أن نلمَحَ السعادة وهي تبزُغ ببطء
إنها كالوعد الذي يظهر ببطءٍ من بعيد. جمالٌ ساحرٌ نُراقِبه ونحن نقترِب في مياه الخليج الضحلة. إنها مدينة البندقية. قريبًا سنصل إليها، قريبًا سنضع أقدامنا على أرضها الهشَّة، سنكتشفها، ونزورها كاملة، هذه المدينة ذات الجمال الذي يخبو رويدًا. تبدو الشمس كأنها تستقبلنا وهي تُقدِّم آخر خيوط الضوء والحرارة. إنها تملأ سماء الخليج بشعلةٍ صفراء ذهبية اللون.
لقد بدأ القمر صعوده عند الأفق في الزاوية اليُسرى من اللوحة، حاملًا معه قليلًا من البرودة. بعد قليل ستغُوص الزُّرقة في ظلام الليل، وعندما سنصل إلى المرفأ تكون الشمس وضوءها قد غابا. إنَّ هذه اللحظة تهزُّنا وتبعث القشعريرة فينا. لقد غمرَنا هذا النهار بالسعادة، وكذلك فعَل الغسَق. فماذا سيحدث الآن عندما تغيب الشمس؟
في كل لحظة، يُمكِننا أن ندخل الجنة … أو نخرُج منها.
السعادة والوعي
كلُّ شيءٍ يبدأ بشعور الرضا؛ الشبع، الهدوء، الدفء، غياب أي تهديد. إنه من الرائع أن نمتلك شعورًا كهذا. إنه شعورٌ أساسي لكلِّ الحيوانات والكائنات الحيَّة، بما فيها الإنسان. يُمكِننا البقاء هنا، لكن هذا الشعور هو ليس بالضبط السعادة؛ فما نُسمِّيه سعادةً هو شعورٌ أبعدُ من ذلك.
إذا أدركتُ هذه اللحظات من الرفاهية، وقلتُ لنفسي: «إنَّ ما أعيشه في هذه اللحظة هو فرصة، وأعجوبة، ونعمة.» فحينها سيحدُث شيء آخر، عندها ستسمو الرفاهية لتصير سعادة. عندما أفتح روحي، وأتذوَّق بكامل إدراكي كلَّ ما يحدُث لي من أشياء جيِّدة وأنا كامل الحضور لها، فإنَّ تأثير ذلك سيكون مُضاعَفًا بشكلٍ لا يُقاس. إنه سيتجاوز كثيرًا حالة إرضاء حاجاتي الجسدية والنفسية. وسيكون قادرًا على إرضاء أو تخفيف تطلُّعاتي أو إرهاصاتي الفكرية؛ المعنى، الانتماء، الحب، السلام، الأبدية …
دون وعي ذلك، لن تُوجَد السعادة. لن يكون سوى ذكراها، كما في هذا البيت الشعري للشاعر والكاتب المشهور ريمون راديجيه: «أيُّتها السعادة، لم أعرفكِ يومًا إلا عبر هذه الضجة التي تُحدِثينها وأنت تذهبين.» دون وعي الحاضر سنندَم على حالات الفرَح التي مضَت والتي لم نعرف كيف نعيشها. إنها تلك السعادة التي تموت عند ولادتها؛ لأننا لم نُعطِها الحياة بوعْيِنا لها. هذا ما يحدُث لنا عندما يتدافع أمامنا الوجود، عندما يكون لدَينا كثير جدًّا من الأشياء التي يجب أن نقوم بها لدرجةِ أنَّنا لا نأخذ الوقت الكافي كي نفتح عيونَنا على كلِّ احتمالات السعادة التي تُصادِف طريقنا. وهذا ما يحدُث لنا عندما نكون حزانى أو قلِقين؛ إننا لا نسكن حينها الحاضر، وإنما تأخذ رُوحنا مكانًا في قلق المستقبل أو ندَم الماضي. أما السعادة، فلن نستطيع إلا أن نأملها أو نبكيها، لا أن نعيشها.
يستطيع التأمُّل بالوعي الكامل مُساعَدتنا على التذوُّق الكثيف «لفُرَص» السعادة العديدة في يومياتنا. فإذا قُمنا باجتيازها وروحنا في مكان آخر (في أفكارنا ومشاريعنا ومشكلاتنا)، فإننا لن نرى ولن نشعر بأي شيء. أما إذا قُمنا وبشكلٍ مُتكرِّر بفتح وعينا على كلِّ ما يُحيط بنا، دون بحثٍ حثيث، فإننا سنرى لحظات السعادة تلك. ودون أن نقصد، ستلمسنا نعمة تلك السعادة. وفي أغلب الأحيان ستصلنا السعادة على شكل قِطَع صغيرة، على هيئة لحظاتٍ خاطفة، في سياق يوميَّاتنا؛ فهي تكون خفيفة الطابع، قصيرة المدة، غير كاملة ولكنها عديدة، مُغيِّرة، مليئة بالحياة، ومُتكرِّرة. إنها لحظاتٌ مرشوشة بغُبار السعادة؛ لحظاتٌ قصيرة من الفرح بكلِّ بساطة.
الوعي والسعادة الهشَّة
إنَّ وَعْينا الذي سيصنع السعادة، هو نفسه الذي سيخلُق خوفَنا من فقدها. عندما نكون فرِحين، سنعي بشكلٍ واضحٍ أننا لن نبقى كذلك لفترةٍ طويلة. لا يُمكِننا أن نمتلك السعادة إلَّا عبر فواصِل ومن ثَمَّ فإنها لن تبقى مُستمرة طوال فترة حياتنا، فهي ستظهر وتختفي. لا يكمُن السرُّ إذن في محاولة التمسُّك بها دون تركها، بالقلق أو الخوف أمام فكرة ذهابها القريب، وإنما في تذوُّقها، وقبول كسوفها المُتكرِّر والاستعداد لعودتها كلَّ مرة؛ لمرورها حتى لو كان سريعًا.
لا يحتمل المُستسلِمون لليأس والقلِقون قبولَ غياب السعادة المُتكرِّر، ومن ثَم فهم يرفضون الاستسلام لها، وإلى كلِّ ما هو جيِّد في حياتنا؛ لأنهم يعرفون أن ذلك لن يدوم. إنهم على حقٍّ لأنها لا تدوم. ولكن، أليس علينا أن نتذوَّق الفرح أكثر لأنه سيُغادِرنا حتمًا؟ لدَينا الخيار بأن نكون سعداء لفترة وأن تُغادِرنا هذه السعادة، أو أن نُحرَم منها للأبد؛ أن نتنفَّس السعادة لوهلة، وأن نُعاني من ألمٍ مُتشنِّجٍ لنمنع عن أنفسنا قدوم السعادة ومن ثَمَّ غيابها بعد لحظة. بالنسبة إليَّ، فأنا قد أخذتُ قراري. فماذا عنك؟
أثبتَ العلم أننا حين نُدرِك أننا نعيش لحظات سعادة أخيرة، فإنَّ فرحَنا بعَيشها لا ينقُص وإنما يُصبِح أكثر تعقيدًا. إنه يزداد كثافة؛ يصير أكثر حدَّة، أكثر وعيًا. ولكنه يبقى فرحًا؛ فرحًا هشًّا، يسكن صميم مأساة الحياة، دون أن يُنكِرها، ولكن دون أن يستسلم لها أيضًا. إذن، هل السعادة فكرة تراجيدية؟ بالطبع!
السعادة وسط الحزن
لماذا يرتبِط الفرح دومًا بغياب المُعاناة واللاوعي؟ لماذا لا يُوجد أيضًا إلى جانب الجزء الحزين من الحياة؟ إننا نتمرَّن في التأمُّل بالوعي الكامل على تلقِّي وقَبول كلِّ شيء؛ الآلام ولحظات السعادة. نتعلَّم أن نحتمِل ونستقبل التجارب الصعبة، الهشَّة والمُزعِجة، كما في حياتنا الحقيقية؛ ليس تلك الحياة التي نحلُم بها، بل تلك التي نعيشها فعلًا؛ تلك التي تفرِض نفسها علينا وتُعرِّي أحلامنا. ومن حظِّنا أنها تفرض علينا نفسها؛ فهي الشكل الأكثر إثارة.
في الفرَح أيضًا، ومرة أخرى لا يدفعنا التأمُّل إلى الهروب من العالم، وإنما إلى استقباله بشكلٍ أفضل كما هو. والحقيقة هي أنَّ الفرح والحزن يبقيان في معظم الوقت جنبًا إلى جنب؛ كالظلِّ والضوء. وما من شكٍّ أنَّ هذا ما كان يعنيه ألبير كامو عندما كتب: «لا أُريدُ بعد الآن أن أكون سعيدًا، وإنما فقط أن أكون واعيًا.» سنُحاوِل إذن أن نجمعهما معًا، وأن نعمل على وعينا، ليس لكي يستعيض عن السعادة وإنما ليقوم بتوضيحها وتكثيفها وإدخالها عالمنا. هذا ما يُسمِّيه أندريه كونت-سبونفيل «الحكمة»: «تكمن قمة السعادة في قمة الإدراك.»
أتذكَّر تلك الدراسة الرائعة، التي تُظهِر أنَّ الأشخاص الذين يمرُّون بحالةِ حِداد ويستطيعون أن يبتسموا عند ذِكر شريكهم الغائب («أيُّ مُعاناةٍ هذه أنني فقدتُه! ولكن أيُّ سعادةٍ هذه أنني عرفتُه!») هم الأشخاص الذين سيتحسَّنون أكثر من غيرهم بعد عامَين من الفقد، وذلك لقدرتهم على حماية سعادتهم من الغرَق في بحرِ ألَمِهم. إنهم قادرون على فَهمِ أنَّ الحياة تُؤخَذ بكُلِّيتها، وأن التعاسة لا تُلغي كلَّ لحظات السعادة الماضية، ولا تأخذها منَّا. هذا لأننا قد اكتسبْنا لحظات السعادة تلك إلى آخر العُمر، ولدَينا الحقُّ لأن نبكي ونبتسِم في نفس الوقت. هذا لأننا قبِلْنا بهذا العالم، وقرَّرنا أن نُحِبَّه بكلِّ قوَّتنا.
علينا أن نستسلم ونحن في حُزننا لقُصاصات السعادة؛ حتى لو كانت قصيرة، حتى لو كانت هي نفسها مُلفَّعة بالحزن، ولو كانت مُجزَّأة.
لقد قرَّرنا أن نُحِبَّه كما أحببنا مدينة البندقية بكلِّ طاقتنا، هذه المدينة التي تهرم منذ قرون عديدة وستختفي يومًا تحت البحر.
لقد قرَّرنا أن نُحِبَّه كما أحببْنا من كلِّ طاقتنا إتي هيليسم التي حُبسَت في مُعتقَل فيستربورك، أول مُعتقَلات الموت، والتي كتبت: «الحياة والموت، الألم والفرح، تشقُّقات الأقدام المُؤلِمة والياسمين خلف البيت، الاضطهاد، الأعمال الوحشية التي لا تُحصى، كل ذلك يقبَع داخلي معًا، ويُشكِّل كلًّا قويًّا أقبَلُه ككُلٍّ لا يتجزَّأ.»
لقد قرَّرنا أن نُحِبَّه كما أحببنا بكلِّ طاقتنا يفجينيا جينزبورج وهي في قاعة المحكمة السوفيتية التي جُرَّت إليها دون أن تفهَم بماذا يتَّهِمونها، وأخذت تنظُر إلى الخارج وهي تنتظر حُكم الإعدام أو مُعسكَر الأشغال الشاقَّة: «وراء النوافذ تقِف أشجارٌ كبيرة قاتمة اللون. أسمع بفرحٍ الهمسات السرية للأوراق، وكأنَّني أسمعها لأول مرة، وأشعر كأنها تُلامِسني.»
إن هذا قمَّة الوعي الكامل، وقمَّة الإنسانية. لسنا قادرين على فعل ذلك بالتأكيد، ولكننا نستطيع التعلُّم منهم. علينا أن نستسلم ونحن في حُزننا لقُصاصات السعادة؛ حتى لو كانت قصيرة، حتى لو كانت هي نفسها مُلفَّعة بالحزن، ولو كانت مُجزَّأة. وعلينا ألا ننتظِر منها راحةً إلَّا تلك الراحة غير المُستقِرة واللحظية؛ لأنَّنا حالَما نبدأ من جديد بالعَيش والتفكير قد يعود حينها الحزن من جديد. ولكننا نعود فنبدأ من جديد أيضًا وهكذا، دون تعَب. علينا أن نبدأ دومًا بتنفُّس حُزننا، ووضعه بجانب الحياة؛ أي، بجانب السعادة.
«الدرس العشرون»
فيما يخصُّ السعادة، يُعلِّمنا الوعي الكامل ببساطةٍ ما يأتي؛ بما أنَّ السعادة لا تنفصل عن الحزن، وأنَّ الحياة لن تتوقَّف عن وضعنا في مواجهة المأساة والضِّيق، فعلينا إذن ألا نحلم بالسعادة الكاملة والدائمة، وإنما أن نتعلَّم تذوُّقها على شكل أجزاءٍ صغيرة. علينا أن نترُك لها مكانًا رغم المِحَن والهموم، أثناء مرورها بنا وليس عندما تكون قد غابت أو اختفَتْ (أن نشعُر في يومٍ ما أن كلَّ مشكلاتنا قد حُلَّت، هذا الطرح غير موجود، وخاصةً إذا كنَّا قلِقين أو مُكتئبين). علينا أن نُحافِظ على لحظات السعادة الصغيرة في المِحَن؛ خصوصًا أثناء المِحَن لأنها اللحظات الأكثر حميمية، والأكثر روعة، والتي لا يُستغنى عنها.