الرسالة التاسعة
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
اعلم أيها الأخ البارُّ الرحيم، أيَّدك الله وإيانا بروح منه، أنَّا قد جعلنا في كل رسالة من رسائلنا فصلًا جعلناه من لُبِّها وخالصها، إذا وُفِّق له مَنْ فهمه وعمل به نال السعادة في الدنيا والآخرة، وقد لخَّصنا ما قد أوردناه في رسائلنا الإحدى والخمسين في رسالة مفرَدة عن الرسائل سمَّيناها «الجامعة»، وهي خارجة من جملة الرسائل، أوردنا فيها بيان ما أخبرناه في غيرها بأخص ما أمكننا منه، فليس تكاد تجتمع رسائلنا كلها عند رجل واحد إلا مَنْ سهَّل الله تعالى له ذلك، فعملنا تلك الرسالة لتنوب عن أخواتها، غير أن الأصوب والأجود عندنا ألَّا تُقرأ الرسالة الجامعة إلا بعد قراءة رسائلنا الإحدى والخمسين؛ فإنه إذا قرأها بعد قراءة هذه كثر نفعه وانفتح عليه ما انغلق من رسائلنا، وإن وجدها وفاتته الرسائل أو بعضها لم يخلُ من فوائدها.
وأما هذه الرسالة فقد وَسَمْناها بالسياسة والرياسة لتحمل نفسك على موجبها، وتقرأها على مَنْ يخصك من إخواننا الكرام، رحمهم الله، وتُذاكرهم في أوقات نشاطك ونشاطهم فإنك لا تخلو من فوائدها.
ونحن نأمرك أيها الأخ السعيد — بعد وقوفك على هذه الرسالة — أن تتَّبع ما أمرناك به فإنك تنال السعادة العظمى دينًا ودنيا إن شاء الله تعالى، وإنما سمَّيناه الفصل الجامع؛ لأنه جمع أصل سعادات المنافع إن شاء الله عز وجل.
واعلم أن منفعة الإنسان تكون من وجهتين لا ثالث لهما: دنيوية وأخروية، وجسمانية ونفسانية.
وإذا كملت للإنسان هاتان السياستان استحق اسم الإنسانية، وتهيأت نفسه لقبول الصور الملكية والانتقال إلى الرتبة السماوية عند مفارقة الجسد بالحال التي تسمى الموت النازل عليه والاضمحلال الواصل إليه.
وإنما جمعنا لك في هذه الرسالة وصف السياستين ليحصل لك بها الكمال في المنزلتين، فترقى بها إلى منزل السعداء في الدارين، فعليك بالاحتفاظ والصيانة له.
ونريد أن نصف لك صفة الذين يصلح أن تُلقى إليهم وتمُنَّ بها عليهم، ونختصر في ذلك بأن نقول: مَنْ كان صفته صفتك وطريقه طريقك فلا تبخل عليه؛ فإنه لا يحل أن تمنع الحكمة أهلها، بل تلقيها إليه إذ كان فصلًا جامعًا للخيرات وقولًا تكمل به السعادات وينزل على العامل بعلمه البركات.
واعلم أيها الأخ، أنه لما رأيناك متهيئًا لقبول الفوائد العقلية والصنائع العملية، واسع النفس الناطقة لقبول الفوائد العقلية والذخائر العلمية الربانية، زاهدًا في الدنيا قليل الرغبة فيها متهاونًا بما لا يهمك من لذاتها، ولمحبوباتها منصرفًا عنها متنزهًا عن شهواتها، مترفعًا عن ملاذِّها، قانعًا باليسير من قوتها، صارفًا عنايتك بكلِّيَّتها إلى صلاح نفسك الزكية وروحك الطاهرة المضيئة، تنتقل من بلد إلى بلد ومن بقعة إلى بقعة، طالبًا للعلم مشتملًا برداء الحلم، حسن العبادة كامل الزهد بأخلاق رضية وآداب ملكية ونفس أبيَّة وصورة جميلة وخِلْقة معتدلة وآلة كاملة وذهن صافٍ وخاطر مدرك وقلب خاشع وطرف دامع، وتأملناك تأمُّل مَنْ حقق فيك ظنه وصدقته عنك فراسته لما استجلاك بنور الله الذي أودعه فيك، تنظر به إلى مخلوقاته، وتحسن به قراءة آياته، كما قال الحكيم الصادق، صلى الله عليه وعلى آله: «المؤمن ينظر بنور الله.» وقال تعالى: يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، ونظرناك بهذا النور الموهوب لنا المجعول أولًا في أبينا إبراهيم حتى رأى به ملكوت السموات والأرض وكان به من الموقنين، وصار وراثة تنتقل في ذريته الذين اتبعوه كما قال: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
ولما رأيناك بهذه الرؤية الصادقة بعد اجتهادك وحرصك على الوصول إلينا وشدة الطلب لنا وخلاصك من دياجي ظلمات زمان الجور وغلبة الشياطين وكثرة أعوان الظالمين وخمول الحق وانقطاع أهله بأنفسهم عن الجمهور والرعاع وتوعُّر طرقه وسبله، فكنت من بين أهل زمانك كقادح زناد في ليلة ظلماء ذات رياح عاصفة وظلمات متراكمة وأهوية باردة، يريد الاستضاءة بنوره في طريق فُقِدَ أدلَّته واندرست معالمه وذهبت دلائله، ولم يبقَ منه إلا مسلك وعر داثر العلامات، يصعب السلوك فيه والقصد لديه إلا على أصحاب اقتفاء الآثار الخفيَّة، بمعرفة سبقت عندهم بها وعلامات وُصِفَت لهم وخفيت على الذين يريدون إطفاء نور الله بذهابها وإزالتها؛ لئلَّا تُرفع حجة الله من أرضه وتنمحي آثار حكمته.
فلما أَوْرَتْ لك الزناد بنوره ودلَّك الدليل بظهوره، حتى وصلت إلى بقعة من بقاع الجنة وروضة من رياض الأرض التي بها تُبدَّل الأرض غير الأرض يوم العرض، فيها رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا الآية، وهم على شاطئ البحر المحيط من وراء جبل قاف عند مجرِّ خط الاستواء، وهي بقعة يجمع طرفاها ما بين شعاع الشمس عند طلوعها وغروبها، يرى منها المنازل الثماني والعشرين المهيأة لمسير القمر، وهي بقعة عالية على متن جبل الأعراف، فلما تخلصت من أسفل السافلين حتى وصلت إلى أعلى علِّيين بوحدتك وانقطاعك وغربتك عن أهلك وأوطانك وأحبائك وجيرانك وأصدقائك وأخلائك، وذهاب نعيم جسمك وفقْد مالك وولدك، وصبرك على الفتن والبلوى، وركوبك مطيَّة الصبر، وسلوكك في طريق وعر، وارتقائك على جبال يصعب على غيرك طلوعها، وهبوطك في أودية لا يسهل على غيرك الهبوط فيها، فكنت ما بين جبل ترتقيه ووحش مُهلك تتَّقيه، ومَهْمَهٍ داثر شاسع تخشى أن تضلَّ فيه، فلم تزل بين شدائد متكاثفة وأهوال مترادفة كصاحب سفينة في بحر مظلم في ليل مغيم قد غاب قمره واستترت أنجمه، وعصفت به الرياح من كل جانب، وارتفعت حوله الأمواج من كل مكان، وهو صابر على ما حلَّ به يدعو إلى ربه الوسيلة إلى الخلاص والنجاة مما هو فيه؛ فهو بسكانه يدير سفينته ويتجنب بها موارد الهلكة بمعرفته وبما ألهمه الله سبحانه من العلم والعمل بما يكون به نجاته، فلم تزل تلك حاله حتى وصل إلى مكان بُغيته ومقر طمأنينته.
فلما وصلت، أيها الأخ السعيد، إلينا واطلعت علينا، وامتحنَّاك بحيث نراك كما يُمتحن مثلك ممن يصل إلينا ويرِدُ علينا، فرأيناك صابرًا نِعْم العبد لله عز وجل.
ولما رأيناك بهذه الصفة وعرفناك بهذه المعرفة لم يحِلَّ لنا ولا وسِعَنا في ديننا أن نكتمك النصيحة ولا نؤدي إليك الأمانة؛ لئلَّا ترانا بعين الخيانة، وليصحَّ عندك قول نبيك الصادق الفاضل السيد الكامل: «سافروا تغنموا.» فتعود راجعًا بعد طول سفرك بلا غنيمة تغتنمها ولا حاجة تبلغها، فرأيناك وكان بالله توفيقنا بما رأيناه بإلهام منه لنا ووحي إلينا في رؤيا صادقة أراناها بمَنِّه، أن نجعلك داعيًا إلينا ودالًّا علينا ومبشِّرًا بظهور أمرنا وانكشاف سرِّنا من رأيته من إخواننا وأهل ملتنا؛ إذ كانوا لا يقدرون على ما قدرت عليه، ولا يصلون إلى ما وصلت إليه؛ لتعذُّر الأمور عليهم وصعوبة الزمان لديهم، والأسباب المانعة والحوادث القاطعة، وقد اخترناك لمُقامك موضعًا تسكن فيه وتأوي إليه لا تصل فيه إليك أيدي الظالمين.
(١) فصل فيما نلقيه إليك في هذا الفصل
فإذا أنت وقفت على ما نلقيه إليك في هذا الفصل فاعتمد عليه واسكن إليه، فإذا صرت إلى حيث كنت قبل وصولك إلى حيث وصلت فابْنِ لك دارًا من القناعة وشيِّد بنيانها وارفع حيطانها واجعل بابها من الزهادة، واجعل حاجبك عليها الفقر، واجعل وطاءك وغطاءك ترك القِنْيَة إلا ما تسد به الجوع وتستر به العورة.
واعلم أن هذه الدار إذا سكنتها أمِنت من قُطَّاع الطريق واللصوص ومصادرة السلطان وحسد الإخوان، وقلَّ جارُك وبعُدَ على الناس مزارك، فإذا بنيت هذه الدار على هذه الأركان فليكن مُقامك فيها على وجَلٍ وخوف من التواني عن شيء من إقامة السياسة النفسانية، وأن تتغافل عن عمل الأعمال الناموسية، وليكن مقعدك من هذه الدار في صدرها بعد إحكامك جميع أمرها.
(٢) فصل في السياسة الجسمانية
فأما تدبيرك لجسمك فإذا اخترت العافية التي لا يصل إلى جسمك معها الأذى من الغذاء فليكن غذاؤك من الموجود غير الممتنع عليك صنفين ثالثهما الماء، إما ما ينزل من السماء أو ما ينبع من الأرض، ما تيسر لك؛ فإنك ما دمت على ذلك من قلة الأكل وترك الشبع وتعمُّد الجوع في الأوقات التي يصلح فيها استعماله، كانت طبائعك على حالها لا يزيد فيها ما تحتاج أن تَنْقص، ولا يَنْقُص منها ما تحتاج أن تزيده.
فإن كانت العوارض النازلة بالجسم ليست من قِبَل الغذاء ولا من جهة التغافل عن إصلاحها، نظرتها إن كانت من جهة اختلاف الأهوية المتصل بالجسم منها الأذى عدلتها بما يصلح لها مما علمته من السياسة الطبية، وإن كان ذلك بموجبات أحكام النجوم وما قُدِّر فيها اطمأنت نفسك وحسُن الصبر بك ولم تتهم نفسك أن الأذى دخل على جسمك من جهة تفريط في الغذاء ولا إكثار من الأكل والشرب.
واعلم أيها الأخ البارُّ الرحيم، أنك إذا لم تحمل على جسمك من المآكل والمشارب والباءة والحركة إلا معتدلًا لازمتك العافية وعدمتَ الأسقام، ومع ذلك فاعلم أن الأسقام والآلام لا تدخل على الأجسام إلا بموجب حركة نجومية ومقادير سماوية، وكذلك زوالها، وإنما صار ذلك مقدَّرًا على الأجسام من أجل أنها ليست هي الذات الباقية ولكنها ذات فانية؛ فلذلك وصل إليها التغيير والاضمحلال والتقلُّب والزوال، وأكثر الناس إذا نزلت الآلام والأسقام اتهموا فيها نفوسهم من كثرة ما يستعملون من المآكل والمشارب، فيكثر غمُّهم وتدوم حسرتهم حتى إنهم اتخذوا أنفسهم أعداء لهم يرجعون عليها باللوم والتأسف على ما فرط منهم، فيكون ذلك أدوم لحسرتهم وأطول لعلتها.
وإذا أنت تيقنت ذلك سكنت نفسك وطاب لها الصبر على الأسقام النازلة والأعلال الواصلة إلى الجسم، واجعل أكثر شوقك إلى الخلاص من هذه الدار ومفارقة هذا السجن؛ لأنك إذا خرجت منه قدمت على ربك.
واعلم أيها الأخ، أنك لا تقدم على ربك ولا تصل إليه وصولًا يجازيك به مجازاة مَنْ يستحق الثواب وأنت على هذه الحال.
فإذا تحقق عندك ذلك هان الموت عليك فتمنيته وطابت نفسك، فإذا حدثت تلك العلل والعوارض المحللة لتركيب الجسد بموجب الأحكام المقدَّرة، ولم ترَ لنفسك في ذلك أمرًا وصل ذلك إليك من جهته فليس بموصله إليك إلا الحكم المراد به صلاحك وخلاصك ونجاتك، فتفرح بذلك ولا تحزن كما يحزن الممتحَنون في أنفسهم بأجسامهم، وفي أجسامهم بأنفسهم، إذا نزلت بهم الأعلال والأمراض، فيكثر خوفهم ويدوم حزنهم فزعًا من الموت، وهم يعلمون أنه لا بد ملاقيهم، فحسرتهم لا تنقضي وغمُّهم لا يفنى، قد اشتغلوا بصلاح أجسامهم وأمر دنياهم عن صلاح أنفسهم وآخرتهم، فهم مستعجِلون نعيمًا زائلًا وسقمًا إليهم واصلًا، فهم لا يخفَّف عنهم من عذابها، ولا يُقْضَى عليهم فيموتوا موت اليأس منها والانقطاع عنها.
فإذا علمت ذلك وتدبَّرته وفهمته جعلته أمامك في سياسة جسمك وتدبير جسدك؛ فهذه سياسة يختص بها جسمك الكثيف الذي ليس له مقر إلا في الدنيا، ولا مكانٌ إلا في الأرض، ولا صفةٌ إلا الطول والعرض والعمق وما يحويه وما يحيط به.
واعلم أنه محمول لا حامل، كما ظنَّ كثير ممن لا علم عندهم ولا معرفة معهم أن الجسم حامل النفس، وأنها زبدته وصفوة طبائعه، وأنها تقوى بقوة الغذاء وتضعف بضعفه، وليس الأمر على ما ظنوا ولا القضية كما توهَّموا، وإنما النفس حاملة للجسم وأعراضه، وهي الذاهبة به في الجهات التي يجب لها، وهي معه تُدبِّره في مجيئه وذهابه، وبها يستقر على ما يجانسه ويشاكله من الكثائف، إما في جهة من الجهات الأرضية من هبوط إلى أسفل بحيث يكون له ثبات القدمين في الهبوط، وإما طلوع إلى فوق بحيث يمكنه مثل ذلك، وإما استواء طيران في الهواء وطلوع إلى السماء؛ فإنها لا يمكنها بهذه الطينة الكثيفة ترقِّيها إلى هناك، بل يمكنها الصعود بمجردها إذا تخلصت منه وانفصلت عنه.
وذلك أن السفينة في البحر المُحكَمة الآلة المُتقَنة الأداة تمر فيه بمن يرُبُّ أمرها ويُصْلح حالها، ومع ذلك فإنها لا تسير إلا بهبوب الرياح القائدة لها إلى الجهة التي يختار صاحبها، وإذا سكنت الريح وقفت السفينة عن ذلك الجريان، كذلك جسد الإنسان إذا فارقته النفس لا تتهيأ له تلك الحركة التي كان يتحرك بها مع النفس، ولم يعدم من آلته شيئًا، ولا ذهب منه عضو من الأعضاء إلا ذهاب الروح منه فقط، والبرهان أن الريح ليست من جوهر السفينة ولا السفينة حاملة بل الريح محرِّك لها.
فإذا صحَّ أن الريح محرِّكة للسفينة وليس من جوهر السفينة، ولا تقدر السفينة ومَنْ فيها على استرجاع الريح بعد ذهابها بحيلة يعملونها أو صنعة يصنعونها، كذلك ليست الروح من جوهر الجسم، ولا الجسم حامل للروح، ولا يقدر أحد من العالم على استرجاع النفس إذا فارقت الجسم.
فيا ليت شِعْري كيف يفسد هذا البرهان إلا بمكابرة العيان؟ فإذا تحققت ذلك وعلمتَ أن جسدك إنما هو سفينة مُعَدَّة لهبوب الرياح ونزولها عليها علمتَ أن هلاك السفينة — إذا هلكت — يكون من حالين: إما بفساد من جهة جِرْمها وانحلال تركيبها فيدخل الماء ويكون ذلك سبب غرقها وهلاكها وهلاك مَنْ فيها إن غفلوا عنها ولم يتداركوها بالإصلاح والتفقد لها، كهلاك الجسم من غلبة إحدى الطبائع متى تهاون صاحبه وغفل عنه، كذلك النفس لا تبقى مع الجسد إذا فسد مزاجه وتعطَّل نظامه وضعفت آلته، كما لا يتهيأ للريح أن تعود للسفينة كما كانت تسوقها قبل غرقها، والريح موجودة في هبوبها غير معدومة من الموضع الذي كانت السفينة فيه قبل هلاكها، كذلك النفس باقية في معادها كبقاء الريح في أفقها بعد تلف الجسم، وإنما يكون الغرق للمركب بفساد آلته وهلاك الجسم بفساد مزاجه وغلبة طبائعه.
وأما القسم الثاني فهو أن يكون المركب هلاكه بقوة الريح العاصف الهابَّة الوارد منها على السفينة ما ليس في وُسع آلتها حمله ولا القدرة عليه، فتضعف الآلة وتنكسر الأداة، فإن كان مَنْ فيها من أهلها عارفين موجب ذلك الأمر من نزول ذلك العاصف وأنه بموجب المقدار اطمأنت نفوسهم وسلَّموا إلى ربهم، ووعظ بعضهم بعضًا وصبروا على ما نالهم، فإن زاد بهم الأمر حتى يبطح السفينة ما يكسرها ويكون منهم ما قضى، كانوا مطمئني النفوس ولا يتهمونها أنما أصابهم ذلك لتفريط وقع منهم، كذلك الأحوال العارضة للجسم من جهة الأحكام الفلكية والحركات النفسانية المنبعثة أولًا من النفس الكلية التي تذهب بالأجسام وتهدمها لا دواء للمعالج والطبيب ولا للمريض أيضًا.
فأما الصبر عليها وقلة الجزع منها إلى أن تزول أو يكون بها الانتقال إلى دار المعاد، فأحق ما صُبر عليه وأولى ما استُجيب له.
وبهذا الاعتقاد صح أن النفس هي جوهر غير الجسم، وأنها هي الحاملة له المبتلاة به، فإذا تصورت ذلك وصحَّ عندك وتمَّ لك العمل بهذه السياسة فقد استراحت نفسك من الهم والغم من أجله وبسببه.
(٣) فصل في السياسة النفسانية
وسبيلك أن تعوِّد نفسك عمل الخير لأنه خير، لا تريد بفعلك عوضًا، ولا يحملك على فعله خوف، فمتى فعلت لطلب المكافأة لم يكن خيرًا، وإن لم تطلب المكافأة وإنما أردت الذكر والاسم كنت أيضًا منافقًا ولم يكن خيرًا، والمنافق لا يستأهل أن يكون في جوار الروحانيين.
وأما سياسة الأهل من الإخوة والزوجة والأولاد والعبيد ومَنْ يجري منك مجراها في النسبة الجسمانية فيجب عليك أن تسوسهم سياسة لا اختلاف فيها، وتُجريهم على عادة لا تعدل عنها إلا بموانع مانعة وأسباب قاطعة؛ لئلَّا ترجع باللوم على نفسك إذا جنوا عليك وتغيروا عما كنت تعهده منهم وتعرفه فيهم بحسب تغيُّر سياستك واختلاف عادتك، فتنسب التفريط إلى نفسك فيكثر غمُّك ويبدو همك، فإذا سسْتهم سياسة ألَّفْتهم إياها ورتَّبتهم عليها استراحت نفسك، مع أن الأحب إلينا والآثَر عندنا الانفراد والوحدة، ولكن لا يكاد يتهيأ ذلك لجميع إخواننا ولا نأمرهم به أيضًا؛ لئلَّا ينقطع الحرث والنسل.
وإذا فعلت ذلك أحكمت سياسة الأهل وخصوصًا النساء، فأكثِرْ تفقُّد أحوالهنَّ في كل وقت فإنهنَّ سريعات التلوُّن كثيرات التغير، يتغيرن مع الساعات ويضطربن على الأوقات، فيكون صفحك إليهنَّ كثيرًا ومن غير شعار منهنَّ أن تكون مراعيًا أحوالهنَّ، ولا يغررك منهنَّ صلاحٌ تعرفه فيهنَّ؛ فقد أنبأناك أن تلوُّنهنَّ كثير، وإن استفسادهنَّ سهل يسير إلا مَنْ عصمها الله تعالى منهنَّ، وقليل ما هم.
وأما أولادك وغلمانك وحواشيك فإياك أن تُظْهر لهم فاقة بعد أن تقوم بواجبك المفروض عليك؛ فإنه متى ظهر لهم منك اختلال أو حاجة نقصت منزلتك وقصر موضعك، فلم يقم لك وزن ولا قامت لك هيبة، ولا حاجة بك إلى أن تكشف فاقتك إلى مَنْ لا يزيد شكواك إلا ذلًّا ومهانة، بل ضع عذرك عند كل واحد منهم على وجه لا تُنْسَب معه إلى فاقة، وقف فهو أعوَد وأصلَحُ.
(٤) فصل في سياسة الأصحاب
اعلم أيها الأخ، أن سياسة الأصحاب لا تكون إلا بعد المعرفة بهم والاطلاع عليهم ومعرفة أحوالهم، ألَّا يخفى عليك من أمرهم صغيرة ولا كبيرة؛ لتسوس كل واحد منهم السياسة التي تليق به دنيا ودينًا.
واعلم أنك متى كنت جاهلًا بمعرفتهم لم تتم لك سياستهم ولم تبلغ رضاءهم ولم يكونوا لك أصحابًا، أوَمَا علمتَ أن صاحب الناموس لا يصاحب إلا مَنْ عرفهم وخبرَهم فاطلع عليهم اطلاع الإحاطة بهم؟ واحرص أن تباعِد بين معرفتهم بك وبينهم؛ لئلَّا يطَّلعوا عليك كما اطلعت عليهم فيأتوك من حيث أمِنت؛ لأنه ليس كل مَنْ صاحبك يحق لك أن تثق به ولا تطمئن إليه؛ لأن كثيرًا ممن يصحب الأنبياء إنما تكون صحبتهم لهم لوقوع الحيلة بهم، ومرادهم منهم الاطلاع على أسرارهم ليكشفوها ويُظْهروها لمن لا يعرفها وهم المنافقون.
فيجب أن تُظْهِر لهم القرب بالبعد، واللين بالغلظة، والأُنْس بالوحشة، والكرم بالشحِّ، والانبساط بالانقباض، والرحمة بالسخط، والوعد على الجميل، والوعيد على الذنب، وقبول التوبة باللين، والموعظة بإلقاء العلم إليهم بمقدار ما يحتملونه وبحسب ما يستوجبونه، ولا يكون اعتقاد أهلك وذريتك وأزواجك وبنيك مخالفًا لما يظهر من اعتقادك لأصحابك وإخوانك، فمتى لم يكن كذلك فلا أهل لك ولا أصحاب ولا دين ولا دنيا ولا علم ولا عمل، وكيف يجوز للعاقل العالم أن يكون له أهل يتديَّنون بدين ويذهبون إلى مذهب هو يأمر أصحابه بخلافه؟ بل الواجب عليه أن يكون أهله وأصحابه بمنزلة واحدة عنده في التعليم، ولا يخص أصحاب النسب الجسداني بما لا يبديه لأهل النسب الروحاني، بل يجمعهم معًا في طريق واحد ويلقِّنهم التعاليم والمعارف والعبادات والفرائض، فيأخذ كل واحد منهم بحسب قوته واستطاعته، فإنْ عدل واحد من أهله وأقاربه إلى الضد مما هو عليه وخالفه بعد تبرُّئه منه وأخرجه من جملته كما فعل رسول الله ﷺ بعمه أبي لهب وقال: «يا بني هاشم، لا يأتيني الناس يوم القيامة بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم؛ فإني لا أُغْنِي عنكم من الله شيئًا إلا بعمل صالح.» وكما قال تعالى حكاية عن إبراهيم خليله ﷺ: وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ وقال الله تعالى: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ الآية، ويكون يراعي أهل الذكاء والفطنة ومَنْ يقصد الأغراض التي يريدها بكلامه ويومئ بها في إشارته ومخبآت جواهره في تقاطيع أمثاله ونوادره، فإذا عرفهم ميَّزهم بنظره وألقى القول إليهم في الاعتماد عليهم في تهذيب مَنْ دونهم حتى يوصلوهم إلى مثل ما وصلوا إليه.
فإذا أحكمت هذه السياسة في الأصحاب والأهل الأقرب فالأقرب والأبعد فالأبعد، فأَحْكِم أمر العبادة والقرابين المقرَّبة إلى الله سبحانه والأعمال المزدلفة لديه.
(٥) فصل في القرابين
فنذكر الآن العبادة والقرابين، وهي نوعان لا ثالث لهما، قربانان مقبولان صادقان ودعاءان مستجابان، وها هنا قربان غير مقبول ودعاء غير مستجاب، وهو ما أخبر الله عنه أن ولدَي آدم قرَّبا قربانًا فتُقُبِّل من أحدهما ولم يُتَقَبَّل من الآخر، ودعاء الكافر الذي هو في تبابٍ لا يُقْبَل.
فأما العبادتان: فإحداهما الشرعية الناموسية باتباع صاحب الناموس والانقياد إلى أوامره ونواهيه، والمسارعة إلى ما جاء به وقضاه وحكم به على من استجاب إليه وتقرَّب إلى الله سبحانه وتعالى بما ذكر أنه رضيه من القرابين والعبادات والطهارات والصلوات والصوم والزكاة والحج والجهاد، والسعي إلى البيوت العامرة والبقاع الطاهرة، والإقرار بكتب الله ورسله وملائكته ووحيه، وما شاكل ذلك في موجبات أحكام الشرائع، وإقامة النواميس والامتثال للأوامر والنواهي، والنظر إلى أفعال النبي ﷺ والاقتداء بأفعاله والتشبُّه به في جميع أفعاله، كما قال الله: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، والتضرع إلى الله سبحانه بالدعاء والابتهال في وقت الاجتماعات في الأعياد والجمعات وعند ظهور الآيات؛ فهذا هو الدعاء المستجاب والقربان المتقبَّل.
وأما العبادة الثانية فهي العبادة الفلسفية الإلهية، وهي الإقرار بتوحيد الله عز وجل، وقد تقدَّم ذكرها في صدر الرسالة الجامعة في شرح رسالة الأرثماطيقي نقف عليه إن شاء الله.
وأما الدعاء والقربان المقبول المستجاب، فاعلم يا أخي أنك متى كنت مقصِّرًا في العبادة الشرعية فلا يجب لك أن تتعرَّض لشيء من العبادة الفلسفية وإلا هلكت وأهلكت وضللت وأضللت؛ وذلك أن العمل بالشريعة الناموسية والقيام بواجب العبادة فيها، ولزوم الطاعة لصاحبها عليه السلام، والعمل بالعبادة الفلسفية الإلهية إيمان، ولا يكون المؤمن مؤمنًا حتى يكون مسلمًا، والإسلام سابق على الإيمان كما قال الله تعالى على لسان رسوله ﷺ مخاطبًا الأعراب المنافقين من أهل الشريعة الذين كانوا يُظْهِرون الإيمان ويكتمون النفاق: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ، وإنما تخصص أصحاب الرسول عليه السلام، بعده بالصبر الذي رأوه كان يستعمله في العبادة والطاعة لربه فرضًا على نفسه وتعليمًا لأصحابه، فقام بالأمرين وكمَّل المنزلتين وحاز الفضيلتين؛ لأنه كان عليه السلام، مسلمًا مؤمنًا عارفًا بالدعاء في وقت الإجابة؛ ولذلك كان لا يُرَد له دعاء، وكان إمامًا للمسلمين والمؤمنين عارفًا بالفلسفة الإلهية.
ولما تمَّت الفضيلة لواحد من أهله وأصحابه قال مفتخرًا: «أنا أرسطاطاليس هذه الأمة».
واعلم يا أخي أن اقتران العبادة الشرعية بالعبادة الفلسفية صعب جدًّا؛ لأنها موت الجسد في أقرب الأوقات، وحصر النفس عن الأمور المحبوبة بأَسْرِها، وترك الرخصة في كل شيء منها والوصول إلى إدراك حقائق الموجودات بأسرها.
ونريد أن نشرح لك طرفًا منها فتحصل لك رتبة من الدرجة الأولى وهو شبه المدخل والمقدمة لك، لعلك تقوم بشيء منها فيحصل لك رتبة من الدرجة من حد العبادة والدعاء في الأوقات المستجاب فيها مَنْ يدعو بذلك.
(٦) فصل في أن أفضل الدعاء في السُّنَّة الشرعية …
واعلم أيها الأخ، أن أفضل الدعاء في السُّنَّة الشرعية والديانة الإسلامية في ليلة القدر، وبعدها عيد الفطر، وعيد الأضحية، ويوم النحر، وعند البيت الحرام، وبين الركن والمقام، وعند معاينة هلال الفطر، وعند بذل الزكاة لمستحقها، ودعاء مَنْ يأخذها في وقت أخذها وطلبه إياها، فإن هذا دعاء مستجاب وقربان متقبَّل.
وأما العبادة الفلسفية الإلهية فإن أول درجة منها — وهي التي كانت الفلاسفة القدماء والأجلَّة العلماء يأخذون بها أولادهم وتلامذتهم بعد تعليمهم أحكام السياسات الجسمانية والنفسانية والعبادات الناموسية الشرعية — أن يكون لهم في كل شهر من شهور السنة اليونانية — على عدد التاريخ المعروف إلى حيث ينتهي مَنْ أراد الاقتداء بتلك السنة — ثلاثة أيام في كل شهر: يومٌ في أوله ويومٌ في وسطه ويومٌ في آخره.
فأما اليوم الأول من الشهر فيجب له أن يتطهَّر أنظف طَهور ويتبخَّر بأطيب ما يقدر عليه من البخور، ولا يفرط في طهارته وصلواته المفروضة عليه في شريعة الناموس، فإذا انقلب من محراب صلاة عشاء الآخرة جلس يسبِّح الله ويقدِّسه ويهلِّله ويكبِّره إلى أن يمضي من الليل الثُّلُث الأول، ثم يقوم ويجدد الوضوء ويسبغ الطهارة ليكون طهور على طهور ونور على نور، ويَبرز من بيته إلى أن يحصل تحت السماء بحذاء الجَدْي وهو النجم الذي يُهْتَدى به. قال الله تعالى: وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ فيتأمَّل الكتاب المبين، ويتدبَّر آياته ويرى الملكوت دائمًا وهو يسبِّح الله ويقدِّسه ولا يدع التكبير والتهليل؛ ليكون من الذين قال الله تعالى فيهم الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الآية. ولا يزال كذلك حتى يذهب من الليل الثُّلُثان فيكون الثُّلُث الأول قيامًا بعبادة الناموس، والثُّلُث الثاني قيامًا في التفكر في الملكوت.
فإذا زال أوان الثلث الأوسط هبط إلى الأرض ساجدًا بتذلُّل وخضوع لباريه، فلا يزال كذلك ما قدر عليه ثم يرفع رأسه ببكاء واستغفار وتوبة واستعبار، فيعدِّد ذنوبه على نفسه وينوي التوجُّه بحسناته وصالح أعماله، ويدعو بالدعاء الأفلاطوني والتوسُّل الإدريسي والمناجاة الأرسطاطاليسية المذكورة في كتبهم، فلا يزال كذلك حتى يبدو الفجر فيقوم فيُسْبغ الوضوء ويتطهَّر فيرجع إلى محرابه فيصلِّي صلاة الفجر، ويجلس في مكانه إلى أن تطلع الشمس، فإذا طلعت الشمس وأقبل أول النهار ذبح بيده — إن كان ممن قد اعتاد ذلك — ما قدر عليه من محلَّل الحيوان، ويأمر بإصلاح ما كان من الطعام، ويأذن لأهله وإخوانه بالدخول عليه والوصول إليه، ويُحْضر ذلك بين أيديهم، فإذا فرغوا من طعامهم حمدوا الله جل وعز اسمه، وشكروه، وخرُّوا له سُجَّدًا شكرًا له بما مَنَّ عليهم، ثم يُخْرِج إليهم من الحكمة بحسب ما يوجبه الزمان ويسعه المكان، ولا يزالون كذلك بقية يومهم إلى الوقت من عشاء الآخرة فيرجعون إلى منازلهم ويتصرفون في معايشهم، ويقومون بواجبات أحكام أديانهم إلى اليوم الثاني: وهو ليلة البدر، إذا استكملت استدارته وتمَّت أنواره فيه في تلك الليلة وصبيحة ذلك اليوم كما فعل في اليوم الأول وأزيَد قليلًا، ثم كذلك إلى وقت الانصراف بعد العشاء الآخرة من غد ليلة، ثم في آخر الشهر وهو اليوم الخامس والعشرون من شهره بينه وبين أول الشهر الجديد المستقبل خمسة أيام، ويكون لمن اقتدى بهذه السُّنَّة في السَّنَة ثلاثة أعياد.
(٧) فصل في العيد الأول يوم نزول الشمس برج الحمل
العيد الأول يوم نزول الشمس برجَ الحمل؛ وذلك أنه في هذا اليوم يستوي الليل والنهار في الأقاليم، ويعتدل الزمان ويطيب الهواء ويهبُّ النسيم ويذوب الثلج وتسيل الأودية وتمدُّ الأنهار وتنبع العيون، وترتفع الرطوبات إلى أعلى فروع الأشجار، وينبت العشب ويطول الزرع وينمو الحشيش ويتلألأ الزهر وتورق الأشجار وتكمل الأنوار، ويخضرُّ وجه الأرض، وتتكوَّن الحيوانات ويدبُّ الدبيب، وتنتج البهائم وتدرُّ الضروع وتنتشر الحيوانات في البلاد، ويطيب عيش أهل البر وتأخذ الأرض زُخْرفها وتصير كأنها فتاة شابة طريَّة، فيجب أن يكون ذلك اليوم عيدًا يظهر فيه الفرح والسرور.
وكان الحكماء في هذا اليوم يجتمعون ويجمعون أولادهم وشبان تلامذتهم بأحسن زينة وأنظف طهور إلى الهياكل التي كانت لهم، ويذبحون الذبائح الطيبة الطاهرة، ويضعون الموائد ويُكْثرون البقول والألبان والحبوب مما تنبته الأرض، فإذا أكلوا وفرحوا أخذوا في استعمال الموسيقى بالنقرات المحرِّكة للأنفس إلى معالي الأمور والنغمات اللذيذة بتلاوة الحكمة ونشر العلم، فيكون بذلك راحة النفس وكمال الأُنْس فلا يزالون كذلك بقية يومهم ثم ينصرفون إلى أشغالهم.
ولهذا اليوم اسم باللغة اليونانية معروف عندهم، وهو اليوم الذي نزلت فيه الشمس رأس الحمل نوء الربيع.
(٨) فصل في العيد الثاني
فإذا نزلت الشمس أول السرطان فإن ذلك اليوم العيد الثاني نوء الصيف، وفيه يتناهى طول النهار وقِصَر الليل، وانصراف الربيع ومجيء الصيف، واشتداد الحر وهبوب السمائم، ونقصان المياه ويبس العشب، واستحكام الحَبِّ وإدراك الحصاد والثمار، فيكون ذلك عيدًا لاستقبال زمان جديد تابع للزمان الأول.
وكانت الحكماء تجتمع فيه إلى الهياكل المبنية لذلك اليوم؛ لأنهم كان لهم لكل عيد هيكل لا يدخلونه بذلك الزي إلا في يوم مثله؛ فيدخلون الهيكل المبني ويلبسون الذي يليق بطبيعة ذلك البرج، وكذلك ما يكون يستعملونه من الطعام والشراب وما كان من الثمار الآتي بين التيبيس والترطيب في الطبقة الأولى، فإذا قضوا ما يجب عليهم في ذلك اليوم انصرفوا، فلا يجتمعون إلى العيد الثالث، وهو يوم نزول الشمس رأسَ الميزان.
(٩) فصل في العيد الثالث
فإذا نزلت أول دقيقة من برج الميزان استوى الليل والنهار مرة أخرى، ودخل الخريف وطاب الهواء وهبَّت رياح الشمال وتغيَّر الزمان، ونقصت المياه وجفَّت الأنهار وقلَّ ماء العيون وجفَّ النبات، فيكون ذلك اليوم أيضًا يوم عيد، فيدخلون إلى الهيكل المبني لذلك اليوم، ويكون استعمالهم من الأكل ما يوافق طبيعة ذلك اليوم والزمان، ومن نشر العلم ما لاق به، ولا عيد لهم بعده إلى أن تبلغ الشمس آخر القوس أول الجَدْي.
(١٠) فصل في العيد الرابع
العيد الرابع: يتناهى طول الليل وقِصَر النهار، ويأخذ الليل في النقصان والنهار في الزيادة، وينصرف الخريف ويدخل الشتاء، ويشتد البرد ويسخن الهواء، ويتساقط ورق الشجر ويموت أكثر النبات، وتنحجر الحيوانات في أعماق الأرض وكهوف الجبال من شدة البرد، فإذا كثرت الأنداء ونشأت الغيوم وأظلم الهواء وكلح وجه الزمان وهزلت البهائم وضعفت قوى الأبدان، ومُنِعَ الناس التصرف والاجتماع بعضهم من بعض، ويمر عيش أكثر الحيوان، وكانت الحكماء تتخذ هذا اليوم يوم حزن وكآبة وندم واستغفار، وكانوا يصومونه ولا يفطرون فيه.
وإذا تأملت أيها الأخ هذه الأيام الثلاثة في السنة الفلسفية التي اتخذوها أعيادًا وأفراحًا، وكان فرحهم الأكبر في الأول منها، ودونه في الأوسط، ودونه فيما يليه، وفي الآخر يوم حزن وكآبة إلى أن يُسْتَأنف الدور الآخر عند رجوع الشمس إلى أول برج الحمل، وإذا أنعمت النظر إلى أعياد الشريعة الإسلامية وجدتها موافِقة لها؛ وذلك أن نبينا، عليه السلام، سَنَّ لأمته في شريعته ثلاثة أعياد: فالأول منها يوم عيد الفطر، وهو أعظم فرح يكون بخروج الناس من شدة الصوم إلى الفطر كفرح أهل الأرض بقدوم الربيع والخصب بعد ذهاب الشتاء، ثم عيد الأضحى وهو يوم تعب ونَصَب؛ لأنه يوم الحج فيكون الوفد الشرعي فيه شُعْثًا غبرًا، ويحتاج فيه إلى إراقة دم، ويكون فرحًا ممزوجًا بغم ونَصَب، فيكون الفرح دون الفرح الأول، كفرح الفلاسفة بالعيد الثاني من سنتهم؛ إذ كانوا يستقبلون الهجير والرمضاء والسمائم وشدة الصيف.
واليوم الثالث في السنة الشرعية يوم وصيته عند انصرافه من حجة الوداع بغدير خُم، وفرحه ممزوج؛ لأنه خالط ذلك بنكث وغدر، موافقًا للعيد الثالث الفلسفي المتقلِّب فيه الزمان من الصيف إلى الخريف فتناهي حال الثمار وأخذها في النقصان والجفاف.
واليوم الرابع هو يوم الحزن والكآبة؛ فهو يوم قُبِضَ فيه النبي ﷺ إلى رضوان الله ومحل كرامته، صلى الله عليه وآله، وإن كان عيدًا له؛ لِما وعده ربه تعالى بقوله: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى فهو بانتقاله إلى جوار الله وكريم فنائه عيد له، غير أنه مشوب بمصاب أمته وانقطاع الوحي وفقدهم شخصه الكريم.
واعلم أيها الأخ، أنَّا جماعة إخوان الصفاء أحق الناس بالعبادة الشرعية ومراعاة أوقاتها وأداء فروضها ومعرفة تحليلها وتحريمها؛ لأنَّا أخصُّ الناس بها وأولاهم بحملها، وأقرب الناس إلى مَنْ جاءت على يديه وأَولاهم به، وأحق الناس أيضًا بالعبادة الفلسفية الإلهية والقيام بها والأخذ لها والتجديد لما دثر منها، فإذا أكملنا ذلك كانت لنا سنة ثالثة تتميَّز بها وتتخصَّص بعلمها، ولنا أيضًا ثلاثة أيام نتخذها أعيادًا ونأمر إخواننا بالاجتماع فيها والسعي إليها.
واعلم أيها الأخ، أن أعيادنا هذه ليست تشابه أعياد الفلسفة ولا الشريعة في الحقيقة لكن بالمثل؛ لأن أعيادنا ذاتية قائمة بذواتها، تظهر الأفعال عنها وبها وفيها، وهي ثلاثة أيضًا: أول وأوسط وآخر والرابع أصعبها عملًا وأشدها فعلًا. وأمثال هذه الأيام الأربعة التي ذكرناها ووصفناها في الزمان بالحركات الفلكية وموجبات أحكام النجوم: الربيع والصيف والخريف والشتاء، وفي الشريعة المحمدية والملة الهاشمية: عيد الفطر وعيد الأضحى وعيد الغدير ويوم المصيبة به صلوات الله عليه، وفي الشريعة الفلسفية نزول الشمس الحملَ والسرطان والميزان والجَدْي في الصورة الإنسانية أيام الصبا وأيام الشباب وأيام الكهولة وأيام آخر العمر … به ذهاب الشخص ومفارقة الجسم للنفس؛ ولذلك يبكي عليه ويكون عند أهله الهم والحزن والأسف على فقده، كما حزن أهل بيت النبوة لما فقدوا سيدهم وغاب عنهم واحدهم، وتُخطِّفوا من بعده وتفرَّق شملهم وطمع فيهم عدوهم واغتُصِبوا حقهم وتبدَّدوا، ثم خُتِمَ ذلك بيوم كربلاء وقُتِلَ مَنْ قُتِلَ من الشهداء ما افتضح الإسلام به.
ومن قبله ما أنال أحقَّ الناس بما قاسى أولادهم بالأمر من بعده ثم من بعد غيبة صاحب الشريعة ﷺ قُتِلَ من بعده من أجلَّة أصحابه المساعدين له في إقامة الناموس معه؛ مثل صِدِّيقه وفاروقه وذي النورين، وما تواتر على أهله وأقاربه من المصائب، فصار ذلك سببًا لاختفاء إخوان الصفاء وانقطاع دولة خلان الوفاء، إلى أن يأذن الله بقيام أولهم وثانيهم وثالثهم، في الأوقات التي ينبغي لهم القيام فيها إذا برزوا من كهفهم واستيقظوا من طول نومهم.
واليوم الرابع يكون فيه حزنهم لغيبة سيدهم كما غاب أبوهم صاحب الناموس، وما كان من الحزن والكآبة الواقعة بهم من بعده.
فأعيادنا، أيها الأخ، هي أشخاص ناطقة وأنفس فعَّالة تفعل — بإذن باريها — ما يوحيه إليها ويُلْهمها من الأفعال والأعمال؛ فاليوم الأول من أيامنا والعيد الفاضل من أعيادنا هو يوم خروج أول القائمين منا، ويكون اليوم الموافق له لنزول الشمس برجَ الحمل لمجيء الربيع والخصب والنعمة ونزول الرحمة والظهور والانتشار، وهو يوم فرح وسرور لنا ولجميع إخواننا.
واليوم الثاني هو يوم قيام الثاني الموافق يوم قيامِه نزولَ الشمس أولَ السرطان في تناهي طول الليل وقصر النهار؛ إذ كان فيه تصرُّم دولة أهل الجور وانقضاؤها، وهو فرح وسرور واستبشار.
واليوم الثالث هو يوم قيامة ثالثنا، الموافق لنزول الشمس أولَ الميزان، واستواء الليل والنهار، ودخول الخريف، وهي مقاومة الباطل الحق، وكون الأمر على خلاف ما كان عليه.
ثم اليوم الرابع يوم الحزن والكآبة؛ يوم رجوعنا إلى كهفنا وكهف التقيَّة والاستتار، وكون الأمر على ما قال صاحب الشريعة: «إن الإسلام ظهر غريبًا وسيعود غريبًا، فيا طوبى للغرباء.» فيكون الأمر على مثل ما نحن عليه في وقتنا إلى وقت البروز والخروج والرجوع بعد الذهاب، كرجوع الشمس بعد ذهاب الشتاء إلى برج الحَمَل ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ، وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ.
واعلم يا أخي أن في هذه المدة يَمِيز الله الخبيث من الطيب، ويرفع أهل العلم درجات لم يكونوا لينالوها إلا بصبرهم واحتسابهم في جنب ما يصيبهم، فلا تنكر، أيها الأخ، ما ذكرنا من أن الزمان لا يدوم بصفائه؛ إن الصفاء إنما يُعْرَف بالكدورة، والعدل بالجور، والصحة بالسقم، وإنما صفا إخوان الصفاء لمَّا أخلصوا الصبر على البلوى في السرَّاء والضرَّاء، واستسلموا لربهم وانقادوا إليه بنفوس طيبة ساكنة مطمئنة.
واعلم أيها الأخ، أن القربان كما ذكرنا قربانان: شرعي وفلسفي، لا ثالث لهما، فأما القربان الشرعي فهو المأمور به في الحج من ذبح الحيوانات المذكورة الموصوفة على شرائطها، من أجناسها المحمودة السالمة، في المواضع التي يجب ذلك فيها، وأجلُّها ما كان أكثر ثمنًا وأحسن صورةً وأجود غذاءً لمن يأكلها ممن يُفرَّق فيهم ويُشبعهم ويكفيهم.
فإذا خرج ذلك من حلِّه ودُفِعَ إلى أهله بنفس طيبة ونية صادقة كان قربانًا مقبولًا وكفَّارة نافعة ودعاءً مستجابًا؛ فهذا قربان شرعي.
وأما الفلسفي فهو مثل ذلك، إلا أن النهاية فيه التقرب بالأجساد إلى الله سبحانه بتسليمها إلى الموت وترك الخوف، كما فعل سقراط لمَّا شرب السم المذكور (قصته في كتاب فاذن)، وكاستبشار أرسطاطاليس لما نزل الموت به لما حزن عليه تلامذته، وما كان من خطابه ووصيته المذكورة في رسالة «التفاحة».
واعلم أيها الأخ، أن أعظم القرابين هو ترك النفس محبة الدنيا والزهد فيها، وقلة الخوف من الموت وتمنِّيه.
وأما قربان إخوان الصفاء فهو قربان يجمع هذه الخصال كلها بأسرها: شرعيها وفلسفيها، وهو التقرُّب بما تقرَّب به إبراهيم من الكبش الممنون به عليه فداءً لولده الذي قد رعى في أرض الجنة أربعين خروفًا، فإن تمكنت أن تتقرَّب بكبش رعى في أرض الجنة ولو شبرًا فافعل، ولا تقعد عنه واجتهد في ذلك؛ لتكون قد بلغت المجهود وأقمت المثل وعمرت عالم الله تعالى، وأرجو أن يوفِّقك الله لفهم ما تسمع ويجعلك من أهله.
ولما كان هذا الفصل جامعًا للفضائل النفسانية، وعلمنا أنك متى امتثلت فيه الوصية كملت لك الصورة الملكية وكانت لك في معادك مهيَّأة لوصولك إليها ونزولك عليها ختمنا الرسالة بهذا الفصل وسمَّيناه: «الفصل الجامع للفوائد النافعة»، وهو منها بمنزلة القلب من الجسد، والرأس من البدن، وهو نهاية الغرض بعد الوقوف على ما فيه والارتسام بجميع ما رسمناه، والاعتماد على ما وصفنا.
واعلم أيها الأخ، أن كلامنا هذا تشهد بصحته العقول السليمة، وتسكن إليه النفوس الصافية المشتاقة إلى ربها، وتعضده الآيات المكتوبة في الآفاق والأنفس وما في السموات والأرض وما تدل عليه الكتب النبوية والتنزيلات السماوية وأفعال الأنبياء واتفاقهم على هذه الأعمال التي ذكرناها والسياسات التي وصفناها، وأفعال الحكماء من الفلاسفة القدماء وبنائهم الهياكل في الأرض على مثال ما هي مبنية في السماء.
واعلم أيها الأخ، أن الشاكَّ فيما ذكرناه والرادَّ فيما وصفناه معذور في ذلك؛ لأنه جاهل لا علم له ولا معرفة عنده؛ فهو لاهٍ في سَكْرَته وتائه في ضلالته، فَمَنْ أراد أن يعرف صحة ما قلنا ويمتحن صدقنا من كذبنا فليفعل ما فعلنا ويبذل من نفسه ما بذلنا؛ ليحلَّ له دخول الحرم والوقوف على المقام وزمزم، فإن رأى ما يؤيد الشريعة المحمدية والملة الهاشمية ويقوِّيها وينفي عنها شُبَه الملحدة وجحدة الأنبياء فيقيم معنا بالرحب والسعة له ما لنا وعليه ما علينا، وإن رأى ما ينال في الشريعة فهو معذور في رفضه مُثاب في تركه، وليس على ما خرج منه ثواب يمنعه من العود إليه، وقد جاء في الخبر عن سيدنا رسول الله ﷺ أنه قال: «لا يمين في معصية الله.» بلَّغك الله أيها الأخ البارُّ الرحيم منازل الأبرار، ونجاك وإيانا من عذاب النار، وجميع إخواننا حيث كانوا في البلاد والقفار، إنه جواد غفار.