أن نستمرَّ بالتقدُّم رغم جروحنا
إذا ألقَينا نظرةً عابرة ونحن نمرُّ بسرعة، نجد أنَّ هذه اللوحة تُظهِر لحظةً ريفية عذبة؛ صبيَّة يافعة تستلقي على العُشب وتُراقِب بيوتًا في أعلى التل.
لكننا إذا توقَّفنا لحظة، سنشعُر حينها أنَّ شيئًا ما لا يجري على ما يُرام؛ يبدو العُشب مُسفَّعًا من الشمس في سهلٍ واسع مَقيتٍ لا ينتهي. البيوت بعيدة وداكنة جدًّا. وحتى هذه الفتاة تُعطي انطباعًا غريبًا. ننظُر إليها بتمعُّن ونبحث من أين يأتي انزعاجُنا هذا؛ ربما من وضعيَّتها التي لا تبدو طبيعية تمامًا. إنها ليست وضعيةَ شخصٍ مُستَرخٍ وهو ينظر إلى السهل دون هَم. يبدو أنها وضعية شخص يزحف على الأرض. ثم هناك ذراعاها النحيلتان جدًّا، ومرفقها الذي يبدو أنه مريض ومُغطًّى ببُقَع على الجلد، ويدها اليُسرى التي تتمسك بالعُشب والتي تُعاني من التورُّم والتشوُّه … ماذا يحدُث هنا؟ ما الذي يريد أن يقوله لنا كلُّ هذا؟ إليكم قصة هذه اللوحة؛ هذه الصبيَّة التي في اللوحة مريضة ومشلولة. إنها لا تتأمَّل الطبيعة. هي بصدَد العودة إلى بيتها زاحفةً لأنها ترفض أن تستخدِم العكاز أو الكرسي المُتحرِّك. بالإضافة إلى ذلك، هي ليست صبيَّة صغيرة السن، وإنما امرأة عمرها أربعٌ وخمسون سنة. وايث الرسَّام يعرفها جيِّدًا؛ إنها كريستينا أولسون، جارته في قرية كوشينج في ولاية مين.
إذن إنَّنا نفهم الآن، بشكل أكثر وضوحًا سببَ انزعاجنا أمام هذه اللوحة. إنها تُظهِر لنا معاناةً خفيَّة، كاشفةً الغمَّ والوحدة. لكنها تحكي أيضًا قصة هذا الملجأ الذي يُوجَد عند الأفق، والذي يجِب علينا الاقتراب منه ما استطعنا. وأخيرًا هي تطرح سؤالًا عن السؤال الذي يطرح نفسه علينا دائمًا في حياتنا؛ هل نستسلِم، أم نُكمِل؟ هل نزحف ونتقدَّم رغم جروحنا؟
يجِب ألا نسعى إلى إلغاء كلِّ معاناة، أو تخفيفها وإنما يجب ألا نتأثَّر بوجودها.
الجروح المَخفيَّة
هناك الجروح الجسدية الظاهرة. وهناك أيضًا جروح الروح، وحالات الضَّعف الناتجة عن الفقد، أو مآسي الماضي. إنها هي غير مرئية، ولكنها مُسجَّلة في أرواحنا وأجسادنا. قد نعيها أحيانًا، وأحيانًا أخرى تكون نائمة. هذه الهشاشة تجعل منَّا أناسًا يعيشون بين عالمَين؛ طبيعيَّين في الظاهر، ومريضَين في السر.
لقد حلمنا طويلًا ألَّا تكون هذه الجروح، أو تلك الهشاشة، موجودة. ثم حلمنا أنها قد تختفي يومًا ما؛ في خِضمِّ الحياة والحب ومع الوقت. والآن ورغم الجهود ومرور السنوات يجب أن نعترِف لذواتنا بما يأتي؛ أنها ما تزال موجودة معنا، ولوقتٍ طويل أيضًا، وربما دائمًا.
إذن سنُحاوِل أن ننساها، وألا نُفكِّر بها، وأن نتظاهر بذلك. في مُعظم الأحيان قد ننجح. لكنها من وقتٍ لآخر، وتحت تأثير هزَّات الضغوط والحزن، ستستيقظ من جديد وستخرج الأشباح من خزانة الثياب.
استيقاظ الشياطين القديمة
إذا كنَّا قد عانَينا من الاكتئاب، أو من القلق، أو من اضطرابات عاطفية أخرى، فإن آثارها ستبقى نائمة داخلنا، ونكون حينها فيما يُسمَّى «مرحلة نقاهة» لأنَّ الوقتَ يمضي ولأننا تغيَّرنا، وربما لأن الحياة صارت أكثر لينًا. لكنها عندما تقسو من جديد، ستُفتَح عندها الجراح ويعود إلينا الإحساس بأننا قد ننهار، هكذا أمام الجميع. إن هذه الفترات التي يمتصُّنا فيها من جديدٍ كلُّ ما هو مُؤلِم داخلنا، هي فترات تُشبِه مَفارق الطُّرق؛ وسيكون بمقدورنا أن نتصرَّف ونُواجِه، حتى لو لم نكن نُؤمِن بذلك.
لهذا السبب قُمنا بنقل ممارسة التأمُّل بالوعي الكامل إلى علم النفس العلاجي لدعم ما نُسمِّيه «الوقاية من الانتكاسات». إن العلاجات التقليدية، كالعلاج بالتحليل النفسي، وتفكيرها المُتعمِّق حول أصل مُعاناتنا، لم تعُد تكفي. أما العلاجات الجديدة كالعلاج المعرفي السلوكي فهي أكثر نجاحًا، ولكن بشكلٍ نِسبي فقط. لهذا قُمنا بإضافة التأمُّل بالوعي الكامل إلى كل هذه الحلول وهذه الخطوات التي نقوم بها. ويبدو حتى الآن أنها كانت فكرةً جيِّدة؛ لأنه يبدو أن الانتكاسات لدى هؤلاء الذين يُمارِسون التأمُّل بالوعي الكامل أقلُّ تكرارًا وأقلُّ عُنفًا.
عندما نعي الأفكار المُضنية حين تعود إلى نشاطها تحت تأثير الصَّخَب اليومي، فإن ذلك سيُساعِدنا على عدم الخضوع لها، على الأقل ليس بشكلٍ كامل. نستطيع حينها أن نقوم بخيارٍ حقيقي وهو أن نُصغِي إليها، ثم ننتقل إلى شيءٍ آخر. إن هذا الشيء هو أن نتقدَّم وأن نُحاوِل، حتى وهي تهمس لنا بأن ذلك غير مُجدٍ؛ وحتى حين تقول لنا إن ذلك أقوى منَّا؛ وحتى حين تصرُخ فينا بأن نتوقَّف عن القيام بهذه المحاولات. من المهم ألا نُنصِت إليها.
يُساعِدنا الوعي الكامل على ألا نترُك أنفُسنا تحت تأثير التهديد القادم من عُمق ذواتنا. عندما لا نكون على ما يُرام، فإننا بممارسة التأمُّل نقوم بوضع خوفِنا وقلقنا في مساحة الوعي الكامل. وأيضًا بالممارسة، عندما لا نكون على ما يُرام ولكن ليس بشكلٍ كبير، فإنَّنا نُواجِه الأمواج الصغيرة كي نستعدَّ بشكلٍ أفضل للعواصف.
التقدُّم خطوةً خطوة، مترًا مترًا
علينا بعد ذلك ألا نفقد الهمَّة؛ فهناك أصدقاء للوعي الكامل، الفعل على سبيل المثال. نستطيع أن نقوم بنفس الشيء كما في حالة المَسير المُنهِك؛ أن نخفِض رأسنا وأن نتقدَّم خطوةً خطوة، مترًا مترًا. نستطيع أن نفعل وأن نتقدَّم حتى ولو لم نكن واثقين من أن ذلك سيُجدي نفعًا، حتى دون يقين. علينا ألا نخضع لأفكار العجز التي تتدافع حولنا. وعلينا أن نُدرِك أنَّ هذه الأفكار التلقائية التي ستخرج من الماضي ستُحاوِل بسْط سيطرتها، وأنَّ علينا أن نستمرَّ رغم ذلك.
والأهمُّ ألا نقطع تواصُلنا مع العالم. علينا أن نرفع رأسنا، وأن نتشرَّب كلَّ ما يُحيط بنا. علينا أن ننتبه إلى انقضاض أفكار اليأس والانهيار، ولكن دون أن نبقى مسجونين معها في دواخلنا. ويجب أن نفتح أبواب ونوافذ أذهاننا على اتِّساعها أمام العالم الذي يُحيط بنا.
التقدُّم حتى الوصول إلى ذلك الملجأ
تصِل كريستينا أخيرًا إلى بيتها. تجلس على عتبة المنزل وتُراقِب غروب الشمس. إنها سعيدة بوجودها، رغم كلِّ شيء. إنها سعيدة رغم شلَلِها، وتَعبها، ويدَيها اللتَين تُؤلِمانها، رغم الحُزن الذي لا يُوصف والذي يغمر حياتها طوال الوقت. يطلب منها الرسام أن يرسم لها لوحة أخرى وهي جالسة على عتبة الدار في ضوء الشمس. وهي تُوافِق. وتنظر إلى الشمس مرة أخرى وتشعر أن تنفُّسها يهدأ بالتدرج. تتنهَّد، ثم تبتسِم وتلك هي اللحظة التي يختارها الرسام لرسمها فيها.
«الدرس الثامن عشر»
أحيانًا نُعاني لدرجةِ أننا نلجأ إلى الفعل فقط. نصير حيوانات تعمل بجُهد كثيف للاستمرار بالحياة؛ دون تفكير لأننا نعرف أن التفكير في ظلِّ الألم قد يُسبِّب مزيدًا من البؤس والعمى. أن نفعل يعني أن نعرف ما هو جيِّد وأساسي بالنسبة لنا، وهذا يعني أننا قد فكَّرنا قليلًا ومن ثَمَّ تصرَّفْنا، وبتواضُعٍ كامل. إننا نفعل لأننا نعرف أن ذلك سيُساعِدنا على الاستمرار. يُمكِن أن نمشي، أن نهتمَّ بنباتات الحديقة، أن نُرتِّب، أن نُصلِح، وأن نذهب إلى العمل. إننا نفعل ليس للهرَب أو للشعور بالراحة، ولكن لأنَّنا لا نستطيع القيام بشيءٍ آخر، وإن لم نفعل شيئًا، سننهار. قد لا يبعث هذا الكلام على الراحة أو الشجاعة، لكن تُوجَد لحظات كهذه في حياتنا.