الرسالة السادسة
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
اعلم أيها الأخ أيَّدك الله وإيانا بروح منه، أن الحيوانات زينة الأرض كما أن الكواكب زينة السماء، وأن أتمَّ الحيوانات هيئة وأكملها صورةً وأشرفها تركيبًا هو الإنسان، وأفضل الإنسان هم العقلاء، وأخيار العقلاء هم العلماء، وأعلى العلماء درجةً وأرفعهم منزلةً هم الأنبياء عليهم السلام ثم بعدهم في الرتبة الفلاسفة الحكماء، والفريقان قد اجتمعا على أن الأشياء كلها معلولة، وأن الباري عز وجل وتقدَّس هو علَّتها ومتقنها ومبدعها ومتممها ومكمِّلها، كما أن الواحد من العدد هو علة العدد وأولها ومبدؤها، واتفقا أيضًا؛ أعني الأنبياء والفلاسفة، على ذم الدنيا والإقرار بالمعاد وجزاء الأعمال فيه إن كان خيرًا فخيرًا وإن كان شرًّا فشرًّا، وكلا الفريقين شاهد لنا على ما نقول ونعتقد في أمر الدين والدنيا، فمَنْ لم يرضَ بحكمها فليطلب له حاكمًا غيرهما هو خير منهما إن كان من الصادقين.
واعلم أيها الأخ، أن النبوة هي أعلى درجةٍ وأرفع رتبةٍ ينتهي إليها حال البشر مما يلي رتبة الملائكة، وأن تمامها في ست وأربعين خصلة من فضائل البشرية الأولى هي الرؤيا الصادقة، وهي جزء من أجزاء النبوة كما قال النبي ﷺ: «الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءًا من أجزاء النبوة.» ونحن قد فصَّلنا الخمس والأربعين الخصلة الباقية وشرحناها في رسالة لنا بعد هذه تجدها إن شاء الله.
(١) فصل واعلم أيها الأخ، أنه إذا اجتمعت هذه الخصال في واحد …
واعلم أيها الأخ، أنه إذا اجتمعت هذه الخصال في واحد من البشر في دور من أدوار القرانات في وقت من الزمان، فإن ذلك الشخص هو المبعوث وصاحب الزمان والإمام للناس ما دام حيًّا، فإذا بلَّغ الرسالة وأدَّى الأمانة ونصح الأمة ودوَّن التنزيل ولوَّح التأويل وأحكم الشريعة وأوضح المنهاج وأقام السنة وألَّف شمل الأمة، ثم تُوُفِّي ومضى إلى سبيله؛ بقيت تلك الخصال في أمته وراثةً منه، وإن اجتمعت تلك الخصال في واحد من أمته أو جلُّها فهو الذي يصلح أن يكون خليفته في أمته بعد وفاته، فإن لم يتفق أن تجتمع تلك الخصال في واحد لكن تكون متفرقة في جماعتهم اجتمعت تلك الجماعة على رأي واحد، وائتلفت قلوبهم على محبة بعضهم بعضًا، وتعاضدت على نصرة الدين وحفظ الشريعة وإقامة السنة وحمل الأمة على منهاج الدين، دامت لهم الدولة في دنياهم، ووجبت العقبى لهم في أخراهم، وإن تفرقت تلك الأمة بعد وفاة نبيها واختلفت في منهاج الدين تشتَّت شمل أُلْفتهم، وفسد عليهم أمر آخرتهم وزالت عنهم دولتهم.
فإن كنت عازمًا على طلب إصلاح الدين والدنيا فهلمَّ بنا نجتمع مع جماعة إخوان فضلاء، ونقتدي بسنة الشريعة في صدق المعاملة ومحض النصيحة وصفوة الأخوة.
(٢) فصل في أنه ليس من جماعة يجتمعون على المعاونة في أمر من أمور الدين والدنيا …
واعلم أنه ليس من جماعة يجتمعون على المعاونة في أمر من أمور الدين والدنيا أشد نصيحة بعضهم لبعض ولا أحسن من معاملة إخوان الصفاء؛ وذلك أن كل واحد منهم يرى ويعتقد أنه لا يتم له ما يريده من إعلاء الدين إلا بمعاونة أخيه، وكل واحد منهم يريد ويحب لأخيه ما يحب ويريد لنفسه، وكذلك يكره له ما يكره لنفسه.
وقد بيَّنَّا في رسالة لنا قبل هذه كيف تكون صفوة الأخوة وما شرائطها فتأمَّلها أيها الأخ واعرضها على إخوانك وأصدقائك ممن ترجو منه الصلاح والنصيحة والمودة تُوفَّق إن شاء الله.
(٣) فصل واعلم أن هذا الأمر الذي قد ندبنا إليه إخواننا …
واعلم أن هذا الأمر الذي قد ندبنا إليه إخواننا وحثثنا عليه أصدقاءنا ليس هو برأي مستحدَث ولا مذهب مُحْدَث، بل هو رأي قديم قد سبق إليه الحكماء والفلاسفة والفضلاء، وهو طريقٌ سلكه الأنبياء عليهم السلام ومذهبٌ مضى عليه خلفاء الأنبياء والأئمة المهديون، وبه كان يحكم النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استُحْفِظوا من كتاب الله، وهي ملَّة أبينا إبراهيم وبه سمانا المسلمين من قبلُ.
وفي هذا القرآن وهو الاجتماع على رأي واحد بترك الاختلاف وموافقة النفوس وتأليف القلوب والخطاب بصدق الأقاويل والتصديق في الضمائر، وأن لا يكذِّب بعضها بعضًا، ولا يخدع ولا ينخدع، وينصح ولا يخون، ويثق ولا يتهم، ويتودد ولا يتحاسد، ويتحاب ولا يتباغض، ويوافق ولا يخالف، ويتفق ولا يختلف، ويتعاضد ولا يتخاذل، ويتناصر ولا يتقاعد، ويتعاون على صلاح الدين، ويكونوا كرجل واحد ونفس واحدة؛ اقتداءً بسنة الشريعة كما قال النبي ﷺ: «المؤمنون كرجل واحد ونفس واحدة، تتكافأ دماؤهم وأموالهم، وهم يدٌ على مَنْ سواهم.» وكما أوصانا الله تعالى وقال: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وقال: وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وقال: فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا.
(٤) فصل في أنه ما من جماعة تجتمع على أمر من أمور الدين والدنيا …
وعلى ذلك الأمر بحفظ نظامهم، ونحن قد رضينا بالرئيس على جماعة إخواننا والحَكَم بيننا العقل الذي جعله الله تعالى رئيسًا على الفضلاء من خلقه الذين هم تحت الأمر والنهي، ورضينا بموجبات قضاياه على الشرائط التي ذكرناها في رسائلنا وأوصينا بها إخواننا، فمَنْ لم يرضَ بشرائط العقل وموجبات قضاياه ولم يقبل تلك الشرائط التي أوصينا بها إخواننا أو خرج عنها بعد الدخول فيها فعقوبته في ذلك أن نخرج من صداقته ونتبرأ من ولايته ولا نستعين به في أمورنا ولا نعاشره في معاملتنا ولا نكلِّمه في علومنا، ونطوي دونه أسرارنا، ونوصي بمجانبته إخواننا؛ اقتداءً بسنة الشريعة كما ندبنا إليه ربنا، جل وعز، فقال: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وقال عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللهُ الآية.
(٥) فصل في أن الرياسة نوعان
ثم اعلم أيها الأخ، أن الرياسة نوعان: جسماني وروحاني، فالرياسة الجسمانية مثل رياسة الملوك والجبابرة الذين ليس لهم سلطان إلا على الأجسام والأجساد بالقهر والغلبة والجور والظلم، ويستعبدون الناس ويستخدمونهم قهرًا في إصلاح أمور الدنيا وشهواتها والغرور بلذاتها وأمانيها.
وأما الرياسة الروحانية فمثل رياسة أصحاب الشرائع الذين يملكون النفوس والأرواح بالعدل والإحسان، ويستخدمونها في الملل والشرائع لحفظ الشرائع وإقامة السنن والتعبد بالإخلاص والتألُّه برقة القلوب، واليقين بنيل الثواب والفوز والنجاة والسعادة في المعاد.
(٦) فصل في أنه ليس من علم ولا عمل ولا صناعة ولا تدبير ولا سياسة مما يتعاطاه البشر …
واعلم يا أخي أنه ليس من علم ولا عمل ولا صناعة ولا تدبير ولا سياسة مما يتعاطاه البشر هو أعلى منزلةً ولا أسنى درجةً، ولا في الآخرة أكثر ثوابًا، ولا بأفعال الملائكة أشد تشبهًا، ولا إلى الله أقرب قربةً، ولا لرضاه أبلغ طلبًا من وضع الشرائع الإلهية.
(٧) فصل في أن الشريعة الإلهية هي جبلَّة روحانية
واعلم أن الشريعة الإلهية هي جبلَّة روحانية تبدو من نفس جزئية في جسد بشري بقوة عقلية تفيض عليها من النفس الكلية بإذن الله تعالى في دور من الأدوار والقرانات، وفي وقت من الأوقات؛ لتجذب بها النفوس الجزئية وتخلِّصها من أجساد بشرية متفرقة ليفصل بينها يوم القيامة لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ وقوله: وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ الآية.
(٨) فصل في أنه من تمام فضيلة واضع الشريعة أن تكون فيه اثنتا عشرة خصلة
- إحداها: أن يكون تامَّ الأعضاء قويةً قوائمه على الأعمال التي من شأنها أن تكون بها ومنها، ومتى همَّ أن يقضي عملًا أتى عليه بسهولة.
- والثاني: أن يكون جيد الفهم سريع التصور لكل ما يقال له ويلقاه لفهمه على ما يقصد القائل به على حسب الأمر في نفسه.
- والثالث: أن يكون جيد الحفظ لما يفهمه ولما يسمعه ولما يذكره، وبالجملة لا يكاد ينسى شيئًا منها.
- والرابع: أن يكون فطنًا ذكيًّا ذا رأي يكفيه لتبيُّن أدنى دليل، حتى إذا رأى على شيء أدنى الدليل فطِن له على الجهة التي يدل عليها الدليل.
- والخامس: أن يكون حسَن العبارة يواتيه لسانه على ما في قلبه وضميره بأوجز الألفاظ.
- والسادس: أن يكون محبًّا للعلم والاستفادة، منقادًا له سهل القبول، لا يؤلمه تعب العلم ولا يؤذيه الكدُّ الذي يلحقه.
- والسابع: أن يكون محبًّا للصدق وحسن المعاملة مقربًا لأهله.
- والثامن: أن يكون غير شرِه في الأكل والشرب والنكاح، متجنبًا للعيب مبغضًا للَّذات الكائنة عن هذه.
- والتاسع: أن يكون كبير النفس عالي الهمة محبًّا للكرامة تكبر نفسه بالطبع عن كل ما يشين من الأمور ويشنع، وتسمو همة نفسه إلى أرفع الأمور رتبةً وأعلاها درجةً.
- والعاشر: أن يكون الدرهم والدينار وسائر أعراض الدنيا هيِّنة عنده زاهدًا فيها.
- والحادي عشر: أن يكون محبًّا للعدل وأهله مبغضًا للجور والظلم وأهله، يعطي النصفة لأهلها، ويرثي لمَنْ حلَّ به الجور، ويكون مواتيًا لكل ما يرى حسنًا جميلًا، عدلًا غير صعب القياد ولا جموح، وإن دُعِيَ إلى الجور والقبيح لا يجيب.
- والثاني عشر: أن يكون قويَّ العزيمة على الشيء الذي يرى أنه ينبغي أن يفعل، جسورًا مقدامًا غير خائف ولا ضعيف النفس.
(٩) فصل في أول قاعدة يضعها واضع الشريعة
واعلم أن أول قاعدة يضعها واضع الشريعة ثم يبني عليها سائر ما يعمل في تتميم الشريعة من القول والعمل، وتكميلها من الأقاويل والأوامر والنواهي ومعاني تأويلها ومفروضات شرائعه وسنن أحكامه وتدبير أمته، وسياسة أهل مملكته في أمر الدين والدنيا؛ هي أن يرى ويعتقد في نفسه علمًا يقينيًّا أن للعالم بارئًا قديمًا حيًّا عالمًا حكيمًا قادرًا قاهرًا مريدًا هو علة جميع الموجودات ومالكها ومصرفها بحسب ما يليق بواحد واحد منها.
- والثاني: أن يرى ويتصور موجودات عقلية مجردة من الهيولى كل واحد منها قائم بنفسه متوجه نحو ما نُصِب له من أمره، وهم ملائكة الله تعالى وخالص عباده، بهم تقع المراسلة والوحي والإنباء، ومن جهتهم يحصل التأييد.
- والثالث: أن يرى ويعتقد وجودات نفسانية مجردة من الأبدان تارةً، ومستعملة لها تارةً، ومتعلقة بها تارةً، وأنها نازلة من جثث الحيوانات بحسب ما يليق بواحد واحد منها من إدراك مأربها وتمكنها به.
- والرابع: أن يرى أن بمفارقتها الجثث لا تبطل ذاتها، وخروجها من الأجساد والحس لا يُخْرِجها من قدرة الباري سبحانه.
- والخامس: أن يرى أن كل واحدة من الموجودات منفردة بذاتها لا يُصلحها ولا يُفسدها إلا ما يتعلق بها من سوء أعمالها أو فساد آرائها أو رداءة أخلاقها أو تراكم جهالاتها.
- والسادس: أن يرى أن الباري تعالى إذا أمر الناس أمرًا مكَّنهم منه وأزاح عللهم فيه، فمنهم طائع لأمره ومنهم راكب نهيه.
- والسابع: أن جعل لكل صنف من أصناف الطاعات والمعاصي جزاءً من الثواب والعقاب، ويُعْلِم المأمورين والمنهيين عنه أنه إذا ما أتوه على بصيرة أوجب الأجر وقطع العذر لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ.
- والثامن: أن يرى أن لهم معادًا فيه مجازَون بما أسلفوا من خير وشر وعُرْفٍ ونُكْرٍ، وأنه قد جعل إلى كل واحد تمهيد مثواه وإصلاح مأواه، فإن أحسن فلنفسه وإن أساء فعليها، وما ربك بظلام للعبيد.
- والتاسع: أن يرى أن الدعاء إلى الله تعالى أولى الأعمال بالثواب وأرفعها درجة عند المآب.
- والعاشر: أن يرى أن الدعاة إلى الله تعالى هم أعلى الناس درجةً وأرفعهم منزلةً وأشدهم في الدعاء إلى الله تعالى حرصًا، وأكثرهم فيه دربًا، وأوسعهم علمًا وأكثرهم أمةً وأعظمهم على الناس نعمةً، وأنطقهم بالصدق وألزمهم لمنهاج الحق.
فإذا تحققت هذه الآراء في نفس واضع الشريعة، وتصوَّرها في فكره كأنه يشاهد يقينًا لا شك فيه، دعا عند ذلك إليها أهل دعوته الذين أُرسل إليهم، ويجتهد في إنبائهم ما قد اعتقده بالتصريح عنها للخواص من أهل دعوته في السر والإعلان غير مرموز ولا مكتوم، ثم يشير إليها ويرمز عنها عند العوام بالألفاظ المشتركة والمعاني المحتملة للتأويل بما يعقلها الجمهور وتقبلها نفوسهم.
فمَنْ فهِمَ تلك المعاني وتصوَّر حقائق تلك الأمور التي أشار إليها واضع الشريعة، وتيقَّن بها ودام بعد نصرتها مجتهدًا في معاونته محتملًا للضيم صابرًا في السر أو الضر؛ طلبًا لمرضاة الله تعالى سماهم واضع الشريعة الصدِّيقين والشهداء والصالحين، وأبلغ الله تعالى في المدح والثناء عليهم فقال عز وجل: فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا.
وإنما سماهم الشهداء؛ لمشاهدتهم تلك الأمور الروحانية المفارِقة للهيولى؛ يعني به جنة الحياة ونعيمها، وسماهم الصدِّيقين لتصديقهم لها بالطلب والاجتهاد من أنفسهم في نصرة واضع الشريعة ومعاونته.
فأما مَنْ قصر فهمه عن معرفة تلك المعاني وعن تصور تلك الأمور بحقائقها فأقر بما أخبره واضع الشريعة وصدَّقه على ما قال وقام معه بنصرته مجتهدًا في معاونته صابرًا تحت أمره ونهيه، سماهم واضع الشريعة المؤمنين ومدحهم الله تعالى وأثنى عليهم من جهة إيمانهم بما أخبرهم وتصديقهم له واجتهادهم معه في نصرته ومعاونته فقال: وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ الآية.
وأما مَنْ أقرَّ بلسانه وشكَّ فيما قال بقلبه سماهم المسلمين، وذمَّهم الله تعالى فقال: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وقال: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا.
وأما مَنْ آمن بلسانه وخانه في السر ونافق وأضمر له بقلبه تكذيبًا خلاف ما أظهر بلسانه وخدعه ومكر به، سماهم واضع الشريعة المنافقين، وأكثر الله لهم الوعيد والذم والزجر، فقال إنكارًا لما لم ينتهوا عما هم عليه ووعيدًا لهم من النفاق: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ.
وأما مَنْ أنكر دعوته في الظاهر، وكذَّب في السر والإعلان وعاداه جهرًا سماهم واضع الشريعة الكفار وناصبهم الحرب والقتال، وأكثر لهم الوعد والذم والزجر والتهديد.
(١٠) فصل في أن أحد خصال واضع الشريعة مراعاته لأهل دعوته
واعلم أن من أحد خصال واضع الشريعة ومراعاته لأهل دعوته أن يتعرَّف خبر كل واحد من أهل دعوته من الصغير والكبير، والذكر والأنثى، والحر والعبد، والشريف والدنيء، والعالم والجاهل، والغني والفقير، والقوي والضعيف، والقريب والبعيد، حتى يعرف كل واحد منهم ما اسمه ونسبه وصناعته وعمله وتصرفه في حالاته، وما هو بسبيله في أمر معاشه، وما هو الغالب عليه من الطبع الجيد والرديء والخلق الحسن أو السيئ والعادات العادلة أو الجائرة حتى يثق بهم علمًا، ويتبيَّن منازلهم، ويستعين بكل واحد منهم في العمل المُشاكل له، ويستخدمه في الأمر اللائق به.
(١١) فصل في أن أول سُنَّة يستنُّها لهم ويطالبهم بإقامتها …
واعلم أن أول سُنَّة يستنُّها لهم ويطالبهم بإقامتها هي الأمور التي أولها موالاة بعضهم بعضًا بسبب حرمة الشريعة؛ لتأكيد المودَّة بينهم وتأليف قلوبهم؛ ليجتمع بذلك شملهم وتتفق كلمتهم، ويأمرهم بمخالفة مَنْ يخالفهم في سنة الشريعة ومجانبتهم والبراءة منهم وإن كانوا ذوي القرابة والأحباء، كما قال الله عز وجل: الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وقال تعالى: لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ.
فإذا قاموا بواجب هذه السنة وتثبَّتوا عليها واستحكمت تلك في نفوسهم وتعاضدوا على ذلك وتناصروا عليه؛ صار كلهم عند ذلك كرجل واحد وجسد واحد ونفس واحدة، وصار واضع الشريعة لهم بمنزلة الرأس من الجسد وهم له كسائر الأعضاء، وتصير قوة نفس واضع الشريعة متصرفة في نفوسهم كتصرف القوة المفكرة في سائر القوى الحساسة، فيصدرون عند ذلك عن رأي واحد وقصد واحد وغرض واحد بقوة واحدة، فيغلبون كل مَن رام غلبتهم، ويقهرون كل مَنْ خالفهم وعاداهم وضادَّهم.
(١٢) فصل في أن صلاح الدين والدنيا …
فهلمَّ بنا أيها الأخ إن كنت عازمًا على طلب صلاح الدين والدنيا أن نقتدي بسنة الشريعة ونجتمع مع إخوان لك فضلاء وأصدقاء كرام، ونتعاون على ذلك بمحض النصيحة في الضمير وصدق المعاملة في السر والإعلان، وإلْف المحبة في القلوب توفق إن شاء الله تعالى.
(١٣) فصل في أن من إحدى الخصال التي يعتقدها واضع الشريعة يقينًا …
واعلم أن من إحدى الخصال التي يعتقدها واضع الشريعة يقينًا لا شك فيه أن من أقرب القربات إلى الله تعالى وأبلغ طلب لمرضاته بذل المال والنفس والأهل في إقامة الشريعة وتقويتها وإظهارها، وإن كل نفس من أنصاره وأتباعه أنفق ماله أو فارق أحباءه أو بذل دمه وجعل جسده قربانًا في نصرة الشريعة، فإن تلك النفس بعد مفارقة جسدها تبقى مجردة من الهيولى، وتعلو رتبتها على سائر النفوس التي هي أبناء جنسها، وترتفع درجتها وتشرف هي على النفوس المتجسدة المستعملة لتلك الشريعة، فتصير موقوفة عليها شاهدة أحوالها، وتكون الشريعة لها مدينة روحانية، ويكون تصرفها وتحكمها في النفوس المستعملة لتلك الشريعة كتصرف رؤساء أهل المدينة في أملاكهم وغلمانهم وأتباعهم، وإنها تنال بتلك اللذة والسرور والفرح مثل ما ينال الرؤساء ذوو السياسة من انقياد المرءوسين لطاعتهم وحسن خدمتهم، وكلما كثر عدد التابعين في الشريعة ازدادت فرحًا وسرورًا ولذةً وغبطةً دائمًا أبدًا.
واعلم أن من إحدى خصال واضع الشريعة أن يسنَّ لأهل دعوته أولًا سنة حسنة يقيمونها بشرائطها، وسيرة عادلة يتعاملون بموجبها فيما بينهم، ويكون في استعمالهم صلاح الجمهور والنفع العام، ولا يبالي أن يكون عليه أو على بعضهم من استعمالها لها مشقة أو ضرر؛ لأن غرض واضع الشريعة ليس إصلاح أمر نفسه ولا إصلاح أنصاره وأتباعه الموجودين في الوقت الحاضر في زمانه أو النفع العاجل له ولهم، بل غرضه إصلاحهم وإصلاح مَنْ يجيء بعدهم من التابعين ومَنْ يجيء بعد أولئك إلى يوم القيامة.
واعلم بأن نسبة تلك الأشخاص الموجودة في زمانه بالنسبة إلى مَنْ يجيء بعدهم من الكثرة ما هو إلا كنسبة الآحاد إلى العشرات، والعشرات إلى المئات، والمئات إلى الألوف، والألوف إلى عشرات الألوف، والعشرات الألوف إلى المئات الألوف، والمئات الألوف إلى ألوف الألوف إلى ما لا نهاية.
واعلم أن مثل واضع الشريعة مع إخوانه وأنصاره وأتباعه الذين يجيئون بعدهم إلى يوم القيامة في حكم الشريعة كمثل شجرة هو وأصحابه وأنصاره أغصانها وقضبانها ومَنْ يجيء بعدهم من التابعين لهم كالفروع، ومَنْ يجيء بعدهم كالورق والنَّوْر والزهر والثمر، وهذه الشجرة روحانية تنبت من فوق إلى أسفل؛ لأن عروقها في السماء مما يلي رتبة الملائكة؛ لأن مادتها من هناك تنزل — يعني بتأييد واضع الشريعة من الملائكة — وعنهم يأخذ الوحي والإلهام والأنباء يؤديها إلى البشر الذين هم في الأرض؛ ليجتذبهم بها إلى رتبة الملائكة، وهذه الشجرة التي رمز عنها يقال: إنها شجرة طوبى نبتت من تحت العرش، وتدلَّت أغصانها في منازل أهل الجنة وهم يجتنون ثمرها في دائم الأوقات.
(١٤) فصل في أن من إحدى الخصال التي يضعها صاحب الشريعة ألَّا ينسب إلى رأيه …
واعلم أن من إحدى الخصال التي يضعها صاحب الشريعة ألَّا ينسب إلى رأيه واجتهاده وقوته شيئًا مما يقول ويفعل ويأمر وينهى في وضع الشريعة، لكنه ينسبها إلى الواسطة التي بينه وبين ربه من الملائكة التي توحي إليه في أوقات غير معلومة. وأما الحكماء والفلاسفة إذا استخرجوا علمًا من العلوم وألَّفوا كتابًا، أو استخرجوا صنعةً من الصنائع أو بنوا هيكلًا أو دبَّروا سياسة نسبوا ذلك إلى قوة أنفسهم واجتهادهم وجودة رأيهم وفحصهم وبحثهم، وهذا خلاف ما يفعله واضع الشريعة.
(١٥) فصل في أن تمام الدين والدنيا لتابعي الشريعة في أربع خصال
واعلم أن تمام الدين والدنيا لتابعي الشريعة في أربع خصال: أحدها أن يكون لكل واحد منهم عقل يعرف به القبيح وينزجر عنه ويعرف الجميل ويأمر به، والثاني أن يكون لهم بواضع الشريعة قدوة في أفعاله وأقاويله وآدابه ومتصرفاته، والثالث أن يكون مع كل واحد منهم وصية من واضع الشريعة يدرسونها في أوقات معلومة، والرابع أن يكون على كل جماعة منهم رئيس من فضلائهم عارف بسنة الشريعة يأمرهم بإقامتها ويحثهم على حفظها وبنهاهم ويزجرهم متى أرادوا تغيير سيرة الشريعة.
(١٦) فصل في أن العقلاء الأخيار إذا انضاف إلى عقولهم القوة بواضع الشريعة …
واعلم أن العقلاء الأخيار إذا انضاف إلى عقولهم القوة بواضع الشريعة فليس يحتاجون إلى رئيس يرأسهم ويأمرهم وينهاهم ويزجرهم ويحكم عليهم؛ لأن العقل والقدرة لواضع الناموس يقومان مقام الرئيس الإمام، فهلم بنا أيها الأخ أن نقتدي بسنة الشريعة ونجعلها إمامًا لنا فيما عزمنا عليه، والله يوفقك إنه جواد كريم.
(١٧) فصل في طائفة من المرتاضين بالعلوم الفلسفية
واعلم أن طائفة من المرتاضين بالعلوم الفلسفية والمتأدبين بالآداب الرياضية إذا كانت نفوسهم جاهلة بظاهر أحكام الشريعة عمياء عن معرفة أسرار موضوعاتها توانوا في استعمال سنة الشريعة الإلهية والسير بسيرته، وعابوا موضوعاته وأنِفوا من الدخول تحت أحكامه، واستكبروا عن الانقياد لحدوده، فمن أجل هذا سماهم صاحب الشريعة شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا فيما ينكرون على الشريعة من أحكامه، وما يعيبون عليه من موضوعاته، يعني يتغامزون على أهل الشريعة المستعملين لها كما قال الله تعالى: وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ كل ذلك جهلًا منهم بأسرار الشريعة وعمًى عن أحكامها كما وصفهم الله تعالى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ.
(١٨) فصل في أن للكتب الإلهية تنزيلات ظاهرة
واعلم أن للكتب الإلهية تنزيلات ظاهرة وهي الألفاظ المقروءة المسموعة، ولها تأويلات خفية باطنة وهي المعاني المفهومة المعقولة، وهكذا لواضعي الشريعة موضوعات عليها وضعوا الشريعة ولها أحكام ظاهرة جلية وأسرار باطنة خفية، وفي استعمال أحكامها الظاهرة صلاح للمستعملين في دنياهم وفي معرفتهم أسرارها الخفية صلاح لهم في أمر معادهم وآخرتهم، فمَنْ وُفِّق لفهم معاني الكتب الإلهية وأُرْشِد إلى معرفة أسرار موضوعات الشريعة، واجتهد في العمل بالسنة الحسنة والسير بسيرته العادلة، فإن تلك النفوس هي التي إذا فارقت الجسد ارتفعت إلى رتبة الملائكة التي هي جنات لها، وهي ثمان مراتب، وفازت ونجت من الهيولى ذي الثلاث الشُّعَب التي هي الطول والعرض والعمق، وارتفعت في درجات الجنان والمراتب الثمان التي سعة كل واحدة منها كعرض السماء والأرض، ومَنْ لم يرشد لفهم تلك المعاني ولا معرفة تلك الأسرار ولكن وُفِّق للعمل بسنته العادلة وأحكامه الظاهرة، فإن تلك النفوس عند مفارقتها الجسد تبقى محفوظة على صورة الإنسانية التي هي الصراط المستقيم إلى أن يتفق لها الجواز على الصراط المستقيم، وإلى هذا أشار بقوله تعالى فقال: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ الآية، وهذا هو الغرض الأقصى في وضع الشريعة الإلهية، ومَنْ لم يُرْشد لفهم تلك المعاني، ولا اجتهد في العمل بسنة الشريعة ولا الدخول تحت أحكامها ولا الانقياد لحدودها فإن تلك النفوس إذا فارقت الجسد انحطَّت إلى البهيمية التي هي دركات لها وهاوية تهوي فيها، كما قال الله تعالى: لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ وإلى هذا أشار بقوله: فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ إلى قوله: وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ، وفي معرفة أسرار هذه النكت الإلهية قيلت هذه القصيدة، وإلى أسرار موضوعاتها أشير بها وهي هذه:
واعلم يا أخي أن هذه الأبيات وما فيها من المسائل إنما هي إرشاد للمتأدبين بإصلاح الأخلاق وتنبيه للمرتاضين بعلم النفس على الأسرار النبويات، وما في موضوعات الشرائع من الرمز، ولا ينبغي لأحد من إخواننا أن يجيب أحدًا إذا سُئل عن هذه المسائل إلا لمن قد هذَّب نفسه وأصلح أخلاقه؛ لأن صدأ النفس ورداءة أخلاقها ممتنع من فهم معاني هذه.
وقد بيَّنَّا في الرسالة السابعة التي تتلو هذه كيفية ذلك، فافهم إن شاء الله وحده.