الفصل الرابع
المشهد الأول
شيمان والفيرة
شيمان
:
أليست إشاعة مكذوبة؟ أأنت على يقين يا الفيرة؟
الفيرة
:
لا تكادين تصدِّقين ما بلغه من إعجاب الناس، فهم بصوت واحد
يرفعون إلى السماء شهرة هذا البطل الفتى وفخر مواقفه. لم يظهر المغاربة أمامه
إلا ليبوءوا بالفشل المخجل، سرعان ما وفدوا وسرعان ما انهزموا. دام القتال ثلاث
ساعات، فتركوا لأبطالنا الكلمة العليا، وخلفوا ملكين أسيرين، وكان إقدام ذلك لا
يدع عقبة إلا ذللها.
شيمان
:
ويد لذريق هي التي أتت تلك الآيات؟
الفيرة
:
كان ذانك الملكان ثمنًا لبلائه الحسن، يده قهرتهما ويده
أسرَتهما.
شيمان
:
من أين سمعتِ هذه الأنباء المدهشة؟
الفيرة
:
من الشعب الذي يتغنَّى بشجاعته في كل مكان، ويصفه بأنه موطد
عزّه ومجدّد فخره، ويدعوه بحارسه الأمين ومنقذه.
شيمان
:
وماذا يرى الملك في هذا الإقدام الرائع؟
الفيرة
:
لم يجسر لذريق أن يمثل في حضرته، ولكن دن دياج سيقدم له الملكين
الأسيرين، وسيلتمس من سماحته وكرمه أن يتفضَّل ويأذن لحامي حماه بلقائه.
شيمان
:
ولكن ألم يجرح في الكفاح؟
الفيرة
:
لم أعلم بشيء من هذا. أراك ممتَقَعة الوجه. عودي إلى
رشدك.
شيمان
:
ولأعُد أيضًا إلى حنقي الذي هدأت فورتُه، فهل عليَّ للاعتناء به
أن أنسى واجبي؟
يمدحونه ويحمدونه. قلبي عن ذلك راض، وشرفي صامت، وهزتي للواجب وانية.
فصهٍ يا غرامي. دع غضبي يفعل أفاعيله، لئن كان قد أسر ملكين لقد قتل أبي. وهذه الثياب السوداء التي أقرأ فيها آية يُتْمي هي الهدايا الأولى التي أهدتها إليَّ عزيمته الماضية. ينعت الناعتون في الخارج قلبه النبيل.
ولكن كل شيء حيالي يذكرني جريمته.
ألا أيتها الأشياء التي تهيج فيَّ الضغينة من مقانع وحرير وثياب هي زينة الحداد. وأنت أيتها المفاخر والمظاهر التي تحدثها نصرته الأولى أديلي لمجدي من غرامي، فإذا غلبتني الصبابة على أمري فراجعي فكرك وأذكريني واجبي الأليم، واطعني غير هيَّابة موقع تلك اليد القاهرة من نفسي.
يمدحونه ويحمدونه. قلبي عن ذلك راض، وشرفي صامت، وهزتي للواجب وانية.
فصهٍ يا غرامي. دع غضبي يفعل أفاعيله، لئن كان قد أسر ملكين لقد قتل أبي. وهذه الثياب السوداء التي أقرأ فيها آية يُتْمي هي الهدايا الأولى التي أهدتها إليَّ عزيمته الماضية. ينعت الناعتون في الخارج قلبه النبيل.
ولكن كل شيء حيالي يذكرني جريمته.
ألا أيتها الأشياء التي تهيج فيَّ الضغينة من مقانع وحرير وثياب هي زينة الحداد. وأنت أيتها المفاخر والمظاهر التي تحدثها نصرته الأولى أديلي لمجدي من غرامي، فإذا غلبتني الصبابة على أمري فراجعي فكرك وأذكريني واجبي الأليم، واطعني غير هيَّابة موقع تلك اليد القاهرة من نفسي.
الفيرة
:
هدِّئي روعك، قد وفدت بنت الملك.
المشهد الثاني
بنت الملك وشيمان وليونورة والفيرة
بنت الملك
:
لست قادمة إليك لتسكين آلامك بل لأمزج زفراتي بزفراتك، ودموعي
بدموعك.
شيمان
:
أحرى بك يا مولاتي أن تصيبي قسطًا من السرور العميم، وأن تذوقي
السعادة التي جاءتك بها العناية.
ما لغيري أن يحزن في هذا الوقت، فقد استطاع لذريق أن ينقذنا من الخطر، وردَّت عليك أسلحته أمن البلاد وسلامتها، فأنا وحدي اليوم يجوز لي ذرف العبرات. حمى المدينة وخدم مليكه، ولم يكن بأس ساعده بؤسًا على غيري.
ما لغيري أن يحزن في هذا الوقت، فقد استطاع لذريق أن ينقذنا من الخطر، وردَّت عليك أسلحته أمن البلاد وسلامتها، فأنا وحدي اليوم يجوز لي ذرف العبرات. حمى المدينة وخدم مليكه، ولم يكن بأس ساعده بؤسًا على غيري.
بنت الملك
:
أي شيماني، في الحق إنه أتى معجزات.
شيمان
:
لقد طرقت أذني هذه الأنباء المكدرة، وينتهي إلى سمعي ما يذاع
عنه في كل مكان من أنه بالغ من السعادة في الحرب مبلغه من الشقاء في
الحب.
بنت الملك
:
وماذا يسوءك من هذه الأحاديث الشعبية، فإن البطل الذي تطريه قد
أعجبك من قبل، وكان يملك فؤادك، ويعيش تحت أحكامك، فالإكبار لشأنه إنما هو
تشريف لاختيارك.
شيمان
:
لكلٍّ أن يثني عليه ولا حرج، أما أنا فأجد في ذلك الثناء تجديد
العذاب، ويزداد المضض في نفسي بقدر ما يُعلون من شأنه إذا قيس ما خسرت بمقياس
ما له من القدر. ما أنكأ هذه الأشجان في لبِّ الفتاة المتيَّمة!
كلما ازدادت معرفتي بمناقبه ازداد شغفي به، غير أن واجبي ما زال هو الأقوى، وسيتعقبه إلى أن يأخذ لي حقي على غرامي به.
كلما ازدادت معرفتي بمناقبه ازداد شغفي به، غير أن واجبي ما زال هو الأقوى، وسيتعقبه إلى أن يأخذ لي حقي على غرامي به.
بنت الملك
:
بالأمس رفعك هذا التشبث بهذا الواجب إلى مقام عليّ، وبدا لأهل
العصر من نبل مجهودك وحسن جهادك لنفسك ما ملأ قلوبهم إعجابًا بك ورثاء لصبابتك،
ولكن هل لك أن تنتصحي بنصح ودِّي صادق؟
شيمان
:
من الإثم ألا أطيعك يا مولاتي.
بنت الملك
:
ما كان بالأمس حقًّا ليس اليوم بحقّ. قد أصبح لذريق سندنا
الأوحد، وإليه اتجه الهوى والأمل من شعب يعبده، فهو أمنُ قشتالة وخوف المغاربة.
للملك نفسه من عالي الرأي فيه ما لأمته.
وكلهم مُجمع على حقيقة هي أن أباك قد بُعث فيه وحده، وإذا رغبت في بيان أصرح أوجزت لك بكلمتين: إنك بإصرارك على إهلاكه تهدمين سمعتك في البلاد، إذ يقولون: أمن أجل الانتقام لأبيها تدفع بأوطانها إلى أيدي أعدائها؟ أمشروع منك أن تطالبي بما فيه بوارنا؟
وهل نحن ضربنا بسهم في الجناية عليك؟ لا أزعم أنك على هذا مضطرَّة للاقتران برجل كنت تطالبينه بدم أبيكِ، بل أود لو استطعت أن أزيلَ من نفسكِ هذه المكابرة. ذودي عنه غرامك، ودعيه لنا حيًّا.
وكلهم مُجمع على حقيقة هي أن أباك قد بُعث فيه وحده، وإذا رغبت في بيان أصرح أوجزت لك بكلمتين: إنك بإصرارك على إهلاكه تهدمين سمعتك في البلاد، إذ يقولون: أمن أجل الانتقام لأبيها تدفع بأوطانها إلى أيدي أعدائها؟ أمشروع منك أن تطالبي بما فيه بوارنا؟
وهل نحن ضربنا بسهم في الجناية عليك؟ لا أزعم أنك على هذا مضطرَّة للاقتران برجل كنت تطالبينه بدم أبيكِ، بل أود لو استطعت أن أزيلَ من نفسكِ هذه المكابرة. ذودي عنه غرامك، ودعيه لنا حيًّا.
شيمان
:
آه، ليس من شأني أن أسعه برحمتي، وليس واجبي بالمطلب الذي يحصره
حيز، نعم إن قلبي يشفع لهذا الظافر وإن لنا شعبًا يعبده، وملكًا يلاطفه، ولكنني
لو أحاط به أبسل المحاربين لأويتُ إلى ظل السّرْو الذي أدفن فيه، وسوَّدتُ
بعاره أكاليل غاره.
بنت الملك
:
إنها لمكرمة منا أن نبغي الانتقام لأب نبرّ به، فنطلب في ديته
رأسًا يعز علينا، غير أننا نأتي مكرمة أسنى وأسمى عندما نبيح دمنا خدمة
للأمة.
لا وصدقيني إنك إذا أطفأت لاعج١ هواك، وسرحته من فؤادك عاقبته أشدّ العقاب، ليَسُمْك حبك للبلاد هذا التجاوز، ومع ذلك ماذا تظنين أن يمنحك الملك؟
لا وصدقيني إنك إذا أطفأت لاعج١ هواك، وسرحته من فؤادك عاقبته أشدّ العقاب، ليَسُمْك حبك للبلاد هذا التجاوز، ومع ذلك ماذا تظنين أن يمنحك الملك؟
شيمان
:
له أن يمنع، ولكنني لا أستطيع الخنوع.
بنت الملك
:
فكِّري مليًّا يا شيماني في شأنك، أستودعك الله وأدعك تتروّين
في أمرك على مهل.
شيمان
:
بعد أن قتل أبي لا خيار لي في أمري.
المشهد الثالث
دن فرنان ودن دياج ودن أرياس ودن لذريق ودن سنش
دن فرنان
:
أَيها الوارث الكريم لأسرة عريقة في المجد كانت وظلّت على
الأيام فخرًا وذخرًا لقشتالة. يا خير سليل لأجداد اشتهروا بإقدامهم.
لم يَجُل جولته الأولى في مضمارهم حتى بلغ شأوهم.
ليت لي من القدرة ما أحسن به جزاءك.
وهيهات أن يفي ما لي من الطَّول بما لك من الاستحقاق.
ثنيتَ عن البلاد عدوًّا قويَّ الشكيمة، وثبَّتَّ بيدك صولجاني في يدي. دحرتَ المغاربة ولما يبدُرْ مني أمر بصدِّ هجماتهم وردّ غاراتهم، فلم تبقِ تلك الهِمم لربّ هذا المُلْك ذريعةً ولا أملًا أن يقابل إحسانك بإحسان. ولكن ملكين أسرتهما سيكونان ثوابك، فقد دعواك في حضرتي بالسيد، والسيد في لغتهما يعني الغطريف الصنديد، فلن أنفِسَ عليك شرف هذا اللقب.
كن منذ اليوم السيّد، وليخضع كلٌّ لهذا الاسم العظيم، وليغمر من الرعب غرناطة وطليطِلة، وليدلل جميع الذين يشملهم سلطاني على ما أنت به خليق، وما أنا به لك مدين.
لم يَجُل جولته الأولى في مضمارهم حتى بلغ شأوهم.
ليت لي من القدرة ما أحسن به جزاءك.
وهيهات أن يفي ما لي من الطَّول بما لك من الاستحقاق.
ثنيتَ عن البلاد عدوًّا قويَّ الشكيمة، وثبَّتَّ بيدك صولجاني في يدي. دحرتَ المغاربة ولما يبدُرْ مني أمر بصدِّ هجماتهم وردّ غاراتهم، فلم تبقِ تلك الهِمم لربّ هذا المُلْك ذريعةً ولا أملًا أن يقابل إحسانك بإحسان. ولكن ملكين أسرتهما سيكونان ثوابك، فقد دعواك في حضرتي بالسيد، والسيد في لغتهما يعني الغطريف الصنديد، فلن أنفِسَ عليك شرف هذا اللقب.
كن منذ اليوم السيّد، وليخضع كلٌّ لهذا الاسم العظيم، وليغمر من الرعب غرناطة وطليطِلة، وليدلل جميع الذين يشملهم سلطاني على ما أنت به خليق، وما أنا به لك مدين.
دن لذريق
:
ليتفضل جلالة مولاي ويقتصد في إخجالي، إنك لتسدي إليَّ من
الثواب ما تقصر دونه خدمتي، وتستحييني تجاه هذا العاهل العظيم من قلة ما أجدر
به من الألطاف ووفرة ما يعطي، وما أنا من يجهل حق المُلْك وحق سعادته على الدم
الذي يحركني والهواء الذي أتنسمه، فلو وهبتهما في التماس ذلك المأرب الأسمى لم
أقم بأكثر مما يجب على كلٍّ من التبع.
دن فرنان
:
ليس كل من يدعوه هذا الواجب إلى خدمتي بمضطلع بها كما اضطلعت،
ومُبدٍ من البسالة ما أبديت.
وإذا الشجاعة لم تفضِ إلى الإفراط في المغامرة لم يُدرك بها مثل هذا النجاح، فلا يشقَّ عليَّ أن تمدح، وصِف لي بإسهاب ما كان من أمر هذا الفوز المبين على حقيقته.
وإذا الشجاعة لم تفضِ إلى الإفراط في المغامرة لم يُدرك بها مثل هذا النجاح، فلا يشقَّ عليَّ أن تمدح، وصِف لي بإسهاب ما كان من أمر هذا الفوز المبين على حقيقته.
دن لذريق
:
علمتُ يا مولاي حينما ألحَّ الخطر، وألقى في المدينة من الرعب
ما ألقى، أن عصابة من الأصدقاء التقت لدى والدي، ورغبت إليَّ في زعامتها على ما
كان لي من الاضطراب، ولكن يا مولاي اغتفر لي بدءًا أن اجترأت على تسييرها من
غير إذنك فقد وضح عذري، إذ كان الخطب داهمًا، والعصابة متأهبة، فلو جئت القصر
لكان رأسي عرضة للسقوط. ولمَّا لم يكن لي بدٌّ من فقده آثرت أن أفارق الحياة
مجاهدًا في سبيلك.
دن فرنان
:
أعذر زماعك في الانتقام لأبيك، وهذا ملكي الذي سددت ثغره
يخاطبني في الدفاع عنك، فأيقن أن شيمان — قائلة ما قالت بعد اليوم — لن تسترعي
سمعي، ولن أعمد إلا تعزيتها. امضِ في حديثك.
دن لذريق
:
سارت تلك العصابة تحت إمرتي وعلى وجوهها آية ثقتها بأنفسها. كنا
خمس مئة فما حصلنا في الميناء حتى تمت عدتنا ثلاثة آلاف من أناس رأونا نمشي إلى
الكفاح بتلك الوجوه الصباح، فعاودت الشجاعة من زايلته منهم. خبأت ثلثيهم منذ
أدركنا المرفأ في بطون المراكب التي كانت راسية، وأقررت الآخرين ومن توافد على
الولاء من الأعوان، فلبثوا حيالي متحرّقين إلى الصدام، لاصقين بالثرى، لا يسمع
لهم دويٌّ ولا رِكز، يمر بهم الهزيع تلو الهزيع من تلك الليلة الشائقة. كذلك
توارى بأمري العسس٢ لازمين كمينهم لاستكمال الحيلة، وفي كل ذلك زعمتُ أنني تلقيت منك
الأمر، فامتثلته ونقلته إليهم جميعًا.
لم تعتّم تلك الأنوار الضئيلة التي تتحدَّر من الكواكب أن أرَتنا ثلاثين شراعًا يقدمها مدّ البحر. طغى الموج تحت المراكب ورمى بالمغاربة والقوارب، فتركناهم يجوزون لا يتحرك منا ساكن، ولا يبدو لهم حرسي في الميناء ولا جندي على أسوار المدينة. خدعهم صمتنا، وانقطاع الأنفاس، فلم يشكّوا في أنهم أُخذونا على غِرّة.
دنوا من البر بلا حذر، وألقوا مراسيهم وتدفقوا متراكضين — وما يظنون — نحو أيدي القنَّاصة الراصدين، فهببنا عندئذ إلبًا٣ واحدًا، وقرعنا أسماعهم بألف صوت جهير، وصدعت عنان السماء صيحة رائعة ردَّدها رجالنا الكامنون في مراكبنا، ثم أقبلوا مدججين، فاختلط حابل البربر بنابلهم وأخذتهم الرعدة قبل أن يتم نزولهم وشعروا بهلاكهم قبل المقاتلة.
أوضعوا وأخبوا يبغون النهب، فإذا هم يلاقون تعبئة حرب، فأحرجناهم على الماء، وزحمناهم على البر، وأجرينا من دمائهم أنهارًا قبل أن يقاوم أحدهم أو يرجع إلى صفه، غير أن أمراءهم لم يلبثوا أن ضموا شتاتهم فبُعثت الشجاعة فيهم، وزالت مخاوفهم، وغلب الحياء عليهم من لقاء الحِمام قبل الصدام، فتألفوا من اختلاط، وراجعتهم بسالتهم، فصمدوا إلينا بأقدام ثابتة، وامتشقوا سيوفهم ودرّ من دمائهم ودمائنا مزيج يعج متلاحمًا، فإذا البحر والنهر وأسطولهم والميناء حومات٤ المتناحرين، تتبارى بينهم المنايا.
شهد الله كم كرّ وكم إقدام لم يشهد روائعهما إلا الظلام. إذ يفتك كل فاتك قدير ولا شاهد له إلا نفسه، وما يدري أي منقلب ينقلب الجلاد في عقباه. وكنت أتجه كل متَّجه مشجعًا رجالنا. أدفع أناسًا آخرين وأسلك القادمين للنجدة في الصفوف وأظاهرهم ثم أرمي بهم إلى الأمام، فلم أتبين نتيجة القتال إلا طلعة الفجر. تألق الضياء فكان الإقبالُ في جانبنا، ورأى المغاربة سوء مصيرهم، فَفُتَّ في سواعدهم وراعهم تقاطر الأعوان إلينا في إثر الأعوان، فغلب خوف المنون على الرغبة في الاستظهار، وتراجعوا إلى مراكبهم يقطعون مراسيها، ويجأرون جأرات دوَّت أصداؤها في الآفاق. ثم نكصوا على الأعقاب غير مبالين ما آل إليه مليكاهم المتخلِّفان، صدفهم الهلع عن الصبر للواجب، وكما أدناهم المدّ منا أقصاهم الجزر عنا، على أن مليكيهم ظلا مشتبكين بنا وإلى جانبهما جنود مثخنون جراحًا، يكافحون كفاح الصناديد، ويبيعون أعمارهم بأغلى الأثمان، فأهبْت بهما غير مرة أدعوهما إلى التسليم ولكنهما أبياه والسيفان مصلتان، حتى إذا رأيا فلول جيشهما صرعى مجدلين ولبثا منفردين لا يغني منهما الجلَد ولا المكابرة طلبا الزعيم، فتسميت لهما، فسلما، فسيرتهما كليهما إليك في آن، وانتهى القتال بفناء المقاتلين.
على هذه الصورة تصدَّيت للخدمة …
لم تعتّم تلك الأنوار الضئيلة التي تتحدَّر من الكواكب أن أرَتنا ثلاثين شراعًا يقدمها مدّ البحر. طغى الموج تحت المراكب ورمى بالمغاربة والقوارب، فتركناهم يجوزون لا يتحرك منا ساكن، ولا يبدو لهم حرسي في الميناء ولا جندي على أسوار المدينة. خدعهم صمتنا، وانقطاع الأنفاس، فلم يشكّوا في أنهم أُخذونا على غِرّة.
دنوا من البر بلا حذر، وألقوا مراسيهم وتدفقوا متراكضين — وما يظنون — نحو أيدي القنَّاصة الراصدين، فهببنا عندئذ إلبًا٣ واحدًا، وقرعنا أسماعهم بألف صوت جهير، وصدعت عنان السماء صيحة رائعة ردَّدها رجالنا الكامنون في مراكبنا، ثم أقبلوا مدججين، فاختلط حابل البربر بنابلهم وأخذتهم الرعدة قبل أن يتم نزولهم وشعروا بهلاكهم قبل المقاتلة.
أوضعوا وأخبوا يبغون النهب، فإذا هم يلاقون تعبئة حرب، فأحرجناهم على الماء، وزحمناهم على البر، وأجرينا من دمائهم أنهارًا قبل أن يقاوم أحدهم أو يرجع إلى صفه، غير أن أمراءهم لم يلبثوا أن ضموا شتاتهم فبُعثت الشجاعة فيهم، وزالت مخاوفهم، وغلب الحياء عليهم من لقاء الحِمام قبل الصدام، فتألفوا من اختلاط، وراجعتهم بسالتهم، فصمدوا إلينا بأقدام ثابتة، وامتشقوا سيوفهم ودرّ من دمائهم ودمائنا مزيج يعج متلاحمًا، فإذا البحر والنهر وأسطولهم والميناء حومات٤ المتناحرين، تتبارى بينهم المنايا.
شهد الله كم كرّ وكم إقدام لم يشهد روائعهما إلا الظلام. إذ يفتك كل فاتك قدير ولا شاهد له إلا نفسه، وما يدري أي منقلب ينقلب الجلاد في عقباه. وكنت أتجه كل متَّجه مشجعًا رجالنا. أدفع أناسًا آخرين وأسلك القادمين للنجدة في الصفوف وأظاهرهم ثم أرمي بهم إلى الأمام، فلم أتبين نتيجة القتال إلا طلعة الفجر. تألق الضياء فكان الإقبالُ في جانبنا، ورأى المغاربة سوء مصيرهم، فَفُتَّ في سواعدهم وراعهم تقاطر الأعوان إلينا في إثر الأعوان، فغلب خوف المنون على الرغبة في الاستظهار، وتراجعوا إلى مراكبهم يقطعون مراسيها، ويجأرون جأرات دوَّت أصداؤها في الآفاق. ثم نكصوا على الأعقاب غير مبالين ما آل إليه مليكاهم المتخلِّفان، صدفهم الهلع عن الصبر للواجب، وكما أدناهم المدّ منا أقصاهم الجزر عنا، على أن مليكيهم ظلا مشتبكين بنا وإلى جانبهما جنود مثخنون جراحًا، يكافحون كفاح الصناديد، ويبيعون أعمارهم بأغلى الأثمان، فأهبْت بهما غير مرة أدعوهما إلى التسليم ولكنهما أبياه والسيفان مصلتان، حتى إذا رأيا فلول جيشهما صرعى مجدلين ولبثا منفردين لا يغني منهما الجلَد ولا المكابرة طلبا الزعيم، فتسميت لهما، فسلما، فسيرتهما كليهما إليك في آن، وانتهى القتال بفناء المقاتلين.
على هذه الصورة تصدَّيت للخدمة …
المشهد الرابع
دن فرنان ودن دياج ودن لذريق ودن أرياس ودن النس ودن
سنش
دن النس
:
مولاي، شيمان تلتمس المثول لعرض شكواها.
دن فرنان
:
خبر سيئ وواجب ثقيل!
انصرف، لا أريد إكراهها٥ على رؤيتك، ويتعين عليَّ بدلًا من الشكر أن أقصيك الآن عن حضرتي، ولكن قبل أن تخرج تعالَ ليُقبِّلك الملك.
انصرف، لا أريد إكراهها٥ على رؤيتك، ويتعين عليَّ بدلًا من الشكر أن أقصيك الآن عن حضرتي، ولكن قبل أن تخرج تعالَ ليُقبِّلك الملك.
(دن لذريق يخرج)
دن دياج
:
شيمان تتعقبه وتود نجاته.
دن فرنان
:
قيل لي إنها تهواه، وسأختبر هواها، أرها عينًا مكتئبة.
المشهد الخامس
دن فرنان ودن دياج ودن أرياس ودن سنش ودن النس وشيمان
والفيرة
دن فرنان
:
لك البشرى وإن أبطأتِ يا شيمان، فقد نجَّح الله قصدك وقضى لك
وطرًا. انتصر لذريق على أعدائنا، ولكنه توفي تحت بصرنا من أثر الجراح، فاحمدي
الله الذي أدال لك، (إلي دن دياج) انظر كيف
شحب لونها لهذا النبأ.
دن دياج
:
وانظر كيف أخذتها الغشية من شدة هواها، ثم اعجب يا مولاي من
ظاهر الغم عليها، قد هتك حزنُها سرائرَ نفسها، ولم يترك لك ريبًا في
هيامها.
شيمان
:
أمات إذن لذريق؟
دن فرنان
:
لا، لا، إنه ما زال حيًّا، وما زال محتفظًا بعهده، مقيمًا على
ودّه، فرفِّهي عنكِ، ولطِّفي من جزعك عليه.
شيمان
:
مولاي، يُدار بالمرء من الفرح كما يدار به من الترح، وفرط الجذل
إذا فاجأ النفس ملك عليها حواسها، وأوهى شغاف القلب.
دن فرنان
:
ترومين يا شيمان تصديق ما تكذّبه شهادة العيان وقد ظهر عليك
الأسى بأجلى مظاهره.
شيمان
:
إيه يا مولاي، أضف هذا الظن بي إلى شدة تعسي، وهب الغاشية التي
غشيتني جزعًا عليه، فإن حزني — ولي فيه كل العذر — قد أرابكم في كنه أمري،
وإنما فجعني نعيه لسقوط رأسه في غير وتري، ولأنه لو أودت به جراحه في سبيل
البلاد لفسد انتقامي وأخفقت مساعيَّ. تلك ميتة كريمة أراها غير عادلة في حقي،
أما التي أريدها له فميتة لا يصحبها فخار، ولا تحيط بها أُبهة ترفعه إلى أعلى
الذرى، ميتة تدركه لا في ميدان الشرف بل على المقصلة، فليُقتل من أجل أبي لا من
أجل الوطن، وليكن اسمه ملوَّثًا وذكراه مشينة. أما ضيعة العمر من أجل الوطن
فليست بغبن بل هي الخلود في أبرع صورة للفناء، فخليق بي أن أغتبط بانتصاره، ولا
جناح عليَّ، إذ انتصاره يعزّ الدولة، ويرد على غريمي عالي القدر في الرجال،
مرفوع الذكر في الأبطال، متوّج الرأس لا بالأزهار ولكن بالعار، أليق ما يكون
قربانًا لبقايا والدي، يا ويحي لقد أبعدت مرمى أملي. هل على لذريق بأس يخشاه
مني وما عليه من دموع إنما تزري على ذرافها.
قد أصبح المُلكُ بأسره مأمنًا له ومعتصمًا، وكل حرام عاد له مباحًا تحت سلطانك، استظهر عليَّ كما استظهر على الأعداء، وأراق من الدماء الزكية ما شرف به العدل حتى اختنق، فلم يكن جزاء المنتصر — على جرائمه — إلا حلية جديدة أضيفت إلى حلاه وزينة ذات بهارج، مشيْنا فيها بكره الإنصاف وراء مركبة الظافر يحفّ بها ملكان أسيران.
قد أصبح المُلكُ بأسره مأمنًا له ومعتصمًا، وكل حرام عاد له مباحًا تحت سلطانك، استظهر عليَّ كما استظهر على الأعداء، وأراق من الدماء الزكية ما شرف به العدل حتى اختنق، فلم يكن جزاء المنتصر — على جرائمه — إلا حلية جديدة أضيفت إلى حلاه وزينة ذات بهارج، مشيْنا فيها بكره الإنصاف وراء مركبة الظافر يحفّ بها ملكان أسيران.
دن فرنان
:
يا ابنتي جاوزتِ الحد في سورة غضبك، أما موقع الأحكام فشأنه أن
يزن القضايا بميزان النزاهة.
قُتل أبوكِ إلا انه المعتدي، وتلقاء ذلك يأمرني العدل بالرحمة فشاوري قلبك قبل أن تتهميني في ما بدا مني، ولا جرم أن الغرام الذي تنضم عليه جوانحك يحمد المليك لإبقائه على عشيق لك، ناهيك به من عشيق.
قُتل أبوكِ إلا انه المعتدي، وتلقاء ذلك يأمرني العدل بالرحمة فشاوري قلبك قبل أن تتهميني في ما بدا مني، ولا جرم أن الغرام الذي تنضم عليه جوانحك يحمد المليك لإبقائه على عشيق لك، ناهيك به من عشيق.
شيمان
:
أبسببي تبقي على عدوي، على مثير حنقي، على مسبّب مصائبي، على
قاتل أبي؟! إنك لا تقدّرُ مسلكي القويم قدره وتحسبني شكورًا لإعراضك عن
ظلامتي.
فأما وأنت لا تُشكيني مما أشكو إليك بدموعي، فأْذن يا مولاي أن ألجأ إلى السلاح، هو بالسيف ألحق بي العار وأنا بالسيف أتقاضى الثأر، إني لأطلب رأسه من جميع فرسانك. أجل، ومن جاءني به كنت له حليلة، فليبارزه يا مولاي، فمن انتقم لي من لذريق رضيت به قرينًا.
فأما وأنت لا تُشكيني مما أشكو إليك بدموعي، فأْذن يا مولاي أن ألجأ إلى السلاح، هو بالسيف ألحق بي العار وأنا بالسيف أتقاضى الثأر، إني لأطلب رأسه من جميع فرسانك. أجل، ومن جاءني به كنت له حليلة، فليبارزه يا مولاي، فمن انتقم لي من لذريق رضيت به قرينًا.
دن فرنان
:
تلك العادة القديمة التي اصطلح عليها قومي، وزعمهم أنها تأخذ
للمظلوم من الظالم، تضعف الدولة، وتحرمها خيرة أبطالها، على أنه يغلب من جرَّاء
هذه العادة الذميمة أن البريء يهضم، والأثيم يعظم، فأنا أعفي منها لذريق وهو
أكرم عليَّ من تعريضه لتصاريف لا تؤمن بدراتها. لئن يكن لذلك القلب النبيل ذنب
لقد ذهب به المغاربة وهم منهزمون.
دن دياج
:
مهلًا مولاي، أمن أجله وحده تغيّر شرعة جرى عليها أهل البلاط
قديمًا وما فتئت مرعية، فما يظن شعبك وما يقول الحسَّاد إذا أطاع لذريق نهيك
وأرعى على حياته، واتخذ منه عذرًا ليكون بمفازة٦ حين يخوض أولو الشرف والإباء غمار الحومات في التماس ردى كريم؟ إن
مثل هذه المحاباة لتمسه في مجده مسًّا مبرِّحًا، فدعه يتذوق ثمرات فوزه بلا
تنغيص. قد اعتدى الكنت على أبيه فتولى عنه جزاءه، وأبلى في لقائه بلاء الباسل،
فليكن باسلًا إلى النهاية.
دن فرنان
:
إجابة إلى طلبك آذن أن يُبارز، ولكنه قد يغلب واحدًا فيحلّ ألف
محله، لأن وعد شيمان يستعدي عليه فرساني بأسرهم، فليس من العدل تصدِّيه وحده
لهم جميعًا، وحسبه أن يدخل في نزال واحد.
اختاري يا شيمان من تشائين، وأحسني اختيارك، فإذا انقضى هذا الكفاح فلا تسأليني مزيدًا.
اختاري يا شيمان من تشائين، وأحسني اختيارك، فإذا انقضى هذا الكفاح فلا تسأليني مزيدًا.
دن دياج
:
لا تجعل أمرك عذرًا لتبجّح الذين يخشون بأسه. ودع الميدان
مفتوحًا. إذن لا يدخله أحد، فبعد الذي أبداه لذريق اليوم، مَن القرْم٧ العنيد الذي ينبري له؟
من الذي يغامر بحياته في لقاء قرن مثله؟
من يكون ذلك المقدام أو ذلك الجسور؟
من الذي يغامر بحياته في لقاء قرن مثله؟
من يكون ذلك المقدام أو ذلك الجسور؟
دن سنش
:
مروا بفتح الميدان، أنا ذلك المقتحم، أنا ذلك الجسور أو ذلك
المقدام. جودي بهذه المنّة على من يشتعل قلبه بهواك، وتذكري يا سيدتي وعدًا
أستنجزه.
دن فرنان
:
شيمان، أتجعلين قضيتك بين يديه؟
شيمان
:
مولاي، سبق الوعد.
دن فرنان
:
تأهب لغد.
دن دياج
:
لا يا مولاي، لا يحسن الإرجاء، والشجاع الحق يكون على أهبة في
كل آن.
دن فرنان
:
أيخرج من جهاد، ويدخل في جلاد على الأثر؟
دن دياج
:
قد استجمَّ لذريق مدة ما قصَّ عليك الواقعة.
دن فرنان
:
فليسترح ساعة أو اثنتين، وحذار من أن يعدّ هذا البراز قدوة
يُقْتَدى بها، ليعلم كل قاصٍ ودان أنني بغير رضاي أبحث أمرًا لا يليق
بي.
فلن أشهد هذه المكافحة ولن يشهدها رجال قصري. (إلى دن أرياس) أنت وحدك تحكم في أي المتبارزين أبسل وتحرص أن يتصرف أحدهما تصرفًا يأباه الكرم، فإذا انتهى النزال أحضر إليَّ الغالب أيهما كان ليصيب الجزاء الموعود، أريد أن أقدمه لشيمان بيدي، فتكافئه بالمعاهدة على القران.
فلن أشهد هذه المكافحة ولن يشهدها رجال قصري. (إلى دن أرياس) أنت وحدك تحكم في أي المتبارزين أبسل وتحرص أن يتصرف أحدهما تصرفًا يأباه الكرم، فإذا انتهى النزال أحضر إليَّ الغالب أيهما كان ليصيب الجزاء الموعود، أريد أن أقدمه لشيمان بيدي، فتكافئه بالمعاهدة على القران.
شيمان
:
رحماك مولاي، أتلزمني هذا الحكم القاسي.
دن فرنان
:
تشكين، ولكن حبك ينكر عليك الشكوى ويقبل بلا إكراه لذريق إذا
عاد ظافرًا، فدعي التأفف من حكم يستعذبه قلبك.
وأي النِّدّين عاد منتصرًا سأجعله لك قرينًا.
وأي النِّدّين عاد منتصرًا سأجعله لك قرينًا.
١
اللاعج: الهوى المحرق.
٢
العسس: الذين يطوفون بالليل يحرسون الناس.
٣
إلبًا: القوم تجمعهم عداوة واحد.
٤
حومات: حومة القتال أو البحر أو الرمل معظمه، حومة الموت: هجومه.
٥
أكره فلانًا على الأمر: حمله على أمر يكرهه.
٦
مفازة: منجاة.
٧
القرم: السيد العظيم.