أن نتنفَّس
لا يحدُث شيء؛ لا حكاية، ولا حكمة. لا شيء سوى سمَكة شبوط من ورق، وحيدة في أعلى السارية. وجودها يُشعِرنا بطراوة الغسَق، ونسمع معها همسات المدينة. نُطِل على كيوتو الجميلة والمُلغِزة برفقة أسدٍ حجَري يُراقِب حركة المارِّين العائدين إلى منازلهم، وسمكة شبوط أخرى مُعلَّقة إلى سارية بعيدة.
لا يحدُث شيء، لا نسمع شيئًا غير صفْق الجسد الورَقي للسمَكتَين في الريح. نشعُر بمرور نسيم المساء على جِلدِنا، إنه يعبُر السمَكتَين ويملؤهما ليُعطيهما حياة عابرة. ربما سيتركهما غدًا، أو ربما سيُمزِّقهما. لكن في هذه اللحظة، إنهما ما تزالان هنا عاليَتَين في السماء، وتخفقان بشجاعة.
لا يحدُث شيء. لا يُوجَد سوى الرياح والفراغ. لكن هذا الفراغ يجعل روحنا تتنفَّس براحةٍ أكبر. إننا نشعر بوجود الهواء في اللوحة، رغم أنه غير مرئي.
كذلك هو نفَسُنا الموجود في جسدنا.
الريح تهبُّ حيث تشاء، وتسمع صوتها، لكنك لا تعلم من أين تأتي، ولا إلى أين تذهب.
التنفُّس في صميم التأمُّل
يأخذ التنفُّس مكانًا أساسيًّا في بدء ممارسة التأمُّل. إنه الوسيلة الأكثر فعالية كي نُركِّز على اللحظة الحاضرة (أو أن نُدرِك أننا لا نستطيع التركيز). ولهذا فإن النصائح الأكثر بساطة وفعالية التي يُمكِن إعطاؤها للمُبتدئين هي أن يأخذوا قليلًا من الوقت أكثرَ من مرةٍ في اليوم كي يُراقِبوا تنفُّسهم؛ أن يتنفَّسوا فقط لمدة دقيقتَين أو ثلاث.
تأتي أهمية التنفُّس في التأمل لعدة أسباب؛ فلِكَي لا يكون موضوع اهتمامنا أثناء تمارين التأمل سببًا في انخفاض انتباهنا يُفضَّل التركيز على «هدف مُتحرِّك»، وهكذا يكون من السهل تثبيت الانتباه، دون إرهاقه، على موضوع حاضر لكنه في حركة دائمة. لهذا السبب بالضبط نستطيع البقاء طويلًا بحالة اندهاش وتيقُّظ أمام أمواج البحر، أو لهَب النار، أو الغيوم المارَّة؛ إنها دائمًا هنا، لكنها لا تتشابَهُ أبدًا. هكذا هو تنفُّسنا، إنه في حالة حضور دائم، وحركة دائمة، ولا تتشابه أي حركة من حركاته مع سابقتها أو تلك التي تليها. ولا يجب أن ننسى تلك الرمزية المُرتبِطة بالنَّفَس؛ النَّفَس هو الحياة!
تأتي أهمية التنفُّس أيضًا، من كوننا نستطيع التحكم به بشكلٍ نِسبي ولكن ملموس، بتسريعه أو إبطائه. لكننا لا نستطيع القيام بنفس عملية التحكم بالوظائف اللاإرادية الأخرى لجسدنا، حيث إنه من الصعب علينا تغيير سرعة حركات القلب، أو ضغط الدم، كما أنه وبنفس الدرجة من الصعوبة نستطيع تسريع أو إبطاء حركات الجهاز الهضمي. إن لتمارين التنفُّس أيضًا أهمية؛ كونَها تمتلك تأثيرًا على شعورنا العاطفي.
يُمكِن للتنفُّس أن يُهدِّئ من روعنا، ليس بالتحكم به، وإنما بالتواصل الهادئ معه، ومرافقته بتمهُّل. وإن القيام بتجربة قبول شعور مُؤلِم عبر مرافقة التنفُّس والمراقبة في نفس الوقت لهذا الشعور هي بداية مُهمَّة من أجل الولوج إلى جدلية الإرادة والقُدرة على تهدئة أنفسنا، وسنتكلم عن ذلك فيما بعد. عندما نُعاني من الاكتئاب أو القلق، عندما نشعُر أنَّنا لسْنا بصحةٍ جيدة، يُصبِح تنفُّسُنا واهنًا تعبًا. صحيحٌ أن تمارين التنفُّس لن تحل المشكلة في هذه اللحظات، ولن تُزيل كلَّ الآلام، لكنها ستُخفِّف من مُعاناتنا. لماذا إذن لا نستفيد منها؟
الدروس التي يُقدِّمها لنا التنفُّس
يعرف العالم المسيحي جُملة يسوع: «قُم وامشِ.» التي قالها إلى شخصٍ مشلول. يخطر لي أحيانًا أن أتخيَّلَ شخصًا قلقًا قدِم إلى بوذا يطلُب منه النصيحة. سيُقدِّم له بوذا كلامًا مُماثِلًا لهذا: «توقَّف وتنفَّس.» والحقيقة أن التنفُّس يُقدِّم لنا العديد من الدروس.
- درسٌ في الإدراك: إنه غير مرئي، ونحن ننسى وجوده مُعظم الوقت. لكن دورَه حيوي جدًّا؛ فنحن بحاجة مُطلَقة للتنفُّس. وفي حياتنا يُوجد كثير من الأشياء المُهمة مثله، إنها تدعمنا ولا نعي وجودَها.
-
درسٌ في الاعتماد والهشاشة: إن حاجتنا للتنفُّس تبقى أكثر وضوحًا وآنيَّةً من حاجتنا للطعام،
للشراب، أو للحُب. يُعلِّمنا التنفس أننا مُقيَّدون باعتمادنا على
العديد من الأمور. لكن هذه القيود تُكوِّننا وتُغذِّينا في نفس
الوقت. إن فكرة الاعتماد والقيد تُخيف أحيانًا الأشخاص القلقين:
«وإذا فقدتُ كلَّ ذلك؟! وإن لم أستطع في أحد الأيام مُواصَلة
التنفس؟» فيُحاوِلون جاهدين أن ينسَوا أو يتناسَوا تنفُّسهم. من
المُؤكَّد أن الحلَّ لن يكون بكبْتِ فكرة أن حياتنا مُتعلِّقة
بتنفُّسنا، بل بالتوصُّل إلى قبول هذه الفكرة، التي تعكس الحقيقة
فعلًا، وذلك بأن نتأمَّلها مرارًا، وأن نسمح لها بأن تسير بحرية في
ذهننا. وبهذا، تُصبِح مألوفة لنا، ويخفُّ القلق.
يُمكِن للتنفس أن يُهدِّئ من روعنا، ليس بالتحكم به، وإنما بالتواصل الهادئ معه، ومرافقته بتمهُّل.
- درسٌ في البراعة: يتواجد النفَس في الداخل وفي الخارج. إنه يخلط الحدود بين الذات وما هو خارجها. إنها حدود وهمية في كثيرٍ من الأحيان، وأحيانًا أخرى تكون مصدرًا للمُعاناة. إن التمسُّك الشديد باليقين بأننا مُنفصِلون عن العالم — أي، له حدوده ولنا حدودنا — ليس بالفكرة الجيدة. حاوِلوا أن تتأمَّلوا بالتركيز على النسيم الصيفي الحار، وستكتشفون تجربة ذات نكهةٍ عذبة؛ فبعد مرور عدة لحظات سيحصل اندماج بين النفَس الحار الداخل إلى رئتَينا والنسيم الذي يهبُّ في الخارج.
- درسٌ في التواضُع: لِكَون التنفس إراديًّا ولا إراديًّا في نفس الوقت، فهو يُعلِّمنا قبول حقيقة أننا لا نتحكم بكل شيء، وأن الأمر ليس كما يُحاوِل المجتمع تقديمه لنا عن طيب خاطر بأن كلَّ شيء قابل للسيطرة. لكن التنفس يُعلِّمنا أيضًا ألا نكون مُستسلِمين وسلبيِّين لأننا نستطيع التدخل بشكلٍ مُتواضِع ولكن فعَّال في كل ما لا نستطيع التحكم به بشكلٍ كامل.
- درسٌ في الواقعية: رغم أهميته، لا يملك النفَس هوية خاصة به؛ إنه يتشكل ويتبدَّد بشكلٍ مُتواصِل. هذا ما يُسمِّيه البوذيون ﺑ «الفراغ». لا يعني ذلك أنه غير موجود، لكنه ليس بالحقيقة الصلبة كما نتوقعه أن يكون كي نتعلق به ويُشعِرنا بالأمان. إنه، كالغيم، كالريح، والموج، أو قوس قزح؛ حقيقي لكنه غير دائم؛ ودائم الحضور، لكنه يكتفي بالعبور.
تنفُّسنا ذو الحضور الدائم
إن حركات التنفُّس التي تملأ جسدي دائمًا موجودة معي، كنبعٍ لا ينضب، وهي تُبقيني مُتيقِّظًا مُتصِلًا باللحظة الحاضرة، وأنا أُراقِبها دون أن أُحاوِل تغييرها.
التنفُّس هو مرساة حالة الوعي الكامل؛ إذ يُساعِدنا على الرسُو في ميناء اللحظة الحاضرة. إنه يُشبِه أحيانًا ما يُسمِّيه البحَّارة بالمِرساة الطافية؛ تلك التي تُساعِد السفينة على إبطاء سُرعتها فلا تنقلب في العاصفة، حين لا تُجدي كل المناورات الأخرى. إنه كصديق دائم الاستعداد للمساعدة. علينا ألا نطلُب منه المُستحيل؛ فلا جدوى من طلَب العون منه كي نتخلص بشكلٍ كامل من شعورٍ بالضغط، أو القلق، أو الخوف، أو الحزن، أو الغضب. لكنه سيُساعِدنا حتمًا كي لا يبتلِعْنا شعورٌ ما مُضنٍ. علينا أن نستعين به كما نطلُب من صديقٍ حميم أن يكون بقُربنا كي نتجاوَز المِحنة.
حين يُصيبك مرَض، تنفَّس. وتنفَّس أيضًا في وقتِ الشدَّة. في البداية بدَتْ لي هذه التوجيهات ذات أفقٍ محدود. فيما بعدُ فهمت المقصود منها. فالرسالة الكاملة هي: «ابدأ بالتنفُّس، وستتَّضِح الأمور فيما بعد.» ستُصبِح أفكارُنا أكثر وضوحًا، وسنعرف ماذا سنفعل لاحقًا. صحيحٌ أن التنفُّس لن يُغيِّر الواقع، لكنه سيُغيِّر نظرتنا لهذا الواقع وسيضمن قدرتنا على التصرف في مواجهته.
بعد الممارسة المُتكرِّرة للتنفُّس، سيختلف الأمر؛ لأننا لن نكتفيَ بتنفُّسنا، لكننا سنبدأ بمراقبته، وسيُشارِك جسدنا كلُّه في عملية التنفُّس. سنصير داخل نفَسنا. سنندمج معه. ونصير هو. ذلك ليس وهمًا ولا إيحاءً. كلُّ ما في الأمر هو أنَّنا وصلْنا، باستخدام وعيِنا لحركات تنفُّسنا، إلى جوهر آلاف من الظواهر التي تجعل منَّا كائنًا حيًّا.
وهكذا، يصير التنفُّس أكثر أهميةً مما هو عليه؛ يصير طريقًا للتواصُل والتبادُل مع كل ما هو داخلنا وكل ما هو حولنا، سواء أكان ذلك مُؤلِمًا أم عذبًا لأننا نستطيع، بالتأكيد، أن نتنفَّس أمام العذوبة والجمال أيضًا.
«الدرس الثاني»
هناك فكرة عامة مَفادها أننا لا نستطيع أن نفعل شيئًا جديرًا بالذكر بظاهرةٍ يسيرة ومعروفة جيدًا كالتنفُّس. أي خطأ هذا؟! على العكس، نحن نستطيع أن نجني فوائد جمَّة حين نعي تنفُّسنا؛ هذا يعني أن نعي بسهولةٍ وجوده وكلِّ أحاسيس جسدنا المُتعلِّقة به، دون أن نُحاوِل تغييره، وأن نُعِيره اهتمامنا، عندما نكون سعداء أو تعساء، دون أن ننتظر منه شيئًا أو نطلُب أن يحلَّ مشاكلنا. وعلينا أن نفهم حقيقةَ أنَّنا حين لا نستطيع أن نحلَّ مشاكلنا، من الأفضل ألف مرة أن نُعِير انتباهنا لتنفُّسنا بدلًا من اجترار هذه المشاكل في ذهننا.