة وعاداته الجارية، وإلى هذه النفوس ووسواسها أشار بقوله: شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا فشياطين الجن هي النفوس المفارقة الشريرة التي قد استجنَّت عن إدراك الحواس، وشياطين الإنس هي النفوس المتجسدة المستأنسة بالأجساد.
واعلم يا أخي أن هذه النفوس المتجسدة الشريرة إخوان لتلك النفوس المفارقة، فإذا فارقت أجسادها بعد الموت لحقت بتلك النفوس المتقدمة التي قد خلت في القرون الماضية، وحصلت في العذاب معها كما ذكر سبحانه: ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ إلى آخر الآية، وفي هذا المعنى آيات كثيرة في القرآن لمن يتدبرها ويتفكر فيها.
وإذ قد تبين ما الشياطين ووسواسها وكيف تنال النفوس من الآلام والأحزان بمجردها ممن وصفناه فيما تقدَّم.
فكذلك أيضًا أن تلك النفوس الملكية الناجية التي تقدَّم ذكرها هي أيضًا إذا فارقت أجسادها وحصلت لها تلك الكرامة التي وصفنا حنَّت هي عند ذلك إلى مخلفيها من الأولاد وقراباتها وتلامذتها وأهل دينها ومذهبها الصالحين منهم وعطفت عليها، وتمنَّت لها هي ما وجدت من الكرامات والراحة والسرور، حتى إنها ربما نزلت لهم في منامهم ووعظتهم وأذكرتهم المعاد، أو وصفت لهم ما صارت إليه وأمرتهم بلزوم طريق التقوى وعمل الخير وطلب النجاة، وبشَّرتهم فاستبشرت بمن يقدم عليها بعدها كما ذكر الله تعالى: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ إلى آخر الآية، وقال أيضًا: وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ، ولما تبين لأهل البصائر والمعارف أن تلك النفوس هذه حالها من الكرامات، فقالوا من أجل هذا أمرَ ورخَّص واضعو النواميس وأصحاب الشرائع في سنن الديانات الذهاب إلى قبور الأنبياء والأئمة المهديين والصالحين من عباد الله بالصدقات والقرابين والصوم والصلاة والدعاء عند قبورهم والسؤال بشفاعتهم، فكم يا أخي من مسجد ومشهد بُنِي في الأرض بسبب رؤية تمثال نبي في المنام أو شهيد أو عبد صالح، فإن لم تكن تلك النفوس موجودة باقية عند الله ويشعر مَنْ يستشفع بها إلى الله ويقتدي بها في سنن الدين لَمَا كانت لهذه السنن فائدة وإثبات؛ لأن الباطل لا ثبات له ولا دوام.
(٢٧) فصل في كيف تعرف الرؤيا
وإذ قد تبيَّن بما وصفنا ما الملائكة وما الشياطين فنريد أن نُبيِّن كيف تعرف الرؤيا التي تكون من إلهام الملائكة أو من وسواس الشياطين أو غيرهما من سائر أنواع المنامات؟ فنقول: إن كل رؤيا تكون فيها موعظة أو في تأويلها دلالة على التقوى أو حث على عمل الخير أو تزهيد في الدنيا أو ترغيب في الآخرة أو ذكر المعاد أو ما شاكل هذه المعاني؛ فهي إلهام من الملائكة مثل ما هي في تلك الكلمات التي حفظها العراقي بالروم في تلك الكنيسة من أولئك الرهبان والقسيسين من العظة والتذكير، وإنما وعظته الملائكة بتلك الكلمات السريانية في بلد غير بلده وفي شريعة غير شريعته وبلغة غير لغته؛ ليكون أبلغ في الموعظة وأعجب للتذكار؛ لأن الحكماء إذا أرادوا تبليغ الموعظة جعلوها بضرب من الأمثال على ألسنة الحيوانات وما لا نُطْقَ له؛ ليكون أعجب وأغرب وأبلغ في الأوهام مثل ما هو موجود في كتاب كليلة ودمنة وأمثاله من الكتب، فأما الموعظة والتذكار في رؤيا ابن الملك فهو ما فيها من الدلالة على أن أنفس الأشقياء في الدنيا من الفقراء والمساكين والضعفاء والمرضى والزمنى وأهل البلوى إذا فارقت أجسادها وقعت في راحة وسرور ولذة مثل ما رأت نفس ابن الملك في منامه من اللذة والفرح والسرور مع ما كان جسده فيه من البلوى وسوء الحال، إذ قد تبيَّن أن اللذة ليست سوى الخروج من الآلام كما بيَّنَّا في رسالة الحاسِّ والمحسوس، وأما رؤيا ذلك الرجل المُترف التائب فمما لا شك فيه أنها كانت إلهامًا من الملائكة بإذن الله تعالى؛ لما كان فيها من الموعظة والدلالة على طريق الآخرة والرشد في الدين لما صار إليه هو من التوبة والصلاح والخير واتعاظ الناس حتى صار قدوة لأهل الدين وطلاب الآخرة في زمانه، وأما الرؤيا التي تكون من وسواس الشياطين فهي مثل ما يرى الراغبون في حطام الدنيا من محاسن مرغوباتهم ومشتهياتهم فيزدادون رغبة فيها وشهوة، ومثل ما يرى الحساد من محاسن محسودهم فيزدادون حسدًا، ومثل ما يرى المتعادون من أسباب العداوات فيزدادون عداوة، ومثل ما يرى أصحاب الشهوات مشتهياتهم فيزدادون في الدنيا حسدًا وحرصًا وعداوة وشرهًا وما شاكل هذا؛ فهو وسواس الشياطين الغائصين في طلب اللذات.
(٢٨) فصل في حكاية الرجل المنهمك في الشهوات
وذكروا أن رجلًا من المنهمكين في الشهوات وطلب اللذات كان أكولًا شريبًا شبقًا، فمن كثرة ما كان يأكل ويشرب ويجامع حرقت معدته وضعفت قوته الهاضمة، واسترخت آلته من كثرة الجماع، وكان ممكَّنًا من شهواته، ولكن آلات الجسد لم تكن تواتيه، ولا قوة النفس الشهوانية تطاوعه في ترك الطلب؛ لأن الشهوات صارت عادة لها لكثرة الدربة فيه وجبلَّة مركوزة فيها، فجعل ذلك الرجل يطلب الحيلة والدواء مما يُقوي القوة الهاضمة في معدته ويُنعظ آلته للباه لشدة شهوته، وكان مما يداوي ويحتال في إنعاظ آلته أن أمر حتى صُوِّر له في بيت الخلوة على الحيطان والسقوف صور الجامع للباه، وكتب بين تلك الصور أخبار المرأة الأليفة وأوصافها في حالات الجماع، ثم كان يدخل ذلك البيت مع غلمانه وجواريه يخلو ويشرب ويلعب ويلهو وينظر إلى تلك الصور ليستنهض بها آلته، فلما أعيتْه ولم تُجِبه دعا عند ذلك غلمانه إلى نفسه ليأتوه من خلفه، وصار ذلك دأبه وعادته حتى إنه ربما كان يهيج ويصيح كالسنانير وينهق كالحمير، ثم امتنع عنه غلمانه لبشاعته وخرَقه وقبح منظره وهجروه، وهلك هو على تلك العادة، وفشا حديثه في الناس وسوء الثناء عليه، وربما كان يرى بعض غلمانه في منامه على تلك الحال التي كان يدعوهم إلى نفسه فيصيح وينهق.
وأمثال هذه النفوس التي ذكرناها هي شياطين بالقوة، فإذا فارقت أجسادها كانت شياطين بالفعل، فاعتبِرْ يا أخي بخبر الرجل الذي قال الله تعالى فيه: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا إلى قوله: وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ فيقال: إنه هذا كان رجلًا من خيار أصحاب موسى عليه السلام، بعثه في سرية فابتُلِي بعشق امرأة وخاف من أصحاب موسى فارتدَّ واتبع هواه، وله قصة طويلة مذكورة في كتاب التاريخ.
واعلم يا أخي أنك إذا تأملت وجدت في القرآن نحو ثلاثمائة وستين مثلًا ضرب الله بعضها في صفات المؤمن وأهل الخير وأمر الآخرة وثواب الأخيار، وبعضها في صفات الكفار وأنفس الأشرار وسوء منقلبها ومبالغة في ذمهم وتوبيخهم وسوء الثناء عليهم، فلا تجد مثلًا أشد توبيخًا من هذا؛ فإنه شبَّهه بالكلب في اتباع الشهوات فقال: سَاءَ مثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا، يعني مَنْ كان مثلهم في اتباع شهواته، ولا تجد أيضًا أشد اختصارًا في ترغيب نعيم الجنان من قوله: وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى.
(٢٩) فصل في الإلهام وفي كيفية قبول الوحي في اليقظة ورؤية الملائكة واستماع كلامهم
وإذ قد تبيَّن بما وصفنا ما الملائكة والشياطين، وما الإلهام والوسوسة، وما الوحي وما الرؤيا الصادقة فيما تقدم ذكره فنريد أن نُبيِّن كيفية قبول الوحي في اليقظة ورؤية الملائكة واستماع كلامهم.
فاعلم يا أخي أنه لما كانت رتبة الإنسانية متوسطة بين الموجودات، كما بيَّنَّا في رسالة المعارف، وكان أقرب الموجودات إلى الإنسانية نسبةً مما هي فوقها رتبة الملائكة وأقربها إليها مما هو دون رتبة البهيمة، وكان بعض الحيوانات إلى الإنسانية أقرب نسبةً إما من جهة صورة بنيته وشكل جسده، وإما من جهة ذكاء النفس وصفاء جوهرها؛ وذلك أن منها ما يفهم الخطاب ويقبل الأمر والنهي كالفيل، ومنها ما يحاكيه في كلامه وأصواته كالببغاء والهزار، ومنها ما يحاكيه في أخلاقه وسيرته كالحمام والفرس والجواد، ومنها ما ينقاد لطاعته وخدمته كالبقر والغنم والحمير والجمال وغيرها، ومنها ما يقبل تعليمه وتأديبه كالدب والقرد، ومنها ما يبعد من الإنسان وينفر منه كالوحش.
ولما كان من هذه الأصناف المستأنسة بالإنسان المسخَّرة له من الحيوانات كل ما كان منها أزكى نفسًا وأجود جوهرًا كان تعليم الإنسان له أمكن وقبول التأديب أسهل.
فعلى هذا القياس نقول في قبول الإنسان إلهام الملائكة والوحي، وذلك أن كل إنسان تكون نفسه أصفى جوهرًا وأذكى فهمًا، كما بيَّنَّا في رسالة كيفية الطريق إلى الله تعالى، فكانت أخلاقه وسجاياه لأخلاق الكرام أقرب وأشبه، كما بيَّنَّا في رسالة الأخلاق، وكان مذهبه واعتقاده باعتقاد الأنبياء ومذهب الحكماء أشد تحققًا، كما بيَّنَّا في رسالة الناموس، وكانت أعماله وسيرته بأفعال الملائكة وسيرتها أشد تشبهًا، كما بيَّنَّا في رسائل إخوان الصفا، فأقول: إن قبول نفسه إلهام الملائكة والوحي والإنباء أمكن، وفهمه لمعانيها أسهل مثل نفوس الأنبياء، ثم بعدهم نفوس الصدِّيقين، ثم بعدهم نفوس المؤمنين المصدقين الأخيار الفضلاء الأبرار، ثم الأمثل فالأمثل والأقرب فالأقرب.
والدليل على صحة ما قلنا وصايا الأنبياء والحكماء بهذا الأمر؛ وذلك أن موسى، عليه السلام، أوصى أولاد هارون أن يلزموا بعد قيامهم بشريعة التوراة خدمة الهيكل المسمى الزمان، ويتعبدوا فيها ويتركوا لذات نعيم الدنيا واتباع شهوات النفوس، ويقتصروا على ما لا بد منه من القوت وما يستر العورة من اللباس، ويتركوا ما سوى ذلك من الفضول.
كل ذلك كيما تصْفُوا نفوسهم وتتهذَّب أخلاقهم وتصير نفوسهم متهيئة لقبول الوحي والإلهام، وقال لهم: «مَنْ تعبَّد منكم على ما رسمت له في هذا الهيكل أربعين سنة مخلصًا جاءه الوحي من الله عز وجل ونزلت عليه الملائكة بالروح.»
وقال رسول الله ﷺ: «مَنْ أخلص العبادة لله أربعين صباحًا نوَّر الله قلبه وشرح صدره وأطلق لسانه بالحكمة ولو كان أعجميًّا غلقًا.»
وقال موسى في مناجاته بعد خطاب طويل: «رب إني أجد في التوراة نعْت أمة كادوا أن يكونوا أنبياء من دقة التمييز من هم اجعلهم من أمتي.» قال الله تعالى: «يا موسى تلك أمة أحمد.» فقال موسى: «يا رب جعلت الخير كله في أمة أحمد فاجعلني منهم.» فقال له ربه: «أنت منهم وهم منك أنت على دين الإسلام وهم على دين الإسلام.»
وكان مما يقوله المسيح للحواريين: «إنما جئتكم من عند أبي وأبيكم لأحييكم من موت الجهالة وأداويكم من مرض المعاصي، وأبرئكم من مرض الآراء الفاسدة والأخلاق الرديئة والأعمال السيئة؛ كيما تتهذَّب نفوسكم وتحيا بروح المعارف وتصعدوا إلى ملكوت السماء عند أبي وأبيكم فتعيشوا هناك عيش السعداء، وتتخلصوا من سجن الدنيا وآلام عالم الكون والبلى.» التي هي دار الأشقياء وجور الشياطين وسلطان إبليس.
(٣٠) فصل في سير الأنبياء ووصاياهم
واعلم يا أخي أنك إذا تأملت سير الأنبياء ووصاياهم وسنن واضعي النواميس ومراميهم لوجدت أن غرضهم كلهم مما شرعوه هو تأديب النفوس الإنسانية ونقلها من مرتبة البشرية إلى رتبة الملائكة، وتخليصها من عالم الكون والفساد إلى عالم البقاء والدوام، كما قيل: إنما خُلِقتم للأبد، وإنما من دار إلى دار تُنْقَلون، من الأصلاب إلى الأرحام، ومن الأرحام إلى الدنيا، ومن الدنيا إلى البرزخ، ومن البرزخ إما إلى الجنة وإما إلى النار، كما قال الله تعالى: فأمَّا الذين سُعِدوا ففي الجَنَّة خالِدين فيها ما دامتِ السموات والأرض، وأمَّا الذين شَقُوا ففي النار لهم فيها زَفِيرٌ وشَهِيق خالِدين فيها ما دامتِ السموات والأرض.
فانظر يا أخي في هذا الأمر الخطير، وتفكر في خذا الخطب العظيم، وانتبه من يوم الغفلة ورقدة الجهالة، وبادر وتزوَّد فإن خير الزاد التقوى، وقد أعذر مَنْ أنذر، وقال: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ.
(٣١) فصل في كيفية قبول نفوس الأخيار إلهام الملائكة
وكما قلنا في كيفية قبول نفوس الأخيار إلهام الملائكة فهكذا نقول في قبول نفوس الأشرار وسواس الشياطين، كما بيَّنَّا طرفًا منه قبل ذلك: إن كل إنسان يكون في أفعاله القبيحة وأخلاقه الرديئة وجهالاته المتراكمة بالبهائم أشد شبهًا، فأقول: إن نفسه لوسواس الشياطين أسرع قبولًا، ولطاعة الهوى أسهل انقيادًا كما ذكر الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا الآية.
فإن قيل: كيف يجد الإنسان نفسه في حال إلهام الملائكة والوحي؟ قل كما حكى ذلك الرجل التائب عن نفسه حين قيل له: من أين لك هذه الحكمة؟ فأن قيل: كيف يرى الإنسان أشخاص الملائكة وليست بأجسام؟ فقل: كما يرى رسوم الأشياء في المرايا وصورها وليست تلك الصور بأجسام، فإن قيل: كيف يسمع كلامهم وليسوا بحيوان ذي رئة ولا آلات جسدانية؟ فقل: كما نسمع الصدى. وإنما اختصر بالجواب عن كيفية رؤية الملائكة واستماع كلامهم بجواب مثالي من غير شرح؛ لأن معرفة حقيقتها مما يحتاج الإنسان فيه إلى بحث شديد ونظر دقيق، كما ذكرنا في رؤية الأشخاص الجرمانية والأصوات الجسمانية في رسالة الحاس والمحسوس، ولعل كثيرًا من العقلاء يدق عليهم فهمها بحقيقتها فكيف بهذه الأمور الروحانية؟ والدليل على أن معرفة رؤية الأشخاص الجرمانية والأصوات الجسمانية عسير فهمها اختلاف العلماء في ذلك؛ لأن العلماء لا يختلفون في أمور محسوسة إلا لدقتها فكيف بالأمور المعقولة؟
فصل
ومثَلٌ آخر في كيفية قبول الإنسان إلهام الملائكة فنقول: إن العلماء ذكروا أن العلوم ثلاث مراتب: أولها الرياضيات وبعدها الطبيعيات وبعدها الإلهيات، فمَن ابتدأ أولًا بتعلُّم الرياضيات وأحكمها كما ينبغي سهُل عليه تعليم الطبيعيات، ومَنْ أحكم الطبيعيات كما ينبغي سهُل عليه تعلُّم الإلهيات، فهكذا نقول: مَنْ يريد أن يهذب نفسه ويهيئها لقبول إلهام الملائكة إذ ابتدأ أولًا فأصلح أخلاقه الرديئة التي نشأ عليها منذ الصبا، ثم سار سيرةً عادلةً في متصرفاته كما رُسِم له في الشريعة، ثم نظر في العلوم الحسية فأحكمها كما يجب — مثل ما ذكرنا في رسالة الحاس والمحسوس، ثم نظر في الأمور العقلية فأحكمها كما يجب ليحلَّ بها عن ضميره والآراء الفاسدة التي اعتقدها قبل البحث عن حقائق الأشياء، كما بيَّنَّا في رسالة العقل والمعقول — فأقول: إن نفسه عند ذلك متهيئة لقبول إلهام الملائكة، وكلما زاد في المعارف استبصارًا صارت نفسه لقبول إلهام الملائكة أسهل طبعًا، ولطاعة العقل أشد تشبهًا، وإلى السمائية أقرب قربة، وإنما يمنعها عن الصعود إلى ملكوت السماء نوازع طبيعة الجسد ما دامت تتعلق به.
فإذا فارقته عند الممات كانت هناك في طرفة عين مع أبناء جنسها ممن مضى على سنن الهدى كما قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ الآية، وكما قلنا في النفوس الإنسانية: إنها تنتقل إلى رتبة الملائكة فهكذا نقول أيضًا في نفوس الملائكة: إنها تترقى في درجات الجنان ومقاماتها في المعارف كما ذكر الله تعالى: وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ وقال تعالى: يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ، وكما قلنا في تنقُّل نفوس الإنسانية إلى الملائكة كذلك نقول في النفوس الحيوانية: إنها ستنتقل إلى رتبة الإنسانية على ممر الدهور والأزمان كما بيَّنَّا في رسالة الأدوار والأكوار.
ثم اعلم أن أحق النفوس الحيوانية أن تنتقل إلى رتبة الإنسانية هي الشقية في أيدي البشر، المسخَّرة للإنسان المتعبة في خدمته المنقادة لطاعته، كما أن أحق النفوس الإنسانية أن تنتقل إلى رتبة الملائكة هي النفوس المتعوبة في التعبد المنقادة لأحكام الشريعة الخادمة في الهياكل والمساجد والبِيَع والصلوات والصوم والقرابين والدعاء والتألُّه، كما ذكر الله تعالى بقوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.
واعلم أن من الموجودات ما هو أجسام بلا أرواح لا معارف لها ولا شعور كالحجارة والخشب وغيرهما، ومنها ما هو أرواح لا أجساد لها وهي علامة كالملائكة، ومنها ما هي مركبة مؤلَّفة منهما جميعًا كالحيوان.
واعلم أن الحيوانات متفاوتة في شعورها ومعارفها؛ وذلك أن منها ما له حاسة واحدة، ومنها ما له حاستان، ومنها ما له ثلاث حواس، ومنها ما له أربع حواس، ومنها ما له خمس حواس، كما بيَّنَّا في رسالة الحيوانات، وهكذا أيضًا الناس متفاوتون في معارفهم وعلومهم؛ وذلك أن من الناس عقلاء وبُلهًا، ومن العقلاء علماء وجهلاء، والعلماء متفاوتون في درجات العلوم؛ وذلك أن منهم مَنْ يُحسن عدة علوم ومنهم مَنْ هو أكثر منه ومنهم دون ذلك، وإن المفيدين في العلوم يتفاوتون في درجاتهم؛ وذلك أن منهم مَنْ تكون معلوماته كلها جسمانية، ومنهم مَنْ تكون معلوماته روحانية.
واعلم أن كل عالم تكون أكثر معلوماته روحانية فهو إلى الملائكة أقرب نسبة، ومن أجل هذا جعل الله تعالى طائفة من بني آدم واسطة بين الناس وبين الملائكة؛ لأن الواسطة هي التي تناسب أحد الطرفين من جهة والطرف الآخر من جهة؛ وذلك أن الأنبياء عليهم السلام كانوا يناسبون الملائكة بنفوسهم وصفاء جوهرها، ومن جهة أخرى كانوا يناسبون الناس بغلظ أجسامهم.
واعلم يا أخي أن كلام الملائكة إنما هو إشارات وإيماء، وكلام الناس عبارات وألفاظ.
وأما المعاني فهي مشتركة بين الجميع، وكانت الأنبياء تأخذ الوحي والأنباء عن الملائكة إيماء وإشارات، وذلك بلطافة ذكاء نفوسهم وصفاء جوهرها، وكانت تعبِّر عن تلك المعاني للناس باللسان الذي هو عضو من الجسد، لكل أمة بلغتها وبالألفاظ المعروفة بينها.
واعلم يا أخي أن الأنبياء يستعملون في خطابهم الناس ألفاظًا مشتركة المعاني؛ لكيما يفهم كل إنسان بحسب ما يحتمل عقله؛ لأن المستمعين لألفاظهم وقراء تنزيلات كتبهم متفاوتون في درجات عقولهم، فمنهم خاص ومنهم عام ومنهم بين ذلك، فالعامة يفهمون من تلك الألفاظ معاني، والخاصة يفهمون معاني أخرى أدق وألطف، وفي ذلك صلاح للجميع؛ لأنه قد قيل في الحكمة: «كلِّموا الناس على قدر عقولهم.» وقال المسيح عليه السلام، للحواريين: «لا تضيعوا الحكمة فتضعوها عند غير أهلها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم.»
فاجتهد يا أخي في طلب المعارف والعلوم، واسلك مسلك الربانيين والأخيار الذين أسلموا، فلعل نفسك تنتبه من نوم الغفلة وتستيقظ من رقدة الجهالة، وتصفو من كدر أوساخ الطبيعة، وتنفتح لها عين البصيرة فتفهم أسرار كتب النبوة ومرموزات النواميس الإلهية، فعند ذلك يتهيأ لها قبول إلهام الملائكة.
واعلم يا أخي أن نفسك مَلَكٌ بالقوة، ويمكن أن تصير ملكًا بالفعل إن أنت سلكتَ مسلك الأنبياء وأصحاب النواميس الإلهية، وعملت بوصاياهم المذكورة في كتبهم المفروضة في سنن شرائعهم، وإن نفسك أيضًا شيطان بالقوة يمكن أن تصير يومًا شيطانًا بالفعل إن أنت سلكتَ مسلك الأشرار والكفار.
فانظر الآن يا أخي ماذا تختار لها وترضى لنفسك؟ فقد أعذر مَنْ أنذر لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وأن لا تقولوا يوم القيامة ما جاءنا من رسول ولا كتاب.
واعلم يا أخي أن الملائكة هم سكان الجنان وسعة السموات وفضاء الأفلاك، وهي ثمان جنان المذكورة في القرآن: جنة الفردوس وجنة النعيم وجنة الخلد وجنة المأوى ودار السلام ودار المتقين ودار المقامة ودار القرار، ومن ورائها كلها عرش الرحمن ذي الجلال والإكرام.
واعلم يا أخي أن الشياطين هم سكان النيران، وهي سبع طبقات: جهنم وجحيم وسقر ولظى وحُطَمة وسعير وهاوية، وجملة درجات الجنان ودركات النيران خمس عشرة رتبة، وقد بيَّنَّا في رسالة أخرى تفصيلها.
واعلم يا أخي أن الرتبة الإنسانية هي آخر طبقة من جهنم، وهي أول درجات أبواب الجنان، فإن أنت بادرْتَ وخرجْتَ من عالم الكون والفساد قبل الفوت رجوت الصعود إلى عالم الأفلاك وفسحة السموات، والدخول في زُمَر الملائكة الذين هم سكان الجنان، وسُقيت هناك من ماء الحيوان شرابًا طهورًا، وعشت عيش السعداء وأمنت من الموت إلا الموتة الأولى، وإن أنت أبيت ذلك وتوانيت وأخلدت إلى الدنيا حق عليك أن تُرَدَّ إلى أسفل السافلين، وبقيت في البرزخ إلى يوم يُبْعَثون.
وفقك الله أيها الأخ للسداد، وهداك إلى الرشاد وجميع إخواننا حيث كانوا في البلاد بمنِّه وجوده.