أن نفهم ونقبَل ما هو موجود
كأنَّنا غير موجودين أمامها.
إنها لا تنظُر إلينا، لكن حركة يدِها الخفيفة يُوقِفنا ويُذهِلنا. إننا نقِف أمامها دون حركة، ودون أن نُزعِجها بشيء.
يوجد آلاف من الإشارات في اللوحات التي يُقدِّمها الفنُّ الغربي، لكن هذه اللوحة ليست كغيرها؛ كأننا نرى الملاك جبرائيل آتيًا يُعلِن لها أنها حامل. فلا نُدرِك في هذه اللوحة سوى العالم الداخلي لوالدة المسيح. نجد مريم الإنسانة، وهي مأخوذة بتجربتها النفسية، وليس مريم ذات الطابع الإلهي وهي تتلقَّى شكلًا من الوَحْي الروحي.
تُظهِر اللوحة لحظةً مُحدَّدة؛ إنها اللحظة التي تفهم فيها مريم الأمر، وتقبل به. إنها لحظة مُعلَّقة، كصفحة الكتاب التي تركَتْها للتوِّ كي تشدَّ الحجاب على رأسها، كأنها تُغطِّي نفسها من القدَر الذي ينفتح أمام عينَيها. إن وجهها يُشبِه هذا الكتاب الذي أمامها؛ إنه ليس مفتوحًا على آخره لكنه ليس مُغلَقًا أيضًا. نظرتُها تتَّجِه نحوَ الداخل، داخلها. إنها تُفكِّر، وتشعُر، وتتنفَّس.
لننظر إلى هذه الحركة الغريبة ليدها اليُمنى المرفوعة قليلًا كأنها تقول: «حسنًا، هذا جيِّد، نعم، نعم، لقد فهمتُ، وإنني أقبَل بكلِّ ما يُرسِله الله لي.» إنها هذه اليد المرفوعة التي تتلقَّى وتُعبِّر عن السكينة، أو البحث عن الراحة، مُوحِيةً بهذه اللحظة الفريدة في اللوحة حيث يتمُّ فيها قَبولُ ما هو موجود قبل الالتزام به.
هل كانت تستطيع الرفض؟ من يستطيع أن يرفض ملاكًا مُبشِّرًا أرسله الله؟ لكن كان يُمكِن لمريم أن تكون أقلَّ ذكاءً، وأقلَّ لباقة. لكنها تجاوَزَت خوفَها، ذهولها وشكوكها، وقبِلَت الإرادة الإلهية. هذه هي اللحظة التي تمَّ رسمُها في هذه اللوحة، والتي قالت كلَّ شيء. لم يكن هناك ملائكة، وأبواق وضجَّة، فقط مغامرة داخلية مُذهِلة.
اقبلوا! لأنه لا يُوجَد شيء آخر …
القَبول
القبول هو جزء مهم في صميم الوعي الكامل. ولا يعني القبول أن نقول إنَّ كلَّ شيء «على أحسن ما يُرام» (هذا يُسمَّى استسلامًا)، ولكن أن نقول: «كل ما حولنا موجود، إنه موجود بالفعل.»
إننا لسْنا مُجبَرين أن نُحِبَّ فكرةً ما، أو حالةً ما، أو شخصًا ما، أو تجربةً ما، كي نقبل بها. لسنا بحاجةٍ لأن نُحِبَّ هذه الفكرة (أو هذه الحالة، أو هذا الشخص، أو هذه التجربة)، وإنما فقط قَبول وجودها. إنها موجودة، وهي حقيقية في حياتنا؛ لهذا يجب علينا أن نتآلَف ونتقدَّم معها.
القبول هو حالةٌ تتجاوز حالة الانكفاء. هي ليست سلوكًا فقط؛ إنها أيضًا قرارٌ وجودي وفلسفةُ حياة. إنها موقف طويل الأمد ونابع عن تفكير، نأخذه تجاه العالم الذي يُحيط بنا. في حالة الانكفاء هناك نوع من التنازل؛ التوقُّف عن كل أنواع التواصل. بينما في القبول يُوجَد نوع من الرغبة في أن نبقى في الفعل ولكن بشكلٍ آخر؛ بحالة من الوضوح والهدوء. وفي كل مرة يحدُث شيءٌ ما، نستطيع أن نقول: «نعم، ها هو، إنه هنا الآن.» إنه القبول الصادق والكامل للواقع حين يأتي كما هو.
لكن هذا التلقِّي لكلمة «نعم» لا يعني بأي شكل من الأشكال استسلامًا أو تنازلًا عن التفكير أو الفعل، هو فقط إحدى هاتَين الحركيَّتَين المُنتظِمتَين لذهننا كأنهما تنفُّس روحنا؛ القبول (بما هو موجود) ثم التصرُّف (حسب ما هو موجود) والقَبول (بما حدَث) ثم الفعل (بناءً على ما حدَث)، وهكذا باستمرار. ومع الوقت، كما يحدُث في حالاتٍ أخرى حين نُتقِن حالةً نفسيةً ما، تمتلك هذه الحالة بُعدًا آخر؛ «ليس علينا أن نقبل الأشياء؛ فهي موجودة أصلًا.» وهكذا لا نقوم حتى ﺑ «جهد» القبول لأنه أصبح قدرةً داخلية صامتة وهادئة، ونشعُر حينها أنَّنا صِرنا أكثرَ قوة.
القَبول بوصفِه التفافًا
يُعلِّمنا القبول أن نختار أفضل الطُّرُق للوصول إلى حيث نريد، وهذا الطريق ليس خطًّا مُستقيمًا بالضرورة. إن هذا يُشبِه تمامًا المَسير في الجبال؛ فقد تكون فكرةً سيئة أن نُقرِّر الصعود إلى القمَّة مباشرةً، فنَتْبع طُرقًا تلتفُّ وتُحاذي جوانب الجبل دون أن نتخلَّى عن فكرة الوصول إلى الأعلى في النهاية. إننا نقبل أن نأخذ الممرَّات المُنعطِفة والصاعدة سائرين نحوَ القمَّة. وبنفس الطريقة، لا نستطيع تجاوُز بعض الجهود النفسية إلا عبر قَبولنا لها.
قد يكون مثلًا من غير المُجدي أن نُحاوِل مواجهة بعض أفكار الفشل كالقول: «لن أستطيع القيام بذلك.» عبر تحفيز إرادتِنا كأن نردَّ على أنفسنا: «بلى يجب أن أقوم بذلك.» أو عبر الاستعانة بالتفكير المنطقي: «لا يُوجَد سبب يمنعني من القيام بذلك.» إننا لن نتعلَّم أبدًا — بإصرارنا هذا — كيف نقبل أفكار الفشل في دواخلنا (من الأفضل أن نتعلم عدَم إطاعتها من أن نُحاوِل رفضها أو إلغاءها)، ولن تكفَّ حينها عن أن تُسبِّب لنا حالات من عدم التوازن النفسي بطاقتها القوية. بالإضافة إلى ذلك، لن نكون قد قبِلْنا أفكار الفشل كأحد الاحتمالات الموجودة. بينما الالتفاف على أفكار الفشل هذه يمتلك في أغلب الأحيان، وعكس ما نظن، تأثيرًا كاشفًا، ومُثيرًا للراحة: «نعم، أنا أقبَل الأمر، ولا أعرف إن كان ذلك سيُجدي نفعًا، لكن لديَّ رغبة بتحقيق ذلك. إذن سأُحاوِل أن أفعل ما بوسعي، وبعدَها سأرى النتيجة …»
يُعلِّمنا الوعي الكامل القيام بالتفافٍ كهذا عبر القبول؛ أي قبول فكرة الفشل. علينا مراقبة تأثيرها علينا، دون أن نُغذِّيها أو نُعطيها الطاقة عبر مُحاربتنا لها، أو محاولة إبعادها. علينا أن نترُكها تترسَّب داخلنا عبر الاستمرار بالتنفُّس وترك إدراكنا مفتوحًا على آخره، وأن نظلَّ في حالةٍ من الوعي الكامل. ومن بعدها علينا العودة إلى الفعل، والذي سيكون في معظم الأحيان الطريقة الوحيدة للتحقُّق مما إذا كانت أفكار الفشل تلك حقيقية، أم لا.
القَبول بوصفه نوعًا من الحكمة
«إن أفضل الأماكن التي يُمكِنك أن تبحث فيها عن الحكمة، هي في الحقيقة تلك التي لا تتوقَّع أن تجدها فيها؛ إنها أفكارُ مُناهِضيك.» صحيحٌ هذا القول، وحقيقي. أليس كذلك؟ لكن من أجل ذلك عليك أن تستمع إلى أفكار مُناهِضيك، وأن تسمح لها بالوجود (نحن الذين نحلم دائمًا بألَّا يكون لنا غير «المُؤيِّدين») حينها ستكون بمنزلة كنزٍ لك، وفرصة لتصير أكثرَ ذكاءً.
يسمح لنا القَبول أن نفهم البُعد المأسوي للواقع، دون أن نُحوِّل حياتنا بالضرورة إلى مأساة. إنَّنا لا نُنكِر طبيعة الوجود المُؤلِمة وغير العادلة، وإنما نترك لها مكانًا، لكن دون أن نترك لها المكان «كاملًا»، بل نُحافِظ على مكانٍ آخر لكلِّ ما هو جميل وخيِّر.
القبول سيسمح لنا بإدخال العالم كله في ذواتنا، بدلًا من محاولة تشكيله على صورتنا، وأن نأخُذ منه فقط ما يُلائمنا ويُشبِهنا.
ولأنَّ كلمة «قَبول» تُزعِج الكثيرين؛ لأنهم يفهمون منها معنى «الإذعان»، بحَثْنا لها عن بدائل. يقترح علينا الفيلسوف ألكسندر جوليان مثلًا كلمة «الافتراض» والتي تعني لغويًّا «الأخذ بالأمر» وقَبوله والالتزام به. آخرون اقترحوا كلمة «التوسع»، ويعني إفساح المكان في دواخلنا، طوال الوقت، لكلِّ شيء حتى ذلك الذي يُزعِجنا ويُقلِقنا. علينا ألا نستسلم للأمور أبدًا، ولكن أيضًا ألا نتعلق بها بشكلٍ سلبيٍّ عبر رفضها. إنَّ الرفض والكُره، مثلهما مثل الخوف، سوف يُؤدِّيان إلى الهشاشة والضعف. الأمر إذن، أن نُوسِّع دواخلنا، مُمدِّدين بذلك اضطراباتنا ورفضنا في محتوًى أكثر اتِّساعًا. وفي كلِّ مرة يزداد شعورنا بالقساوة والرفض، تزداد حاجتنا لوعي أكثر اتِّساعًا، دون أي موضوع؛ وَعيٍ يتلقَّى كلَّ شيء.
وأخيرًا قد يقترح القَبول علينا خيارًا تناقضيًّا؛ وهو ألا نختار شيئًا، وألا نرفض شيئًا، وألا نستبعد شيئًا؛ حتى هذا «غير المرغوب»، و«غير الجيِّد»، و«غير الجميل»، و«غير الخيِّر» … إلخ. فنُقرِّر أن نقبل كلَّ شيء، أن نتلقَّى ما يحدُث، وما هو موجود. إننا بالقبول نفتح مساحةً داخلية لا نهائية؛ لأنَّنا عدَلْنا عن فلترةِ كلِّ شيء، ومحاولة التحكُّم بكلِّ شيء، ولم نعُد نحكم أو نقيس أو نَتحقَّق. بهذه الطريقة يُصبِح القبول مصدرًا لغذاءٍ داخلي. وسيسمح لنا بإدخال العالم كلِّه في ذواتنا، بدلًا من محاولة تشكيله على صورتنا، وأن نأخُذ منه فقط ما يُلائمنا ويُشبِهنا. هذا ما كانت تقوله القديسة تيريزا من ليزيو بطريقتها الخاصة: «أختار كلَّ شيء.»
«الدرس الرابع عشر»
قَبول كلِّ شيء يجعلنا أكثرَ هدوءًا وأكثرَ ذكاءً، ومن ثَم أكثر قدرةً على تغيير ما يجب أن يتغير. هذا هو جوهر الفكرة.
ثم تأتي التجارب العملية التي من دونها يُمكِن أن يكون كلُّ ذلك كلامًا مُرسَلًا. إن كل إزعاجاتنا الصغيرة اليومية تُعَدُّ فرصًا رائعة للتمرين على القَبول.
هل أنت مُتضايِق، ومُنزعِج، ومُتعَب؟ ابدأ بالتنفُّس وأدرِك كلَّ ما هو موجود في هذه اللحظة؛ أدرِك الوضع، وتأثيره عليك، وأنَّ كلَّ ذلك موجود معك، وأنه لا يُمكِن إلغاؤه، ومن ثَمَّ عليك قَبوله. ثم حاوِل أن تجد ما يُمكِنك فعله أو التفكير به. إنه أمرٌ سهل الفهم، ورغم ذلك تمَّ قوله وإعادته آلاف المرات؛ حتمًا لأنَّ الشرح لا يكفي، وإنما تجب ممارسته بشكلٍ يومي. من المُؤكَّد أنَّ الممارسة أقل فخامة وأقل متعة من الكلام الرنَّان، لكنها أكثر فعَالية.