الرسالة السابعة
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
واعلم، أيَّدك الله وإيانا بروح منه، أن شيعتنا وإخواننا المتفرقين في البلاد، وسائر مَنْ يُنْسَب إلينا فهم في أحوالهم ومراتبهم على منازل ثلاث: فطائفة منهم خواص وعقلاء متدينون أخيار فضلاء، وطائفة منهم أغبياء أشرار أردياء، وطائفة بين ذلك متوسطون، ولكل طائفة منهم آراء ومذاهب هم فيها مختلفون، وأقاويل مفننة هم بها مشغوفون، وأخلاق وسجايا هم بها متغايرون، ولهم مع ذلك أفعال وأعمال هم لها معتادون، فنريد أن نذكر كل طائفة منهم بأوصافهم، وندل عليهم بعلاماتهم، حتى إذا دخلْتَ مدينة أو بلدًا من البلدان ولقيت منهم أحدًا تبيَّنتهم بعلاماتهم وعرفتهم بسيماهم، فلقيتهم بالتحية والسلام، وداخلت كل طائفة منهم بألطف ما تقتدر عليه من الرفق والمداراة، وذاكرتهم من علمنا بحسب ما تقبله قلوبهم، وألقيت إليهم من أسرارنا حسبما تحتمله عقولهم وتتسع له نفوسهم، وتبلغ إليه هممهم وتتصوَّره أفهامهم، وتكون في كل ذلك كمثل الطبيب الحكيم الرفيق الذي قد ذُكِرت قصته في أول الرسالة لإخوان الصفاء.
(١) فصل في أن من خواص إخواننا …
إن من خواص إخواننا الفضلاء أنهم العلماء بأمور الديانات العارفون بأسرار النبوات المتأدبون بالرياضيات الفلسفية، وإذا لقيت أحدًا منهم وأنست منه رشدًا فبشِّره بما يسره، وذكِّره باستئناف دور الكشف والانتباه وانجلاء الغمة عن العباد بانتقال القران من برج مثلثات النيران إلى برج مثلثات النبات والحيوان في الدور العاشر الموافق لبيت السلطان وظهور الأعلام.
واعلم أن من إخواننا وأهل شيعتنا طائفة أخرى بوجودنا شاكُّون، وفي بقائنا متحيرون فيما يعتقدون من موالاتنا، وطائفة أخرى موقنون ببقائنا لكنهم غافلون عن أمرنا غير عارفين بأسرارنا، وكلهم منتظرون لظهور أمرنا مستعجلون لمجيء أيامنا مشتهون نصرة أمرنا، فإذا لقيت منهم أحدًا فبشِّره بما يسرُّه وقر عينه بما يظنه بعيدًا مما يؤمله، وعرِّفه أن ما يرجوه غير بعيد، وذكِّر مَنْ وثقت بهم من إخواننا بما ألقينا إليك من علمنا، وأطْلِعْه على ما أطلعناك عليه من أسرارنا؛ كيما تطمئن نفوسهم فيما يعتقدون فينا، ويتبين لهم صدق ما هم مُقِرُّون به من أمرنا، وأخرج إليهم من رسائلنا ما ترغب نفوسهم فيه وترتاح إليه، وليكن ذلك على النظام والترتيب كما بيَّنَّا لك، فلعلهم إذا استمعوا لقراءتها وفهموا معانيها انتبهت نفوسهم من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، وحييت بروح المعارف كما ذكر الله جل ذكره: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا.
واعلم يا أخي بأن في الناس طائفة من أهل ملتنا مقرُّون بفضلنا وفضل أهل بيتنا، ولكنهم جاهلون بعلومنا غافلون عن أسرارنا وحكمتنا، فمن ذلك أنهم يجحدون وجودنا ويُنكرون بقاءنا، ومع هذا فإنهم يُزرون بشيعتنا المُقِرِّين بوجودنا المنتظرين ظهور أمرنا، ومعاندون لهم متعصبون عليهم مبغضون لهم.
واعلم بأن أحد الأسباب في ذلك هو أن قومًا من أشرار الناس جعلوا التشييع سترًا لهم عما يحذرون من الآمرين عليهم بالمعروف والناهين لهم عن المنكر فيما يفعلون؛ وذلك أنهم يركبون كل محظور ويتركون كل مأمور به، وإذا نُهوا عن المنكر فعلوه بارزوا بإظهار التشيع، واستعاذوا بالعلوية على مَنْ يُنكر عليهم أو ينهاهم عن منكر فعلوه، ولبئس ما كانوا يعملون. ومن الناس طائفة يُنسبون إلينا بأجسادهم وهم براء بنفوسهم منا، ويسمون أنفسهم العلوية، وما هم من العلويين ولكنهم من أسفل السافلين، لا يعرفون من أمرنا إلا نسبة الأجساد، ولا من القرآن إلا اسمه، ولا من الإسلام إلا رسمه، لا علمًا يتعلمون ولا فقهًا يدرون ولا صلاةً يقيمون، ولا زكاةً يؤدون، ولا البيت يحجُّون، ولا جهادًا يعرفون، ولا حرامًا يجتنبون، ولا عن منكر ينتهون، وكل قبيح يركبون ولا يتوبون ولا هم يذكرون، ومع هذا كله على الناس يستطيلون وإليهم يتبغَّضون ومن شيعتنا ينفرون، فهم أبعد الناس من أهل ملتنا، وأعدى الناس لشيعتنا، وأجهل الخلق بعلومنا، وأغفل الناس عن حقيقة أمرنا وأسرار حكمتنا إلا الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيرًا، وإليهم أشار رسول الله ﷺ بقوله: «يا بني هاشم لا يأتي الناس يوم القيامة بأعمالهم وتجيئون بأنسابكم، فإني لا أُغْنِي عنكم من الله شيئًا.» ومن الناس طائفة قد جعلت التشييع مكسبًا لها، مثل النائحة والقُصَّاص، لا يعرفون من التشييع إلا التبرِّي والشتم والطعن واللعنة والبكاء مع النائحة وحب المتدينين بالتشييع، وترْك طلبِ العلم وتعلُّمِ القرآن والتفقه في الدين، وجعلوا شعارهم لزوم المشاهد وزيارة القبور كالنساء الثواكل يبكون على فقدان أجسادنا وهم بالبكاء على نفوسهم أولى.
ومن الشيعة مَنْ يقول: إن الأئمة يسمعون النداء ويجيبون الدعاء ولا يدرون حقيقة ما يقرون به وصحة ما يعتقدونه، ومنهم مَنْ يقول: إن الإمام المنتظر مختفٍ من خوف المخالفين، كلا بل هو ظاهر بين ظهرانيهم يعرفهم وهم له منكرون، كما قيل:
وكلهم يقرُّون بأن الأنبياء عليهم السلام خُزَّان علم الله، وأن الخلفاء هم والأئمة المهديون وارثون علم النبوات، ولكنهم لا يدرون حقيقة ما يقرُّون ولا تصديق ما يعتقدون، فأعيذك أيها الأخ البارُّ الرحيم، أيَّدك الله وإيانا بروح منه، أن تكون منهم، بل كن هاديًا مهديًّا رشيدًا طبيبًا رفيقًا لإخوانك وأصدقائك وجيرانك: ترشد الضال وتبرئ الأكمه والأبرص وتُحيي الموتى بإذن الله.
(٢) فصل ذكروا أن ملكًا من ملوك الهند كان عظيم الشأن …
واعلم بأن عندي نصيحة لابن الملك، وقد وقع اختياري عليك لما توسَّمت فيك من الخيرية.
قال له الخادم: ما هذه الحاجة؟ وما هذه النصيحة؟ أسمعنيها حتى أعرفها.
فقال له الخادم: أرني جواهرك أنظر إليها، فإن كانت تصلح له حملتها إليه.
فقال الحكيم: إن لجواهري شعاعًا وبريقًا شديدًا لا تستطيع النظر إليها؛ لأن في عينيك ضعفًا أُشفق عليك ضررًا.
وأما ابن الملك فشابٌّ حدثٌ جيد النظر حادُّ البصر لا أخاف عليه منه ضررًا.
فقال له الخادم: إن هذا الأمر الذي تصف لأمرٌ عظيم، وما أرى بكلامك بأسًا، وأنا شاكٌّ فيما تقول فكيف أصنع؟
فقال الحكيم: لا يسعك أن تحرم ابن الملك هذه النصيحة إذا بذلتها له. واعلم بأنك إن لم توصلني إليه مع سفطي هذا توسلت بغيرك إليه. فذهب الخادم وعرَّف الفتى.
فلما سمع ابن الملك ذلك الحديث تهلل وجهه وداخَلَه من الفرح والسرور ما لم يتمالك نفسه أن قام من مجلسه ومشى في الدار، وعلم أنه قد ظفر بحاجته ووجد طلبته، وقال للخادم: نِعم ما رأيت حين عرَّفتني هذا الحديث، فالآن أوصله إليَّ ولكن بالليل في سرٍّ وكتمان.
فلما وصل الحكيم إلى الفتى ورأى شخصه تفرَّس فيه النجابة والفلاح، وقام الغلام من مجلسه وسلَّم عليه ورحَّب به وأقعده وقعد بين يديه، وقال للخادم: تنحَّ الآن عنا لأسأله عما في نفسي.
ثم ابتدأ فسأله عن حاله ومجيئه وقصده، وأخذ في حديث طويل، وقد بيَّنَّا في فصل بعد هذا أشياء مما جرى بينهم من الخطاب.
فهكذا ينبغي لإخواننا الفضلاء الأخيار، أيَّدهم الله وإيانا بروح منه، أن يقتدوا بذلك الحكيم في اختيارهم لحكمتهم الأحداث الفتيان الأخيار النجباء المتأدِّبين المتهذِّبين الفهماء الأذكياء؛ لأذكار علومنا وأسرار حكمتنا اقتداءً بسنة الله تعالى؛ وذلك أنه لم يبعث نبيًّا إلا وهو شاب، ولا أعطى الحكمة لعبد من عباده إلا وهو حَدَث من الفتيان، كما ذكرهم الله تعالى وأثنى عليهم فقال: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ الآية، وقال في قصة خليله إبراهيم: سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ وقال موسى لفتاه: آتِنَا غَدَاءَنَا.
وهكذا ينبغي لإخواننا إذا وجدوا صديقًا بهذا الوصف ينبغي لهم أن يغتنموا ذلك ويعرِّفوا إخوانهم الباقين، ويستبشروا بالنصر والتأييد من الله عز وجل كما وعد، جل ثناؤه، بقوله: إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وقال: وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ.
(٣) فصل فكان مما يجري بين الفتى والحكيم أن قال له: أخبِرْني لِمَ يذمُّ الحكماء الدنيا …
فكان مما يجري بين الفتى والحكيم أن قال له: أخبِرْني لِمَ يذمُّ الحكماء أمور الدنيا ويزهِّدون في نعيمها وهي دارهم التي نشئوا فيها ومسكن آبائهم الذين ربَّوهم؟ فأجاب: لأنها تصغُر في أعينهم إذا شاهدوا أمر ملكوت السماء، ويستقلُّون نعيمها في جنب ما يعرفون من نعيم أهل الآخرة كما صغر حال ذلك المسكين في أعين الملك ووزيره.
قال الفتى: كيف كان ذلك؟ قال الحكيم: ذكروا أنه كان ملك من ملوك الهند عظيم الشأن عزيز السلطان واسع المملكة حَسَن التدبير والسياسة عادل السيرة في الرعية صادق الحجة في الحكمة، بصيرًا بأمور الدنيا، راغبًا فيها متمنيًا للخلود، ولم يكن يعرف أمر الآخرة ولا المبدأ ولا المعاد ولا البعث ولا القيامة ولا الوحي ولا النبوة، وكان مع ذلك يعبد الأصنام تقليدًا، يقرِّب لها القربان ويعظِّم شأنها ويُحسن إلى أهلها على عادة جارية قد اعتادها من الحداثة والصبا من غير فكر ورويَّة في شأنها، وكان له وزير خيِّر عارف بصير قد عرف ملكوت السماء ونبأ الملأ الأعلى وأمر المعاد والمبدأ وكيفية الوحي للأنبياء عليهم السلام، وعلل سنن الديانات ومرامي مرموزات النواميس وأسباب أحكام الشرائع، وما الغرض الأقصى منها؟ وما حقيقة معانيها وخفيَّات أسرارها ودقائق إشاراتها؟ وما قصد واضعيها؟ وما النفع العاجل منها؟ وما المطلب والمغزى في الأصل منها؟
فكان كلما رأى ذلك الوزير الملك يسجد لتلك الأصنام ويستلمها ويعظم شأنها من غير معرفة بحقيقة أمرها ولا بصيرة لشأنها وما المغزى من ذلك؛ امتعض قلبه لما عليه لغفلته وسهوه فيما يفعله تقليدًا ويعمله جهالةً، وكان يرثي له سرًّا وجهرًا رحمة وشفقةً عليه؛ لطول الصحبة معه وحسن المعاشرة له، وكان نهايته أن ينهاه عن ذلك أو ينبِّهه من غفلته، وأن لا يسمع لقوله لشدة سكرته وغفلته، ولا يقبل نصيحته لتمكُّنها في نفسه واستمراره عليها طول الزمان، فشكى ذلك إلى صديق له فقال:
قد طالت صحبتي لهذا الملك وما رأيت منه إلا خيرًا، وله إليَّ إحسان كثير وإنعام وأفضال لا أقدر أن أؤدي شكرها، ولست أُنْكِر من أمره إلا ما هو فيه من الغفلة في أمر الدين والمعاد وقلة الرغبة في الآخرة وترك النظر في المنقلب بعد الموت، ولا أدري إن ذكرته كيف يقع منه؟
فقال له صاحبه: أنت أَخْبَرُ بصاحبك وأعْرَف بأخلاقه وأعلم بعاداته، فكن طبيبًا رفيقًا، لا تضع الدواء إلا عند الداء حتى ينفع، واطلب الفرصة فإن رأيت للكلام موضعًا وللخطاب موقعًا فاغتنم ذلك، وإن لم ترَ فلا تُضيِّع الحزم. واعلم بأن الملوك لهم سكرات وغفلات من عدة وجوه، فمنها سكرات السلطان والأمر والنهي ومحبة الرياسة والعز والأنفة والكبر والاستطالة، ومنها سكر الشباب والنشاط والنجدة والتفاخر والخيلاء والشجاعة والشطارة ومحبة الغلبة والرياسة والسمعة، ومنها حب الشهوات المركوزة في الجبلَّة والتمكن منها والميل إلى اللذات المعتادة والرفاهية والراحة والزلفة واستمرار على العادات المعتادة من الصبا، ومنها الجهالات المتراكمة من أول الأمر والأخلاق المنشأة مع الطبع والخِلْقة، وكل هذه سكرات تمنع من استماع الحكمة والنظر في العاقبة والفكر والرويَّة في المعاد والمنقلب في الآخرة بعد الموت.
فلما أبصر الملك والوزير ما هما فيه من اللذة والسرور والفرح طال وقوفهما متعجبين من حال تينك المسكينين، ثم قال عند ذلك الملك للوزير: ما أظن أني في طول حياتي وعز سلطاني ونعيم ملكي وأيام شبابي ومجالس لهوي مع تمكني من شهواتي بلغ مني الفرح واللذة والسرور ما يصفان هذان المسكينان الحقيران الوضران من حالهما، ومع هذا كله أظن أنه لا تفوتهما هذه الحال كل ليلة إن أرادا؛ لأنه لا يعرض لهما شيء من العوائق التي تعرض لنا من الأشغال المانعة عن فراغ مجلس اللذة واللهو مثل خروج الخوارج في أطراف المملكة، واضطراب النواحي وشغب الجند وطلبهم الأرزاق، ومثل النظر في تظلُّم الرعية وهمج العامة والنظر في محاسبة الكُتَّاب وتولية العمال، ومثل النظر في التعازي والتهاني والنظر في أمر الخاصة وإصلاح أمر العامة، ومثل النظر في القصص والتوقيعات وحفظ الخزان وتفقُّد الرسل الواردين من الأطراف وإكرامهم والتجمل لهم، ومثل النظر في الكتب الواردة من أصحاب الأخبار وكتب أجوبتها وما شاكل هذه من الأشغال المنغِّصة للعيش المنقصة للذات المُوردة للغموم والهموم والأحزان.
ثم قال الملك: ولكن أظن أنه لو كان هذان المسكينان دخلا منازلنا وأُلْبِسَا ثيابنا وأبصرا مجالسنا وذاقا من طعامنا وعاينا أحوال ملكنا وشاهدا عز سلطاننا وعرفا لذة نعيمنا مرة واحدة مقدار ساعة، ثم رُدَّا إلى حالهما لما تهنَّيا بالعيش بعد ذلك، ولا وجدا لهذه الحال النكرة التي هما فيها لذة أبدًا، وصغر في أعينهما ما هما فيه من اللذة والفرح والسرور.
فلما فرغ الملك من هذا الخطاب وسمع الوزير قول الملك تذكَّر ما قال له صاحبه لما شكا إليه: اطلب الفرصة وضع الدواء حيث الداء، فإن لكل مقام مقال.
فقال الوزير للملك: أخاف أيها الملك أن نكون فيما نحن فيه من عز سلطاننا ونعيم ملكنا ولذيذ شهواتنا وسرورنا بأحوالنا وفرحنا بما حولنا مغرورين كغرور هذين المسكينين بما هما فيه، ونحن محقرين وجميع أحوالنا في أعين قوم آخرين كاحتقار هذين المسكينين عن أحوالنا.
قال الملك: فمَنْ هؤلاء القوم الذين زعمتَ أنه يصغر حالنا في أعينهم ويستحقرون أمرنا؟ قال: قوم يقال لهم النُّسَّاك، فقال الملك: أين بلدهم؟ ومن أي ناس هم؟ قال: هم من قبائل شتَّى متفرقين في المدن وفي الآفاق والبلاد يجمعهم دين واحد ومذهب واحد ورأي واحد.
قال: صِفْ لي مذهبهم وحالهم؟ قال: هم أمناء الله في خلقه وخلفاء أنبيائه وأئمة لعباده، وليس في الناس منهم إلا نفر يسير؛ لأنهم في الأنام كالملح في الطعام، بسؤالهم يُنْزِل الله القَطْر من السماء والبركات في الأرض، وبدعائهم يرفع الله عن العباد القحط والغلاء والوباء، ومنهم حُفَّاظ كتب الله وعلماء تأويلها.
فقال الملك: ومَنْ أنبياء الله؟ فقال الوزير: هم طائفة من بني آدم اصطفاهم من عباده وقرَّبهم وناجاهم وكشف لهم عن مكنون أسرار غيبه، وجعلهم أمناء وحيه وسفراء بينه وبين خلقه، أرسلهم من عالم الأرواح الذي في ملكوت السماء إلى عالم الكون والفساد في الأرض، وأنزل معهم الكتاب ليدعوا عباده إلى جواره في الجنة التي كان أبوهم آدم فيها تربى.
فقال الملك: وماذا يصفون من أحوال عالم الأرواح وملكوت السموات؟ قال: يقولون: إن هنالك فضاءً فسيحًا وأفلاكًا دوَّارة وكواكب سيَّارة وأنوارًا ساطعة وبهجة ونسيمًا وروحًا وريحانًا ونعيم الجنان والرضوان وجوار حور حسان وولدان وغلمان ومردان وطيب ونسيم لا يخالطها هجير الصيف وزمهرير الشتاء، ولا ظلمة الأجسام ولا فيئ الأجرام ولا مزاحمة في المكان وملك دائم وعز سرمد، وأهلها أحياء لا يموتون وشبان لا يهرمون، وأصحاء لا يمرضون وأغنياء لا يفتقرون، وجيران لا يتحاسدون وأصدقاء لا يختلفون، ونعيمهم لا يكدِّره بؤس ولذاتهم لا تخالطها آلام، وسرورهم لا تشوبه أحزان وفرحهم لا تدخله غموم ولا هموم ولا نوائب ولا حدثان ولا تغيير الزمان.
فقال الملك: وماذا يقولون؟ هل إلى هناك وصول؟ قال الوزير: لا يشكُّون أن مَنْ طلبها كما يجب وصل إليها.
قال الملك: فكيف وجه الطلب؟ وكيف المسلك؟ وكيف الوصول؟ فوصف له الوزير ما ذكرنا طرفًا منه في رسائلنا الناموسيات، وما أخبرت به الأنبياء عليهم السلام في كتبهم، وما أشار إليه الفلاسفة الحكماء في مرموزاتهم.
(٤) فصل قال الملك للوزير: متى عرفت هذه القصة …
فقال الملك للوزير: مذ متى عرفت هذه القصة واعتقدت هذا الرأي وعلمت هذا المذهب؟ فقال: من زمان. قال: فما الذي منعك أن تذاكرني بهذا الأمر الجليل العظيم الخطير في طول صحبتك معي؟ قال الوزير: إني لم أترك مذاكرة الملك بهذا الأمر الجليل؛ لأني بخلت عليك به أو لم أرَك أهلًا لذلك، ولكني تركته انتظارًا وطلبًا لفرصة توجب الخطاب وموضعًا للكلام؛ لأن النظر في هذا العلم والبحث عن تحقيق هذا الأمر والتصور له بكنه المعرفة يحتاج إلى قلب فارغ من أشغال الدنيا، ونفس صافية من العوارض المكدِّرة والآراء الفاسدة والعادات الرديئة، وهمة عالية في طلب الأمور الشريفة، والزهد في الشهوات الجسمانية المذمومة، وترك اللذات المحسوسة الجرمانية الفانية حتى يتصورها بحقها وصدقها؛ كي لا يكون المُقر بهذا الأمر مقلِّدًا كالعوام الذين لا يعلمون من القول إلا زورًا، ولا من العمل إلا ظاهرًا، ولا من العلوم إلا قشورًا، ولا من الدين إلا تعصبًا، وإن الملوك أكثر الناس أشغالًا في أمور الدنيا، وأطولهم آمالًا وأرغبهم في الخلود في الدنيا، وأكثرهم تمنِّيًا للبقاء فيها؛ لشدة تمكنهم من التمتع بنعيمها واستغراقهم في شهوات لذاتها، ولا يصلح للمذاكرة بهذا العلم إلا فتيان أذكياء لهم نفوس صافية وقلوب واعية بريئون من الآراء الفاسدة، غير معتادين للعادات الرديئة، أو مشايخ مهذبين في العلوم الرياضية مجرَّبين في الأمور السياسية، محبين للعلوم الإلهية غير متعصبين في المذاهب المختلفة والآراء المتناقضة، أو نفوس ملكية لها همم عالية في طلب مراتب الملائكة والأمور السماوية والمعقولات الروحانية والوجود المحض والبقاء الدائم والدوام السرمد.
واعلم أن صور هذه الحيوانات مع اختلاف أشكالها وسائر هيئاتها مثالات وأشباح لتلك الصور التي في عالم الأفلاك، غير أن هذه في هيولى جسمانية وتلك في جواهر روحانية، وما نسبة هذه الخلائق التي في عالم الكون والفساد وأحوالها بالإضافة إلى تلك الخلائق التي في عالم الأفلاك وأحوالها إلا كنسبة الصور المنقوشة على وجوه الحيطان وأبواب الحمامات بالأصباغ المختلفة، وكما أن تلك الصور مثل وأشباح للدواب المتحركة والحيوان الحساس، وأن تلك الصورة ميتة وهذه حية، كذلك تلك الخلائق روحانية وهذه جسمانية، وتلك شفافة وهذه مظلمة، وتلك باقية وهذه فانية، وتلك صافية وهذه كدرة، وتلك نورانية وهذه ظلمانية، وتلك حافظة وهذه فاسدة. قال الملك: لِمَ أُخْرِج آدم وزوجته وذريته من الجنة هناك وأُهْبِطوا إلى الأرض؟ قال: الجناية كانت منهما. قال: فحدِّثني كيف كانت القصة؟ قال: هي سر خفي لا يجوز كشفها، ولكن أضرب لك مثلًا تفهمه، ألَا ترى أيها الملك إلى عبدك الفلاني الذي ربَّيته صغيرًا ثم لما نشأ ونما أدَّبته وعلَّمته كثيرًا فلما كبر اصطفيته وفضَّلته وشرَّفته ثم ولَّيته بعض مملكتك وجعلته خليفة في بعض بلادك وأمرت بطاعته أكثر عبيدك ورعيتك ومنحته أكثر نعمك ونهيته عن معصيتك؛ فخالفك وترك وصيتك وارتكب نهيك، كيف حططت من مرتبته؟ وكيف تكشَّفت عورته؟ وكيف حبسته في حبسك هو ومَنْ ساعده على ذلك؟ ثم انظر كيف رضيت عنه لما ندم وتاب ورجع هو ومَنْ معه؟ وكيف رددته إلى حالته الأولى؟ وكيف صددت مَنْ لم يعرف ولم يرجع؟ فهكذا قياس آدم وإبليس وذريتهما، فقال الملك: أكل ذرية آدم جنَوا وعصَوا؟ قال: لا، ولكن كنا ذرية من بعدهم، فلما جاءت الأنبياء بالرسالة قامت الحجة علينا أن نقول يوم القيامة: إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ. قال الملك للوزير: ما يقول هؤلاء الرسل إذا بلَّغوا والأنبياء إذا أخبروا في أول دعوتهم للناس وتذكارهم لهم ما قد نسوه وإعلامهم إياهم ما قد جهلوه؟ فوصف له ما قد ذكرنا طرفًا منه في رسالة النواميس الإلهية. قال: وما يفعلونه؟ فوصف له ما قد ذكرنا طرفًا منه في اعتقاد إخوان الصفاء. قال: كيف عِشْرتهم مع أهل دعوتهم، وعِشْرة أهل دعوتهم بعضهم مع بعض؟ فوصف له ما قد ذكرنا طرفًا منه في رسالة عِشْرة إخوان الصفاء بعضهم مع بعض، فقال: في ماذا يتميَّز أهل دعوتهم من غيرهم؟ فوصف له ما قد ذكرنا طرفًا منه في رسالة خصال المؤمنين وشرائط الإيمان.
فقال: أخبِرْني عن كتب الأنبياء بأي لغة تكون؟ قال: بلغة القوم الذين نشئوا فيها وبألفاظ الذين بُعِثوا إليهم. فقال: فعرِّفني معاني ألفاظها؟ قال: يكون منها أخبار القرون الماضية وأحاديث الأمم السالفة وبدء خلق السموات والأرض وكيفية أطباقها، ووصف أصناف الخلائق فيهما وأخبار ما يأتي في الزمان المستقبل من حديث الأيام وتغييرات الدهور والأزمان وفناء عالم الأجسام، وكيفية نشء الآخرة والحشر والحساب والميزان والقصاص والجواز على الصراط والنجاة وما شاكلها من الأمر المنتظر في الزمان المستقبل، ويكون فيها الأوامر والنواهي والتعليم والتأديب، وبيان الحلال والحرام والحدود والأحكام والفرائض والسنن من الصوم والصلاة والزكاة والقربان وفنون التعبُّد بالترغيب إلى نعيم الجنان والمدح والثناء على أهل الخير والزجر والنهي عن المساوئ، والسرقة والجور في الأحكام، والوعيد بعذاب النيران بضروب الأمثال والإشارات والرموز، ويكون فيها آيات بيِّنات محكمات للقلوب وأمور متشابهات محيية للعقول. قال: فأخبِرْني أكلُّ أوامرهم ونواهيهم وتحريمهم وتحليلهم وفرائضهم وسننهم تكون متساوية؟ قال: لا، بل مختلفة. قال: لِمَ ذاك ومرسلهم واحد؟ قال: لأنهم أطباء النفوس ومنجموها، فمحرماتهم هي حمية النفوس، ومحللاتهم أدوية وشربات، وفنون التعبد هي المعالجات والمداواة، كل ذلك بحسبما يعرض للنفوس من الأمراض التي هي الآراء الفاسدة والأخلاق الرديئة والعادات الجائرة والجهالات المتراكمة، وكل ذلك بحسب اختلاف طبائع الأمم وأهوية البلدان وتغييرات الأزمان وموجبات أحكام النجوم ودلائل القرانات، كما بيَّنَّا في رسالة الأكوار والأدوار.
(٥) فصل وكان مما سأل الفتى ذلك الحكيم أيضًا أن قال له …
وكان مما سأل الفتى ذلك الحكيم أيضًا أن قال له: أخبرني ماذا يرى الحكماء في حال النفوس بعد مفارقتها الجسد على الشرائط التي ذكرت وصعودها إلى ملكوت السماء؟ هل تشتاق هذا الجسد أو تتمنى العود إليه؟ قال الحكيم: ذكروا أن ملكًا من الملوك كان له ابن كريم عليه، فزوَّجه بابنة ملك وزفَّها إليه على أحسن ما يكون من الكرامات كما تُزَف بنات الملوك، وأصلح للحاشية دعوة سبعة أيام لا يعرفون غير الأكل والشرب والغناء والفرح والسرور، وكان ابن الملك يقعد في صدر المجلس على سرير له وينظر إلى الناس وما هم فيه من الفرح والسرور، فلما مضى من الليل قطعة ونام أكثر الناس قام من مجلسه ليدخل الحجرة للخلوة عند العروس.
فاتفق ليلة أن نام أهل المجلس كلهم من السُّكْر وقام الفتى يمشي في الدار حتى خرج من باب الدار وجعل في الشارع، ومشى حتى خرج من المدينة فوقع في الصحراء ولم يدرِ أين هو؟
ثم إنه رأى ضوءًا من بعيد فذهب نحوه حتى قرب منه فإذا هو بباب مردود والضوء من داخله، فدفع الباب فإذا هو بقوم نيام مطروحين يمنةً ويسرةً، وكل واحد ملفوف في إزار، فظن أنها حجرة العروس، وأن أولئك النيام جواريها وخدمها فجعل يناديهم فلم يُجِبْه أحد منهم، فظن أن ذلك من شدة سُكْرهم فجعل يلتمس العروس من بينهم حتى وقعت يده على واحدة هي أطراهنَّ ثيابًا وأطيبهنَّ ريحًا؛ فظن أنها عروسه فاضطجع معها وعانقها وجعل طول الليل يبوسها ويمتص من ريقها ويتلذذ، ولا يرى أن تكون لذة أطيب مما هو فيه.
فلما أصبح وزال سُكْره نادى بالخادم فلم يُجِبه أحد، وجعل يحرك العروس فلا تجيبه ولا تنتبه.
فلما طال ذلك عليه فتح عينيه فإذا هو في ناووس خرب، وإذا أولئك النيام كلهم جيف الموتى، وإذا هو بجنب امرأة عجوز قد ماتت منذ قريب وعليها أكفان جدد وحنوط طري، وإذا الدم والصديد قد سال منها وتلوثت ثيابه وبدنه ووجهه من تلك الدماء والصديد والقاذورات!
فلما رأى ذلك الحال هال وورد عليه أمر مهول فقام مرعوبًا، وطلب الباب وخرج هاربًا متنكرًا؛ مخافة أن يراه أحد على تلك الصورة والحال ذاهبًا في طلب الماء؛ ليغسل ما به حتى إذا ورد إلى نهر نزع ثيابه ليغسلها من ذلك الدم والصديد من القاذورات وهو متفكر في أمر كيف كان خروجه من مجلسه ومنزله؟ ولا يدري أين هو من البلد؟ وما خبر أهله من بعده؟
فما زال كذلك حتى مرَّ به مجتازٌ في الطريق، فلما رآه لم يعرفه، فقال له: ما قصتك؟ ولِمَ أنت قاعد في الماء؟ فاستحى منه أن يعرِّفه خبره، فقال: زلقت في مزبلة وتلوثت ثيابي وأنا قاعد ها هنا منتظر إلى أن يتوجه إليَّ أهلي بثياب ألبسها، فقال له المجتاز: إن الناس في شغل عنك! فقال: ما الذي أصابهم؟ قال: يقولون: إن ابن الملك قد اختطفه الجن البارحة، وهم محزونون عليه متوحِّشون لفقده. فقال له: عندي خبر ابن الملك فهل لك أن تعيرني ثيابك ودابتك حتى أمر وأبشِّرهم به والبشارة بيني وبينك نصفان؟ فدفع الرجل إليه بعض ثيابه وأركبه دابته وأوصله إلى دار الملك، فدخل الغلام متنكرًا من باب الحجرة، فلما رأوه فرحوا به وسألوه عن خبره؟ فقال: القصة طويلة أُخبركم بها وقتًا آخر، عودوا إلى ما كنتم عليه، فعاد القوم إلى السرور والفرح أضعاف ما كانوا عليه، ثم قال الحكيم للفتى: ما تقول وما ترى؟ هل ذلك الغلام يريد بعد ما نجَّاه الله تعالى من مبيته تلك الليلة في الناووس العَود إليه ويشتاق إلى معانقتها — يعني تلك العجوز الميتة — ليلة أخرى؟ قال الفتى: لا. قال الحكيم: فهكذا يرى الحكماء حال النفوس بعد مفارقتها للأجساد وصعودها إلى ملكوت السماء أنها لا تشتاق إلى هذا الجسد، ولا تريد العود إليه، بل تأنف من الفكر فيه وتشمئز من فعله وذكره كما اشمأزَّت نفس الغلام من ذكر مبيته في الناووس تلك الليلة وما عليه من العار عند أبناء الملوك إن عرفوا حديثه.
(٦) فصل واعلم أيها الأخ البارُّ الرحيم أن لنا إخوانًا وأصدقاء من كرام الناس …
واعلم أيها الأخ البارُّ الرحيم، أنَّا لا نكتم أسرارنا عن الناس خوفًا من سطوة الملوك ذوي السلطنة الأرضية، ولا حذرًا من شغب جمهور العوام، ولكن صيانةً لمواهب الله، عز وجل، لنا كما أوصى المسيح عليه السلام، فقال: «لا تضعوا الحكمة عند غير أهلها فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم.»
واعلم أيها الأخ، أنَّا لا نحسد ملوك الأرضين ولا نتنافس في مراتب أبناء الدنيا، لكن نطلب الملك السماوي ومراتب الملائكة الذين هم أولو أجنحة مثنى وثلاث ورباع؛ لأن جوهرنا جوهر سماوي وعالمنا عالم علوي، ونحن ها هنا أسرى غرباء في أسْر الطبيعة، غرقى في بحر الهيولى بجناية كانت من أبينا آدم الأول حين خدعه عدوه اللعين إذ قال: هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى، فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وقيل لهم: اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ يعني أنتما وذريتكما وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ وقال: فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ.
واعلم أيها الأخ، أنه كما أن المعاونة تكون بقوة الأجسام على أمور الدنيا من أبلغ ما يكون لأبناء الدنيا فيما يريدون وأسهلها عليهم فيما يقصدون، وهكذا نرى أن المعاونة بين إخواننا بالعلوم والمعارف على أمر الدين وطلب الآخرة من أبلغ ما يقصدون وأسهلها عليهم فيما يريدون.
واعلم أننا لا نستعين بأحد من إخواننا على أمر الدين قبل أن نبذل له من المعاونة على أمر الدنيا، فإن كان مستغنيًا عن معاونتنا فذلك الذي نريد له، وإن كان محتاجًا إلينا فذلك الذي نريد منه، حتى إذا كفيناه ما يهمه من أمور دنياه وأفرغ لنا قلبه وأجمع لنا رأيه واستغنى عن ذلك بقوة نفسه وتمييز عقله وصفاء جوهره، فإن كان عنده علم ليس عندنا تعلمنا منه تعلُّم صبيان الكُتَّاب، واستمعنا منه استماع المنصتين لخطبة الخطيب يوم الجمعة، فإن كان حقًّا ما يقول اتبعناه اتباع المأموم والإمام، وإن كان يرغب فيما لدينا من العلم علمناه بحسب رغبته وطلبته.
(٧) فصل في أنَّا لا نعادي علمًا من العلوم
واعلم أيها الأخ، أنَّا لا نعادي علمًا من العلوم، ولا نتعصب على مذهب من المذاهب، ولا نهجر كتابًا من كتب الحكماء والفلاسفة مما وضعوه وألَّفوه في فنون العلم، وما استخرجوه بعقولهم وتفحُّصهم من لطيف المعاني.
وأما معتمدنا ومعوَّلنا وبناء أمرنا فعلى كتب الأنبياء، صلوات الله عليهم أجمعين، وما جاءوا به من التنزيل وما ألقت إليهم الملائكة من الأنباء والإلهام والوحي.
واعلم أيها الأخ أيَّدك الله وإيانا بروح منه، أن لنا كتبًا نقرؤها مما شاهدها الناس ولا يحسنون قراءتها، وهي صورة أشكال الموجودات بما هي عليه الآن من تركيب الأفلاك وأقسام البروج وحركات الكواكب وأمهات الأركان واختلاف جواهر المعادن وفنون أشكال النبات وعجائب هياكل الحيوانات، ولنا كتاب آخر لا يشاركنا فيه غيرنا ولا يفهمه سوانا؛ وهو معرفة جواهر النفوس ومراتب مقاماتها واستيلاء بعضها على بعض، وافتنان قواها وتأثيرات أفعالها في الأجسام من الأفلاك والكواكب والأركان والمعادن والنبات والحيوانات وطبقات الناس من الأنبياء والحكماء والملوك وأتباعهم والسوقة وأعوانهم، فإن نشطت أيها الأخ البارُّ الرحيم إلى قراءة هذه الكتب أنت وإخوانك لتعلم ما فيها وتفهم معانيها وتعرف أسرارها فهلمَّ إلى حضور مجلس إخوان لك فضلاء وأصدقاء لك كرام تسمع أقاويلهم وترى شمائلهم، وتعرف سيرتهم لعلك تتخلق بأخلاقهم وتتهذَّب بآدابهم فتنتبه نفسك من نوم الغفلة، وتستيقظ من رقدة الجهالة، وينشرح صدرك ويصفو ذهنك وتفتح عين البصيرة من قلبك، فترى ما قد أبصروه بعيون قلوبهم، وتشاهد ما قد عاينوه بصفاء جواهر نفوسهم، وتنظر إلى ما نظروا إليه بنور عقولهم، وتفهم معاني هذه الكتب الأربعة كما فهموها، وتؤيد بروح الحياة وتعيش عيش العلماء، وتحيا حياة الشهداء، وتوفَّق للصعود إلى ملكوت السماء، وتنظر إلى الملأ الأعلى اﻟ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
(٨) فصل في أنه لا يحسن بنا أن ندَّعي معرفة حقائق هذه الأشياء
واعلم أيها الأخ البارُّ الرحيم، أيَّدك الله وإيانا بروح منه، أنه لا يحسن بنا أن ندَّعي معرفة حقائق هذه الأشياء ونحن لا نعرف أنفسنا؛ لأن مثل مَنْ يدَّعي معرفة حقائق الأشياء ولا يعرف نفسه كمثل مَنْ يطعم الناس وهو جائع، وكمَنْ يكسو غيره وهو عريان، وكمن يداوي الناس وهو عليل، وكمن يهدي الناس إلى الطريق وهو لا يعرف طريق بيته، فقد علم أن الإنسان في مثل هذه الأشياء ينبغي له أن يبتدئ أولًا بنفسه ثم بغيره.
واعلم أيها الأخ البارُّ الرحيم، أيَّدك الله وإيانا بروح منه، أن كل واحد منا هو مركَّب ومؤلَّف من جوهرين متباينين متضادين: أحدهما هو هذا الجسد الغليظ المحسوس المؤلَّف من اللحم والدم والعظم والجلد والعصب والعروق وما يشاكل ذلك، وهذه كلها أجسام أرضية ميتة مظلمة فاسدة، وأما الجوهر الآخر فهو هذا الروح اللطيف؛ أعني النفس؛ فهو جوهرة سمائية روحانية نورانية علامة دراكة صور الأشياء.
واعلم أن هذا الجسد لهذه النفس في المثال بمنزلة دار تُسْكَن أو دابة تُرْكَب أو آلة تُسْتَعمل، وما دامت هذه النفس مع هذا الجسد مربوطة به إلى الوقت المعلوم فلا بد لنا من النظر فيما تصلح به معيشة الحياة الدنيا وما تُنال به النجاة والفوز في الآخرة.
واعلم أن هذين الأمرين لا يجتمعان ولا يتمَّان إلا بالمعاونة، والمعاونة لا تكون إلا بين اثنين أو أكثر من ذلك، وليس شيء أبلغ على المعاونة من أن تجتمع قوى الأجساد المتفرقة وتصير قوة واحدة، وتتفق تدابير النفوس المؤتلفة وتصير تدبيرًا واحدًا حتى تكون كلها كأنها جسد واحد ونفس واحدة، فعند ذلك تغلب كل مَنْ رام غلبتها، وتقهر كل مَنْ خالفها وضادَّها.
فهلمَّ بنا يا أخي، أيَّدك الله وإيانا بروح منه، لنجتمع ونتعاون على ذلك، وينبغي أن تعلم، أيها الأخ، أنه لا يجتمع اثنان على أمر من الأمور إلا ولاجتماعهما علة تجمعهما وسبب يحفظهما على تلك الحال، فما دامت تلك العلة باقية وذلك السبب ثابتًا دامت لهما تلك الحال، وإن بطلت تلك العلة وانقطع ذلك السبب تفرَّقا بعد اجتماعهما وتنافرا بعد إلْفهما.
واعلم أيها الأخ البارُّ الرحيم، أيَّدك الله وإيانا بروح منه، أنه ليس من جماعة يجتمعون على تعاون في أمر من أمور الدنيا والآخرة أشد نصيحة بعضهم لبعض من تعاون إخوان الصفاء، وينبغي أن تعلم أن العلة التي تجمع بين إخوان الصفاء هي أن يرى ويعلم كل واحد منهم أنه لا يتم له ما يريد من صلاح معيشة الدنيا ونيل الفوز والنجاة في الآخرة إلا بمعاونة كل واحد منهم لصاحبه، وأما السبب الذي يحفظهم على تلك الحال فهو المحبة والرحمة والشفقة والرفق من كل واحد منهم، والمساواة فيما يريد ويحب ويبغض ويكره لنفسه.
واعلم أن هذه الشرائط تتم وتدوم إذا علم كل واحد منهم بأن أنفسهم نفس واحدة وإن كانت أجسادهم متفرقة.
واعلم أيها الأخ، أن أكثر الناس يريدون ويتمنون أن تكون بينهم صلة وصداقة وأخوَّة لا تكدِّرها تصاريف الزمان، ولكنهم لا يعرفون ما العلة المانعة لهم عن ذلك؟ وما السبب الموجِب لكونها؟
فينبغي أن تعلم أيها الأخ أن المانع للناس أن يكونوا أصدقاء والمانع للأصدقاء أن يكونوا إخوانًا أصفياء على ما يقتضيه العقل هو إما علة غير موجودة، وإما سبب غير مفقود.
فإن كانت علة غير موجودة فما هي لنطلبها؟ وإن كان سببًا غير مفقود فما هو لنقطعه ونزيله؟
وينبغي أن تعلم أيها الأخ، أن المانع من ذلك هو أسباب موجودة نحتاج أن نقلع عن تلك الأسباب حسب لا غير، وهي أربعة أجناس: أحدها سوء أعمالهم، والثاني فساد آرائهم، والثالث رداءة أخلاقهم، والرابع تراكم جهالاتهم.
واعلم أن سوء أعمالهم يكون بحسب آرائهم الفاسدة التي اعتقدوها قبل بحثهم حقائق الأشياء، وأن آراءهم الفاسدة استحكمت في ضمائرهم بحسب أخلاقهم الرديئة التي اعتادوها منذ الصبا، وأن أخلاقهم انطبعت في نفوسهم بحسب جهالتهم المتراكمة التي غشيتهم في أول الأمر.
فينبغي لنا، أيها الأخ، أن نعلم أنه إذا أردنا أن نكون إخوانًا أصفياء أن نبتدئ أولًا بالكشف عن الجهالات المتراكمة التي غشيتنا من أول الأمر؛ إذ هي الأصل في الشرور.
واعلم أن الجهالات التي غشيتنا المانعة لنا من الصداقة وصفوة الأخوة هي أربع جهالات: إحداها أنهم لا يعرفون ما الفرق بين النفس والجسد، والثانية أنهم لا يدركون كيف رباط النفس بالجسد؟ والثالثة أنهم لا يدرون لِمَ رُبِطَت بالجسد؟ والرابع أنهم لا يدرون كيف تنبعث النفس من الجسد؟ فلا جرم أن النفس ما لم تنبعث من الجسد فلا تعرف الفوز والنجاة والخلود في النعيم مخلدة في الجحيم في عذاب أليم.
وينبغي لنا، أيها الأخ، بعد اجتماعنا على الشرائط التي تقدمت من صفوة الإخوان أن نتعاون ونجمع قوة أجسادنا ونجعلها قوة واحدة، ونرتِّب تدبير نفوسنا تدبيرًا واحدًا، ونبني مدينة فاضلة روحانية، ويكون بناء هذه المدينة في مملكة صاحب الناموس الأكبر الذي يملك النفوس والأجساد؛ لأن مَنْ ملك النفوس ملك الأجساد، ومَنْ لم يملك النفوس لم يملك الأجساد.
وينبغي أن يكون أهل هذه المدينة قومًا أخيارًا حكماء فضلاء مستبصرين بأمور النفوس وحالاتها وما يتبع ذلك من أمور الأجساد وحالاتها.
وينبغي أن يكون لأهل المدينة سيرة جميلة كريمة حسنة يتعاملون بها فيما بينهم، وأن يكون لهم سيرة أخرى يعاملون بها أهل المدن الجائرة، ولا ينبغي أن يكون بناء هذه المدينة في الأرض حيث تكون أخلاق أهل سائر المدن الجائرة، ولا ينبغي أيضًا أن يكون بناؤها على وجه الماء؛ لأنه يصيبها من الأمواج والاضطراب ما يصيب أهل المدن التي على السواحل من البحار، ولا ينبغي أن يكون بناء هذه المدينة في الهواء مرتفعًا؛ لكيلا يصعد إليها دخان المدن الجائرة فتكدر أهويتها، وينبغي أن تكون مشرفة على سائر المدن؛ ليكون أهلها يشاهدون حالات أهل سائر المدن في دائم الأوقات، وينبغي أن يكون أساس هذه المدينة على تقوى الله؛ كيلا ينهار بناؤها، وأن يُشيَّد بناؤها على الصدق في الأقاويل والتصديق في الضمائر، وتتم أركانها على الوفاء والأمانة؛ كيما يدوم ويكون كمالها على الغرض في الغاية القصوى التي هي الخلود في النعيم.
فإذا فرغنا من بنائها بنينا المركب الذي هو سفينة النجاة حتى تكون السفينة مستقلة بثقل الأجساد، وتكون المدينة مأوى الأرواح.
وينبغي أن يكون تعاون أهل المدينة مرتَّبًا أربع مراتب: إحداها مرتبة أرباب الأركان الأربعة ذوي الصنائع، والثاني مرتبة ذوي الرياسات، والثالثة مرتبة الملوك ذوي الأمر والنهي، والرابعة مرتبة الإلهيين ذوي المشيئة والإرادة.
فإذا انتظم أمر المدينة على هذه الشرائط فهي السيرة الكريمة الحسنة التي يتعامل بها أهل المدينة فيما بينهم.
(٩) فصل في اعلم يا أخي أن هذه المدينة مفروغ من بنائها على هذا الوصف …
واعلم أيها الأخ، علمًا يقينًا أن هذه المدينة مفروغ من بنائها على هذا الوصف، ولكن لا يمكن أحد أن يدخل مدينتنا هذه متى لم يكن علمه مساويًا لعلمنا؛ لأن حولها أربعة أسوار مبنية من جهالات الناس، ما بين كل سورين خندق من سوء أعمالهم وفساد آرائهم ورداءة أخلاقهم، وقد ذكرنا ذلك فيما تقدَّم، فمَنْ عزم على دخولها فعليه بعلم النفس ومعرفة جوهرها فإنه أولى بأن يستفتح من مدينتنا.
وقد بيَّنَّا كل ما يحتاج إخواننا، أيَّدهم الله، إليه من هذا العلم في إحدى وخمسين رسالة، فانظر فيها، أيها الأخ، إن لم يكن يستوي لك الحضور في مجلسنا، واعرضها على إخوانك الذين ترتضيهم وتأنس منهم الرشد والسداد، فلعلكم توفَّقون لفهم معاني ما ذكرنا فيها من معاني فنون العلم وغرائب الحكم، وترشدون إلى العمل بما يقرِّبكم إلى الله زلفى وينجيكم من نار جهنم عالم الكون والفساد، وتهتدون للصعود إلى ملكوت السماء عالم الأفلاك، والدخول في زمرة الملائكة الذين يَحمِلون العرش ومن حوله يسبِّحون بحمد ربهم ويُؤمِنون به ويستَغفِرون للذين آمنوا … الآيات إلى قوله: وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.
وفوق هذه المرتبة مرتبة الرؤساء ذوي السياسة وهي مراعاة الإخوان وسخاء النفس وإعطاء الفيض بالشفقة والرحمة والتحنُّن على الإخوان، وهي القوة الحكمية الواردة على القوة العاقلة بعد ثلاثين سنة من مولد الجسد، وإليه أشار بقوله تعالى: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وهم الذين نسميهم في رسائلنا: إخواننا الأخيار الفضلاء.
والمرتبة الثالثة فوق هذه وهي مرتبة الملوك ذوي السلطان والأمر والنهي والنصر والقيام بدفع العناد والخلاف عند ظهور المعاند المخالف لهذا الأمر بالرفق واللطف والمداراة في إصلاحه، وهي القوة الناموسية الواردة على النفس بعد مولد الجسد بأربعين سنة، وإليها أشار بقوله تعالى: إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ الآية، وهم الذين نسميهم في رسائلنا: إخواننا الفضلاء الكرام.
والرابعة فوق هذه وهي التي ندعو إليها إخواننا كلهم في أي مرتبة كانوا، وهي التسليم وقبول التأييد ومشاهدة الحق عيانًا، وهي القوة الملكية الواردة بعد خمسين سنة من مولد الجسد، وهي الممهِّدة للمعاد والمقرِّبة بمفارقة الهيولى، وعليها ترد قوة المعراج وبها تصعد إلى ملكوت السماء فتشاهد أحوال القيامة من البعث والحشر والنشر والحساب والميزان والجواز على الصراط، والنجاة من النيران ودخول الجنان، ومجاورة الرحمن ذي الجلال والإكرام.
وإلى هذه المرتبة أشار بقوله تعالى: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً الآية.
وإليها أشار إبراهيم عليه السلام: وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ.
وإليها أشار بقوله يوسف عليه السلام: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ الآية.
وإليها أشار بقوله المسيح عليه السلام، للحواريين: «إني إذا فارقت جسدي — وهو هذا الهيكل — فأنا واقف في الهواء عن يمين العرش بين يدي الحق أبي وأبيكم أستشفع لكم، فاذهبوا إلى الملوك في الأطراف وادعوهم إلى الله عز وجل ولا تهابوهم؛ فإني معكم حيث ما ذهبتم بالنصر والتأييد لكم.»
وإليها أشار محمد ﷺ: «إنكم تردون غدًا.» وأحاديث مروية كلها مشهورة عند أصحاب الحديث.
وإليها أشار سقراط بقوله يوم سُقِي السم: إني وإن كنت أفارقكم إخوانًا فضلاء فإني ذاهب إلى إخوان كرام قد تقدَّمونا في حديث طويل.
وإليها أشار فيثاغورث في الرسالة الذهبية في آخرها: «إنك إن فعلت ما أوصيك فإنك عند مفارقة الجسد تبقى في الهواء.»
وإليها أشار بلوهرحين قال: «إن الملك قال لوزيره: ومَنْ أهل هذه المقالة؟ قال: هم الذين يعرفون ملكوت السماء.» في حديث طويل.
وإليها ندعو إخواننا جميعًا والله يهدي مَنْ يشاء إلى صراط مستقيم، وآيات كثيرة في هذا المعنى وهي كل آية فيها صفة الجنان وأهلها ونعيمها.
(١٠) فصل في أن المطلوب من المدعوين إلى هذا الأمر أربعة أحوال
واعلم أيها الأخ البارُّ الرحيم، أيَّدك الله وإيانا بروح منه، أن المطلوب من المدعوين إلى هذا الأمر أربعة أحوال: أولها الإقرار باللسان، والثاني التصور لهذا الأمر بضروب الأمثال للوضوح والبيان، والثالث التصديق له بالضمير والاعتقاد، والرابع التحقيق له بالاجتهاد في الأعمال المشاكِلة لهذا الأمر.
واعلم أن المُقرَّ باللسان غير متصوِّر له يكون مقلدًا، والمتصوِّر له غير المصدِّق به يكون شاكًّا متحيرًا، والمصدِّق به غير المحقِّق له بالاجتهاد في العمل المُشاكل لهذا الأمر يكون مقصِّرًا ومفرِّطًا، والمكذِّب باللسان لهذا الأمر المنكر له بقلبه يكون جاحدًا كافرًا، كما قال الله تعالى: فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ، لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ.
واعلم أن المُقِرَّ بهذا الأمر بلسانه المتصور له بقلبه على حقيقة يجد من نفسه أربع خصال لم يكن يعرفها قبل: إحداها قوة النفس بالنهوض من الجسد، والثانية النشاط في طلب الخلاص من الهيولى التي هي جهنم النفس، والثالثة الرجاء والأمل للفوز والنجاة عند مفارقة النفس الجسد، والرابعة الثقة بالله واليقين بتمام هذا الأمر وكماله.
(١١) فصل في أن كل مقر بهذا القرآن وبكتب الأنبياء …
واعلم أن كل مقر بهذا القرآن وبكتب الأنبياء عليهم السلام وأخبارهم عن الغيب فإنهم في ذلك على أربع منازل: إما مُقِرٌّ بلسانه غير مصدِّق بقلبه، أو مقر بلسانه ومصدِّق بقلبه غير عارف بمعانيه وبيانه، أو مصدِّق ومقر ومتيقن عارف ولكن غير قائم بواجب حقه.
فالمُقِرُّ بلسانه غير المصدق بقلبه هو الذي قد رُزِق من الفهم والتمييز قليلًا، فإذا فكَّرة بقلبه وميَّز ببصيرته ما يدل عليه ظاهر ألفاظ الكتب النبوية لا يقبله عقله أنه لا يتصور معانيها اللطيفة وإشارتها الخفية فينكرها بقلبه ويشك فيها.
وأما مَنْ أقرَّ بلسانه وصدَّق بقلبه فهو الذي يتفكر ويعلم أن مثل هذا الأمر الجليل الذي قد اتفقت على حقيقته الأنبياء والأئمة المهديون والخلفاء الراشدون وصالحو المؤمنين، وأقر به فضلاء الناس والمميزون والمستبصرون لا يجوز أن يكون لا حقيقة له، ولكن فهمه وتمييزه وعقله يقصر عن إدراكه وتصوره لها بحقائقها.
وأما مَنْ عرف بيانه ولكن قصَّر عن القيام بواجبه وهو الذي وفَّقه الله وأرشده وهداه فاهتدى لحقائق هذه الأسرار المذكورة في كتب الأنبياء، صلوات الله عليهم، ولكنه لا يجد المعين له على القيام بنصرتها وواجب حقها؛ لأنه واحد وليس كل أمر يتم بواحد من الناس، بل ربما يحتاج فيها إلى الجمع العظيم، وخاصة أمر الناموس، وأقل ما يحتاج فيه إلى أربعين خصلة تجتمع في أحد من الأشخاص، أو أربعين شخصًا مؤتلفي القلوب.
(١٢) فصل في خطاب المتفلسفين الشاكِّين في أمر الشريعة الغافلين عن أسرار الكتب النبوية
قد فهمنا أيها الأخ الرحيم، أيَّدك الله وإيانا بروح منه، ما ذكرته مما جرى بينك وبين أخ من إخواننا من المذاكرة والبحث عن مبادئ الموجودات وعلل الكائنات، وما شكوت من صعوبة انقياده إليه من صفوة الإخوة والمعاونة على نصرة الأديان النبوية، وما وصفت من شدة استغراقه في الآراء الفلسفية وإعراضه عن معرفة أسرار الكتب الإلهية وتفاسير التنزيلات النبوية ومعاني موضوعات الشرائع الناموسية، وما تتضمنه من المنافع الجليلة والأغراض البعيدة للنفوس المستبصرة من الدلالة لها على الارتقاء إلى المراتب العالية، والخلاص من نيران الهاوية، وما ذكرت من اعتماده في البصائر والمعارف على ما يدركه عقله وتمييزه وبصيرته ويؤدي إليه اجتهاده، وما قلت من تعلقه بأقاويل الفلاسفة في آرائهم المختلفة وقياساتهم المتناقضة على أصول لهم متغايرة.
فاصبر عليه، أيها الأخ، ودارِهِ بالرفق وذاكرْه بهذه الرسالة، فلعله يتقرر في نفسه ما تدعوه إليه، ويتصور في عقله ما تشير إليه من الأسرار المصونة المكنونة التي لا يمسها إلا المطهرون، فقل له: أخبِرْنا أيها الأخ أمُقِرٌّ أنت بما جاءت به الأنبياء، عليهم السلام، في تنزيلاتهم من أخبار الملائكة وقصة إبليس والجان وحديث آدم وبدء خلقه وسجود الملائكة له وأخذ الميثاق على ذريته وما شاكل ذلك من حديث القيامة والبعث والحشر والحساب والميزان والجواز على الصراط، والنجاة من النار والثواب والفوز والجنة ونعيمها وأشباهها مما هو مذكور في التوراة والإنجيل والفرقان وغيرها من صحف الأنبياء، عليهم السلام، أم جاحد بها؟
فإن كنت مقرًّا بها أو ببعضها فأخبِرْنا أمصدِّق متيقن بحقائقها؟ أم شاكٌّ متحير في معانيها؟
فإن كنت مصدِّقًا متيقنًا فأخبِرْنا أعالمٌ أنت عارف بها أو غافل ساهٍ عنها؟ فإن كنت عارفًا عالمًا بها فأخبِرْنا عن الجنة والنار، وهل هما موجودان في وقتنا هذا أم غير موجودين؟ فإن كانا موجودين فقل لنا: أين هما؟ وصِفْ لنا كيفيتهما؟ وإن قلت: إنهما غير موجودين فما معنى قوله: يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ؟ وما معنى قوله: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا؟ وما معنى قول النبي: «إن أرواح الشهداء في الجنة»؟ وما معنى المعراج ورؤية النبي ﷺ لرضوان خازن الجنان ومالك خازن النيران؟ وما معنى قول النبي ﷺ: «حرام على كل نفس أن تموت أو ترى مقعدها في الجنة أو النار»؟ وما معنى قوله: «مَنْ مات فقد قامت قيامه»؟ وما معنى قوله تعالى: وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ الآية، وما معنى قوله: وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ؟ وما معنى قوله: وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ الآية، وما معنى قوله: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ الآية، وقوله: إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا وما شاكل هذه المسائل لو سألناك لطال عليك الخطاب.
(١٣) فصل في أن لكل مذهب وأهله رأيًا ينفردون به
اعلم أيها الأخ، أن لكل مذهب وأهله رأيًا ينفردون به عن غيرهم وعلماء وفقهاء يتدارسونه فيما بينهم، وإن مِنْ رأي إخواننا، أيَّدهم الله، أن هذه الأشياء كلها موجودة منذ خلق الله السموات والأرض ولكن أكثر الناس لا يعلمون، وهم ينتظرون كونها في الزمان المستقبل وهم أهل التقليد الذين هم من أمر الدين على العمى.
وأما أهل البصيرة الذين هم من أمر الدين على بيان ويقين ومعرفة فهم ينتظرون بها انتظار الكشف والبيان كما رأى النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ليلة المعراج.
وقد بيَّنَّا في رسائلنا هذه المعاني، فإن كنت تعرف منها أيها الأخ فبيِّن لنا علم هذا على أصل تعرفه على قياس واحد لا يجب أن تعدل عنه إذا سألناك، ولا تقلِّد أقاويل الفلاسفة المختلفي الآراء المتناقضي الأقاويل.
فقد رُوِيَ أنه ذُكِر في مجلس النبي ﷺ أرسطاطاليس فقال النبي عليه السلام: «لو عاش حتى يعرف ما جئت به لاتبعني على ديني.»
فينبغي لمن هو مُتَزَيٍّ بزيِّ المسلمين ومعتصمٌ بعروة الإسلام منسوب إلى أمة محمد ﷺ مُقِرٌّ بما جاء به من التنزيل وما في تنزيله من أخبار أمور قد مضت مع الزمان الماضي، مثل بدء كون العالم وخلق السموات والأرض وحديث آدم وقصة إبليس وعصيانه وسجود الملائكة وطاعتهم، وأخذ الميثاق على ذرية آدم وما شاكل ذلك من نظائره مما هو موجود في التوراة والإنجيل وصحف الأنبياء الأولين، وإنذارهم أممهم بأمر القيامة وأخبار البعث والنشور والحشر والحساب والميزان والقصاص والجواز على الصراط والنجاة من النار والفوز بالجنة ونعيم أهلها والنار وأليم عذابها وما شاكل ذلك من الأمور المنتظرة في الزمان المستقبل. وقد دُعينا إلى الإقرار بها والاستعداد لها، فمَنْ أعرض عنها كلها حتى لا يعرف من حقائقها حرفًا واحدًا غير الإقرار باللسان مع حيرة في نفسه وشكوك في قلبه، ومع هذه كلها يدَّعي معرفة أسرار الكتب الفلسفية، ورموزات الفلاسفة وتدقيق المعاني التي فيها مع كثرة اختلافاتهم ومناقضات بعضهم لبعض مع حيرة أتباعهم فيها، ولا ينظر ولا يتفكر أن الأنبياء كلهم — مع تباعد الأزمان فيما بينهم ومع اختلافات لغاتهم وموضوعات شرائعهم وافتنان سننهم — كيف هم متفقون على رأي واحد ودين واحد ومقصد واحد فيما يشيرون إليه في دعوتهم الأمم إلى أمر الآخرة وأحوال القيامة وجزاء الأعمال فيها إنْ خيرًا فخيرًا وإن شرًّا فشرًّا.
وقد بيَّنَّا في الرسالة الثالثة الرأي الذي يتفقون عليه؛ أعني الأنبياء كلهم، وهي اثنتا عشرة خصلة هي العمدة والأصل فيما يدعون إليه من الدين وإن اختلفت شرائعهم وسننهم، كما ذكر الله تعالى فقال: أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ وقال: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللهُ … الآية.
فدين الأنبياء دين واحد ومسلكهم جميعًا مسلك واحد ومقصدهم مقصد واحد وغرض واحد وإن اختلفت شرائعهم، صلوات الله عليهم.
وأما الفلاسفة فليست شريعتهم واحدة ولا دينهم واحد فكيف يرضى العاقل عن أسرار كتب الفلاسفة مع اختلافهم ويُعْرِض عن البحث وعن معرفة أسرار كتب الأنبياء عليهم السلام مع اتفاقها؟!
واعلم أيها الأخ، أنه إنما ذهب على أكثر المتفلسفين والباحثين عن حقائق الأشياء معرفة كتب الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، لتركهم البحث عنها وإعراضهم عن النظر فيها، ولقصور فهمهم عن تصورها؛ لأنها مأخوذة عن الملائكة الذين هم في الملأ الأعلى وأهل السموات وسكان الأفلاك.
(١٤) فصل في خطاب الشاكِّين في أمر النفس المتحيرين في اختلاف أقاويل العلماء فيها
وقد علمنا، أيها الأخ، ما ذكرت مما جرى بينك وبين شيخ من مشايخنا من المذاكرة في أمر النفس وماهية جوهرها وكيفية وجودها وأين مكانها من الجسد؟ وما علة رباطها معه؟ وكيف تكون مفارقتها للجسد؟ والذي أنكره من معرفة جوهرها بقوله: هذا علم لا يمكن أن يُعْلَم، واحتج بقول جالينوس إذ يقول: «إني لا أدري ما جوهر النفس؟» وقوله: «إذ لست أعلم من جالينوس.» والذي نسألك أيها الأخ أن تتفضَّل وتتلقَّاه وتقرأ عليه السلام وتعرف شدة شوقنا إليه ومطالعتنا وتشوقنا إلى معرفة أخباره أطابها الله، ورغبتنا في مشاهدته ومجاورته وتبلغه عنا ما ألقينا إليك من الجواب فيما سألناك، وهو أن تقول له: هل يتفضَّل سيدنا الشيخ ويعيننا بجودة رأيه وقوة نفسه وصفاء جوهره ويفرِّغ لنا قلبه ساعة ويجمع لنا همته ولا يشغل أفكارنا بالشبهة التي يوردها علينا من أقاويل الفلاسفة واختلاف آرائهم وروايات العلماء وأسانيدهم وتشبيهات الشعراء وترتيباتهم وأحاديث العوام وتشغيباتهم، وينصفنا في القول ويناصحنا في الضمير ويجعل الحاكم بيننا وبينه العقل الذي قد رضينا بحكمه وموجبات قضاياه؟ فإنَّا إذا سألناه أو سأل هو واحدًا منا فقال له: ما أنت؟ وما حقيقتك؟ ومَنْ هذا الذي هو يكلِّمني ويسمع مني ويفهمني ويستفهم مني؟ أفترى ترضى منا الجواب بأن نقول:
إنه هو الجسد الذي ترى المحسوس المؤلَّف من اللحم والدم والعظام والعصب وما شاكلها، المبني كأنه منارة رهبان إذا وقع لا يمكنه أن يقوم، وإن تُرِك فلا يمكنه أن يتحرك، وإذا نام لا يحس بأنه موجود، وإن انتبه فلا يدري أين كان؟ فجائز في العقل أن مَنْ هذا حاله يستحق أن يُسأل عن خفيات الأمور مع المحسوسات والمعقولات وما غاب عن الحواس بالمكان وما مضى كونه مع الزمان، وما يكون في المستقبل من الكائنات، أو يستأهل أن يُسمع منه قوله إذا أخبر عن تركيب الأفلاك ونظامها وأقسام البروج وأوصافها وحركات الكواكب ومجاريها، وعن أركان الأمهات وطبائعها، واختلاف جواهر المعادن وخواصها، وفنون أشكال النبات ومنافعها، وعجائب هياكل الحيوانات واختلاف أخلاقها وأصواتها؟! فيا عجبًا ممن يظن أن هذه الأشياء كلها يعلمها هذا الجسد الجاهل المؤلف! أو يرى أن هذا المخبر عن هذه الأشياء هذا الجسم الطويل العريض العميق الأعمى الأصم الأخرس الذي لا يحس ذاته ولا يشعر بوجود نفسه، فكيف يجوز أن يعلم هذه الأشياء العجيبة النائية عن ذاته الغائبة عن حواسه، وهو لا يعلم ذاته ولا يحس بوجود نفسه؟! هيهات بعد الصواب من ظن أن هذه العلوم يعلمها هذا الجسد المؤلَّف من اللحم المستحيل الفاسد.
واعلم أيها الأخ، أن الإنسان الباحث عن أمر النفس الطالب معرفة جوهرها لو أنه أنصف عقله ورجع إلى حكمه وقبِل قضاياه وفكَّر في نفسه وتأمل بتمييزه، وتصفَّح حالات جسده من القيام والقعود والحركة والسكون والنوم واليقظة والحياة والممات؛ لاستبان له أن مع هذا الجسد جوهرًا آخر هو أشرف منه، وأن هذا الجسد بالنسبة إليه ما هو إلا كدارٍ مبنية فيها ساكن، أو كدُكَّان فيه صانع، أو كسفينة فيها ملاح، أو كدابَّة عليها راكب، أو كقميص ملبوس، أو كلوح في يد صبي في المكتب، أو كمدينة فيها ملك.
وبالجملة ينبغي لمن أراد أن يعرف النفس قبل معرفتها أن يبحث عن أمرها ويطلب علمها بسبعة مباحث: أحدها يبحث هل النفس شيء من الأشياء الموجودات أو هذه تسمية فارغة لا معنى تحتها؟ وقد بيَّنَّا في رسالة البرهان وجودها، والثاني يبحث هل هي عَرَض كما بيَّنَّا في رسالة لنا، والثالث يبحث كم هي أجناس النفوس الموجودات في العالم كما بيَّنَّا في رسالة قول الحكماء: الإنسان عالم كبير، والرابع يبحث كيف يكون رباط النفس مع الجسد كما بيَّنَّا في رسالة تركيب الجسد، والخامس يبحث أين كانت النفس قبل رباطها بالأجساد كما بيَّنَّا في رسالة مسقط النطفة، والسادس يبحث عنها إذا فارقت أجسادها أين تكون كما بيَّنَّا في رسالة البعث والقيامة، والسابع يبحث ما الغرض في كونها مع الأجساد تارةً ومفارقتها تارةً؟ كما بيَّنَّا في رسالة أن الإنسان عالم صغير، فإن رأى الشيخ أن يتأمل وينظر فيها ويتأمل معانيها فعل.
(١٥) فصل في مهنة النفوس وعشقها للأجسام
واعلم أيها الأخ، أن مثل هذه النفس الجزئية مع شرف جوهرها وما هي عليه من غربتها في هذا العالم الجسماني، وما قد ابتليت به من آفات هذا الجسد وفساد هيولاه كمثل رجل حكيم في بلد الغربة قد ابتُلِي بعشق امرأة رعناء فاجرة جاهلة سيئة الأخلاق رديئة الطبع، وهي في دائم الأوقات تطالبه بالمأكولات الطيبة والمشروبات اللذيذة والملبوسات الفاخرة والمسكن المزخرف والشهوات المُرْدِية، وإن ذلك الحكيم من شدة محبته لها وعِظَم بلائه بصحبتها قد صرف كل همته إلى إصلاح أمرها، وأكثر عنايته بتدبير شأنها حتى قد نسي أمر نفسه وإصلاح شأنه وبلدته التي خرج منها وأقربائه الذين نشأ معهم أولًا ونعمته التي كان فيها بديًّا.
واعلم أيها الأخ البارُّ الرحيم، أن جوهر النفس جوهرة سماوية وعالمها عالم روحاني، وهي حية بذاتها غير محتاجة إلى الأكل والشرب واللباس والمسكن وما شاكل ذلك مما يحتاج إليه الجسد في قوام وجوده ومادة بقائه، وأن كل ما يحتاج إليه الإنسان من أعراض هذه الدنيا إنما هو من أجل هذا الجسد المستحيل الفاسد ولإصلاحه وقوامه وجر المنفعة إليه ودفع المضرة عنه الذي لا يثبت على حال واحدة طرفة عين، وأن النفس ما دامت مع الجسد إلى الوقت المعلوم متعوبة بكثرة همومها لإصلاح أمر هذا الجسد وشغلها بشدة عنايتها به فيما تتكلَّف من الأعمال الشاقة والصنائع المتعبة من اكتساب المال والمتاع والأثاث، وما يحتاج إليه الإنسان في طول الحياة الدنيا، وأن النفس لا راحة لها دون مفارقتها لهذا الجسد، كما أن ذلك الرجل الحكيم المبتلى بعشق تلك المرأة الفاجرة الرعناء لا راحة له ممن قد ابتُلي بها إلا بمفارقتها والتسلِّي عنها وعن حبها وعشقها.
(١٦) فصل في مهنة النفوس وإخراجها من عالم الأرواح لجناية كانت منها
اعلم أيها الأخ، أن النفس الجزئية لما أُهْبِطَت من عالمها الروحاني، وأُسْقِطت من مرتبتها العالية للجناية، وغرقت في بحر الهيولى وغاصت في قعر أمواج الأجسام وقيل لها: انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ فغرقت في هياكل الأجسام وتفرقت بعد وصلتها، وتشتت شمل أُلْفتها كما ذكر الله عز وجل اسمه، بقوله: اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا الآية إلى قوله: وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ عرض لها عند ذلك من الدهشة والأهوال والمصائب مثل ما عرض لقوم من رُكَّاب البحر لما اشتدت بهم الريح واضطرب بهم البحر، وهاجت بهم الأمواج وكُسِر بهم المركب وغرقوا في قعر البحار وغاصوا في ظلمات الماء، وتفرَّقوا في كل فجٍّ عميق من الجزائر والسواحل وبطون الحيتان.
فكما أن أولئك القوم في الوقت الذي انكسر بهم المركب تراهم بين غائص في الماء أو طافٍ أو متعلق بخشبة أو بحبل أو يركب بعضهم كتف بعض يقول كل واحد: نفسي نفسي، من شدة الأهوال لا يفكر لغيره ولا يريد النجاة إلا لنفسه، ولا يهمه سواها ولا يذكر شيئًا مما كان فيه قبلًا، فهكذا حال النفوس في هذه الدنيا وكونها مع هذه الأجساد، وما ابتُلِيَت به من ظلمات هذه الأجساد من هموم المعاش وخوف الجوع وألم العطش وأوجاع الأمراض والأسقام وأذية الحر والبرد وفضيحة العري وأحزان النوائب وجل المخاوف وعوارض التلف والحسرات والأسف.
فمن أجل هذه الشدائد والمصائب صارت النفس لا تذكر شيئًا مما كانت فيه من أمر عالمها ومبدئها ومعادها كما قال الله جل ذكره، بقوله: وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ.
واعلم أيها الأخ، أن النفس إذا انتبهت من نوم الغفلة واستيقظت من رقدة الجهالة، وأبصرت ذاتها وعرفت جوهرها وأحسَّت بغربتها في عالم الأجسام ومحنتها وغرقها في بحر الهيولى، وأَسْرها بالشهوات الطبيعية، وعاينت عالمها واستبان لها فضل نعيمها على اللذات الجسمانية، وتنسَّمت بروح عالمها وريحانها؛ اشتاقت إلى هناك ومالت إلى الكون في ذلك العالم، ومقتت الكون مع الأجساد، وزهدت في نعيم الدنيا وتمنَّت الموت الذي هو مفارقة الجسد والخروج من ظلمة الأجسام، فيكون مثلها عند ذلك كمثَلِ قوم خرجوا من الحبس والمطامير مع ضوء الصبح فشاهدوا هذا العالم بما فيه دفعة واحدة.
وأما النفوس غير المستبصرة فمثَلُها كمثَلِ العميان سواء عندهم ضوء النهار وظلمة الليل.
واعلم أن النفس إذا لم تستبصر ذاتها ولم تعرف جوهرها ومبدأها ومعادها، ولم تحس بغربتها وما هي عليه في هذه الدنيا من المحنة والبلوى ما دام يمكنها البحث والاجتهاد في التعلم، ولها تمييز وعقل وحواس صحيحة، ويمكنها الاعتبار والفحص والبيان فلم تجتهد حتى بقيت عمياء إلى الممات؛ فهي بعد الممات أعمى وأضل سبيلًا، كما ذكر الله تعالى: وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا أعاذنا الله وإياك أيها الأخ وجميع إخواننا من هذه الصفة إنه ودود رءوف رحيم.
(١٧) فصل في أنَّا قد عملنا إحدى وخمسين رسالة في فنون الآداب …
واعلم يا أخي أنَّا قد عملنا إحدى وخمسين رسالة في فنون الآداب وغرائب العلوم وطرائف الحكم، كل واحدة منها شبه المدخل والمقدمات والأنموذج؛ لكيما إذا نظر فيها إخواننا وسمع قراءتها أهل شيعتنا، وفهموا بعض معانيها، وعرفوا حقيقة ما هم مقرُّون به من تفضيل أهل بيت النبي ﷺ؛ لأنهم خُزَّان علم الله ووارثو علم النبوات، وتبيَّن لهم تصديق ما يعتقدون فيهم من العلم والمعرفة والفهم والتمييز والبصيرة في الآفاق بما في أنفسهم من الآيات لقوم يوقنون، ويعلمون أنه الحق من ربهم، ولكيما لا يحتاجون إلى تفسير المخالفين لكتب الأنبياء عليهم السلام وينبغي لإخواننا إذا حضروا المجلس ومعهم أخ مستجيب مستحدث أن يقرأ عليهم هذه الخطبة.
اعلموا أيها الإخوان أيَّدكم الله وإيانا بروح منه، وهداكم للحق وجعلكم من أتباعه، وسهَّل لكم سبيل الخير وأرشدكم إلى معرفة أهله، وعصمكم من الشر وجنَّبكم صحبة أهله، وحرسكم من غرور الشيطان ووقاكم جور السلطان ونكبات الزمان ونوائب الحدثان، ووفَّقكم لقبول نصيحة الإخوان إنه ودود منَّان.
واعلموا أن كل دولة لها وقت منه تبتدئ ولها غاية إليها ترتقي، وحدٌّ إليه تنتهي، وإذا بلغت إلى أقصى مدى غاياتها ومنتهى نهاياتها أخذت في الانحطاط والنقصان، وبدا في أهلها الشؤم والخذلان، واستأنف في الأخرى القوة والنشاط والظهور والانبساط، وجعل كل يوم يقوى هذا ويزيد ويضعف ذلك وينقص، إلى أن يضمحلَّ الأول المتقدم ويتمكن الحادث المتأخر، والمثال في ذلك مجاري أحكام الزمان؛ وذلك أن الزمان كله، نصفه نهار مضيء ونصفه ليل مظلم، وأيضًا نصفه صيف حار ونصفه شتاء بارد، وهما يتداولان في مجيئهما وذهابهما كلما ذهب هذا رجع هذا، وتارةً يزيد هذا وينقص هذا، وكلما نقص ذلك من أحدهما زاد في الآخر حتى إذا تناهيا إلى غايتهما ابتدأ النقص في الذي تناهى في الزيادة، وابتدأ الزيادة في الذي تناهى في النقصان، فلا يزالان هكذا وهذا دأبهما إلى أن يتساويا في مقداريهما، ثم يتجاوزان على حالتيهما إلى أن يتناهيا إلى غايتيهما من الزيادة والنقصان، وكلما تناهى أحدهما في الزيادة ظهرت قوته وكثرت أفعاله في العالم وخفيت قوة ضده وقلَّت أفعاله.
فهكذا حكم أهل الزمان في دولة الخير ودولة الشر، فتارةً تكون القوة والدولة وظهور الأفعال في العالم لأهل الخير، وتارةً تكون القوة والدولة وظهور الأفعال لأهل الشر، كما ذكر الله جل ثناؤه: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ الآية.
وقد ترون أيها الإخوان أيَّدكم الله وإيانا بروح منه، أنه قد تناهت قوة أهل الشر، وكثرت أفعالهم في العالم في هذا الزمان، وليس بعد التناهي في الزيادة إلا الانحطاط والنقصان.
واعلم أن الملك والدولة ينتقلان في كل دهر وزمان ودور وقران من أمة إلى أمة، ومن أهل بيت إلى أهل بيت، ومن أهل بلد إلى بلد.
واعلموا أن دولة أهل الخير يبدأ أولها من أقوام خيار فضلاء يجتمعون في بلد ويتفقون على رأي واحد ودين واحد ومذهب واحد، ويعقدون بينهم عهدًا وميثاقًا بأنهم يتناصرون ولا يتخاذلون، ويتعاونون ولا يتقاعدون عن نصرة بعضهم بعضًا، ويكونون كرجل واحد في جميع أمورهم وكنفس واحدة في جميع تدابيرهم وفيما يقصدون من نصرة الدين وطلب الآخرة، لا يعتقدون سوى رحمة الله ورضوانه عوضًا.
فأبشِروا، أيها الإخوان، بما أخبرناكم، وثقوا بالله في نصرته لكم إذا بذلتم مجهودكم كما وعد الله تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا، وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ، فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ.
(١٨) فصل في مخاطبة العمال والكُتَّاب
اعلم أيها الأخ، أيَّدك الله وإيانا بروح منه، أن لنا إخوانًا وأصدقاء من كرام الناس وفضلائهم متفرقين في البلاد: فمنهم طائفة من أولاد الملوك والأمراء والوزراء والكُتَّاب، ومنهم طائفة من أولاد الأشراف والدهاقين والتُّنَّاء والتجار، ومنهم طائفة من أولاد العلماء والأدباء والفقهاء وحملة الدين، ومنهم طائفة من أولاد الصناع والمتصرفين وأمناء الناس.
وقد ندبنا لكل طائفة منهم أخًا من إخواننا ممن ارتضينا في بصيرته ومعارفه لينوب عنا في خدمتهم بإلقاء النصيحة إليهم بالرفق والرحمة والشفقة عليهم؛ وليكون عونًا لإخوانه بالدعاء لهم إلى الله وإلى ما جاءت به أنبياؤه عليهم السلام، وإلى ما أشارت إليه أولياؤه من التنزيل والتأويل لإصلاح أمر الدين والدنيا أجمعين.
وقد اخترناك أيها الأخ البارُّ الرحيم، أيَّدك الله وإيانا بروح منه، لمعاونتهم، وارتضيناك لمشاركتهم لما آتاك الله من فضله من العقل والفهم والتمييز وحرية النفس وصفاء جوهرها؛ لتكون مساعدًا لإخوانك ومعاضدًا لهم؛ لأن جوهرك من جوهرهم ونفسك من نفوسهم وصلاحهم صلاحك.
فامضِ على بركات الله وحسن توفيقه إلى أخٍ من إخواننا، وتوصل إليه بالرفق على خلوة وفراغ من مجلسه وطيبة من نفسه فاقرأ عليه منا التحية والسلام، وبشِّره بما يسره من نصيحة الإخوان، وعرِّفه شدة شوقنا إلى إخائه ومودته وولايته، والله يوفقه وإيانا للسداد ويهديه وإيانا للرشاد ولجميع إخواننا حيث كانوا في البلاد إنه كريم جواد.
ثم اقرأ عليه هذه الخطبة وعرِّفه معانيها وفهِّمه مغزاها ومقصدها، ثم عرِّفنا ما يكون منه من الجواب، والله يوفقكما وجميع إخواننا للصواب، وقل له: أخْبِرْنا أيها الأخ عن صاحبك هذا الذي أنت متعلق بخدمته ومجتهد في طاعته ومعتصم بعز سلطانه، هل تعلم أنه كان في هذا الأمر الذي هو فيه الآن غيره قبله فزال عنه عزه وسلطانه، وتفرقت عنه جموعه وأعوانه؟ وهل تعلم أن هذا الأمر الذي هو فيه باقٍ عليه؟ أو لا بد أن يزول عنه يومًا ويصير إلى غيره كما صار إليه بعد الذي كان قبله؟ أو هل تعلم أن مَنْ يجيء بعده ويصير مكانه كيف يكون حالك معه؟
وقد علمت أن هذه الدنيا وأمورها دول ونوب تدور بين أهلها واحدًا بعد آخر.
(١٩) فصل في مخاطبة الملوك والسلاطين
قد اخترناك أيها الأخ لأمر فيه قربة إلى الله تعالى ونصرة للدين ونصيحة للإخوان، فكن واثقًا بما اخترناك مغتبطًا به، وسر على بركة الله وحسن توفيقه متوكلًا عليه في نصرته وتأييده إلى أخ من إخواننا الفضلاء الكرام من كرام الناس، وتلطَّف في الوصول إليه في رفق ومداراة حتى تلقاه على خلوة من مجلسه وفراغ من قلبه، وطيبة من نفسه، وتقرأ عليه التحية والسلام من إخوان له فضلاء وأصدقاء له نصحاء، من أولاد العلماء وحملة الدين والفقهاء، وأولاد التجار وأرباب الأموال المستبصرين بالعلوم الفلسفية والأحكام الشرعية والآداب الرياضية، مثل الهندسة والنجوم والطب والفراسة والتدبير والسياسة، وتبشِّره بما ألقيناه إليك من الأسرار في شأنه وما يتحقق من المأمول في أمره من نصرة الدين وفتح البلاد، وما يكون على يده من صلاح العباد مما خبَّرت به دلائل القرآن، ولوَّحت به شواهد الامتحان، وتعرض عليه هذه التذكرة ليتأملها ويتفكر فيها، وتعرفه أن إخوانه الذين وجَّهوك إليه من ذلك البلد لما هم عليه من العقل وكرم الأخلاق وحسن الآداب والأُلْفة والاتفاق، وما يعتقدون في أمر الدين من جميل الرأي، وما يتعاملون في أمر الدنيا من حسن المعاملة، لهم مجلس يجتمعون فيه في الخلوات، ويتذاكرون العلوم ويتحاورون في الأسرار، ويبحثون عن خفيات الأمور، فتذكَّروا يومًا فيما بينهم من حوادث الأيام وتغييرات الزمان والخطوب والحدثان، وما تدل عليه دلائل القرآن من تغييرات شرائع الدين والملل، وتنقُّل الملك والدول من أمة إلى أمة ومن بلد إلى بلد ومن أهل بيت إلى أهل بيت، فاجتمع رأيهم واتفقت كلمتهم على أنه لا بد من كائن في العالم قريب وحادث عجيب فيه صلاح الدين والدنيا، وهو تجديد ملك في المملكة، وانتقال الدولة من أمة إلى أمة، وإن لذلك دلائل بينة وعلامات واضحة، وقالوا: قد عرفناها بفراغ عقولنا وتجارب الأمور واعتبار تصاريف الزمان فيما مضى من الحدثان وما يُعْرَف منها بالزجر والفأل والكهانة والفراسة، وبدلائل المتحركات من النجوم والمنامات مما تدل عليه الكائنات قبل أن تكون، وقد اعتبرنا بهذه الوجوه التي ذكرناها، وأشرنا إليها حتى عرفنا صاحب الأمر بصفاته، والسنة والشهر الذي يكون فيه الحادث في شأنه، وما نرجو من ذلك من صلاح الدين والدنيا والله بالغ أمره وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ، وإنما أردنا بهذه التذكرة أن تكون لنا بها قربة إلى الله تعالى ونصرة للدين وحرمة للإخوان ونصيحة لصاحب الأمر وقدم صدق في الأولين، ولسان صدق في الآخرين.
فإن وقعت هذه التذكرة منه مكانها من القبول، وسمَت نفسه إلى ما أشرنا إليه فذلك هو الذي نريده، وإن توقف وقال: ما علامة ما يقولون؟ وما تصديق ما يزعمون من الرأي والحديث؟ فنقول: عندنا دلائل واضحة وبراهين بيِّنة وعلامات وشواهد يعلمها مَنْ كان ينظر في العلوم كنظرنا، ويعتبر الأمور كاعتبارنا، وكان في المعارف بصيرًا مثلنا.
فإن أراد أخونا الفاضل الكريم فليبعث إلينا ثقة من ثقاته وأمينًا من أمنائه ومن أبناء جنسنا ومَنْ يشاكلنا في العلوم والمعارف، ومَنْ يحاجنا على ما نقول ويناظرنا على ما نشير إليه؛ ليتضح له حقيقة ما قلنا، ويتبين له التصديق بما أمرنا والله الموفق للصواب.
(٢٠) فصل في مخاطبة أهل العلم الغافلين عن أمر النفس والمعرضين عن معرفة جوهرها
أترى أن الفاعل لهذه الأفعال المحكمة والصنائع المتفننة التي تظهر على أيدي البشر هو هذا الجسد وحده، والناطق بهذه اللغات المتباينة والمتكلم بهذه الأقاويل المختلفة والمخبر عن الأمور المنقضية مع الأزمان الماضية، والعالم بالأشياء الموجودة في الأماكن الغائبة، والمنبئ عن الحوادث الكائنة في الأزمان المستقبلة، والمستنبط غرائب العلوم من خواص جواهر العدد وأشكال الهندسة وتأليف اللحون وتشريح الأجساد وتركيب الأفلاك وحساب حركات الكواكب وصفات البروج وطبائع الأركان، واختلاف جواهر المعادن ومنافع النبات واختلاف الحيوان، هل هو هذا الجسد وحده؟ أو تنسب هذه العلوم والأقاويل والفضائل إلى مزاج الجسد، كما زعم مَنْ لا خبرة له بحقائق الموجودات، وكيف تظهر هذه من مزاج الجسد والمزاج عَرَضٌ من الأعراض وهو أحد هذه الأشياء التي ذكرناها؟ فقد بعُدَ من الصواب مَنْ قال هذا القول، وعمي عن معرفة حقائق الأشياء مَن اعتقد هذا الرأي، وأول غفلة دخلت عليه جهالته بجوهر نفسه وتركه طلب معرفة ذاته، وأعظم بليَّة مع هذا أنه يدَّعي الرياسة في العلوم ومعرفة حقائق الأشياء وصواب أقاويل أهل الأديان ومعرفة صفات الباري، جل ثناؤه، الذي هو أشرف المعارف وأدق العلوم وألطف الأسرار، وهو يجهل مع هذا كله ذاته، ولا يعرف حقيقة نفسه فكيف يوثَق برأيه؟ وكيف يُصدَّق قوله فيما يدَّعيه من العلوم ويخبر عن الأمور الغائبة عن حواسه وعقله؟
وإن كنت مقرًّا، أيها الأخ البارُّ الرحيم، بأن مع هذا الجسد جوهرًا آخر هو أشرف منه، وأن هذه الأفعال والأقاويل والعلوم والفضائل إليه تُنْسَب ومنه تبدو وهو المُظْهِر من هذا الجسد هذه الأشياء فقد قلت صوابًا وأقررت بالحق وأنصفت في الجواب، فخبِّرنا عن هذا الجوهر الشريف.
هل يمكن أن يعرف ما هو وكيف كونه مع هذا الجسد باختيار منه أو مضطر أن يكون معه؟ أو هل تعرف أين كان قبل أن يقرن بهذا الجسد؟ وأين يذهب إذا فارقه؟ أو تقول: إني لا أدري، وهل ترضى من نفسك الجهل بهذا المقدار من العلم أن تقول: إن هذا العلم ليس في طاقة الإنسان أن يعلمه، وكيف يسوغ لك هذا القول والعلماء مُقِرُّون أجمع — وأنت معهم — بأن معرفة الله واجبة على كل عاقل؟ وكيف يستوي للعبد إذن معرفة ربه وهو لا يعرف نفسه؟!
وقد رُوِي عن رسول الله ﷺ أنه قال: «مَنْ عرف نفسه فقد عرف ربه، أعرفكم بنفسه أعرفكم بربه.» وكيف يستوي لك أن تقول: إنك تعرف ربك ولا تعرف نفسك وقال الله عز وجل: بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ، وقال: وَضَرَبَ لَنَا مثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ، وقال: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ، وقال: كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا، وقال: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي، وقال: يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا، وقال: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي الآية.
وأنت تعلم أيها الأخ، أن نفس الإنسان أقرب إليه من كل قريب، فكيف يستوي لك أن تقول: لا يمكن أن يعلم الإنسان نفسه ويعلم غيرها من الأشياء البعيدة الغائبة عن حواسه وعقله؟!
واعلم أيها الأخ، أنه إنما ذهب على أكثر الناس معرفة أنفسهم لتركهم النظر في علم النفس والبحث عنها، والسؤال للعلماء العارفين بعلمها وقلة اهتمامهم بأمر أنفسهم، وطلب خلاصها من بحر الهيولى وهاوية الأجساد والنجاة من أَسْر الطبيعة والخروج من ظلمة الأجساد، ولشدة ميلهم إلى الخلود في الدنيا واستغراقهم في الشهوات الجسمانية والغرور باللذات الجرمانية والأُنْس بالمحسوسات الطبيعية، ولغفلتهم عما وُصِف في الكتب النبوية من نعيم الجنان وفي عالم الأفلاك من الروح والريحان، وقلة رغبتهم فيها لقلة تصديقهم بما خبَّرت به الأنبياء، صلوات الله عليهم، وما أشارت إليه الفلاسفة الحكماء بما يقصر الوصف عنه من لطيف المعاني ودقائق الأسرار، فانصرفت همم نفوسهم كلها إلى أمر هذا الجسد المستحيل، وجعلوا سعيهم كله لصلاح معيشة الدنيا من جمع الأموال والمآكل والمشارب والملابس والمراكب والمناكح، فصيَّروا نفوسهم عبيدًا لأجسادهم وأجسادهم مالكة لنفوسهم، وسلَّطوا الناسوت على اللاهوت والظُّلْمة على النور والشياطين على الملائكة، وصاروا من حزب إبليس وأعداء الرحمن.
فهل لك أيها الأخ أن تنظر لنفسك وتسعى في صلاحها وتطلب نجاتها وتفكَّ أَسْرها وتخلِّصها من الغرق في الهيولى وأَسْر الطبيعة وظلمة الأجساد وتخفف عنها أوزارها، وهي الأسباب المانعة لها من الترقِّي إلى السماء والدخول في زمرة الملائكة والسَّيَحان في فسحة عالم الأفلاك الروحانية، والارتفاع في درجات الجنان والتنفس من ذلك الروح والريحان المذكور في القرآن بأن ترغب في صحبة أصدقاء لك نُصَحاء وإخوانٍ لك فُضَلاء، وادِّين لك كرماء، حريصين على طلب خلاصك ونجاتك مع أنفسهم، قد خلعوا أنفسهم من طاعة أبناء الدنيا، وجعلوا كدَّهم طلب نعيم دار الأخرى بأن تسلك مسلكهم ومقصدهم، وتتخلص بسيرك معهم وتتخلَّق بأخلاقهم بأن تسمع أقاويلهم وتعرف اعتقادهم وتنظر في علومهم وتفهم أسرارهم وما يخبرونك به من العلوم النفسية والمعارف الزكية الحقيقية والمعقولات الروحانية والمحسوسات النفسانية؟
إذا دخلت مدينتنا الروحانية وسِرْت بسيرتنا الملكية وعملت بسنَّتنا الزكية، وتفقَّهت في شريعتنا العقلية لتنظر إلى الملأ الأعلى وتعيش عيش السعداء فرحانًا مسرورًا ملتذًّا مخلَّدًا أبدًا بنفسك الباقية الشريفة النيِّرة الخفيَّة الشفافة، لا بجثَّتك الدَّنِيَّة المظلمة الثقيلة المتغيرة المستحيلة الفاسدة الهالكة، وفقك الله وجميع إخواننا للرشاد، وأوصلك وإيانا إلى دار السلام برحمته ومَنِّه إنه على ما يشاء قدير.
(٢١) فصل في مخاطبة المتشيعين
قد جمع الله بيننا وبينك، أيها الأخ البارُّ الرحيم، في أسباب شتَّى وخصال عدَّة مما يؤكد المودَّة بين الإخوان، ويجمع شمل الأصدقاء في جميع صلاح الدين والدنيا، أيَّدك الله، أولًا مَنْ تأمَّلها وعرف حق عظيم ما أنعم الله تعالى لديك وفضل منَّته عليك لما خصَّك الله به من العقل والفهم والتمييز، فمن إحدى تلك الخصال والأسباب التي تؤكد المودَّة بين الأصدقاء ملَّة الإسلام التي هي آكَد الأسباب؛ لأنه خير دين دان به المتألهون، وأفضل طريق يسلكه إلى الله القاصدون، وهو القدوة بدين نبينا محمد ﷺ وبعلم كتابه الذي جاء به مهيمنًا على كتب الأولين وسنة الشريعة التي هي أعدل سنَّة سنَّها المرسَلون.
ومما يجمعنا وإياك، أيها الأخ البارُّ الرحيم، محبة نبينا عليه السلام، وأهل بيت نبيِّه الطاهرين وولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب خير الوصيِّين صلوات الله عليهم أجمعين، ومما يجمعنا وإياك حرمة الأدب والخروج من جملة العوام، وهو العماد لما نحن بسبيله ونشير إليه.
ومما يجمعنا وإياك من الأخلاق الجميلة والأفعال الحميدة وحرية النفس وصفاء جوهرها وهي التي تدعونا إلى مكاتبتك ومراسلتك وما نرجو منه النفع لك فيما يُسْتَقْبَل من الأمر، والله يؤيدك وإيانا وجميع إخواننا حيث كانوا في البلاد. وقد أنفذْنا إليك أخًا من إخواننا ممن قد ارتضيناه في بصيرته، وحمدنا طريقته في دينه وأخلاقه، وأنت، أيَّدك الله، تعرف حقَّه وما يجب من حرمته وتوصله إليك على خلوة من مجلسك وفراغ من قلبك، وتصغي إليه فيما يقول، وتسمع منه ما ألقينا إليك من أسرارنا وما نشير إليه من علمنا؛ ليتبيَّن لك مذهبنا وتفهم اعتقادنا في أمر الدين والدنيا جميعًا، فإذا سمعت أقاويلنا وفهمت معانيها ووقفت على حقائقنا وتأملتها بعقلك وميَّزتها برؤيتك أجبتنا عن رأيك فيما أشرنا إليه، وما نسألك عنه في اعتقادك بصدق القول لا محتشمًا ولا مهيبًا ولا مجانبًا مما يقتضيه الحكم ويوجبه الحق، والله يوفقك للصواب ويؤيدك بروحٍ منه، وجميع إخواننا حيث كانوا في البلاد.
(٢٢) فصل في أنه إنما ذهب على أكثر الناس المتفلسفين والباحثين …
اعلم أيها الأخ، أيَّدك الله، أنه إنما ذهب على أكثر الناس المتفلسفين والباحثين عن حقائق الأشياء أسرارُ كُتُب الأنبياء عليهم السلام؛ لترْكهم البحث عنها وإعراضهم عن النظر فيها؛ لقصور أفهامهم عن تصوُّرها؛ لأنها مأخوذةٌ معانيها من الملائكة الذين هم الملأ الأعلى أهل السموات وسكان الأفلاك، وأعيذك أيها الأخ الفاضل أن تكون من الذين يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة غافلون، الذين ذمَّهم الله عز وجل في كتابه فقال: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا وقال: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ. أفترى أنهم لم يكونوا يسمعون الأصوات، أو لم يكونوا يبصرون الألوان، أو لم يكونوا يعقلون أمر المعاش؟! بل إنما ذمَّهم؛ لأنهم لم يكونوا يفهمون هذه المعاني المذكورة في الكتب النبوية التي إليها نشير في رسائلنا، وإليها ندعو إخواننا، أعزَّهم الله، حيث كانوا في البلاد، وهو دين النبيين ومذهب الربانيين والأحبار الذين استُحْفِظوا في كتاب الله من الأسرار المكنونة التي لا يمسها إلا المطهرون، وهم أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيرًا، وفقك الله أيها الأخ للصواب واعتقاد الحق والعمل الصالح والمعارف الربانية وجميع إخواننا حيث كانوا في البلاد، إنه كريم جواد لطيف بالعباد.