الرسالة الثامنة
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
اعلم أيها الأخ الرحيم، أيَّدك الله وإيانا بروح منه، أن أفعال الروحانيين لا يتهيأ لأحد من العالم الجسماني الوقوف عليها والمعرفة بها إلا بعد معرفته بجوهر نفسه وكيفية فعلها في جسمه، وإذا عرف كيفية ذلك ووقف عليه تهيَّأ له بعد ذلك الوقوف على أحوال الروحانيين في العالم جميعًا: العلوي بما فيه والسفلي وما يحويه، وقاده ذلك إلى معرفة خالقه وتنزيه مبدعه، وفعله الذي فعله بذاته وما أبدعه من موجوداته، وبمعرفة ذلك يكون كمال الإنسان، وبذلك يتهيأ له التصور بالصورة الروحانية الملكية فتكون أفعاله أفعال الملائكة وما يظهر عنهم ويبدو منهم من الأفعال والأعمال في العالم الجسماني والخلق الإنساني، ويعرف أيضًا أفعال الجن والشياطين ومَنْ يتولى عقابهم إذا استرقُوا السمع من الملائكة المسبِّحين، وما يتبعهم من الصواعق المحرقة والشهب الثاقبة دحورًا تأخذهم من كل جانب وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ * إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ وما في العالم من الكرام الكاتبين والحفظة الحاسبين الموكَّلين بإنشاء ما يكون من الأجساد وعمارة عالم الكون والفساد.
(١) فصل في أن دائرة العقل مرتبة من أمر الله تعالى
اعلم أيها الأخ، أيَّدك الله، أن دائرة العقل مرتبة من أمر الله تعالى لا يدركها خاطر نفساني، وأن الأنوار المضيئة مرتَّبة في أفق العقل الكلي بحيث لا يدركها حس ولا يتناولها لمس.
فالدائرة الأولى هي البعيدة عنها أوهام المخلوقين من العالمين: الروحاني والجسماني، اللطيف والكثيف، وهي موصوفة بالفعل الخاص بها الصادر عنها، وهو العقل الذي عقَل ما دونه من مجاوريه فرجعت الأوهام قبل بلوغها غايته ذاهلةً عن بلوغ بعض ما في دائرته وسعة إحاطته، وهو من الإقرار بإلهية خالقه وتنزيهه مبدعه وخشوعه له، موصوف بذلك كصفة ما يبدو من أحد ما بدا عنه، وتكون منه بمنزلة النفس المشتاقة إليه الخاضعة بين يديه المرتَّبة في أفقه المطمئنة به المتَّكلة عليه الراجعة إليه.
واعلم أن دائرة العقل مشرقة بهيَّة؛ فهو يتراءى فيها بشدة صفائها وإشراقها ما يتلألأ من الأنوار الإلهية البادية بالأمر الممجَّد عن الوحدة المحضة التي لا تتكثَّر ولا تزداد، بل هي منفردة بالوجود والإيجاد، وإنما يتكثَّر مَنْ ينضاف إليه ما يشاكله ويجانسه ويزداد مَنْ يحتاج إلى الزيادة، وإذا احتاج إلى الزيادة لزمه النقصان والوحدة المتنزهة عن الصفات البادية بالألفاظ المنطقية والتخيلات النفسانية والتمثيلات الهيولانية لا تتكثر كتكثُّر واحد الأعداد التي هي الوحدة المتكثرة بما يكون ويبدو عنها إذا كانت هي أصل الكثرة ومبدأ وجود الخِلْقة، وهي الدائرة الأولى الحاوية لجميع ما كان منها؛ ولذلك قيل له السابق.
وكذلك دائرة النفس كالثاني التالي للسابق لما بعده، وهي تالية الأول، ثم الثالثة وهي كالهيولى، والرابعة وهي كالطبيعة، وكذلك الدوائر الكائنة عن هذه الأصول حتى تكون آخرها دائرة الأرض، ولكل واحد من هذه الحدود الروحانية فعل يختص به فاعله لا يتعداه بما جعله الباري سبحانه فيها وأودعه إياها، ونريد أن نُبيِّن من ذلك طرفًا يكون دليلًا على ما قلناه وبرهانًا على ما وصفناه.
واعلم أيها الأخ البارُّ أن الباري سبحانه أوجد الزوجين الأولين الذين هما أبوا الموجودات كلها بأسرها، وهما الدائرتان المحيطتان بما في عالم العلو والسُّفْل: إحداهما حائطة والأخرى محوطة.
فالدائرة الأولى موصوفة بالفعل الصادر عنها وهو التمام والكمال والفضل والفيض والرحمة والرأفة، وما ينحط من دائرتها على ما دونها من الخيرات والبركات مما يستمده ويتلقَّاه ويفاض عليه ويُلْقى إليه، وهي الفيضان الفاعلة فيه بما ينطبع في جوهريته المحضة المعرَّاة من الشوائب المتغيرة؛ فلذلك صار لا يتبدَّل ما عنده ولا يتغير لدوام ملاحظته لتلك الأمور الإلهية التي لا تبديل لها ولا تغيير كما قال الله تعالى: لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ؛ فهي باقية على حال الانفراد بالبقاء والكون تحت القدرة العظمى وبإشراقها على دائرته، أضاءت ذاته فصارت مشرقة بأنوار الجبروت الممجدة بالصفة المتخصص بها المباين بما في ذاته منها عما يوجد فيما دونه، وبها يصل إلى تمجيد مبدعه وتنزيه خالقه بالتبرِّي عما يشاهده في ذاته ويلاحظه في موجوداته، وأن يكون ذلك بحوله وقوته وإن كان هو المحيط بها والخاص لها إحاطة الإحصاء والعد؛ لأن الفعل منه إنما هو بحسب ما يفعل فيه ويجود به عليه من الجود الذي به صار في حد الوجود، وبجوده صار مبدأ وجود كل موجود؛ ولذلك سُمِّي عقلًا لأنه عقل صور الموجودات بأَسْرها وجاد عليها بخصائصها وترتيبه لها في مواضعها وتكوينه إياها في أماكنها؛ فهو بالإشراق المشرق عليها وبما فاض عليها يتدلَّى إليها، وبتحنُّنه عليها ورأفته بها يكون القرب من علة الممنون عليه، وهو لا ينفد ما عنده إذ كانت المادة متصلة غير منفصلة، ولو كانت فيضًا لتأدَّى منه إلى مَنْ دونه من ذاته غير مكتسب لها ولا محتاج إليها، بل هو واجد لها من ذاته على الدوام، ولو كانت هذه لكمال ما في ذاته لكان لا فرق بينه وبين علَّته الموجِد لها، ولكان غير محتاج إليها بل غنيًّا عنها بما في ذاته، ولم يتغيب عنه كلية المعرفة بها، تعالى الله عن إحاطة مخلوقاته بكُنْه فيضه، وإنما هو، جل ذكره، مفيض ما يشاء من قدرته وأمره على إبداعه الذي ارتضاه لخالص عبوديته والإقرار بلاهوتيته وبدوام استمداده ودوام تسبيحه وتقديسه وتمجيده؛ فهو بذلك يدرك بُغْيته وينال لذاته التي هي غاية أُنْسه وروح قدسه وروحه وريحانه؛ فهو بحسب كرامة الله له مرتبة في أفق المحيط به وهو الأمر، وهو لا يبلغ الإدراك بكلية الأمر، وإنما يدرك من ذلك ما جعل فيه من صور الموجودات التي هو محيط بها ومُخرِج لها من القوة إلى الفعل.
ولما كان العقل كذلك كانت النفس غير حائطة بكلِّيَّة ما في العقل بلا واسطة له بكمال صفاته الموجودة إلا ما أمدَّها به وأفاضها عليه الشيء بعد الشيء، ولو كانت قابلة لجميع ما فيه دفعة واحدة لكانت لا فرق بينها وبينه ولا فضل له عليها؛ لاتساعها لما وسعه وإحاطتها بما بلغه، وإنما هي حائطة بما دونها كإحاطة العقل بها فدائرة النفس محيطة بما هو موجود فيها عند بدء كونها من علَّتها، وهي ذاتها ما بدا عنها من موجوداتها وفيها قبول ما يُلقى إليها ويُفاض عليها، وفعلها الخاص بها ما انبعث منها وصدر عنها من القوة الطبيعية بما جعلت فيها من الصور المنطبعة بالنفس في الهيولى وغير محيطة بكلية ما في العقل من الصور المعرَّاة والجواهر المبرَّأة من الهيولى إلا بما يلقيه إليها ويمدها به.
ولما كان ذلك كذلك صارت الطبيعة في كل لحظة وفي كل وقت من الأوقات ومع كل حركة من الحركات الزمانية الطبيعية تُظهر شكلًا ونوعًا ولونًا، فغرائبها لا تُحْصَى وعجائبها لا تفنى، وهي تُبديها الشيء بعد الشيء بحسب ما يُلْقى إليها ويفاض عليها من النفس الكلية وبما يسري فيها من القوى الفلكية، وبما ينزل مع الملائكة الموكَّلين بالنشأة الأرضية والخلقة الجسمانية، فهم المُودعو تلك الصور في جواهر الأمهات، المُظهِرون لها بطبائع الأسطقسات، ومتمِّمون ما يبدو منها من الحيوان والنبات، فهم بها موكَّلون ولأعمالهم متمِّمون ولكلٍّ منهم جزء مقسوم ونصيب معلوم كما قال الله تعالى حكاية عن ملائكته الكرام وجنوده العظام: وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ وقال تعالى حكاية عنهم: وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ.
وكذلك قيل في الخبر: «إن مع كل قطرة من قطرات الأمطار، ومع كل نقطة من مياه البحار، ومع كل ورقة من أوراق الأشجار، ومع كل ساعة من ساعات الليل والنهار، ومع كل إنسان وحيوان، ومع كل جان وشيطان ملائكة يسبِّحون الليل والنهار لا يفتُرون، ويفعلون ما يؤمرون، وكلٌّ منهم في مقامٍ معلوم، ولهم أفعال تختص بكل واحد منهم مما هو موكَّل به.»
فلذلك صارت الطبيعة تُظهر على ممر الزمان وتغاير الأيام، ومع كل لحظة من لحظات العيان وفي كل مكان لونًا جديدًا، وصارت أعمالها لا تفنى ولا تبيد، وإن ما منها بادَ بالفساد يكون مكانه مثله بالسواد مُعادًا؛ فهي قوة صادرة باعثة لما تقدَّم منها في الوجود كقوة حركة الدولاب التي تبدو أولًا عن حركة أولى وهي الحركة البهيمية المستعملة في آلة الدولاب، وإيصالها من آلة إلى آلة أخرى حتى تكون مرة حاطَّة لأواني الدولاب إلى قعر البئر، فتُمْلأ ثم ترفعها إلى علو فيعود منها ما كان ممتلئًا فارغًا ثم ممتلئًا، فلا تزال كذلك ما دامت الحركة متصلة.
فإذا بلغ المحرك المستخدم لتلك الدابة المحرِّكة لتلك الآلة ما أراد من الإملاء والتفريغ أمسك الحركة فوقف الدولاب عن الرفع والحط، كذلك فعل الطبيعة إنما هي حركة متصلة بها عن آلة فلكية محركة دورية مربوطة بها النفس الكلية بقوة عقلية تبدو عن مشيئة إلهية وعناية ربانية بأمر مَنْ هو لا يعلمه إلا هو، إرادة اختيارية قاصدة إلى أمر غير مدرَك إدراك الحس فيكون داخلًا في جملة المحسوسات، وإنما يُدْرَك من العلم أنه به مُعَرًّى عن الصفات والنهايات التي تنتهي إليها المخلوقات وتقف عندها الموجودات من أفعال الجزئيات، لكنه أمر يقال عليه قول يطَّرد لا إلى تعطيل ولا تبطيل؛ إذ كان يقول: مَا خَلَقَ اللهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ، وقوله: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.
وبالأمر كانت المكونات، والإرادة سابقة للكون، والإبداع الأول موضع الكون، وبه كانت الأشياء أشياء خارجة من العدم إلى الوجود، وبكونها في المكان تحيَّزت وتميَّزت موجودة بذواتها عن موجِدها المُلقي لها إلى ما دونه، كإلقاء الذكر ما يكون فيه بالقوة من النطفة إلى الأنثى؛ لتظهر بالفعل صورة موجودة بوجوده محتاجة إلى التمام والكمال، يتهيأ لقبول ذلك فيتحد به من قوة النفس وما يتصل بواسطة الشمس، فيشرق عليه من أثر العقل ما تكون به حياة نفسه وكمال جسمه عند استكمال الآلة وكونه على أفضل حالاته.
فلذلك قلنا: إن الدائرة الإلهية والصور العقلية العلوية هي كتاب تلوح سطوره المكتوبة بقلم الإرادة ولوح المشيئة المحفوظة فيه، بحيث تكون حافظة لها، وبها يكون انبعاث قواها فيما دونه حتى تصير أشياء منها روحانية بسيطة نورانية بادية عنها بكونها في دائرة النفس الكلية، فيستقر كلٌّ منها في مقام لا يعدوه كالحروف المرتَّبة في سطورها المنظومة، وخطوطها المرسومة مرتَّبة في أقسامها مستوية في نظامها لا يعدو بعضها بعضًا.
فالعقل مُنزِلُ كلِّ تلك الأمور على النفس، والمُمِدُّ لها بها وهي المستفتِحة لها منه، وهو المانُّ بها عليها، وهو متلقٍّ لها من فيض باريه.
فلذلك قيل: إن تشبُّه العقل من باريه أقرب من تشبُّه النفس؛ لأنه يتلقى جود باريه من أمره المتصل، والنفس متلقية منه ما يمدُّها ونِسبتها منه أقرب من نسبته ما دونها.
ثم كذلك الأفعال المادية عن كل قوة من القوى المتصلة بكل واحد من الموجودات وما يتعلق به ويُنْسَب إليه من أفعاله.
فأولها الأصول التي هي أمهات الفروع؛ فهي الجواهر الثانية عن الجواهر الأولى المحضة المبرَّأة عن التراكيب المؤلَّفة، والجواهر الأولى المخصوصة بهذه الصفة عالم العقل والنفس، والجواهر الثانية هي القوى الطبيعية والهيولانية المخصوصة بعالم الأفلاك العالية القائمة بحركاتها الملائكة الموكَّلون بها، والفروع البادية منها الأمهات السفليات والأسطقسات الجزئيات والطبائع الجسمانية وما يبدو منها ويتكون عنها من الحيوان والنبات، وخليفة الله فيها وأمينه عليها هو النفس الجزئية التي هي نفس صاحب شرع كل دور، وهي المدبِّرة لها في العالم السُّفْلي، وهي المتحدة بالجسم المبني بالحكمة الموجودة بإتقان الصنعة، وهي المتمم لها أمور الطبيعة من أعمالها؛ فهي تُرتِّب كل شيء من ذلك في مرتبته، وتستخرج من منفعته، وتوصله إلى غايته فهو في العالم السفلي والمركز الأرضي خليفة الله وملكه الموكَّل بتدبير ما يكون في الأرض من معادنها ونباتها وحيوانها، وهي الدائرة الثانية وفلكها ذو حركة دورية مربوطة بها نفس جزئية متصلة بالنفس الكلية، وفيه كواكب طالعة وأنوار لامعة وملائكة بالقوة يفعلون فيه ما يؤمرون روحانيون بذواتهم الشريفة، جسمانيون بأجسامهم الكثيفة، ولكل ملك منهم جنود وأعوان.
واعلم أيها الأخ، أن في هذه الدائرة الإنسانية يتراءى ما يكون في الدائرة النفسانية والطبيعية؛ إذ كان الإنسان المبدع لما يكون من ذلك والمبيِّن له بالقول والعمل، فالقول كالقول بحوادث الجو الفلكي وأحكام النجوم وصفة النفس وكيفية رباطها بالفلك المحيط وما دونه، ومعرفة العقل بأنه أول الموجودات وأشرف الذوات، وهو الناطق بتوحيد الله عز وجل وتنزيهه، والوسيلة بينه وبين ما دونه من خلقه.
فأما العمل فمثل ما ذكرناه في رسالة الصنائع العملية، ونريد أن نذكر في هذه الرسالة صفة الدوائر الروحانية النفسانية وسكان كل دائرة من الملائكة، وكيف يكون أفعالهم وتفاضلهم كما قلنا بالقرب من الله تعالى بالأعمال المقرِّبة إليه المزلفة لديه؟ وإذا فرغنا من ذكر الدوائر المستقيمة ذوات الأنوار المضيئة والأشخاص البهيَّة ذكرنا الدوائر الظلمانية المعكوسة وذوات الصور الشيطانية المنكوسة، وبمعرفة ذلك تكون معرفة الإنسان بحقيقة الجنة والنار وأفعال أهلها يخص كلَّ شكلٍ منها.
فإذا وُفِّقْتَ إلى هذه الحكمة الشريفة وترقَّيت إلى هذه الدرجة المنيفة فخصَّ بها إخوانك البالغين وأحبَّاءك المصطفين الذين تهذَّبوا بالأخلاق الحكمية وعرفوا المنازل العلمية.
واعلم أن رسائلنا الناموسية الإلهية هي جواهر ما بسطناه وذخائر ما ألَّفناه، وهذا الكتاب الذي ألقيناه إليك وخصصناك به جعلناه وديعة عند إخواننا، أيَّدهم الله وإيانا بروح منه.
(٢) فصل في فعل الله تعالى الذي فعله بذاته وما يليق به من صفاته
اعلم أيها الأخ، أن نسبة العقل من مبدعه أقرب من نسبة ما دونه، ونسبة ما دونه لمن ينسب أولًا منه أقرب، وكذلك الأفعال البادية عن كل قوة من القوى المتصلة بكل واحد من الأصول البادية وما يتعلق به من الصفات والتراكيب المؤلفة.
ولما كان العقل هو أقرب الأشياء من باريه، جلَّ اسمه، وأنه الفاعل لما دونه بأمره وجب أن يكون هو فعل الباري تعالى الذي فعله بذاته وكتابه الذي كتبه بيده، وهو الملك الذي ليس له فيه شريك يناوئه ولا ضد ينافيه، بل هو خالصٌ صافٍ لا يقع عليه التغيير، ولا يجوز عليه التبديل، مشرقة أنوراه ظاهرة آثاره حاوٍ لما بدا عنه محيط ما يكون منه.
فهذا هو فعل الله الخاص به المنسوب إليه الذي لا تفاوت فيه.
ولما كان الفاعل يعطي فعله الخاص به صورته ومثاله ويؤيده بالقدرة التي تتكون له بها القوة على ما يبديه من أعماله صار العقل موضعًا لأمر الله عز وجل ومكانًا لقدرته.
وقد جاء في بعض الكتب المنزلة أن الله خلق آدم على صورته ومثاله، وقوله عز وجل: وَلَهُ الْمثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ.
وكذلك قال الحكماء: إن في المعلول توجد آثار العلة، وكذلك صارت الأفعال المحكمة والصنائع المتقنة تدل على حكمة صانعها وتُنْسَب إليه ويكون موصوفًا بها، فلنذكر ما يليق بها من الصفة مثل ما لاق به من الفعل.
اعلم أيها الأخ البارُّ الرحيم أن صفات الباري، جل جلاله، بالتقريب من أفهام المخلوقين المنسوبة من أفعال الجسمانيين روحانية لا من حيث كونها في الروحانيات المخلوقات محدثات مبدعات فاعلات أفعالًا تليق بها، منسوبة إليها يكون بعضها من بعض، مثل العلم والقدرة والإحاطة والحياة وما شاكل ذلك من الصفات، وإن ذلك متعلق بالعقل وما دونه حتى تكون متصلة بالإنسان وبالحيوان، ولكلٍّ منها بحسب ما يليق مما جعله الله فيه؛ ولذلك قال سبحانه: أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى، ولما كانت هذه الصفات مشتركة فيها جميع الموجودات علمنا أن للباري سبحانه من جهة النزهة عنه صفات تختص به كفعله المخصوص به، فطلبناها بالحرص والاجتهاد واستقراء كتب الحكماء وسؤال العلماء ومَنْ عنده علم الكتاب من أهل الذكر كما قال تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ فوقفنا من ذلك على ما مَنَّ الله سبحانه به علينا وهدانا إليه.
ونحن نذكر من ذلك ما يليق ذكره بهذا المكان وفيه كفاية لذوي الألباب ومَنْ وفَّقه الله تعالى للصواب.
(٣) فصل في أن صفات الله تعالى التي لا يشركه فيها أحد من خلقه …
اعلم أيها الأخ، أن صفات الله تعالى التي لا يشركه فيها أحد من خلقه ومعرفته التي لا يعرف بها إلا هو أنه مبدع مخترع خالق مكوِّن قادر عليم حي موجود مبدع قديم فاعل.
وإنه المعطي من جوده الوجود هذه الصفات وما ينبغي له ويليق، فأفاض على العقل من ذلك أنه مبدئ محدث حي مخترع عالم فاعل موجود، فالعقل مبدئ لما بدا منه، وفاعل بمعنى مفعول، ومحدَث بمعنى أنه محدث معلول، ومعطي الحياة لمن دونه كما أعطى، وموجود بوجود أفعاله الصادرة عنه.
وكذلك ما يكون من صفات الروحانيين والجسمانيين واشتراكهم فيها، وهي صفات جزئية يقال بها عليهم مقالة مجازية، وهي مقرونة معهم بأضدادهم كاقتران الوجود بالعدم والعلم والجهل، والحياة بالموت، والقدرة بالعجز، والحركة بالسكون، والنور بالظُّلْمة.
فكل هذه الموجودات بالصفة في الموصوفين بها مقارنة لأضدادها لا يوصف بها الباري سبحانه، بل إنه خالق الوجود والعدم فصار مخصوصًا بالخلقة، جاعل الموت والحياة فصار مخصوصًا بالبقاء، موجد العلم والجهل فاختص بالعلم.
كذلك ما يوجد من أفعال المخلوقين من الروحانيين والجسمانيين والأعمال، فبحسب الودائع التي فيهم والآثار المُفاضة عليهم باستفادة بعضهم من بعض حتى يكون سبحانه موجِدهم كلهم ومعطيهم الحياة، ثم لا يكون موصوفًا بصفاتهم في المعنى، ولا يستحقونها بالشركة له فيها، وهم ذوو درجات ومنازل، ولكل واحد منهم صفة تزيد على ما دونه بها ويتخصص بفضلها، وذلك موجود لا يخفى على مَنْ تأمَّله كوجود القدرة في الحيوان كله من الحساس إلى الإنسان، فإن لكل شخص من أشخاصه قدرة يتميز بها من غيره حتى يكون نهايته منها قدرة الإنسان عليها كلها إما بقوة جسمانية وإما بجبلَّة نفسانية، ثم العلم المخصوص به الإنسان المتميز به عن الحيوان هم فيه مشتركون، لا شركة المساواة بل شركة تنزيه وانفصال واستعلاء في الطبقات، وترافع في الدرجات حتى تكون نهايتهم فيه المُعَرِّفة لهم به: النبي في زمانه، والحكيم في وقته المُفاض عليه ذلك من القوة المتصلة به من العالم الأعلى المخصوص بالعلم الذي صلح له به أن يكون معلِّمًا لمن دونه.
واعلم أن الإنسان المعرِّف لهم؛ أعني الناس، بما يحتاجون إليه هو خليفة الله سبحانه فيهم وأمينه عليهم، ثم الحياة أيضًا مشتركة بين الحيوان كله موصوف بالحركة الانتقالية، وكل حيوان ذو حركة وحياة، وليسوا هم متساوين؛ لأنهم غير موجودين في حالة واحدة، وهم ذوو أعمار قصار وطوال وبين ذلك، حتى يكون المخصوص بالحياة الدائمة مَن انتقل من صورة الإنسانية إلى صورة الملائكة وما دون فلك القمر إلى ما فوق.
ثم كذلك صفة الروحانيين والملائكة، وهم أيضًا مشتركون في هذه الصفات، متباينون في الدرجات، ولكلٍّ منهم جزء مقسوم وحدٌّ معلوم، ثم يكون كذلك حتى يكون العقل نهايتهم فيها والسابق لهم إليها والمانَّ عليهم بها، ثم هو من الخضوع والخشوع والاعتراف بالعجز والتقصير عن الإحاطة بباريه وبلوغ كُنْه ما عنده، والمعرفة ببدايته ونهايته على غاية لا يبلغها إلا هو ولا ينفرد بها سواه ولا يشركه فيها غيره؛ ولذلك صار هو المعطي للنفس الخضوع والخشوع والحيرة في أمر المبدع سبحانه، ولم يُفِضْ عليها من ذلك إلا بما فُتِح عليه وألقى إليها بحسب ما أُلْقِي إليه وهو الإبداع الأول المُفاض عليه صورة التمام والكمال، فإذن أفعال الروحانيين من عالم العقل والنفس إنما يُعطَونها بما أمر الله تعالى، وهم بالقرب منه بحيث لا يصل إليهم مَنْ دونهم؛ ولذلك صارت الملائكة الذين لهم من القرب منهم ما ليس لغيرهم حتى يتصل ذلك بآخرهم، وهم الملائكة الساكنون في فلك القمر ولهم من الأفعال والأعمال ما يليق بهم مما أُلْقي إليهم ويفاض عليهم من المواد النفسانية والقياسات العقلية بالودائع التي فيهم من المشيئة الإلهية ما يكون لهم به موادُّ النفس الجزئية والجواهر الجسمانية والقوى الطبيعية والأشخاص الأرضية؛ ليكون للحركة الأولى سابقة للمتحركة بها إلى تمام المشيئة وبلوغ القضية الحتمية الموجِبة الحركة الأولى، وهذه الحركة حول قطب الدائرة النارية لوصول الموجودات؛ فهي أبدًا ينحط منها ما ينبثُّ في حيز الوجود متحركًا ليكون شيئًا معلومًا، ويقول بالتحميد والتمجيد والتسبيح والتقديس والتنزيه: إن الباري، جل اسمه، لا موصوف بصفات الروحانيين من حيث هم محدثون فاعلون ومنفعلون، ولا بصفة الجسمانيين المدركين بالحواس، وإنما صفته من حيث أفهامنا أنه قديم أزلي، معلِّل العلل، فاعل غير منفعل، موجِد مُبدِع مجوهِر، يبدي ما يشاء ويفعل ما يريد، كل يوم في شأن، لا يشغله شأن عن شأن، وليس هذا اليوم من أيام العالم وإنما هو يوم من أيام الدائرة الإلهية المرتبة في أفقها: الدائرة العقلية، منشئ النشأة الأولى مبدع النشأة الآخرة، لا إله إلا هو رب الآخرة والأولى، رافع مَنْ وحَّده إلى جنة المأوى، ومُحِطُّ مَنْ جحده إلى قعر جهنم السفلى، وفعله الخاص ما كان بالأمر عنه.
فهذا هو الفعل الخاص به المنفعل عنه ذوات الخواص المثبتة أسماؤها في السطور المكتوبة في الرَّقِّ المنشور، المدرجة في البيت المعمور، الذي لا يدخله إلا المطهَّرون، ولا يسكنه إلا المحبورون بسعادات أنوار الطاعة الخاصة من المعاصي البعيدة بالقرب من أهل الطغيان، الفاعلة ما يرد منها ويصدر عنها إلى مَنْ دونها صورة بالقوة لتكون مستقرة في اللوح.
ثم يبرز مثالها حتى يحصل في الدائرة الطبيعية صورة نفسانية متحركة بلا زمان في مكان خارجة بذاتها عن الزمان منفعلة إليها في زمان؛ فهي بذاتها الأول غير داخلة تحت حركة الزمان فسبحان خالق الزمان ومُوجِد المكان ومكوِّن الكيان، وله الأسماء الحسنى والأمثال العليا قال الله تعالى: قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى.
فهذه الصفات المحيِّرة لذوي الألباب والعقول في معرفة الباري منها سبحانه بأنه لا يشركه فيها أحد سواه، وفعله الذي فعله بذاته وأوجده بكلماته موجودة في موجوداته مسطورة في أرضه وسمواته، وهي آياته المكتوبة في الآفاق والأنفس، يتأمل الناظر فيها الواقف عليها الحق المبين ويعاين الصراط المستقيم.
فهذه معرفة صفات الله عز وجل وفعله المخصوص بها، بما أوجبه الكلام النطقي والتعبير اللفظي، بالآلة الجسمانية والصورة الإنسانية والملائكة المقرَّبين، تقديسًا وتسبيحًا وتمجيدًا وتحميدًا إلا هو غير هذا، وإنما لكل أهل دائرة من العباد ما يصلح لها ويليق بها، كما أن معرفة الإنسان بباريه هي أرفع وأعظم من معرفة الحيوان، وحس الحيوان بذلك أقوى من حس النبات، وللنبات من الحس بذلك أكثر مما للمعادن.
فأما حركة الجواهر المعدنية للعبادة والإقرار بالمبدع سبحانه فهو قبولها للنقش والصورة؛ فهذه عبادتها وطاعتها وخضوعها وخشوعها، وإن منها ما يلتذ ويشتاق إلى الطاعة، ومنها ما هو أسرع للقبول وأحسن في الصورة وأجلُّ في القدر وأعظم في ذلك ودون ذلك، ومنها ما هو في غفلة من ذلك لا يقبل الصورة ولا يذوب بالنار ولا له إشراق ولا صفاء، ولا يُنتفع به كالصمِّ الصلاب والصرة والحجارة والأرضين السباخ.
وأما عبادة النبات فهي ما يظهر منه من الحركات، وذهابه مع الهواء إذا ذهب يمينًا وشمالًا فهو راكع وساجد ومسبِّح ومقدِّس باصطكاك أوراقه وحركات قضبانه وما يُبديه من أنواره وأزهاره وتسليمه ثمرته إلى الحيوان، ومنها ما لا ينتفع به ولا يصلح إلا للنار.
وأما عبادة الحيوان فهي خدمته الإنسان وذهابه معه حيثما ذهب، وما يكون من صبره على ما يعمل به، ومنه عاصٍ منكِر جاحد لطاعة الإنسان عدو له كالسباع وأنواع الوحوش.
وأما عبادة الإنسان فهي ما أوجبه الله تعالى عليه وهداه إليه، وهو أجلُّ العبادات الأرضية وأعظم المعارف الحيوانية، وله فضيلة النطق وشرف القدرة على ما دونه، وكمال الخِلْقة واستواء القامة مجموع من العالمين؛ فهو كالحدِّ المتاخم للحدَّين وكالواسطة بين الطرفين، فاحرص أيها الأخ بالعبادة والطاعة حتى تصل إلى حيث يكون تسبيحك وتقديسك غاية أُنْسِك وأعظم لذَّة تجدها نفسك، فعند ذلك تأنف من الغذاء الجسماني ولا تحرص عليه ولا تشتاق إليه، وتصير في روضة الملكوت بحيث تكون حيًّا لا تموت.
(٤) فصل في أن الإنسان الغافل عن العبادة المنهمك في المعصية …
واعلم أيها الأخ، أن الإنسان الغافل عن العبادة المنهمك في المعصية هو أخس من الحيوان، وأخس من النبات وأخس من المعادن، مردود إلى أسفل السافلين؛ لأن الجواهر المعدنية قبلت الصورة وهو لم يقبلها، والشجرة ساجدة وراكعة لربها وهو لا يسجد، والحيوان طائع للإنسان وهو لا يطيع ربه ولا عرفه ولا وجده، ونعوذ بالله من هذه الغفلة وهذا النسيان، ونسأله التوبة والإقالة إنه ولي الإحسان.
(٥) فصل في معرفة أفعال العقل
اعلم أيها الأخ، أن العقل الفعَّال هو الإبداع الأول والخلق الأكمل، وأنه فعل الله الذي فعله بذاته وأوجده بكلمته وقدرته، الذي قدَّر فيه وجوده الذي جاد به، ويحقق هذا البرهان أن الرادَّ علينا فيما ذكرنا لا يمكنه جحود ما أوردناه ولا خلاف عنده فيما وصفناه إلا كان ردًّا للعيان.
ونعود فنقول: إن للعقل فعلًا يختص به ولا ينفرد عنه ولا ينفصل منه قريب بحيث هو.
ولما كان العقل لا يعدم جود باريه بل واجد له يجب أن يكون بحيث القرب منه تعالى مرتبًا في قبضته وإحاطته واتصال أمره به، كذلك يجب أن يكون الإبداع الثاني المنبعث عنه البادي منه المتوجِّه بالشوق إليه، منه بدأ وإليه يعود؛ فهو بالقرب منه بحيث التوجه بالشوق إليه والاستفادة منه والأخذ عنه ما يكون له صورة القيام، وهي النفس الكلية المرتبة في قبضته، وهو المفيض عليها الفضائل الموجودة في جوهرها، ولما تتلقى منه يكون تمامها وسعادتها، وبما تلاحظ في ذاتها العالية عليها المحيطة بها، وبتأملها بدقة تأمُّل الاستقراء والشوق إليها والرغبة فيها يتهيَّأ لها بذلك انتساج ملاحظته فيها في دائرتها وحصولها في ذاتها، فإذا تأملت بملاحظتها واستمدادها عادت متمثلة لما رأت في دائرتها أشكالًا كما يفعل التلميذ إذا امتلأ من تعليم مفيده عاد إلى تمثيل ما تعلَّم بالتشبُّه والمحاكاة، كما يوجد ذلك في الصبيان من محاكاة صنائع آبائهم والتشبه بهم في أفعالهم.
وإنما جُعل ذلك في جبلَّتهم وغريزة في عقولهم؛ ليكون قائدًا لهم إلى معرفة الصنائع والأعمال؛ لما في ذلك لهم من النفع التام والصلاح العام لعمارة دار الدنيا.
فإذا صارت تلك النقوش والأشكال في دائرة النفس ورتَّبتها في آفاقها وبنتها في دائرتها ابتدأت بإلقائها إلى مَنْ دونها، وتولَّت إثباتها فيه كثبوتها فيها وكونها عنها، فابتدأت القوى الطبيعية التي تحيط بالأجساد الهيولانية، فتُركَّب منها نقوش صورية وأصباغ نورانية موجودة في أجسام نورانية، موجودة في أجسام ظلمانية وأجساد هيولانية لتُشرق عليها أنوار نفسانية، وتتحد بها قوًى روحانية، وصارت الحِكم الملقاة عليها بقوة ملكية وإرادة فلكية وبقوة عقلية ومشيئة إلهية، وظهرت الخِلْقة الآدمية والصور الإنسانية قائمة بالحق ناطقة بالصدق مُقِرَّة بتوحيد الخالق سبحانه وتعالى، ومُقِرَّة بحدوث خلقها وإتقان صنعها وكمال بِنْيتها بوجود باريها ما أوجده فيها وقدَّمه عليها.
فهي صورة مماثِلة لصورة العالم الكبير؛ فلذلك سُمِّيت عالمًا صغيرًا، ثم ما دونها من صور الحيوانات وعجائب تراكيبها وبدائع تآليفها.
وصورة الإنسان لنفسه كتاب مُبيِن وصراط مستقيم في العالم الكبير، وهو ما فيه إنسان واحد للنفس الكلية تدبر أفلاكه وتحرِّك كواكبه بإذن الله تعالى ومشيئته وسابق إرادته، كما يحرِّك نفس الإنسان الذي هو عالم صغير جميع مفاصل جسده وأعضاء بدنه.
واعلم أيها الأخ، أن لتلك الحركات النفسانية قوى متصلة بفلك القمر وما دونها من الأركان ومولداتها وأفعال تظهر فيها ومنها لا يُحصي عددها إلا الله سبحانه وتعالى، كما أن لنفس الإنسان في جميع بدنه ومفاصل جسده أفعالًا كثيرة كما بيَّنَّا في رسالة تركيب الجسد، وفي رسالة الإنسان عالم صغير.
واعلم أن جسم العالم كله مركَّب من إحدى عشرة كرة، كما بيَّنَّا في رسالة السماء والعالم، وأن الفلك مقسوم نصفين، وفي الفلك اثنا عشر برجًا لمسير كواكبه، وينحط من كل برج ما يسري فيه من قوة كل كوكب، ما يكون به ظهور فعل يختص به هو فاعل له وقائم بعمله، كما أن الدائرة الأولى دائرة الفلك المحيط به والمحرِّك له النفس الكلية، وفعله الخاص به تدوير ما دونه معه، والفعل الصادر عنه كون الدوائر على الاستواء في النظام وهو محيط بها وهي مرتَّبة في أفقه، وهكذا إلى المراكز بعضها في جوف بعض، وتنبعث من هذه الكواكب الثابتة تأثيرات وقوًى تتصل بما دونها فتودع فيهم الأفعال التي تبدو عنهم، وتظهر منهم في الأوقات التي ينبغي فيها إظهار ذلك بمشيئة الله وقدرته.
واعلم أيها الأخ، أن دائرة الشمس في العالم العلوي دائرة شريفة عظيمة القدر والمنزلة عند الله تعالى، وهي بمنزلة القلب في الجسد والفلك المحيط كالرأس، وبه يدوم دوام الحكمة ومن الشمس سريان القوة، وذلك أنه يتصل بها من النفس الكلية قوة تختص بها وهي المعطية قوة الحياة لجميع الأجسام، وبها يكون صلاح العالم وتمام وجوده وكمال بقائه؛ وذلك أنه تنبثُّ منها قوة روحانية يكون بها استواء النظام وقوام الأشياء على أحسن قوام، فيتلألأ العالم ويزهر، وهي قنديل النور الذي لا يُطْفى وسراج القدرة الذي لا يخبو، وهي بمنزلة المثل الأعلى في السموات؛ لأنها أشرف الموجودات السماوية والأشخاص الفلكية، وقوَّتها كمثل الحرارة المنبثَّة من القلب في جميع أعضاء الجسد، واختصاص أفعال الحرارة في كل عضو ويظهر فيه عنها ويتكون فيه منها ما يكون به نموه وبقاؤه واختلاف ما خرج منه ورجوع ما بدا عنه، كذلك أفعال الروحانية الطبيعية ترد عوضًا عما باد واندرس من العالم، فيعود مثله إلى مكانه وهي مستولية على الأجسام الوضعية والأكوان المرتَّبة، وروحانيات النفس المنحطَّة من الطرف الأعلى مما يلي العقل تختص شرايف روحانيتها وكرام ملائكتها بمواليد الملوك وأصحاب التيجان وأُولي العز والرفعة والسلطان.
واعلم أيها الأخ، أن النفس ذات طرفين تنحطُّ منها قوَّتان: قوة مما يلي الطبيعة، وهي المتحدة بها من الأفعال الطبيعية، وقوة تنحطُّ من الطرف القريب من العقل فتتصل بالصورة الإنسانية وتتشكل بالأشكال الفلكية، فعند ذلك يُشرق العقل عليها ويصرفها بهاتين القوتين وينحطُّ من النفس بواسطتهما من العالم الأعلى، فالطرف الأعلى ينحطُّ من دائرة الشمس فيختص من الحيوان بالإنسان، ومن النبات بما طابت رائحته وزَكَتْ ثمرته وحسُنت صورته، ومن المعادن بالذهب، ومن الجواهر بالياقوت، ولها من الأفعال التمام والكمال ومن الصفات الإشراق والضياء، ومكانها من الأرض مواضع الملوك والرؤساء، وفعلها فيها الطهارة والنقاء، والطرف الأدنى ينحط بوساطة القمر المرتَّب في السماء الدنيا الموصوف بالزيادة والنقصان والأخذ والإعطاء والتفريغ والإملاء، ونحن نذكر من أفعاله ما يختص به في موضعه، إن شاء الله.
(٦) فصل في أنه ينحطُّ من دائرة الشمس …
وهؤلاء الملائكة الموصوفون بهذه الصفات المنسوبون إلى هذه الدرجات يطلعون بطلوعها ويغربون بغروبها، وهم الملائكة الموكلون بدائرتها السائرون في فلكها المتصلون بعالم الأرض بوساطتها، ومنهم تُشرق القوة النفسانية وبهم تضيء القوة العقلية، فهم إذن أشخاصهم نفسانية وأرواحهم عقلية وموادهم إلهية، فهم لا يضيق بهم المكان ولا يغيِّرهم طول الزمان عن أفعالهم والمكان عن كيانهم.
فهذه المنزلة أجلُّ منازل الروحانيين الفاضلين وهم الملائكة المقرَّبون ومَنْ دونهم اللاحقون بهم من تحتهم، ومن فوقهم ملائكة موصوفون بصفات غير هذه كذلك حتى يكون فوقهم مَنْ هو أعلى وأشرف؛ إذ كان هؤلاء روحانيون بذواتهم متصلون بالجسمانية بما يظهر فيهم من أفعالهم، والذين فوقهم ملائكة عالون، وهؤلاء المقرَّبون من العالين وصفات الملائكة العالين تختص بهم من حيث ذواتهم وأفعالهم أنفس ناطقة، وروحانياتهم كائنة منها نفسانيون، وهم اللاحقون بالكرسي الذي وسع السموات والأرض، ومنهم الحافُّون من حول العرش، ومنهم حمَلة العرش وكلٌّ في مقام كريم ومحلٌّ عظيم يسبِّحون بحمد ربهم.
فإذا تأملت يا أخي ما وصفنا وتحقق لك ما ذكرنا فقد تهيَّأ لك أن تصير بالصورة الملكية فتكون قد حُزْتَ الفضيلة والإنسانية، وتبرَّأت عن الصورة الحيوانية والصفة البهيمية، وتصير من سكان السماء بروحك الزكيَّة ونفسك المضيئة، وتصير صورتك ذاتية نفسانية وروحك قدسية عقلية ومادتك إلهية، وتستحق حينئذٍ مرافقة الملائكة المقرَّبين والأنبياء المرسلين والشهداء الصالحين، وتدخل الجنان وتحل في دار الحيوان فيكون طوبى لك وحسن مآب.
واعلم أيها الأخ، أنه لا يتهيأ لك ذلك بالمعرفة دون العمل، ولا بالقول دون الفعل، كما أنه لا يمكنك أن تكون في الدنيا بمجرد نفسك ولطيف روحك دون جسمك والوسائط التي بين الموجودات وبينك.
واعلم أن العمل هو سُلَّم المعراج والمعرفة هي النور يسعى بين يديك، فبالسُّلَّم ترتقي وبالنور تهتدي، وفقك الله وإيانا للعلم والعمل برحمته.
(٧) فصل دائرة زحل
دائرة زحل تنبثُّ منها روحانيات تسري في جميع العالم من الأفلاك والأمهات والمواليد، وبها يكون تماسك الصورة في الهيولى، وهي تعطي الأشياء الثقل والرزانة والوقوف والإبطاء، وموضعها من جسد الإنسان الطحال وما ينبثُّ منه في الجسد من المِرَّة السوداء، وبذلك تكون أجزاء البدن من العظام والعصب والجلود وجمود الرطوبات، ومن أفعاله البرودة واليبوسة، ولها من الحيوان ما اسودَّ لونه وقبحت صورته، ومن النبات مثل ذلك، ومن المعادن الرصاص الأسود والقير وكل ما اسودَّ لونه ونتنت رائحته، ومن الأرض والجبال السود والأودية المظلمة والطرق الوعرة والوحوش الذعرة الكريهة المنظر، ومن عالم الإنسان ما يكون بهذه الصفة.
ومن أفعال هذه الروحانيات الموت وسكون الحركة والملائكة المنبثَّة منه في العالم موصوفون بما يبدو عنهم ويظهر منهم من أفعالهم وأعمالهم؛ ليكون بذلك الفعل عذاب النفوس العالية والأرواح الساهية، وهي كتب مطموسة وصور معكوسة.
وأفعال روحانيته في العالم البرودة واليبوسة، والملائكة النازلون لقبض الأرواح وموت الأجساد روحانيات موكَّلون بساعات الليل، وهي أعداد لا يحصيها إلا الله، وهم رُكَّاب على دوابَّ دُهْمٍ يقدمها ملك بيده راية سوداء مكتوب عليها: لا إله إلا الله مقدِّر الليل والنهار وجاعل الظلمات والنور، كذب العادلون بالله وضلُّوا ضلالًا بعيدًا مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ.
ويختص من بقاع الأرض بالمواضع الدارسة والأماكن المنقطعة والجبال الشامخة والطرقات الوعرة، وهي عُمَّار ما خرب من الأرض، وبهم يكون تماسك البحار في أماكنها وثبات أوتاد الأرض وتماسكها، ولولا ذلك لسالت أجزاؤها واختلطت بالماء وساحت في البحار.
فهذه الملائكة الموكَّلة بها تمسكها بإذن الله عز وجل، والفلاسفة تسمي هذه الملائكة روحانيات زحل، والناموس يسميها ملائكة الغضب وجنودًا وأعوانًا وهم الموكلون بقبض الأرواح ومَلَك الموت منهم.
(٨) فصل دائرة المشتري
دائرة المشتري تنحط منها قوى روحانيات تسري في جميع العالم يكون بها اعتدال الطبائع وتأليف القوى المتنافرات، وهي سبب المتولدات الكائنات وحفظ النظام على الموجودات، وأفعال روحانياتها في العالم الكبير ما ينبثُّ من الكبد في جسد الإنسان الذي هو عالم صغير، الذي به يكون صلاح المزاج واعتدال الأخلاط وجريان الدم في الأعضاء، وبه ينمو الجسد ويستوي البدن وتطيب الحياة ويلذُّ العيش وتأنس الأرواح، وروحانيته مستولية على مواليد الأنبياء، صلوات الله عليهم، وأصحاب النواميس ومواضع الملائكة المنبثَّة من دائرته النازلين من فلكه الخارجين من بابه مواضع الصلوات وبيوت العبادات.
ومن الحيوانات الصور الحسنة المذبوحة في القرابين المفرَّقة لحومها في الصدقات والزكوات.
ومن النبات ما كان في غاية الاعتدال ونهاية النفع، وله من الطيب الكافور ومن البخور ما كان معتدلًا بين البرودة والحرارة والرطوبة واليبوسة، ومن الثياب البيض والعمايم الكبار والطيالس، ويختص بمواليد الحكماء والقضاة ومَنْ يخدم في نواميس الأنبياء ومقامات الحكماء، والملائكة المنبثَّة منه سكان الفضاء ومدبِّرو الهواء، وهم عدة لا يحصيهم إلا الله عز وجل، وركَّاب على خيول بيض وشهب وبُلق، وثيابهم بيض وخضر، يَقْدُمهم ملك كريم وشخص عظيم بيده راية مكتوب عليها: لا إله إلا الله وحده لا شريك له جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ، وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ وهو على كل شيء قدير.
وتختص هذه القوى من المعادن بالأجساد البيض اللينة، ومن الجواهر اللؤلؤ والمرجان والبلور والزجاج، ومن المياه ما كان حلوًا لذيذًا يكون فيها الحيوان الحي وغير الحيوان، وهو مختص بها وبه يكون منبعها، ومع روحانيته يكون معراج الأنبياء إلى ما أعدَّ الله لهم من حسن المآب وجزيل الثواب، ورضوان خازن الجنان منهم.
(٩) فصل دائرة المريخ
دائرة المريخ تنبثُّ منها قوًى روحانية تسري في العالم من الأفلاك والأركان والمولدات، وبها يكون النزوع والنهوض والسرعة في الأعمال والصنائع والترقِّي في معالي الدرجات وطلب الغايات والوصول إلى التمام والبلوغ إلى الكمال بالقهر والغلبة والعز والسلطنة.
وتختص أفعال روحانيتها وأعمال ملائكتها من المعادن بالحديد وما يُتَّخذ منه من السلاح، وما يصلح لوقود النار في النبات والأشجار ما يكون منه من الحرارة المنضجة لثمارها التي تمتصُّ الرطوبات المائية والمواد النديَّة، وبهذه الحرارة الغريزية يكون جذبها للبرودة الموجودة فيها، ولولا هذه الحرارة لتلفت أصول النبات وغلبت عليها البرودة فتلفت واضمحلَّت وما بقيت وعدمت.
وفعلها المختص بالحيوان ما يظهر فيه من الغضب والتعدي والشر، وكذلك في عالم الإنسان ما يكون من الحروب والفتن، ومن بقاع الأرض مواضع النيران وعمل الحديد ومذابح الحيوان، ومن جسم الإنسان المِرَّة الصفراء وما ينبثُّ منها من الأفعال في البدن من اللهيب والحرارة، ولولا ذلك لغلبت القوة الباردة اليابسة على الجسد فتلف واضمحلَّ.
وبالحروب والفتن يميز الله الخبيث من الطيب، ويكون سعادة لقوم ونحسًا للآخرين: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وهذه الروحانيات أيضًا ملائكة غلاظ شداد لا يُحْصِي عددهم إلا الله عز وجل، يَقْدُمهم ملك راكب فرسًا أحمر، بيده راية حمراء مكتوب عليها: لا إله إلا الله مقدِّر الموت والحياة، وله ما في السموات وما في الأرض وما سكن في الليل والنهار يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الآية، وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ.
وهذه الروحانيات تختص بمواليد السلاطين وأصحاب السيوف وولاة الحروب وأصحاب الشجاعة والإقدام والنجدة والجراءة، وهي تفعل من ذلك بضدِّ ما تفعل روحانيات زحل؛ إذ فعل روحانيات زحل القرار والهدوء وأعمال الحيلة وإبطاء الحركة وطلب الفرصة.
(١٠) فصل دائرة الزُّهَرة
دائرة الزُّهَرة تنبثُّ منها قوًى روحانية تسري في جميع جسم العالم وأجزائه، وبها يكون زينة العالم وحسن نظامه، وبهاء أنواره، ورونق أزهاره، وزخرف الكائنات، وحسن الموجودات، واعتدال النبات، والشوق إلى الزينة، ومحبة الجمال، وطلب الكمال، كما ينبثُّ من جِرْم المعدة شهوة الملاذِّ إلى جميع مجاري الحواس التي تستلذُّ المأكولات والمشروبات، وروحانياتها تستولي على مواليد النساء والخدم ومَنْ يجري مجراهم، وأفعال روحانياتها في العالم العشق والمحبة والتزين بالزينة الحسنة، وتختص من المعادن بما يصلح للنساء من الآلات والأكاليل والحُلي والخواتم، ومن الجواهر بالدُّرِّ، ومن النبات بكل ما طاب طعمه ورائحته وحَسُنَ منظره من جميع أزهار الأشجار وروائحها وأدهانها وحسن منظرها وطيب ثمرها.
ومن الحيوان بمثل ذلك، ومواضعها في الأرض أمكنة اللذات ومواضع الخلوات، وروحانياتها ملائكة لا يُحْصِي عددهم إلا الله عز وجل، رُكَّاب حيوانات ملوَّنة موشَّحة بالزينة، يَقْدُمهم ملك بيده راية مكتوب عليها: لا إله إلا الله وحده لا شريك له قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ الآية، وهي ذات النقش والتصوير وبهذه القوة ثبات النفس في الهيولى.
(١١) فصل دائرة عطارد
دائرة عطارد تنبثُّ منها قوى روحانيات تسري في جميع جسم العالم وأجزائه، وبها تكون المعارف والعلوم والخواطر والإلهام والرؤيا والوحي والنبوة، كما تنبثُّ من الدماغ القوة الوهمية وما يتبعها من الذهن والتخيل والفكر والروية والتمييز والفراسة والخواطر والإلهام والشعور والإحساس، وتستولي روحانياتها وتختص أفعال ملائكتها الهابطة من المعادن الطبيعية بالزوابيق والأرواح الصاعدة، ومن جواهر ما كان ذا لونين مثل الجزع والبادزهر، ومن الحيوان الزرافات وبقر الوحش وكل ما خفَّ مشيه وأسرع في ذهابه، ومن النبات مثل الأودية الفاضلة، وتختص من عالم الإنسان بمواليد الكُتَّاب والوزراء والعمال وجباة الأموال، ويؤثِّر في العالم الصنائع والحِرَف، ومن الكلام الشعر والخط والنظم وغير ذلك، وملائكته النازلة من دائرته كرام كاتبون وحفظة حاسبون ذوو مناظر حسنة وصور بهية، أرواحهم خفيفة وأشخاصهم لطيفة، يَقْدُمهم ملك بيده راية مكتوب عليها: لا إله إلا الله وحده لا شريك له: كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ.
(١٢) فصل دائرة القمر
دائرة القمر تنبثُّ منها قوًى روحانية تسري في جميع العالم وأجزائه، فيها تنفس الموجودات في العالم جميعًا تارةً من عالم الأفلاك نحو عالم الكون من أول الشهر، وتارةً من عالم الكون نحو عالم الأفلاك في آخر الشهر، وهي القوة المتوسطة بين عالم الأفلاك ومعدن البقاء والتمام، وبين عالم الأركان معدن الكون والفساد والهبوط والاتحاد، كما تنبثُّ من جرم الرئة القوة التي بها يكون التنفس تارةً باستنشاق الهواء من خارج الجسد لحفظ الحرارة الغريزية على الجسد، وتارةً تكون بإرساله إلى خارج لترويحه، فعند استنشاق الهواء تربو الرئة وتعظم، وعند إرساله تهزل وتصغر، كذلك القمر باستمداده مما فوقه تتسع دائرته وتهبط ملائكته بالمواد العلوية والخيرات السماوية، فيفعل في العالم الزيادة والنماء والرُّبَى، فعند ذلك تكثر مياه الأنهار وتربو وتسمن الأجسام، فلا يزال كذلك إلى النصف من الشهر، ويتكوَّن في هذه المدة بعض المعادن، ويتكون بعض الجواهر، وروحانياتها تفعل في المعادن الفضة والأجساد البيض مثل الملح والثلج، وله من الجبال البيض ومواضع الثلوج، وله من الحيوان ما يتكون من المياه، ويكون غذاؤه منها، وتستولي روحانياته، وتختص أفعاله وجنوده بمواليد أصحاب العمارة مثل الوكلاء والدهَّاقين وأصحاب الجمع ومَنْ يفعل في المياه.
وقد ذكرنا، أيها الأخ، ما يكون من أفعال روحانيات منازل القمر التي تسير فيها وتمرُّ عليها وما يهبط منه ومنها إلى العالم الأرضي والمركز السفلي، وما يكون منها وما يجب للعامل إذا أراد أن يعمل ما يعمله من معرفتها في رسالة السحر والعزائم، وهذه القوة هي المخصوصة بتدبير عالم الكون والفساد، وفلك القمر هو سماء الدنيا وملائكتها هي الموكَّلة بعالم الأرض، وهم عدة لا يحصيهم إلا الله تعالى، يَقْدُمهم ملك بيده راية بيضاء مكتوب عليها بسواد: لا إله إلا الله وحده لا شريك له وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ.
(١٣) فصل في أنه ينبثُّ من جرم كل كوكب من الكواكب الثابتة …
وهكذا ينبثُّ من جرم كل كوكب من الكواكب الثابتة قوة روحانية تسري في جميع جسم العالم من أعلى الفلك الثامن الذي هو الكرسي الواسع إلى منتهى مركز الأرض، وبهذه القوة ومع هذه الملائكة يكون النور الذي تشرق به السموات وتضيء الأفلاك ويتصل بالشمس فتكون هي القنديل المضيء والكوكب الدُّرِّيُّ والنور الزاهر والسراج الأنور المتوقد مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ، وينبثُّ من نور الشمس في الهواء الأجسام الشفَّافة، المجموع فيها النور والإشراق والضياء والحسن والبهاء، وبهذه القوة تنحطُّ صور الموجودات فتصير في دائرة الطبيعة محفوظة في الهيولى، وبها صلاح العالم وقوامه، وكونه على ما هو موجود بإذن باريه تعالى، ونهايات سكان السموات وهم الملائكة العالون، وهم جنود الله الذين لا يعلمهم إلا هو كما قال تعالى: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ وقال حكايةً عنهم: وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ وهم سكان الكرسي الواسع، وحمَلة العرش المحيط من فوقهم يمدُّونهم بالفيوضات الكاملة والنعم الشاملة، وهم المرتبون في جوار رب العالمين المستمعون لكلامه الفاعلون بأمره ونهيه، وهم حمَلة الوحي والتأييد إلى مَنْ دونهم، المبلِّغون رسالات ربهم إلى الأنبياء، صلوات الله عليهم أجمعين.
(١٤) فصل في صفة الدوائر الفلكية
وإذ قد ذكرنا صفة الدوائر الفلكية والملائكة السماوية والروحانيات الهابطة من الملأ الأعلى من لدن العرش إلى منتهى المركز أسفل السافلين، وبين ذلك دائرة ودائرة ما فيها من السكان وما يظهر من أفعالهم في الزمان بموجبات أحكام القرآن، فأول الدوائر التي دون فلك القمر دائرة الأثير، وهي دائرة كُرِيَّة نارية حادثة من تحريك فلك القمر وما يتصل به من أفلاك الكواكب ونيران حرارات دوران الأفلاك واصطكاكاتها وتموُّجها وشعاعاتها، وتجتمع كلها تحت فلك القمر، وكيفية هذه الدائرة وردية متموجة متحركة مستديرة ينحطُّ منها إلى العالم قوًى نارية، والنار التي في العالم منها، ويكون وصولها إلى العالم بوصول نور الشمس وهي الحرارة التي تنحلُّ بنور الشمس مما دون فلك القمر، تقوى في الصيف وتضعف في الشتاء لقرب الشمس منها، إذا قاربت في بروجها من دائرة الأرض يكون الصيف، وإذا بعدت في أوجها وعلى دائرة فلكها ضعفت هذه الدائرة، وبضعفها يقوى فعل الدائرة المرتَّبة تحتها وهي دائرة الزمهرير، ومن فعل دائرة الأثير في العالم يكون التسخين والنضج وإصلاح الغذاء، وهي النار المستضاء بها من ظلمات الليل، وهي نار جزئية من النار الكلية.
(١٥) فصل في دائرة الزمهرير
ومن تحتها دائرة الزمهرير، وكيفيتها كُرِيَّة لونها أزرق وتحمر، وحدوثها من الهواء والبخارات الصاعدة من الأرض، فإذا وصلت إلى سطح كرة الأثير تعذَّر عليها نفوذها فوقفت مرتبة تحتها، منها ينبثُّ إلى العالم ما يحدث في الشتاء من البرد والأمطار والثلوج وما شاكل ذلك إذا بعدت الشمس وضعف فعل دائرة الأثير واستولت على الكواكب النارية في اليُبْس، وفعلها البرد والرطوبة، ووصول قوتها يكون بوصول القمر، ويزيد بزيادته وينقص بنقصانه.
(١٦) فصل في دائرة الهواء
ومن تحتها دائرة الهواء وكيفيتها مستديرة ممتزجة ولونها أسمانجوني وهو لون السماء، وتبيض بإشراق الشمس والقمر والكواكب عليه، تُضيء بالنهار وتُظلم بالليل، وهي مهيَّأة لقبول الأنوار، وتضيء بحسب قواها فيها ووصولها إليها وإشراقها عليها، وفعل هذه الدائرة في العالم تغذية الأجسام وحفظها على استواء النظام وترويح الحرارة الغريزية والنفس وحفظ القوة والحركة وطيبة العيش ولذة الحياة، وهي معتدلة تميل مع ما يقوى عليها ويتصل بها، تبرد في الشتاء بما يتصل بها من قوة الزمهرير، وتحمى في الصيف بما يتصل بها من قوة حر الأثير وما يكون من فعل الشمس والقمر وبقية الكواكب، ذلك تقدير العزيز العليم.
(١٧) فصل في أن دون دائرة الهواء دائرة الماء
ودون دائرة الهواء دائرة الماء، وهي مستديرة حائطة بالأرض، والهواء حائط بها، فما ينشفه الهواء ويصعد به ويعرج معه بالبخارات الصاعدة مع لطائف الأمهات حتى يتصل بدائرة الزمهرير ويسخن بحرارة الأثير، وتشرق الشمس عليه مع شعاعات الكواكب فيصير مطرًا وغيثًا يغاث به أهل الأرض، ويصير حلوًا طيبًا سائغًا لذة للشاربين.
ومنه ما يكون قبل صعوده مِلْحًا أجاجًا كالبحار المالحة والمياه النابعة من السباخ، فانظر أيها الأخ هذه الحكمة، وتأمَّل هذه الصنعة، وانظر كيف يكسب الماء بطلوعه إلى دائرة الزمهرير وبُعده من دائرة الأرض، ويتصل به وتُشرق عليه هذه الطبيعة واللذة والصفاء واللطافة والمنفعة، ويصير مادةً للأجسام وغذاءً للأبدان وحياةً للنبات والحيوان، ولو بقي على الحالة الدنيئة والرتبة الناقصة لكان غير منتفَع به.
وكذلك النفس إذا بقيت مع جسمها البالي ومكانها الدنيء لا تنال الفضائل التي بها تكون سعادتها وارتقاؤها في رفيع درجاتها، وما تناله من اللذة والطيب في دار المعاد بعد مفارقة الأجساد وعند النقلة عن عالم الكون والفساد.
(١٨) فصل في بعد دائرة الماء دائرة الأرض وهي التراب
وبعد دائرة الماء دائرة الأرض وهي التراب، وكيفيتها مستديرة ولونها أسود، كثيفة جامدة، وعلى بسيطها مستقَرُّ الجثمانيين، وعلى ظهرها إشراق أنوار الروحانيين، وفي البقاع الطاهرة فيها مسكن النبيين والصالحين، وهي مهبط الوحي والملائكة المقرَّبين، وفي باطنها سكون المعادن، وفي البقاع الطيبة يستقر الماء المَعِين الذي هو لذة للشاربين، سطحها مما يلي الأفلاك هو وجهها، وهو مقر العالم الجسماني والخلق الإنساني، وهو دوائر عليها وخطوط فيها، ولكل دائرة فعل يختص بها وعمل يظهر منها بحسب ما يتصل بها من فوقها، والذي دون فلك القمر مأوى الصمِّ البُكْم الذين لا يعقلون في أسفل السافلين.
وإذ قد ذكرنا الدوائر التي هي دون فلك القمر إلى منتهى مركز الأرض فلنذكر الدوائر التي على سطح الأرض، الكائنة فيها، الصاعدة عنها، المستقرة عليها.
(١٩) فصل في أن أول ما بدأ في باطن الأرض وتحرَّك بالكون: المعادن
اعلم أيها الأخ، أنه أول ما بدأ في باطن الأرض وتحرَّك بالكون: المعادن، وهي دائرة كانت ذات قوة كامنة كثيفة وثقيلة، منها صلبة ورخوة، ذات ألوان وأصباغ وزيادة ونقصان، ومنها ما يقبل الصورة وينساق للفعل، ولكلِّ شكلٍ منها فعلٌ يختص به وقوة توجد فيه، قد ذكرناها في رسالة المعادن، ثم الدائرة التي فوقها التالية لها دائرة النبات، وهي مرتفعة عن الأرض بعد كونها مرتفعة نحو المحيط قابلة لما ينزل عليها، وفعلها الغذاء للحيوان، وهي الواسطة بينه وبين الأرض بما يتناوله من ثمارها وحبوبها، وبما ينتفع به منها فيما يصدر إليه عنها، وقد ذكرنا ما يختص بكل نوع منها في رسالة النبات.
(٢٠) فصل في الدائرة التي من فوقها دائرة الحيوان
والدائرة التي من فوقها دائرة الحيوان وأفعالها وما يظهر منها، وهي حائطة بدائرة النبات قاهرة لما يكون فيها، تأكل منها وتتغذى بها، ولكل جنس منها عمل وهو عامل له وفعل يختص به، وفيها للإنسان منافع، قد ذكرناها في رسالة الحيوانات، والدائرة المرتبة فوق هذه الدوائر، التي هي لها كالفلك المحيط بالأفلاك، دائرة عالم الإنسان؛ إذ كان المتحكم فيها كلها، فأول هذه الدائرة آدم، وآخرها صاحب الدور الجديد في القرآن المستأنف.
وهذه النفوس الحيوانية المرتَّبة تحت الإنسان بالطاعة له والانقياد لأمره ونهيه هم الملائكة الذين سجدوا لآدم عليه السلام وأقرُّوا بالطاعة، وهم صور وأشباح للملائكة الذين هم سكان السموات وعالم الأفلاك والحيوانات العاصية للإنسان المعادية له، وهي مثل إبليس وجنوده وحزبه والشيطان وأتباعه، فقد بان بما وصفنا وتحقق بما ذكرنا معرفة ما في العالم الصغير والكبير، وما يكون من فعل الإنسان ويبدو منه ويظهر عنه من الأفعال المتضادة والأعمال المتباينة، وأنه صورة قد قهرت الصور، ودائرة قد أحاطت بالدوائر التي دونها، وفيها مثالات لما فوقها، وقد ذكرنا طرفًا منه في رسالة: «الإنسان الصغير»، ونريد أن نذكر في هذه الرسالة ما يتفرع من كل دائرة من هذه الدوائر المجسمة والخطوط المركَّبة، ونبتدئ بدائرة الإنسان وما يوجد فيها من الأقسام المحيط بعضها ببعض حتى يكون آخرها فلك القمر، وينتهي إلى مركز الأرض الذي هو مستقر الكثائف ووجود فعل اللطائف بالتمثيل وإقامة الدليل.
(٢١) فصل دائرة الناموس الإلهي
دائرة الناموس الإلهي وأشخاصها القائمون بأمور النواميس وما أُنْزِل إليهم من ربهم، ومثلها في عالم الإنسان مثل الفلك المحيط وكواكبه، وما ينحط إليها من السعادات في الدين والدنيا، مثل ما يتصل بالعالم كله من فيضان الكواكب الثابتة من الحيوان والسعادات وإشراق النور والضياء، وهذه الدائرة في عالم الإنسان بمنزلة دائرة الشمس في عالم السموات، ويقترن بها دائرة الملك والعز والسلطان، وهي حاوية لجميع ما دونها من الدوائر في عالم الإنسان، محيطة بما دونها من العوالم، وبهم يتصل منها العلم والحكمة والإخبار بما كان ويكون.
(٢٢) فصل في الدائرة التي تليها دائرة أصحاب الحِكَم الفلسفية
الدائرة التي تليها دائرة أصحاب الحِكَم الفلسفية العقلية المرتَّبة في أفق الدائرة الأولى، وتنبثُّ منها في العالم الصنائع المُحْكَمَة والأفعال المتقنة مما يصلح للرؤساء والملوك وما يليق بهم.
فقد بان بهذا القول أن عالم الإنسان درجات وطبقات ودوائر محيطة بعضها ببعض، بادية بعضها عن بعض، ويختص بكل دائرة منها من قوى الشمس وأفعالها ما يختص بكل كرة وفلك من فعل النفس الكلية، وما يسري فيها من قواها وروحانياتها في العالم، وتتهيَّأ قواها وروحانياتها في جهاته وتوكيلها ملائكته بموجوداتهم وإقامتهم إياهم في مواضعهم اللائقة بواحد واحد منهم، وبمعرفة الإنسان بِنْيَة جسده وكيفية فعل نفسه في جسمه تكون معرفته بما في العالم الكبير بأسره، وبتوحيد خالقه وتنزيه مبدعه ومعرفة آياته المكتوبة في أرضه وسمائه، وما أبداه واخترعه من مخلوقاته.
ولذلك قال النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «أعرَفُكم بنفسه أعرَفُكم بربه.»
(٢٣) فصل في أن الله عز وجل جعل جسم الإنسان مركَّبًا من تسعة جواهر
اعلم أيها الأخ، أن الله عز وجل جعل جسم الإنسان مركَّبًا من تسعة جواهر مبنيًّا على تسع دوائر مركَّبة بعضها في جوف بعض؛ ليكون جسم الإنسان بموجود بنيته وكمال هيئته مشاكلًا للأفلاك بالكيفية والكمية جميعًا؛ لأن الأفلاك تسع طبقات مركَّبة بعضها في جوف بعض، والفلك المحيط حائط بها كلها، كما قال الله تعالى: وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ فكذلك جسم الإنسان خُلِق من تسعة جواهر بعضها فوق بعض وآخر ملبَّد عليها محيط بها، تفصيل ذلك: وهي العظام والمخ فيها، والعصب، والعروق وفيها الدم، واللحم والجلد والشعر والظفر.
فالمخ في جوف العظام، وفعله تركيب العظام وحفظ القوة وتليين اليبس، وفعل العظام مسك اللحم وثباته عليها، وفعل العصب ضبط المفاصل ورباطاتها كيلا تنفصل، وفعل اللحم سد خلل ذلك الجسم، ووقاية للعظام لئلَّا تنصدع وتنكسر، وفعل العروق جمع الدم فيها وجريانه إلى أطراف الجسد وتحريكه بالنبض، وفعل الدم مسك الحرارة وضبط الحياة واعتدال المزاج والحركة، وفعل الجلد الإحاطة بجميع الجسم وما فيه، وهو كالسور عليه، وفعل الظفر ضبط الأطراف ومسكها وزمها؛ لئلَّا تنكسر وتنتشر.
(٢٤) فصل ولما كان الفلك معمورًا باثني عشر برجًا كذلك وُجِد في بِنْيَة الجسد …
ولما كان الفلك معمورًا باثني عشر برجًا كذلك وُجِد في بِنْيَة الجسد اثنا عشر ثقبًا مماثلة لها، وكما أن في النفس الفلكية في كل برج من أبراج الفلك قوًى موكلة بها، كذلك لنفس الإنسان في كل حاسة من جسمه قوى موكلة بها تصدر عنها وترجع إليها.
ولما كانت الأبراج ستة منها جنوبية وستة شمالية كذلك وُجِد للإنسان ست ثقوب في الجانب الأيمن وست في الجانب الأيسر مماثِلة لها بالكمية والكيفية جميعًا.
ولما كان في الفلك سبعة كواكب سيَّارة بها تجري أحكام الفلك في الكائنات، وبها يكون نظام الموجودات، كذلك يوجد في الجسد سبع قوى فعالة منبثَّة من النفس الإنسانية متصلة بالقوة الطبيعية بما يكون به صلاح الجسد، ولما كانت هذه الكواكب ذوات نفوس وأجسام وأفعال روحانية تفعل بما يظهر من فعلها في الموجودات من الحيوان والنبات، كذلك يوجد في جسم الإنسان سبع قوى جسمانية تفعل في الجسم ما يكون به بقاؤه ونموه وصلاحه بمواد سبع قوًى وهي: الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة والغاذية والنامية والمصوِّرة، وسبع قوًى روحانية مماثلة لقوى روحانيات الكواكب السبعة وهي القوى الحساسة، وبها كمال الإنسان وتمام أفعاله، كما أن بالسبعة الكواكب زينة الفلك وقوامه واستواء العالم الأعلى ونظامه، وهي القوة الباصرة والشامَّة والذائقة والسامعة واللامسة والناطقة والعاقلة.
والقوى الخمس تشبه الكواكب الخمسة، وهاتان القوَّتان؛ أعني الناطقة والعاقلة، مشابهتان للشمس والقمر؛ وذلك أن القمر من الشمس يأخذ نوره بجريانه في منازله الثماني والعشرين، كذلك الناطقة من القوة العاقلة تأخذ معاني الموجودات وحقائق المرئيات فتخبر عنها بثمانية وعشرين حرفًا من حروف المعجم.
ولما كان في الفلك عقدتان وهما: الرأس والذَّنَب، وهما خفيَّتا الذات ظاهرتا الأفعال، كذلك وُجِد في جسد الإنسان شيئان للمزاج: صلاح وفساد، فإذا صلح المزاج استقام أمر الجسد، وإذا فسد المزاج اضطرب الكل، وكذلك النفس إذا مالت إلى العقل صحَّت أفعالها وتخلَّصت من كدر الطبيعة، وأشرق العقل عليها واهتدت إليه وأنِسَت به، وإذا مالت إلى الطبيعة اضطربت أفعالها وقبحت أعمالها وبعدت عن علتها، وغرقت في بحار جهالتها، وانكسفت كما يكون انكساف الشمس والقمر بعقدة الذَّنَب، وما يحدث في الأرض ويكون في ذلك من الأمور الصعبة، كذلك المزاج بصلاحه يكون صلاح القوة الناطقة والقوة العاقلة إذا سلمت بِنْيَة الجسد وجرت على الأمر الطبيعي صَفَتِ النفس، وإذا صفت النفس أشرق العقل عليها وأضاء فيها، والعينان في الجسد مشاكلتان للشمس والقمر؛ إذ هما سراجا الجسد، وبهما تُدْرك النفوس صور الموجودات والألوان المرئيات بمادة إشراق ضوء الشمس والقمر، وكذلك بقية سائر الحواس، وكما أن في دوائر الفلك وبروجه حدودًا ووجوهًا ودرجات، كذلك يوجد في مفاصل الجسد وأعضاء البدن مفاصل وعروق مختلفة الأوصاف، وكما أنه ينبثُّ من قوى النفس الكلية في الكواكب السبعة والبروج الاثنا عشر روحانيات لها أفعال تختص بكل كوكب وكل برج، وأنها تنحطُّ إلى العالم مع كل لحظة ودقيقة وساعة وحركة من حركات الزمان، كذلك لنفس الإنسان في جسمه ومفاصله أفعال وأعمال تظهر منها وتبدو عنها مع كل حركة من حركاته ولحظة من لحظاته ونَفَس من أنفاسه، وكما أن نفس الإنسان متصلة متحدة محركة بحركة الجسم ما دام موجودًا بذاته قائمًا بأدواته إلى وقت مفارقتها إياه وخروجها عنه إلى ما سواه، كذلك النفس الكلية متَّحدة بالحركة الفلكية بإذن باريها وكونها على ذلك إلى المدة المقدَّرة والحكمة المدبَّرة.
(٢٥) فصل في مشاكلة جسم الإنسان للدوائر التي دون فلك القمر
رأسه يشبه دائرة الأثير، وهي النار من جهة شعاعات بصره وحركة حواسه وحرارة أنفاسه، ومِن فِيهِ إلى أصل عنقه مُشاكل لدائرة الزمهرير لمرور الماء البارد عليها وجريانه فيها كما ينزل الماء من دائرة الزمهرير إلى الأرض، كذلك من فم الإنسان يكون وصول الماء إلى جوفه وما يظهر فيه من البصاق، وما يبدو من كلامه وأصواته وزجراته ونهراته مثل الرعد والصواعق والثلوج المنحطة من دائرة الزمهرير، ومثل ما ينفخ في فمه من الهواء البارد إذا أراد تبريد الحرارة، وصدره مشاكل لدائرة الهواء وما يتصل من أنفاسه وما يسكن من رئته وما يكون من ترويح الحرارة الغريزية التي في قلبه، وجوفه مُشاكل لدائرة الماء؛ لاستقرار الماء فيه والرطوبات التي لا تفارقه، والنداوة اللازمة له، ومن سُرَّته إلى قدمه مُشاكل لدائرة الأرض لاستقراره عليه وكونه ملازمًا للأرض بسعيه فيها والذهاب والمجيء، ومن جهة أخرى رأسه كالفلك المحيط والقوى فيه كالملائكة الموكلة بالفلك المحيط.
وكما ينحطُّ من الروحانيات إلى العالم ما يكون به صلاحه فكذلك تنحط من القوة العاقلة من الرأس إلى الجسم ما يكون به صلاحها، ومثل نبات شعر رأسه مثل فلك زحل وما ينبثُّ من روحانياته وما يبدو عنه ويكون منه، ثم كذلك إلى ما دونه إلى أن ينتهي إلى فلك القمر موجود كل ذلك في بِنْيَة جسد الإنسان، وقد ذكرنا هذا الفصل بتمامه في رسالة «الإنسان عالم صغير» وقوى نفسه الخاصة بها إذا اعتدلت وعدلت عن الطبيعة إلى جهة العقل كانت كالملائكة، وصارت أفعالهم مشاكِلة لأفعالهم، فإذا فارقت الجسم صارت إليهم وقدمت عليهم، وإن عدلت عن العقل إلى الطبيعة صارت مثل الشياطين ومن حزب إبليس اللعين، وصارت أفعالها تشبه أفعالهم، وإن فارقت الجسم وهي على ذلك صارت معهم، فمستقبل الإنسان بالجنة أشبه وهو ذات اليمين، ومؤخره بالنار أشبه وهو ذات الشمال، والقفا يشبه عالم الكون والفساد؛ إذ كان ظلمةً كلُّه، وهو الظهر وما يبدو منه ويكون عنه من خروج الغائط، والوجه عامر بالحواس والأنفاس والأنوار، وهو عامر مأنوس كعمارة الأفلاك ونور السموات، كما قال تعالى: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ، ولا صورة أحسن من الإنسان المليح الوجه التام الخِلْقة الكامل البنية إذا أقبل، ولا شيء أوحش من الإنسان إذا أدبر، وكذلك يوجد الإنسان بين حالتين في معيشة دنياه وما يكون به صلاح جسده وقوام نفسه وهما: الفقر والغِنَى فالغِنَى يُسمَّى إقبالًا والفقر إدبارًا.
فبالغِنى النعيم واللذة وبلوغ الغرض والشهوة، وكذلك أهل الجنة لهم فيها ما يشتهون، ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وبالفقر يكون عدم المحبوبات وكثرة الهموم والأحزان والحسرة والندامة على ما يفوتهم مما يناله غيرهم من أهل اليسار.
وكذلك أهل النار لا ندامة كندامتهم على ما يفوتهم من خيرات الجنة وما يناله أهلها.
وعلى هذا المثال إذا اعتبرت بِنْيَة الإنسان وتأملتها وجدتها جميع الموجودات وفيها مثالات ما فيها بأسرها؛ فلذلك يسميها الحكماء عالمًا صغيرًا؛ إذ كانت مشاكلة بجميع ما فيها لجميع ما في العالم الكبير.
(٢٦) فصل وإذ قد وجدنا من وجود هذه الدوائر في جسم الإنسان …
وإذ قد وجدنا من وجود هذه الدوائر في جسم الإنسان بما وصفناه من دائرته وثباته من تركيب بنيته، فلنذكر ما يوجد من ذلك في دائرة الحيوان التي هي تحت دائرة الإنسان:
واعلم أيها الأخ، أن الحيوان منه ما هو حَسَن الصورة مليح الأفعال حسن الأعمال، ثم ما دون ذلك حتى ينتهي إلى أقبحه في المنظر وشرِّه في المَخْبَر، وهو دوائر بعضها جوف بعض ودرجات ومنازل، والأنفس التي فيها تعمل أعمالًا مثل ما تعمل الروحانيات في عالم الأفلاك وسكان السموات، فما حسُنت صورته وأطاعت روحه وخدمت الأنفس الإنسانية وكان ساجدًا لها فهو يجوز أن يلحق بها في تفضيلها، ومنزلته من دائرته كمنزلة الملائكة من عالم الأفلاك والسموات الساجدة لربها، وكمنزلة الملوك والرؤساء من عالم الإنسان، وما قبحت صورته وعصي على الأنفس الإنسانية كان مثل إبليس العاصي المعتدي المستكبر على النبي في زمانه والحكيم في أوانه، مثل فرعون وهامان وقارون وكل مَنْ ظلم وتعدَّى وأخذ ما ليس له بحق وارتكب النهي وخالف الأمر وأصرَّ ولم يتُب.
وكذلك النبات أيضًا، يوجد فيه مثل ذلك، منه ما هو مليحٌ زهره طيِّب ريحه وثمرته باسق فرعه زكي أصله ونفعه ظاهر، ومنه ما هو بالعكس من ذلك.
وكذلك المعادن أيضًا، منها الرفيع في قدره الحسن في منظره مثل الذهب والفضة وما دون ذلك، حتى ينتهي إلى ما ينتفع به كمنفعة غيره مما تقدَّم ذكره.
وإذا كان ذلك كذلك فقد صحَّ أن الخلقة بأجمعها والفطرة بأَسْرها أفلاك حائطة ودوائر جامعة محيطة بعضها ببعض مربوطة بعضها ببعض، وأن العالم كله كجسم حيوان واحد، وجميع القوى السارية فيه نفس واحدة، والله سبحانه محيط به إحاطة إبداع واختراع وخلقة وتكوين، أوجده بعد أن لم يكن شيئًا مذكورًا.
(٢٧) فصل في أنك إذا تأملت هذه الآيات …
اعلم أيها الأخ البارُّ، أيَّدك الله وإيانا بروح منه، أنك إذا تأملت هذه الآيات ونظرت إلى أفعال هذه الروحانيات، وتفكَّرت في خلق السموات والأرض وما بينهما من الرفع والخفض، ثم نظرت إلى هذا الهيكل المبني بالحكمة، وتأملت هذه الكتب المملوءة من العلوم، ونظرت إلى هذا الصراط الممدود بين الجنة والنار رجوت لك أن توفَّق للجواز عليه لعلك أن تنتبه من نوم الغفلة وتنجو من ظلمات بحر الهيولى، وتنفكُّ من أَسْر الطبيعة وترقى إلى المحل الفاخر والمكان الطاهر بحيث لا يلحقك الفساد ولا تحنُّ إلى محل الأجساد.
واعلم أيها الأخ، أن الإنسان ما دام في الدنيا فلا بد له من أعمال يعملها وأفعال يفعلها، وجميع ما يبديه من أعمال ويصنعه من أفعاله فإنما يظهر من قوى نفسه الشريفة وروحه اللطيفة، فيصنع صنائع عجيبة، ويفعل أفعالًا وينظم ألفاظًا منطقية وخُطَبًا لغوية.
وهذه أيضًا أفعال روحانية تظهر بأدوات جسمانية، والمبدية لها قوة نفسانية منبعثة عن النفس الكلية، فما كان منها موضوعًا في موضعه قائمًا في حقه فهو مشابه لأفعال الملائكة، وما كان بالعكس من ذلك مثل فعل الخطايا والشرور وقول الزور والغضب والتعدي والظلم والزنا واللواطة وما شابه هذه فمشابه لفعل إبليس والشياطين.
(٢٨) فصل في أن الباري سبحانه جعل شكل الفلك كريًّا
واعلم أيها الأخ، أن الباري سبحانه جعل شكل الفلك كريًّا؛ لأن هذا الشكل أفضل الأشكال الجسيمة من المثلثات والمربعات والمخروطات وغير ذلك، ولكلِّ شكلٍ من هذه الأشكال ومثَل من هذه الأمثال أفعال تصدر عنها وأعمال تكمل منها.
فأما ما تختص بالشكل الفلكي والمثَل الدوري فهي أعظم الأشكال مساحةً وأسرعها حركةً وأبعدها من الآفات والأقطار المتساوية في الوسط، ويمكنه أن يتحرَّك مستديرًا ومستقيمًا، ولا يمكن أن يوجد ذلك في شيء غيره؛ ولهذا اقتضت الحكمة الإلهية والعناية الربانية أنْ جعل شكل العالم مستديرًا كريًّا، والأفلاك والكواكب كذلك؛ لما تبيَّن من فضل هذا الشكل على الأشكال كلها، وكل فلك يظهر فيه من أفعاله فيما دونه بحسب سعة دائرته وضيق ما دونها عن الإحاطة، فعند ذلك تظهر فيه أفعال المرتب فوقه، وفي هذا الفعل سر يدل على حكمة المبدع سبحانه ومعرفته؛ إذ هو محيط بما خلق، فاعل فيما اخترع، لا معقب لحكمه ولا رادَّ لقضائه.
(٢٩) فصل في أن فعل الشكل المستدير يظهر فيما دونه …
واعلم أيها الأخ، أن فعل الشكل المستدير يظهر فيما دونه أكثر وأظهر من كونه فيما فوقه وما هو أوسع منه، كما أن فعل المياه الحلوة إذا انصبَّت إلى البحار المالحة فإنها لا تؤثِّر فيها لقلتها وكثرة ماء البحار واتساعها، وكذلك ضوء الشمعة إذا وردت إلى بيت فيه سراج فإنه لا يتميز الضوء السراجي من الضوء الشمعي لغلبته عليه، وكذلك ما هو أقوى وأبيَن من ضوء الشمعة إذا ورد عليها.
وعلى هذا القياس يكون فعل الشيء أبيَن وأقوى فيما دونه وما هو مرتَّب تحته، ولما كان ذلك كذلك صارت النفس غير فاعلة في العقل فعلًا يغطِّي على فعله ولا يظهر عليه، وصار العقل يفعل في النفس بالقوة والفعل جميعًا؛ لأنه يعطيها صورة التمام والكمال، ففعله إياها بالقوة كونها هيولانية موجودة في أول وجوده وإبدائه إياها بالفعل إلى حيث تكون ذات الموجودات؛ فلذلك صارت أفعاله ظاهرة فيها ودائرته محيطة بدائرتها، وكذلك فعل النفس في الطبيعة بيِّنٌ ظاهرٌ إذا كانت هي المتممة لأفعال الطبيعة والمعطية لها الحُسن والبهاء، فالعقل إذن من فعل الله؛ فهو المحيط به وبما دونه، الباهر بنوره أنوار مخلوقاته كلها؛ فهي منحصرة عن إدراكه انحصار الوقوف عن الإحاطة به، بحيث أوقفها لا نفاذ لها من أمره ولا خروج عن حكمه، كما قال جل اسمه: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ، وهو المرتِّب لها مراتبها ومعطيها صور البقاء والكمال والتمام، سبحانه لا إله إلا هو رب العرش العظيم والكرسي الذي وسع السموات والأرض.
(٣٠) فصل في أن الفلك المحيط دائرته أوسع الدوائر الفلكية
(٣١) فصل في أن كل كوكب من هذه السبعة يدور في فلك صغير
واعلم أن كل كوكب من هذه السبعة يدور في فلك صغير مدور يُسمَّى فلك التدوير، وتلك الأفلاك أيضًا تدور في أفلاك خارجة عن المراكز، وكلها مرتبة في سطح فلك البروج المحيط بسائر الأفلاك وهو الدولاب، ولو لم يكن الفلك والأرض كُرَيَّات مستديرات لَمَا استوى هذا الدوران ولا استمرت حركات كواكبه وجَرَت أفعاله على ما ذكرنا وبيَّنَّا بهذا الوصف.
واعلم أيها الأخ، أن العالم بأَسْرِه من الجزئيات والكليات والفروع والأمهات والأنواع الكائنات من المعادن والنبات والحيوان والإنسان وجميع ما على الأرض من البحار والجبال والبراري والأنهار والخراب والعمران كُرَة واحدة، والهواء محيط بها من جميع جهاتها، والزمهرير والأثير وحوادث الجو وما حوى فلك القمر حائط بها كلها.
وأما البحار فالفعل المختص بها والحكمة في كونها مالحة؛ فذلك لتمتزج ملوحتها بالهواء فتدفعه وتمزق الرطوبات وتقطع الأخلاط الغليظة، ويتصل ريحها بالعالم فتزيل عنه الوخم؛ لئلَّا يفسد الهواء فيؤدي إلى هلاك حيوان الأرض أجمع، فإذا جرت إليها الأنهار وتتابعت عليها الأمطار لا تلبث فيها؛ لأنها لا تزيدها ولكنها تعيدها إذا شربتها ومصَّتها بخارًا، وتنشأ منها غيوم وينشأ منها بخار كبخار القدر والحمامات، ويتصاعد الماء منها إلى الجو، وتنشأ منها غيوم وتتصاعد إلى أن تبلغ إلى دائرة الزمهرير، وتمضي إلى الجبال والعمران، كما قلنا، وتثقل هناك وتنحدر من هناك إلى بطون الأودية والأنهار وإلى البحار ثانيًا، كما كان في العام الأول الماضي كدولاب يدور، ذلك تقدير العزيز العليم.
فهكذا فعل الحيوان والنبات كل يفعل بحسب ما جعل فيه مبدعه ويسَّره له خالقه، وكلها تكون من هذه الأركان وتتمُّ وتكمل وتتكون وتبقى ما شاء الله تعالى، ثم تفسد وتتلاشى وتصير ترابًا كما كانت بديًّا، ثم الله ينشئ النشأة الأخرى كما قال تعالى: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ أعاذك الله، أيها الأخ، من الجهل والعمى.
وأما نحن فقد بذلنا مجهودنا في هداية الضالين وإرشاد التائهين وتنبيه الغافلين، وخاطبنا كل قوم وصنف منهم بما هو أصلح أن نخاطبهم به في رسائلنا، ولا سيما في هذه الرسالة التي بيَّنَّا لهم فيها أفعال الروحانيين، ونبَّهناهم على وجود الطبيعة وظهور أفعالها في كثير من رسائلنا بما في بعضها كفاية لمن أنصف، ولا سيما بما في رسالة السياسات وبما خاطبنا به المتفلسفين الشاكِّين، وبما قد قلنا فيما يظهر من أفعال الكواكب في هذا العالم، وما قد بيَّنَّا في عدة مذاهبهم إلى هؤلاء منهم خصوصًا نقول:
أتُراكم، أصلحكم الله، لم تقرءوا القرآن المنزَّل على لسان محمد، صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟ أو لم تسمعوا ممن يقرءونه في كل وقت — إن لم تكونوا أنتم قرأتموه — من تكرار ذكر النفس في المواضع الكثيرة؟ منها قول الله عز وجل: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي هذا الخطاب إلى مَنْ يتوجَّه أيها الجاحدون لوجود النفس جملةً، المنكرون لأفعالها؟ أترونه مخاطبة لمعدوم غير موجود أو هو خطاب لموجود؟ وقال، عز وجل، أيضًا: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا وقال: يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ، وقال عز وجل: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي وقال تعالى: اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وآيات كثيرة في القرآن في ذكر النفس وخطابها بالتأنيث؛ ليعلم كل عاقل أنها هي شيء غير الجسد؛ لأن الجسد مذكَّر لا يخاطب بالتأنيث، وكفى بهذا فرقًا وبيانًا بين النفس والجسد، وكيف يزعم هؤلاء القوم، أصلحهم الله، أن الإنسان هو هذا الجسد المحسوس المشاهَد الموصوف بالطول والعرض والعمق؟ فقط لا شيء غيره ولا موجود معه سواه، وقد يعلم كل عاقل إذا فكَّر وتأمَّل أمر الجسد أنه جسم مؤلَّف من اللحم والدم والعروق والعصب والعظام وغير ذلك من الأعضاء المذكورة في كتب التشريح وما شاكلها، وأصله نطفة ودم الطمث ثم اللبن والغذاء، ثم إذا حضره الموت عند مفارقة النفس إياه بلي جسده إذا شاء الله كما وعد، جلَّ ثناؤه.
فأما النفس فهي جوهر سماوي نورانية حية علَّامة فعَّالة حساسة درَّاكة لا تموت، بل تبقى مؤبَّدة إما ملتذَّة وإما متألِّمة، فأنفس المؤمنين من أولياء الله وعباده الصالحين يُعْرَج بها بعد الموت إلى فسحة الأفلاك في روحٍ وراحة إلى يوم القيامة، فإذا نشرت أجسادها ردَّت إليها لتحاسب وتجازى بها بالإحسان إحسانًا وبالسيئات غفرانًا، وأما أنفس الكفَّار والفسَّاق والفجَّار والأشرار فتبقى في عمائها وجهالتها معذَّبة متألِّمة حزينة خائفة إلى يوم القيامة، ثم تُرَد إلى أجسادها التي أُخْرِجت منها لتحاسَب وتجازى بما عملت.
والدليل على صحة ما قلنا وحقيقة ما وصفنا قول الله عز وجل: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ وقال عز وجل: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ وقال تعالى: وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ وقال: ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ الآية، وقال تعالى: يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ * وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ وآيات كثيرة في القرآن في هذا المعنى تدل على بقاء النفس بعد الموت إما منعَّمة ملتذَّة، وإما متألمة معذَّبة.
وفيما ذكرنا كفاية لمن اكتفى ونصح لنفسه واهتم لما بعد الموت وتفكَّر في أمر المعاد، واستعدَّ للرحلة وتزوَّد للسفر، وزهد في الدنيا، ورغب في الآخرة قبل فناء العمر وتقارب الأجل والفوت.
وأرجو أن يكون ما قلناه كفاية في التدليل على وجود الروحانيين وأصنافهم في هذه الرسالة وفي رسالة السحر والطلسمات، فقد ذكرنا أن بعض المتقدمين زعموا أن النفوس تنقسم قسمين: أحدهما لا يسكن الجثة ولا يتعلق بالأجسام، وهو ينقسم قسمين: أحدهما خيِّر بالذات وهم الملائكة، والآخر شرير بالذات وهم الشياطين، ونفوس أخرى متعلقة بجثة الكواكب لا تفارقها ولا تصبر عنها إلا بمقدار وهي متصرفة في العالم صنفين من التصرف: أحدهما بطبائع أجسادها على ما هو مسطور في كتب أحكام النجوم والثاني بنفوسها.
ونفوس أخرى متعلقة بالأجساد لا تفارقها ولا تصبر عنها إلا بمقدار ما تفارق جثة لفسادها، ومن هذه الطبقة من النفوس نوع يسكن الجثة الإنسانية ولا يفارقها إلا كمفارقة النفس سائر أشخاص الحيوانات والنباتات، ومصيرها إلى بحر طوس لتُعذَّب هناك، إلا أن تطلب الإيقاف في الهبوط إلى مادة تصلح لسكناها وتتمكن من درك نجاتها، على ما ذكرنا بشرح طويل في رسالة علم النجوم والسحر والطلسمات.
وأما الجنس الآخر من الروحانيين المُسَمَّيْن في مواضع كثيرة بالشياطين والجن وسائر أجناس أرواح السوء فالقرآن مملوء بذكرهم أيضًا، وكتب النصارى خاصة وما يتلوهم في بِيَعهم يتكرر فيها ذكر الشياطين وأفعالهم مع المسيح، وفي الإنجيل ذكرهم في عدة مواضع، فاقرأ الإنجيل أيها الأخ، أيَّدك الله، وكتاب رسائل «قولوا من»؛ فإنك ترى فيها من هذا الفن سببًا كثيرًا لولا خوف الإطالة لذكرنا لك منها فنزيدك معرفةً بصحة ما قلنا من وجود الروحانيين وأفعالهم في هذا العالم.
وأما في القرآن من ذكر ذلك فكثير أيضًا ويطول ذكره كله، ولكن نذكر منه الآن ما يحضر ذكره في هذا الوقت؛ لتعلم أيها الأخ، أيَّدك الله، بطلان ما يقوله هؤلاء القوم في تكذيب القول بوجود الروحانيين وجحودهم لأفعالهم الظاهرة، فمن ذلك في سورة البقرة: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ.
فهذا القول الذي نطق به القرآن يدل على وجود إبليس الذي لا نراه بأبصارنا، ولا نرى قبيله وهو يرانا، وهو لا تدركه حواسنا مع شهادة القرآن بوجوده.
وقال عز وجل أيضًا في هذه السورة: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ.
فكيف نكذِّب بمن هذا فعله؟ وقال فيها: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ.
وقال، عز ذكره: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وفيها: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا.
وفي سورة النساء: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا وفيها: وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا وفيها: وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا.
وفي سورة الأنعام: وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وفيها: كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ إلخ. وفيها: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وفيها: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ.
وفي سورة الأعراف: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وفيها: يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ.
فأي ذكر أبيَن من هذا وأقوى شهادة على وجود الروحانيين وأفعالهم العظيمة القوية.
وفي هذه السورة أيضًا: فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وفيها: يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ، وأي شيء يكون من التحذير أكثر من هذا؟ وفيها: قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا وفيها: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وفيها: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ.
وفي سورة الأنفال: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ.
وفي سورة يوسف: مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي.
وفي سورة إبراهيم: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ.
وهذا من قول الشيطان عن نفسه، وأما فعله بهم فمما يجب أن يفكِّر به ويتأمَّله كل مَنْ يكذِّب به وبوجوده ويجحد أفعاله.
وفي سورة الحجر: وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ وفيها: إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ.
وفيها قال: قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ. وفي سورة النحل: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ. وفي سورة بني إسرائيل: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا * قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا * قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا * وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا. وفيها: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا. وفي سورة الكهف: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا. وفي سورة الحج: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، وهذا أيضًا من فعله حتى بالأنبياء عليهم السلام، فتلافاهم الله بنسخ ما قد فعله الشيطان لهم. وفي سورة الفرقان: وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا. وفي سورة النمل: قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ. وفي سورة القصص: هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ. وفي سورة سبأ: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ، فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ وفيها: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وفي سورة الصافات: إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ * إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ. وفيها: طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ. وفي سورة ص: وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ، وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ وفيها: إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ. وفي سورة حم السجدة: رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ. وفي سورة الأحقاف: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ. وفي سورة والذاريات: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ. وفي سورة الرحمن: وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ وفيها: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ. وفي سورة الملك: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ. وفي سورة الجن: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا وفيها: وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِبًا. وفيها: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا، وفي سورة الناس: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ؛ فهذه الأقاويل كلها على كثرة معانيها وفنون ورودها وعدد جهاتها التي حكيت عنها أتراها كلها إشارات إلى معدوم وغير موجود؟ فقد ذكرنا منها ما فيه كفاية لمن اكتفى وترك المكابرة.
ثم قد استشهدنا بعدها ببعضٍ من عشرين سورة مما يدل على صحة ما قلناه فيما تقدَّم بما يكفي ويُقنع مَنْ كان منصفًا، والآن قد وجب أن نقطع الكلام في هذا؛ لأنَّا قد بلغنا منه غرضنا الذي قضيناه به، والحمد لله كثيرًا ونسأله أن يوفقنا، أيها الأخ، للسداد ويهدينا وإياك سبيل الرشاد وجميع إخواننا الكرام حيث كانوا في البلاد بمَنِّه وكرمه، وهو حسبنا وله الحمد دائمًا أبدًا كما هو أهله ومستحقه.