أن نرى كلَّ هو مَخفي
إنها تُحدِّثنا، تهمس لنا، لكن ماذا تقول؟ يجب التوقُّف للحظةٍ كي نستطيع أن نُنصِت إليها، إلى همساتها. ثم يجب محاولة فَهمها.
علينا التوقُّف قليلًا لمُراقبة التنفُّس، ثم الغَوص في تأمُّل هذه الأشياء الموجودة في لوحة الطبيعة الصامتة هذه.
«طبيعة صامتة»، ما هذا التعبير الغريب؟! إنه يُعرَف أيضًا ﺑ «الطبيعة الساكنة» وهذا أقرب إلى الحقيقة. فهذه اللوحة تُظهِر حياة صامتة، هادئة، مُفعَمة بالارتياح. وتدعونا إلى الانضمام إليها. إنها تدعونا إلى التوقُّف للحظةٍ في هذا العالم المليء بالحركة، هذا العالم النفعي لأنها حياة دون حركة، فهي حياة لا نفع منها. لا نفع منها؟! هل لأنها لا تُظهِر إلا ما هو عادي ومألوف؟
إنها في الحقيقة تُظهِر لنا ما هو مألوف، ذلك الذي اعتدْنا عدم النظر إليه.
وإذا نظرْنا، فإننا سنجد البساطة بكلِّ حالاتها. هناك حضورٌ كثيف في هذا الجماد. فإذا نظرنا إليه، سنجد أنه ذو أهمية، رغم كونه لا يُضيء، لا يتحرك، لا يهتزُّ، ولا يُصدِر ضجة. سنجدُ جمالًا وذكاءً أيضًا، وحتى إننا نستطيع أن نرى نعمة البساطة فيه. إنه متاح وحاضر.
أتذكَّر حديثًا لي مع راهب زن كان يُوصيني باحترام كلِّ جماد. لكن ما هو الجماد؟ إنه كان يقول لي: «ذلك الذي لا يصرخ عندما نضربه.» إنه كلُّ تلك الأشياء والأغراض التي لا تصرخ أبدًا، لكن التي تتحدَّث أحيانًا.
ابحَث في كل هذه الأشياء البائسة والمُبتذَلة في الحياة الريفية، تلك الأشياء الموضوعة جانبًا، أو المُلقاة والتي لا ينتبه إليها النظر عادةً. تلك الأشياء التي لا تُثير بوجودها الانتباه، هي ذات طبيعة جامدة، لكنها قد تُصبِح مصدرًا لسعادة غريبة، وصامتة، ولا حدود لها.
دروس الأشياء
أن نعيش حالة وعي كامل، هو أن نأخذ وقتًا في تأمُّل الأشياء، أن ندعها تُلامِسنا. تلك الأشياء التي نُصادِفها كل يوم وننسى وجودها لكثرة ما مررْنا بها، فلا نعد نراها. علينا أن نتركها تدخل نفوسنا، وأن تسبُر دواخلنا. علينا أن نكسر الحدود التي تفصلها عنَّا، وكأننا نتوحَّد معها فندعها تخطفنا وتُذهِلنا، دون هدفٍ ما.
علينا أن نجلس في إحدى زوايا المنزل تاركين أنفسنا لحضور الأشياء الصامت. يجب أن نُدرِك إلى أيِّ مدًى هي مصدر للهدوء، وللبطء وللاستمرارية. علينا أن نقترِب منها ونتشرَّبها، وأن نسمعها وهي تهمس لنا بألا نستسلم للحركة («افعَل! افعَل»)، ولا للسرعة («أسرِع! أسرِع») اللذَين هما بلاءا العصر الحديث. يقول الشاعر بول-جان توليه: «انتبِهوا إلى رقَّة الأشياء …» نعم؛ لأنَّ هذه الرقة تحملنا بعيدًا. لكننا نستطيع أن نقوم بأكثر من «الانتباه» إليها فقط. إننا نستطيع «الحرص» عليها أيضًا. علينا أن نُحِبَّ رقَّة الأشياء، فطريق اللاحركة هذا سيحملنا في سفرٍ مُذهِل نحوَ السكون.
روابط سرِّيَّة
هذه الأغراض المألوفة ليست بالأغراض العادية، بل إنها رائعة. الماء، الكوب، ركوة القهوة، الطاولة، الحائط، ثمرة الثوم. إنه لَأمر رائع أن نشرب، أن نأكل، أن نصنع الأشياء، أن ننتمي إلى نوعٍ ذكي، وفضولي وكادح. حقًّا إنه لَشيء رائع أن نفتح عيوننا على كلِّ هذا الغِنى الذي نعيش فيه والذي لا يُقدَّر بقيمةٍ ولا تُسبَر أغواره.
بالتأكيد لا بدَّ من جُهدٍ ما؛ جهدٌ بسيطٌ لا بدَّ من بذلِه. يجب أن يكون هناك قليل من الحضور ومن التأمل كي نتمكن من رؤيةِ ما هو غير مرئي، وكل ما لم نعُد نراه. يجب أن نُدرِك أننا لسنا وحيدِين أبدًا لأنه عبر آلاف من الروابط نعرف أن أناسًا آخرين قد صنعوا هذه الركوة، هذه الطاولة، وبحثوا عن منابع المياه وبنوا القنوات كي نرتوي، وفهموا كيف يُمكِن صُنع الزجاج من الرمل، وقاموا بزراعة وقطف ثمار الثوم. ونعرف أنه منذ عدة قرونٍ قام رجلٌ اسمُه شاردان برسم هذه المُعجزة لأجلنا، وها نحن ننظر إلى هذه اللوحة كما رآها كثيرون قبلنا وسيراها آخرون بعدَنا. ونعرف أن أناسًا مثلنا عاشوا تجربة شرب الماء بكل بساطة، وعرفوا رائحة وطعم الثوم وقاموا بلمس سطح الطاولة بأصابعهم.
هكذا فتح البسيط والعادي الطريق نحو إنسانيتنا؛ لأننا قبِلْنا به، استقبلناه، أنصتنا له، نظرنا إليه، شعرنا به، وأحببناه، دون أن نستبدله أو أن نُجمِّله ولا أن نُغيِّر فيه. لقد قُمنا بتأمُّله كما هو.
هكذا فتح البسيط والعادي الطريق نحو إنسانيتنا؛ لأننا قبِلْنا به، استقبلناه، أنصتنا له، نظرنا إليه، شعرنا به، وأحببناه، دون أن نستبدله أو أن نُجمِّله ولا أن نُغيِّر فيه. لقد قُمنا بتأمُّله كما هو وشعرنا بإنسانيَّتنا وسعدنا بها. إننا سعداء بجلوسنا هنا في زاوية المطبخ وهذه الأشياء العادية أمامنا؛ سعداء بهذا الاتصال الهادئ مع الطبيعة، مع إنسانيتنا، مع تاريخنا. كل غرَض تافه يُصبِح صندوق كنزٍ ثمين حين ننظر إليه كما أتاح لنا شاردان. فهذا الغرَض أهداه لنا شخص، وهذا الغرَض اشتريناه عندما كنَّا في ذلك المكان وذلك الوقت، وذاك أتمَّ صناعتَه أناسٌ يعيشون في قارة بعيدة ذات حضارة قديمة جدًّا، وهذا الغرض جاء من …
إن هذه الأشياء تُذكِّرنا بما هو إنساني فينا وحولنا؛ إنها كدَينٍ من الفرَح وامتنان يتَّسِع حتى اللانهائي. فكيف بعد كل هذا نستطيع أن نكره الآخرين أو نمتلئ بالكبرياء؟
التوجُّه نحوَ كلِّ ما هو أساسي
نستطيع أيضًا أن نقوم بما هو أبعد.
نستطيع أن نذهب إلى ما وراء كل هذه الأشياء الصامتة، وما بعد كل تلك الحكايات التي تحكيها لنا والتي تعيش في الظلِّ داخل وعْيِنا. إننا نستطيع أن نتأمَّلها ببساطة دون أن نُفكِّر بها أو أن تدفعنا إلى الحلم. إن ما نُسمِّيه «تأمُّل» غرضٍ ما «هو حالة الوعي عندما نكتفي بالتعرُّف على ما هو موجود، دون رغبة في امتلاكه، أو استخدامه، أو الحكم عليه». إن هذا التعريف الرائع قدَّمه لنا أندريه كونت-سبونفيل.
إن تأمُّل الشيء هو أن ننظُر دون أن نأمل فيه، أو أن نرغب به، ولا أن نحكم عليه. إنه تبنِّي حالة من التواضع الممزوج بالفضول والانفتاح على العالم المحيط بنا، خاصةً نحو هذا العالم الصغير الصامت وغير المرئي. يجب أن نرى الأشياء كما هي مع الابتعاد ببطءٍ عما تُحاوِل أن تقوله لنا. علينا الابتعاد ببطء عن قصصها؛ («أحدهم أهداه لي»، «لقد التقطه»، «اشتريته في يوم مُمطِر وكنت حزينًا») واستخداماتها («سيُساعِدني على فعل هذا أو ذاك»)؛ ومن حكمنا عليها («هذا جميل»، «هذا بشع»، «هي أغراض غريبة») علينا التحرُّر ببطءٍ من هذه التداعِيات الذهنية؛ أي، عبورها والذهاب أبعد. يجب رؤية الأشياء عبر سرِّ وجودها الهادئ، والاكتفاء بما هي عليه وتلقِّي حكمتها الصامتة دون أي كلمة.
إن الساكن يبوح بما هو غير مرئي، كما يبوح الصمت بما هو جوهري. فلنحرِص إذن على تلقِّي العالم كما هو قبل أن ندَّعي تحليله.
«الدرس العاشر»
علينا أن نترك أنفسنا تقع تحت تأثير تأمُّل الأشياء العادية؛ تفاحة، حذاء، غريسة، عشب … تأثير لمسها، مُداعبتها، مُراقبتها. علينا أن نترك أنفسنا تُنصِت في البداية لكل ما تريد قولَه لنا هذه الأشياء؛ كثير من الذكاء والجهد مكَّنها من الوجود، وكثير من الذكريات سمحَتْ لها بالدخول إلى حياتنا والمكوث هنا أمامنا. ومن ثَم بهدوء علينا ترك هذه الأفكار تنحسِر رويدًا لنبقى فقط مع جوهرها دون أن نطلب شيئًا سوى وجودها الصامت. غريبٌ هذا الهدوء وهذه الراحة الأسطورية التي تنبعث من وعاء طبخٍ أو من إسفنجةٍ مُهمَلة مَنسية، لكنني انتبهتُ إليها. يجب أن تكون هذه الزيارات المُتكرِّرة لكل ما هو تافِهٌ وعادي، نوعًا من الشكر وردِّ الاعتبار لحظِّنا المُذهِل بأن نكون كائناتٍ بشرية تعيش وتَعِي.