أن نبقى حاضرين في هذا العالم
لا يحدُث شيء استثنائي هنا. يحرُث الفلاح أرضه، ويحرس الراعي خِرافه وهو يُراقِب الغِربان، وينتظر الصيَّاد أن يأكل السَّمَك الطُّعم. وتبدأ سفنٌ رحلتها. ومن بعيد، نجد خليجًا، جُزرًا وموانئ. يبدو كلُّ شيءٍ في مكانه. ولكن إلى ماذا ينظر هذا الراعي فعلًا؟ هناك رجل بأجنحةٍ في الأعلى! إنه دايدالوس، وحيدًا في السماء. إنه يُدير رأسه إلى يمين اللوحة وكأنه يبحث عن شيءٍ ما أو عن شخص.
إنه لا يزال يطير، لكنه تحلَّى بالحذَر ولم يقترِب كثيرًا من الشمس. وقد أدرك توًّا أن ولده إيكاروس لم يعُد بجانبه. إنه يبحث عنه في السماء. إنها لحظة من تلك اللحظات التي تبدو عادية، ولكنها تسبِق الكارثة. نبحث معه عن ابنه؛ لا شيء في السماء غير الضوء الباهر للشمس الحارقة. ماذا إذا نظرْنا إلى الأسفل؟ نعم إنه هناك؛ ألا ترَون قَدَم المسكين إيكاروس التي لم تغُص بعدُ في البحر.
إنه سوف يموت غرَقًا أو مُحطَّمًا إثرَ سقوطه. لقد انتهى كلُّ شيء بالنسبة إليه، ولكن بالنسبة إلى الآخرين فإنَّ الحياة تستمر. تستمر الحياة. هذا ما يقوله لنا بروجل؛ فقد بقي كلُّ شيءٍ كما كان. لا أحد يهتمُّ لمَوت إيكاروس؛ لا الفلَّاح، ولا الراعي، ولا الصيَّاد، رغم أنه قد سقط قريبًا جدًّا منهم. وحتى حين يعلم الجميع بمَوته، هل سيختلف الأمر كثيرًا؟ فنحن نجد الموتى، الموتى المساكين، كلَّ يومٍ وفي كل مكان. لكن الأرض ستستمرُّ دومًا بالدوَران.
هل هذا شيء فظيع؟ لا. إنه حدَثٌ ما؛ بعضٌ من الزَّبَد على شاطئ البحر. ولكن الأرض ستستمرُّ في الدوَران، ولربما ذلك من حظِّنا. فماذا ينفعنا لو أنه في كلِّ مصيبةٍ تحلُّ بنا سيتهدَّم العالَم معنا؟
عليك أن تُطوِّر رُوحًا واسعةً وسعَ الفضاء، حيث يُمكِن للأحداث الجيِّدة والسيِّئة أن تظهر وتختفي دون نزاع، دون مقاومة أو ألَم. اجعل روحك واسعةً كالسماء.
علينا ألا نفقد العالم
يأخذ الألم كلَّ المكان؛ إنه يجتاح وعْيَنا، أو أنَّنا نحن من ينكفئ عليه، خاصة في حالات الحِداد والفقدان لأنَّ الألَم يرتبط مباشرةً بمن فقدناه، وقد يزيد شعورنا بالفقد إذا نحن توقَّفْنا عن المُعاناة. سلوك الانكفاء هذا هو نوع من البحث عن «وضعيةٍ مُخفِّفة للألَم» كما يقول الأطباء، ولكنه أيضًا نوع من التعلُّق بما بقِيَ لنا. لكننا، عندما نتصرَّف بهذه الطريقة، بانطوائنا على ذواتنا، على آلامنا وذكرياتنا، سنكون حينها في خطرٍ لأننا سنكون حينها قد خرجنا من العالم. تتكلم الفيلسوفة سيمون فاي عن «درجة الألم التي نفقد عندَها عالمنا». إذن كيف نستطيع في لحظةٍ ما العودةَ إليه؟ كيف نستطيع إذن أن نتلقَّى مُعاناتنا بصدق، حين لا نستطيع (وأحيانًا لا نريد) إبعادها، وأن نبقى في نفس الوقت مُتواصِلين مع العالم الذي يُحيط بنا؟
كي لا ترمِيَنا الآلام الكبيرة خارج الحياة، علينا أن نتمرَّن في حالات الألم الخفيفة على البقاء على صلةٍ مع العالم في أوقات الكآبة واليأس اليومية. علينا أن نتمرَّن في أوقات الحُزن البسيط كي نتهيَّأ قدْر الإمكان أمام المشكلات الكبيرة.
في البداية علينا توسيع وَعْيِنا
علينا أن نحرِص على ألا تكون المعاناة موجودةً بمفردها، وألا يكون انتباهنا مُركَّزًا عليها، بل أن يكون هناك عناصر أخرى حاضرة في وعْيِنا؛ بإتاحة المساحة لتنفُّسنا، لأحاسيسنا الجسدية، للأصوات حولنا. علينا أن نُوسِّع الوعاء الذي يحتويها، فلا ندَع الألم يأخذ كلَّ مساحة وعْيِنا. ويجب أن ندعو كل قُصاصات الحياة التي ما تزال في مُتناوَل أيدِينا.
علينا بعد ذلك مراقبة أفكارنا، التي ستكون هي أيضًا مُثبَّتة على الألم. علينا أن نجلس، ونُغلِق عيوننا ونتنفَّس، ثم أن نأخذ وقتًا كافيًا كي نرى إلى أين تُحاوِل أن تدفعنا مُعاناتنا؛ إلى أيِّ نوع من الانطواء والعزلة، وأن نستمرَّ في نفس الوقت بالتنفُّس، وبالإحساس، وبالعيش. وعلينا ألا نُوقِف تنفُّسنا مُغلِقين حياتنا على المُعاناة والآلام.
هل تمرُّ بعض الأحزان بمفردها؟ أكيد دون شك، وربما بشكلٍ أسرع إذا اتَّبَعْنا هذه الطريقة. بكل الأحوال فإن تلك المُعاناة التي سنتعامل معها بالوعي الكامل لن تترك فينا أخاديد جاهزة كي تمرَّ بها آلامنا اللاحقة. إنها لن تكون سوى ذكرى مُزعِجة بعض الشيء، وليس قنبلة موقوتة مُستعِدة للانفجار.
المُواساة
أن نكون وحيدين في المعاناة، إنها مسألة حقيقية وثابتة؛ فلن يُعاني أحد بدلًا عنَّا، ولن يستطيع أي شخص أن يأخذ أُوقية واحدة من آلامنا، لكن هل يعني ذلك أنه من المستحيل أن تتمَّ مُساعَدتنا؟ ألا تُوجد مواساة مُمكِنة؟
الأمر ليس كذلك فعلًا. الحقيقة هي أننا نحن من لا يريد أو لا يستطيع أن يتلقَّى المواساة. إنَّنا لا نستمع إلى مواساة الآخرين لأننا نظنُّ غالبًا، وبشكلٍ مُسبَق، أنها لن تُجدي نفعًا. وبالتأكيد سيكون ذلك صحيحًا. إنها لن تُجدي نفعًا إذا أردْنا أن تعود الأمور كما كانت عليه تمامًا؛ أي، أن تختفي المأساة. لكنَّنا إذا أدركنا أن إصلاح كل شيء غير مُمكِن، وأنه لا يُوجد بالضرورة حلٌّ لمعاناتنا، فقد نُنصِت حينها إلى مواساة الآخرين، وقد نتعلَّم حينها شيئًا آخر، وهو أنه يُوجَد دائمًا إلى جانب معاناتنا، حياةٌ مُستعِدة لاستقبالنا.
إذا قُمنا بهذا الجهد، فسنكتشِف أنه خلفَ المواساة يُوجَد أيضًا العطف. إنه ليس الدواء الشافي للمصائب، لكنه قارب نجاة. إنه تشجيع على الاستمرار في الحياة رغم كلِّ شيء. إنه يُوسِّع وَعْيَنا لنُدرِك وجود الحب والاهتمام من حولنا. وتصلنا الرسالة البسيطة الآتية: أحيانًا لا يكون هناك من إمكانيةٍ أمام القريبين منَّا غير عجزهم وحضورهم. إنهم عاجزون عن «إصلاح» ما حدَث، لكنهم حاضرون ليُذكِّرونا أنَّ علينا أن نظلَّ بشرًا في خِضمِّ الحياة؛ فيجب ألا نتحوَّل إلى وحشٍ يعتصِرُه الألم، وألَّا نُدمِّر ذواتنا، وألا نُصلِّب أرواحنا، وألا نترُك العالم، وأن نبقى أحياءً.
هل علينا الاستمرار بالبُكاء؟
هل سيتوقَّف دايدالوس عن الطيران؟ أم أنه سيستمر بالطيران حالمًا بابنه؟ هل سيستمر بتأمُّل جرَيان الشمس والغيوم، وجمال الأرض والبحر، والرسم الجميل للزَّبَد على الشاطئ؟ أم أنه سيختار أن ينكفئ على ذاته ليبكي إلى آخِر العُمر؟
حلِّق يا دايدالوس، حلِّق واجعل ذكريات ابنك تُحلِّق معك وتعيش معك. ماذا تستطيع أن تفعل غير ذلك؟ وعندما تُحلِّق لا تُحاوِل كتْم أو كبْتَ مُعاناتك. عليك فقط أن تفتح روحك على السماء اللانهائية. استقبِل بكثافة في داخلك هذا الجمال الذي ينزلق تحت جناحَيك. كُن حاضرًا بملء قواك في مشهد العالم. ولا تخَفْ من أن تدع معاناتك تسكُن داخلك أثناء طيرانك. حاوِل أن ترى ما كان يراه ابنك، أن تشعُر بما كان يشعُر به. حاوِل أن تتنفَّس من أجله، أن تبتسِم من أجله، وأن تُحِبَّ هذا العالم من أجله.
هذه الحياة التي تستمر، هذه الحياة التي تُؤلِمك، ستكون أيضًا خلاصك. كلُّ شيء هنا، إيكاروس ما زال هنا. إنه يُحلِّق معك.
«الدرس السابع عشر»
حين نُعاني كثيرًا، سنكون تُعساء جدًّا، وسنفصِل أنفُسنا عن العالم. لن نكترِث له، وسنجده غيرَ مُبالٍ، وحتى عدائي. ولكنه مع ذلك، وبطريقته هو، سيُحاوِل مُساعَدتنا أو إنقاذنا. وكلما عانَينا أكثر يجب أن نتأكد أكثر من بقائنا على تواصُل مع كلِّ ما يُحيط بنا؛ فالمعاناة تزداد قسوة، وتمتدُّ في الزمن أكثر عندما نقطع علاقاتنا ونبتعد عن مُحيطنا، وننطوي على ذواتنا. تمرين: عندما أشعُر أنَّني حزين، سأُحاوِل أن أُحافِظ على حسَّاسيَّتي لجمال هذا العالم، حتى حين لا يُخفِّف ذلك من ألمي، وحتى عندما لا يُساعِدني مباشرة؛ ففي لحظةٍ ما كلُّ شيء سيصير مختلفًا، وسيُنقِذني!