أن نتأمَّل
وصل المُسافر إلى أعلى الجبل، بعد أن قضى يومًا كاملًا بالصعود.
لقد انطلق في الصباح الباكر، قبل بزوغ الشمس بوقتٍ كبير. وخلال طريقه الطويل للوصول كان يتقدَّم وروحه خفيفة؛ مُنصِتًا لصوت حذائه، لنبضات قلبه، ولتنفُّسه، لانتظام وقْع خطواته، ولضربات المعدن في نهاية عصاه على الصخور. كلُّ ذلك يملأ روحه بأصواتٍ مُهدِّئة. أحيانًا تأتي أفكار لتُحدِّثه عن الصعوبات التي تنتظره، لكنه يفتح وعيَهُ على اتِّساعه للحظة الحاضرة؛ مَسيره، الأصوات حوله، الأضواء الأولى للفجر. تختفي حينها الأفكار، ثم تعود، ثم تختفي من جديد. إنها ليست أكثر ثباتًا من ريشةٍ في الريح، أو هذا الضباب على رءوس الجبال.
الآن إنه على القمَّة، وقد بدأ بالاستمتاع بالنصر: «لقد نجحتُ. لقد قمتُ بذلك!» يجب دائمًا الاستمتاع بانتصاراتنا. وعلينا الشعور بالزَّهو، بالفخر والفرح؛ أن نتلقَّى هذه المشاعر كاملة، ونترك أنفسنا تمتلئ برحيقها حلوِ المَذاق واللاذع بعضَ الشيء، ثم ننتقل إلى شيءٍ آخر أكثر أهمية. علينا أن نذهب أبْعدَ من كلِّ ذلك؛ لنترك أنفُسنا مأخوذة بهذا الجبل، يجتاحها هذا الكون الذي يحتضِنُنا ويُقدِّم لنا حُسن ضيافته. علينا أن نفتح وَعْينا على كلِّ ما هو موجود، في هذا الأفق الرائع؛ الهواء النقي، والصمت الذي يسكن الجبال، وصوت الريح.
في كلِّ شهيق، يشعُر هذا المُسافر أنه يمتلئ بالجبل بالكامل. وفي كلِّ زفيرٍ يتلاشى جسده وروحه فيه. إنه يشعُر براحةٍ لا مُتناهية، وكأنه في المكان الصحيح بشكلٍ كامل وكُلِّي.
هذا الذي يُحقِّق هدفَه يكون قد فشل في كلِّ شيءٍ آخر.
التزام وانفصال
يُساعِدنا التأمُّل بالوعي الكامل على أن نلتزم بالنشاطات التي تهمُّنا، ومن ثَم يُساعِدنا على الانفصال عن العبودية لنتائجها.
إنه الفرق بين «الغاية» و«الهدف». فعندما يتمرَّن رامي السهام، فإن الغاية تعني الرمي بشكلٍ صحيح، أما الهدف، فيعني إصابة الهدف. إن الغاية تتعلَّق بي حيث يُمكِنني إدراكها بالتمرين، بينما الهدف يتعلق بعوامل أخرى أيضًا؛ قوة الرياح التي ستحمل السهم، أو ضجَّة مُفاجئة قد تدفعني للحركة في اللحظة الأخيرة.
بنفس الطريقة؛ يتطلَّب التمرين على التأمُّل بالوعي الكامل أن أبقى وبشكلٍ مُتكرِّر جالسًا، مُغمَض العينَين وأن أُكرِّس نفسي لتلقِّي ومراقبة تجربتي الخاصة. ولكن يجب عليَّ أن أقبل حقيقةَ أن نتائج تجربتي بالجلوس قد تختلف بين يومٍ وآخر. الشيء الثابت الوحيد هو أنه كلَّما جلستُ بشكلٍ مُتكرِّر أكثر وبقيتُ في وضعيَّتي هذه فترة أطول، وصلتُ إلى هدفي أكثر.
إن هذه الطريقة بالالتزام بتمارين الوعي الكامل تسمح لنا، ونحن نعيش حياتنا اليومية، بأن نُواجِه ما هو جوهري فيها. إن هذا يحدُث عبر الالتزام ثم الانفصال كمَسيرٍ بطيء وجادٍّ باتجاه الجوهر الذي يتجاوزنا جميعًا. لكن تعاقُب الالتزام والانفصال ليس بالشيءِ اليسير.
في البداية، عندما نبدأ تماريننا على حالة الانفصال، فإننا سنقوم بذلك بشكلٍ سطحي لأننا لا نكون فعلًا مُنفصِلِين، وإنما نريد فقط أن نحمي أنفسنا من المُعاناة، وأن يُنقِذنا الانفصال من المعاناة والفشل، ومن الهُجران والمشكلات اليومية. ولن نُفكِّر بالانفصال عن النجاح، والحفاوة، والمَجد! إذن إنَّنا نتعامَل بمكر؛ نتظاهر! إنه تَواضُعٌ كاذب، ولامُبالاة وابتعاد غير حقيقيَّين، وفي الحقيقة، في دواخلنا، فإنَّنا نضحك على أنفسنا ونُخادِع. ولكنَّنا إذا واظَبْنا، وقرَّرنا أن نتمرَّن على كل ذلك باستمرار؛ إذا قُمْنا في كلِّ مرة، وبعد كل نجاحٍ بالجلوس لنُصفِّي ذواتنا بدلًا من الانفعال عند الاحتفال، وأن نفعل الشيء نفسه بعد كلِّ فشل، بدلًا من الغضب وتأنيب الذات، عندها وبالتدرُّج ستحدُث أشياء غريبة في دواخلنا، سيهزُّنا حينها بشكلٍ أقلَّ نتائجُ ما نقوم به، وسنُدرِك أنه يُوجَد ما هو أكثر أهمية وراء كلِّ ذلك؛ سنشعُر كأننا على قمَّة جبل.
الوعي الكامل، والروحانية والتصوُّف
يُمكِن للحياة الروحية أن تُوجَد خارج الممارسات الدينية. الروحانية هي بكل بساطة أرفَعُ شكلٍ لحياتنا النفسية، وهي التي نُواجِه بها المُطلَق وكلَّ ما يتجاوزنا. إنها تذهب أبعدَ من الأنا، وتبقى مفتوحةً على كلِّ شيء؛ إذ إنها تنفتح أيضًا على ما هو غير مُدرَك، وإلا فالأمر سهلٌ جدًّا أن تكون روحنا مفتوحةً على كلِّ ما هو معروف، ومنطقي ومقبول؛ على المُتوَقَّع. إنها لا تهرب أمام ما يتجاوزنا، وإنما على العكس، تنفتح عليه بوعي كامل. ما هذا الذي يتجاوزنا؟ إنه هذا التِّيه الثلاثي؛ اللانهائي، والأبدي، والمُطلَق.
تفترض الروحانية باستمرارٍ هذه الحركية الثنائية التي ذكرناها؛ التزام وانفصال. إننا نُمارِس ونستمرُّ بالتقدُّم حتى النقطة التي نترك فيها كلَّ شيء، حتى اللحظة التي نتخلَّص فيها من كلِّ حقائب جهودنا وأهدافنا. ثم نترك أنفسنا للتأمُّل. في الديانة المسيحية، يعني التأمُّل «النظر طويلًا بإعجاب»، ويتطلب ذلك قبلًا «السلام وصفاء القلب». يعني ذلك بشكلٍ أبسطَ الهدوءَ وعدم الحُكم؛ أي، الوعي الكامل.
أما بالنسبة للفيلسوف أندريه كونت-سبونفيل، فتقود حالة التأمُّل إلى ممارسة التصوُّف: «يرى المُتصوِّف الحقيقةَ وجهًا لوجه؛ إنه لا ينفصل عن الواقع عبر الكلام (أتكلم هنا عن الصمت)، ولا عبر العَوَز (أتكلم عن الامتلاء)، ولا عبر الزمن (أتكلم عن الأبدية)، وأخيرًا عبر ذاته (أتكلم عن البساطة؛ فكرة «الأناتا» [أي، غياب الذات] البوذية). حتى الإله نفسه يقوم بذلك؛ إنها تجربة المُطلَق الآن وهنا.»
ويكون الوعي الكامل بهذه الطريقة حقيقةً تصوُّفية علمانية؛ السعي إلى ما وراء الكلمات ومَعانيها؛ استعدادٌ للتنوُّر وللمُطلَق، دون أن نأمُل بها شيئًا؛ لأنَّ لا شيء يُمكِن عمله غير تركه يمتلئ بنا ويُنيرنا. وهذا ما يُوصِلنا أحيانًا إلى حالة من النشوة الخفيفة، والهادئة والصامتة أحيانًا.
النشوة، والافتتان، وحالة الوَجْد
النشوة هي الخروج من الذات والاندماج بشيءٍ أكثر اتِّساعًا؛ بوحٌ إلهي، وأحيانًا جسدي؛ إنها دخول في عالمٍ آخر مختلف عن المُعتاد، وبحالةٍ من الوعي المختلف أيضًا. إنها نوع من السقوط، أو القفز، أو الالتفاف لأننا عندما نعود، نكون بحالةٍ من السمو؛ نكون في المُطلَق.
الافتتان هو حالة من السقوط في الذات، حيث نكتشف أنَّ كلَّ شيءٍ موجود فيها. إنه الهدوء الذي سمَحنا له بالخروج من الداخل؛ انفجارٌ بُركاني داخلي من الصفاء. إنه لَمُؤثِّر جدًّا أن نشعُر بهذه الراحة التي نصنعها بأنفسنا، وأن نُدرِك كيف يربطنا هذا الهدوء «الداخلي» بالعالم بدلًا من أن يفصلنا عنه، تاركين حالنا يتبدَّل، بدلًا من السعي والمحاولة دائمًا لتغيير ما يُحيط بنا.
يحدُث كلُّ هذا في لحظات الوجد، تلك اللحظات التي غالبًا لا نتوقَّع قدومها. إنها لحظات من النعمة التي لا تنبثِق إلا عندما نكون بوعي كامل، وبحضورٍ كامل لما هو حقيقي، كما في هذه اللحظة التي ذكرها الشاعر كريستيان بوبان: «كنت أُقشِّر تفاحة حمراء قطَفتُها من الحديقة عندما أدركتُ أن الحياة لا تهبُ لي ذاتها إلا بعد المشكلات الرائعة التي لا حلَّ لها. بهذه الفكرة، دخل إلى قلبي مُحيطٌ من السلام العميق.»
ليس علينا أن نتسلَّق الجبال؛ فتفاحةٌ تكفي.
«الدرس الثاني والعشرون»
لا يطلب منَّا الوعي الكامل أن نقطع صِلَتنا بالعالم، أو أن ننعزل داخل صومعة، ولا أن نكون الحكيم غير المُبالي بشيء. إنه يحثُّنا على أن نتذوَّق طعم حياتنا، وأن نتَّخِذ خياراتنا وأن نتبع أهدافنا، ولكن دون أن نخلط ذواتنا بها، ودون أن نتمسَّك بقوة بالنجاح أو بالكمال. فهل من المُمكِن أن نكون بحالة سعي بالخارج، وحالة انفصال بالداخل؟ نستطيع ذلك بأن نقوم بأفضل ما لدَينا بكامل الوعي وكامل الحضور، ولكن دون أن نُخضِع جهودنا، التي تعتمد علينا وحدَنا، للنتائج النهائية التي لا تعتمد علينا وحدَنا. وبدلًا من محاولة تجاوُز أنفسنا (أو الآخرين)، علينا أن نُنجِز ما يهمُّنا فقط، وألا نهتمَّ في حياتنا بالنصر أو الفشل، وإنما بخوضِ تجاربَ تُنضِجنا.